إلا و هو شاهد عليه، و على عظمته و جلاله،إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليسوجودها بنفسها، و لا حركتها بذاتها، وأنها تحتاج إلى موجد و محرك لها، يشهد بذلكأو لا تركيب أعضائنا، و ائتلاف عظامنا، ولحومنا، و أعصابنا، و منابت شعورنا، وتشكل أطرافنا، و سائر أجزائنا الظاهرة والباطنة، فإنا نعلم أنها لم تأتلفبأنفسها، كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحركبنفسها، و لكن لما لم يبق في الوجود شيءمدرك، و محسوس، و معقول، و حاضر، و غائب،إلا و هو شاهد و معرف، عظم ظهوره، فانبهرتالعقول و دهشت عن إدراكه، فطن ما تقصر عنفهمه عقولنا فله سببان:
أحدهما: خفاؤه في نفسه و غموضه، و ذلك لايخفى مثاله
و الآخر: ما يتناهى وضوحه، و هذا كما أنالخفاش يبصر بالليل و لا يبصر بالنهار، لالخفاء النهار و استتاره، لكن لشدة ظهوره،فإن بصر الخفاش ضعيف يبهر نوره الشمس إذاأشرقت.
فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناعإبصاره، فلا يرى شيئا إلا إذا امتزج الضوءبالضلام و ضعف ظهوره فكذلك عقولنا ضعيفة،و جمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، و في غاية الاستغراق و الشمول،حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السمواتو الأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان مناحتجب بإشراق نوره. و اختفى عن البصائر والأبصار بظهوره و لا يتعجب من اختفاء ذلكبسبب الظهور، فإن الأشياء تستبانبأضدادها، و ما عم وجوده حتى أنه لا ضد لهعسر إدراكه، فلو اختلفت الأشياء فدل بعضهادون بعض أدركت التفرقة على قرب، و لمااشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكلالأمر، و مثاله نور الشمس المشرق علىالأرض، فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدثفي الأرض، و يزول عند غيبة الشمس. فلو كانتالشمس دائمة الإشراق لا غروب لها، لكنانظن أنه لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها، وهي السواد و البياض و غيرهما فإنا لا نشاهدفي الأسود إلا السواد، و في الأبيض إلاالبياض. فأما الضوء فلا ندركه وحده. و لكنلما غابت الشمس و أظلمت المواضع، أدركناتفرقة بين الحالين، فعلمنا أن الأجسامكانت قد استضاءت بضوء، و اتصفت بصفةفارقها عند الغروب، فعرفنا وجود النوربعدمه، و ما كنا نطلع