القول في الصيغة
وقبل الخوض في أصل المسألة ينبغي تقرير الأصل فيها لاختلاف الروايات بل الأقوال
. ولايخفى أنّ مقتضى الاستصحاب هو الشرطية والاقتصار على القدر المتيقن ، كما أنّ
مقتضى إطلاق أدلة الطلاق تحققه بكل ما يتحقق الطلاق به من الفعل والكتابة ، فضلا عن
القول وإن كان مجازاً بعيداً كقول الرجل لزوجته «اشربي وكلي» أي اشربي غصص الفراق
مريداً به الطلاق أو «اختاري» فإن اختارت نفسها فهي مطلقة[169] . ولعلّ
ما في الجواهر في بيان الأصل من أنّ النكاح عصمة كغيره من العصم المستصحبة والطلاق
مشروع لرفعه فزواله منوط بتحقق مسمّاه الحاصل بانشائه بكلّ لفظ دلّ عليه[170]
، ناظر إلى الإطلاق وإلاّ فمحض كون الطلاق مشروعاً للرفع غير موجب لتحققه بكلّ
الألفاظ ; لعدم الملازمة بينهما كما هو ظاهر ، وتحققه كذلك موقوف على إثبات أنّ
مطلق الطلاق مشروع للرفع وليس ذلك إلاّ بالتمسك بقوله تعالى (يا ايها النبىّ اذا
طلّقتم النساء فطلّقوهن لعدّتهنّ)[171] حيث إنّ الموضوع هو طلاق الناس
وإلاّ فأصل المشروعية لايقتضي أزيد من تحققه بالإنشاء في الجملة ، فلعلّه اعتبر
الشارع في مشروعيته شرائط خاصّة ، فالمشروعية في الجملة موجبة لتحققه في الجملة
والمشروعية على الإطلاق موجبة لتحققه كذلك ، فافهمه واغتنمه .
ولايخفى أيضاً أنّ الإطلاق اللفظي في الآية موجود فلا يصل الدور إلى الاستصحاب
والأصل العملي بل مقتضى الأصل اللفظي الموجب للسعة هو المحكّم ما لم يدلّ على خلافه
الدليل .
( مسألة 1 ـ لايقع الطلاق إلاّ بصيغة خاصة ، وهي قوله : «أنت طالق» . أو فلانة
أو هذه أو ما شاكلها من الألفاظ الدالة على تعيين المطلّقة . فلا يقع بمثل «أنت
مطلّقة» أو «طلّقت فلانة» بل ولا «أنت الطالق» فضلا عن الكناية كأنت خلية أو برية
أو «حبلك على غاربك» أو «إلحقي بأهلك» ونحو ذلك . فلا يقع بها وان نواه حتى قوله :
«اعتدّي» المنوي به الطلاق على الأقوى) .
واعتبر القواعد في الصيغة شروطاً خمسة : الصراحة ، والتنجيز ، وعدم تعقبها بما
يبطلها ، والوقوع على المحل ، وقصد الانشاء ، وقد فسّر الأوّل بأنت طالق وما في
المتن أنسب ; لأ نّه لا صراحة في «أنت طالق» ; لما فيه من احتمالي الإخبار والانشاء
واحتمال الطلاق عن الإطاعة أو الخروج من البيت وأمثالهما .
هذا ولايخفى : أنّ إثبات ما في المتن من انحصار الصيغة في قوله «أنت طالق» موقوف
على إثبات خصوصية المادة والهيئة والتلفظ والعربية .
فالبحث في جهات أربع :
إحداها : في أنّ المادة المعتبرة هل هي مادة الطلاق بخصوصها فلا يفيد غيرها أو
مطلق ما يدلّ على ذلك المفهوم ولو مجازاً كمادة الخليّة والبريّة واستبراء الرحم ،
فيكفي في الطلاق قوله «أنت خليّة أو بريّة» أو «استبرئي رحمك» مثلا ؟
ثانيتها : على تقدير اعتبار تلك المادّة الخاصّة فهل المعتبر فيها هو هيئة
«الفاعل» فقط حتى مجرداً عن الألف واللام أيضاً أو الاعتبار بمطلق الهيئة من
المضارع والماضي فضلا عن اسم الفاعل المحلّى بهما ؟
ثالثتها : هل المعتبر هو اللفظ أو يكفي الكتابة والإشارة ؟
رابعتها : اعتبار العربية أو انّه لا خصوصية لها بل الاعتبار بالدلالة اللفظية
على حقيقة الطلاق بأيّ لغة من اللغات .
والحاصل أن القول بعدم كفاية غير «أنت طالق» كما في المتن مستلزم لاعتبار
المادّة والهيئة الخاصة واشتراط اللفظ والعربية ، وعلى القائل إثبات هذه الاُمور .
إذا عرفت ذلك فنقول : ويدل على الاُوليين روايات :
منها : ما عن ابن سماعة قال : «ليس الطلاق إلاّ كما روى بكير بن أعين أن يقول
لها وهي طاهر من غير جماع : أنت طالق ، ويشهد شاهدي عدل ، وكل ما سوى ذلك فهي ملغى»[172]
.
ومنها : صحيحة محمد بن مسلم إنّه سأل اباجعفر(عليه السلام) «عن رجل قال لامرأته
: أنت عليّ حرام أو بائنة أو بتّة أو برية أو خليّة . قال : هذا كله ليس بشيء ،
إنما الطلاق أن يقول لها في قبل العدّة بعد ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها : أنت
طالق أو اعتدّي ، يريد بذلك الطلاق ، ويشهد على ذلك رجلين عدلين»[173] .
وكذا صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «الطلاق أن يقول لها :
اعتدّي ، أو يقول لها : أنت طالق»[174] وأظهرها وهي العمدة ، الاُولى
منها ; لما فيها من الانحصار ولقوله(عليه السلام) : «وكلّ ما سوى ذلك فهي ملغى» .
والايراد على الأخيرتين بالدلالة على كفاية «اعتدّي» غير تمام ; لأ نّهما مع تلك
الدلالة تكون دلالتهما على عدم كفاية غيرهما تامّة ، كما لايخفى ، مضافاً إلى
احتمال حملها على التقية كما يأتي ; فانهم لايعتبرون صيغة خاصة فيه بل لايعتبرون
النية أيضاً .
وثالثاً : يمكن حمله على طلاق المرأة الغائبة والإخبار بطلاقها ، ويشهد له بعض
الروايات ، كخبر عبدالله بن سنان عن ابي عبدالله(عليه السلام) قال : يرسل اليها ،
فيقول الرسول اعتدّي ، فإنّ فلاناً قد فارقك يعني : الطلاق ، انّه لاتكون فرقة
الابطلاق[175] .
هذا وقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى كفاية «أنت مطلّقة» أيضاً مع نية الطلاق دون
غيرها[176] . وأورد عليه الشهيد بأنّه على هذا يصح في سائر الصيغ أيضاً
; لعدم الفرق بينها وبين البقية ، قال(قدس سره) : «وأمّا قوله «أنت من المطلّقات»
فإنّه إخبار لا إنشاء ; لأنّ نقل الاخبار إلى الانشاء على خلاف الأصل فيقتصر فيه
على محلّ النص أو الوفاق ، وهما منتفيان هنا» . ثم قال : «ومثله أنت مطلّقة» ، لكن
في هذه قال الشيخ في المبسوط إنّه يقع بها الطلاق مع النية . وهو اعتراف بكونها
كناية ، لأن الصريح لايتوقف على النية . ويلزمه القول في غيرها من الكنايات أو فيما
أدّى معناها ، كقوله «من المطلّقات» ، بل مع التعبير بالمصادر ، لأ نّها أبلغ وإن
كانت مجازاً ، لأنهم يعدلون باللفظ إليه إذا أرادوا المبالغة ، كما قالوا في «عدل»
، إنّه أبلغ من عادل ونحوه .
وردّه المصنف بأنه بعيد عن شبه الانشاء ، لانّه إخبار بوقوع الطلاق فيما مضى كما
ذكرناه والإخبار غير الانشاء . وفيه نظر ، لأنّ المصنف ـ على ما تكرّر منه فيما سبق
مراراً ـ وغيره يجعلون اللفظ الماضي أنسب بالانشاء بل قد جعله في النكاح صريحاً في
الانشاء ، مع انّه خبر بوقوع النكاح فيما مضى فما الذي عدا فيما بدا ؟ وقولهم : «ان
نقل الاخبار إلى الانشاء على خلاف الأصل» مسلّم لكن يطالبون بالفارق بين المقامين
والموجب لجعله منقولا في تلك المواضع دون هذه ، فإن جعلوه النص فهو ممنوع ، بل ورد
في الطلاق ما هو أوسع كما ستراه وإن جعلوه الاجماع فالخلاف في المقامين موجود في
صيغ كثيرة .
ثم تخصيص الشيخ الجواز ببعض الكنايات دون بعض أيضاً ليس بالوجه ، إذ لا فرق بين
«أنت مطلّقة» الذي ادّعى وقوعه بها وبين قوله «من المطلّقات» ، بل مع التعبير
بالمصدر ، لأنه وإن شاركهما في كونه كناية إلاّ انّه أبلغ ، وقد ذكر بعض العلماء
أنّه صريح[177] .
ويرد على الشيخ مضافاً إلى ما ذكره انّه ادّعى في الخلاف الاجماع على عدم الوقوع
بها[178] وكذا المرتضى(قدس سره) في الانتصار ، لكن في كون اجماعه مثل
اجماع الخلاف تأمل ، فراجع .
ومنها «اعتدّي» فعن ابن جنيد ومحمد بن أبي حمزة ، وقوعه بها استناداً إلى روايتي
الحلبي وابن مسلم بل يستفاد من كلام الشهيد في المسالك وقوعه بكل كلمة أوضح دلالة
من «اعتدّي» أيضاً واستدل له بمفهوم الموافقة في الروايتين .
لكن الحق هو ما ذهب إليه المشهور ولايقع بما قاله ابن جنيد فضلا عما قال الشهيد
بكفايته ، لاعراض المشهور عنهما ; هذا هو العمدة ، مضافاً إلى ما مرّ من موافقتهما
للعامة وحملهما على التقية ، ومن حملهما على الاخبار بالطلاق ، وحمل «أو» على العطف
كما ذهب إليه الشيخ ، ويشهد له ما في رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر(عليه السلام)
قال : «الطلاق للعدّة أن يطلّق الرجل إمرأته عند كل طهر يرسل إليها أن اعتدّي فإنّ
فلاناً قد طلّقك . قال : وهو أملك برجعتها ما لم تنقض عدّتها»[179] .
وكذا ما عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «يرسل إليها فيقول
الرسول : اعتدّي فإنّ فلاناً قد فارقك» . قال ابن سماعة : «وإنّما معنى قول الرسول
: اعتدّي فإنّ فلاناً قد فارقك يعني الطلاق ، انّه لاتكون فرقة إلاّ بطلاق»[180]
.
هذا ولا بأس بصرف الكلام فيما قاله الشهيد(قدس سره( في المسألة والتعرض لبعض
الإشكالات في كلامه على طوله وبسط مقاله . قال)قدس سره) :
«قوله «ولو قال اعتدّي . . .» إلى آخره ، القائل بوقوعه بقوله اعتدّي ، ابن
الجنيد استناداً إلى حسنة الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام( قال : «الطلاق أن
يقول لها : اعتدّي أو يقول لها : أنت طالق» ، وحسنة محمد بن مسلم السابقة عن أبي
جعفر)عليه السلام)وفيها بعد قوله ، هذا كله ليس بشيء» ، «إنّما الطلاق أن يقول لها
في قبل العدّة بعد ما تطهر من حيضها قبل أن يجامعها : أنت طالق أو اعتدّي ، يريد
بذلك الطلاق ويشهد على ذلك رجلين عدلين» ، وروى الشيخ في التهذيب عن علي بن الحسن
الطاطري قال : الذي أجمع عليه في الطلاق أن يقول : أنت طالق او اعتدّي ، وذكر انّه
قال لمحمد بن أبي حمزة : كيف يشهد على قوله : اعتدّي ؟ قال : يقول : اشهدوا اعتدّي
.
وأنت خبير بأن الأصحاب يثبتون الأحكام بما هو أدنى مرتبة من هذه الروايات وأضعف
سنداً فكيف بالحسن الذي ليس في طريقه من هو خارج عن الصحيح سوى إبراهيم بن هاشم وهو
من أجلّ الأصحاب وأكبر الأعيان وحديثه من أحسن مراتب الحسن ومع ذلك ليس لها معارض
في قوّتها حتى يرجح عليها بشيء من وجوه المرجحات .
نعم نقل الشيخ عن الحسن بن سماعة انّه قال : ليس الطلاق إلاّ كما روى ابن بكير
بن أعين أن يقول لها وهي طاهر من غير جماع : أنت طالق وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى .
ولايخفى عليك أنّ هذا الكلام لايصلح للمعارضة أصلا لانّه من قول ابن بكير وحاله
معلوم والراوي الحسن بن سماعة شيخ الواقفية ووجههم ، فأين هذا من حديث سنده علي بن
إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي والثلاثة الاُول عن
عمر بن اُذينة ، عن محمد بن مسلم ؟ !
ومن العجب عدول الشيخ عن مثل ذلك مع تعلّقه في وقوع الطلاق بقوله «نعم» ، في
جواب السؤال برواية السكوني ، وبوقوعه بغير العربية برواية حفص عن أبيه وهما عاميان
كالسكوني ، وتركه هذه الأخبار المعتبرة الإسناد .
وأعجب منه جمعه بينها وبين كلام ابن سماعة ـ حذراً مـن التنافي ـ بحمل الاخبار
على أن يكون قد تقدم قول الزوج : أنت طالق ، ثم يقول : اعتدّي ، قال : لأن قوله لها
«اعتدّي» ليس له معنى لأنّ لها أن تقول : من أي شيء أعتدّ ؟ فلابدّ له أن يقول :
اعتدّي لأ نّي قد طلقتك فالاعتبار بالطلاق لابهذا القول إلاّ انّه يكون هـذا القول
كالكاشف لها عـن انّه لزمها حكم الطلاق وكالموجب عليها ذلك ولو تجـرّد ذلك مـن غير
أن يتقدّمـه لفظ الطلاق لما كان بـه اعتبار على ما قالـه ابن سماعة . هـذا آخر كلام
الشيخ .
ولايخفى عليك ما في هذا الجمع والحمل لأن مرجعه إلى أنّ الطلاق لايقع إلاّ بقوله
: أنت طالق ، وأنّ «اعتدّي» إخبار عن سبق قوله أنت طالق والحال أنّ الإمام(عليه
السلام)في الخبرين جعل قوله «أنت طالق» معطوفاً على «اعتدّي» أو معطوفاً عليه ووقوع
الطلاق بكل واحد من الصيغتين صريحاً فكيف يخصّ وقوعه بإحديهما .
وقوله «إنّه لا معنى لقوله : اعتدّي» غير واضح لأ نّه إذا جعل كناية عن الطلاق
يكون دالاًّ على انشاء الطلاق به فإذا قالت له : من أي شيء أعتدّ ؟ يقول لها : إنّ
قولي «اعتدّي» طلاق ، غايته أ نّها ما فهمت مراده من قوله «اعتدّي» فسؤالها عنه
لايوجب أن لايكون له معنى مع جعل الشارع معناه الطلاق ويكون ذلك كسؤالها له بعد
قوله «أنت طالق» بقولها عن أي شيء طالق فيقول : طالق عن وثاق الجلوس في البيت أو
وثاق النكاح أو غير ذلك .
وأيضاً فقوله في رواية محمد بن مسلم «أو اعتدّي يريد بذلك الطلاق» صريح في انّه
كناية من حيث انّه قيّد وقوع الطلاق به بإرادة الطلاق ولم يقيّد ذلك في قوله «أنت
طالق» لأنه لفظ صريح وهذا شأن الكنايات عند من يوقع بها الطلاق ; فإنّه يشترط فيه
النية دون الصريح .
ولايقال : إنّه يمكن حمله على التقية حيث إنّه مذهب جميع العامة لأنّ في الخبر
ما ينافي ذلك وهو قوله إنّه لايقع الطلاق بقوله «أنت حرام» أو بائن أو بتّة أو بتلة
وخلية ، فإنّ الطلاق يقع عند المخالف بجميع ذلك مع النية فلا يمكن حمل آخره على
التقية مع منافاة أوله لها .
نعم يمكن أن يقال : إنّ حكمه بوقوع الطلاق بقوله «اعتدّي» مع النية ـ وهو كناية
قطعاً ـ يدل على وقوعه بغيره من الكنايات التي هي أوضح معنىً من قوله : «اعتدّي»
مثل قوله : «أنت مطلّقة» أو «طلّقتك» أو «من المطلّقات» أو «مسرّحة» أو «سرّحتك» أو
«مفارقة» أو «فارقتك» أو «من المسرحات» أو «من المفارقات» إلى غير ذلك من الكنايات
التي هي أوضح دلالة على الطلاق من قوله «اعتدّي» .
بل قيل : إنّ الفراق والسراح وما اشتق منهما ومن الطلاق صريح لا كناية ; لورودها
في القرآن مراداً بها الطلاق كقوله تعالى (وسرّحوهنّ سراحاً جميلا( ، (أو تسريح
باحسان) ، (أو فارقوهنّ بمعروف) ، )وان يتفرّقا يغن الله كلاًّ من سعته) ، فوقوع
الطلاق بقوله «اعتدّي» يدل بمفهوم الموافقة على وقوعه بجميع هذه الألفاظ وما في
معناها وتبقى الكنايات التي لاتدخل في مفهوم الموافقة ـ بل إمّا مساوية لقوله :
«اعتدّي» أو أخفى ـ مردودة لعدم الدليل .
ومنها قوله في الخبر خلية وبرية وبتة وبتلة ونحوها . وحينئذ نكون قد اعملنا جميع
الأخبار المعتبرة مؤيّداً بعموم الآيات والأخبار الدالّة على الطلاق من غير تقييد
بصيغة ولايضرّنا مفهوم الحصر في قوله إنما الطلاق أن يقول «أنت طالق» لوجهين :
أحدهما : أنّ الحصر في الصيغتين بطريق المطابقة ، وفي غيرها بطريق الالتزام ،
فلا منافاة .
والثاني : إمكان حمله على مجـرد التأكيد بقرينة قولـه في روايـة الحلبي «الطلاق
أن يقول لها» مـن غير أداة الحصر ولايرد على هـذا حصر المبتدأ في خبـره لأن ذلك غير
مطّـرد كما هـو محقق في محله وقد وقـع استعمال «إنّما» في الكلام الفصيح مجـرداً
عـن الحصر وتقدم مثله في أخبار ولو قيل بهذا القول لكان في غايـة القوّة ، وتوهـم
انّه خلاف الاجماع قد تكلّمنا عليه غير مرّة»[181] .
أقول : مواضع من كلامه(قدس سره) محلّ إشكال ونظر .
منها : قوله «لانّه من قول ابن بكير» ، ففيه مضافاً إلى وقوع السهو في نسبة
القول إلى ابنه مع انّه قول الأب ، انّه قول بكير بن أعين الشيباني الذي عند بلوغ
خبر موته قال(عليه السلام) : أنزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين[182]
. وقوله بأن حاله معلوم ، فهو لاينبغي من مثله في ابنه أيضاً الذي هو من أصحاب
الاجماع وقد روى عنه سبعون من المحدّثين وكثير منهم من الأجلاّء والثقات الكبار
وبعضهم من أصحاب الاجماع كصفوان وابن أبي عمير وعبدالله بن مسكان وحسن بن محبوب
وأحمد بن أبي نصر البزنطي ، ومن تلامذته جعفر بن بشير الذي قال فيه النجاشي : كان
من زهّاد أصحابنا وعبّادهم ونسّاكهم ، روى عن الثقات ورووا عنه ، فهل ينبغي لمثل
الشهيد الثاني الذي هو عين الورع التعبير كذلك فيمن له هذه الجهات الموجبة للعظمة
والمعروفية والوثاقة فإنّ التعبير بقوله «حاله معلوم» إن لم يكن ظاهراً في عدم
وثاقته وعدم معروفيته فلا أقلّ من الاشعار بذلك كما لايخفى . هذا مع انّه ليس فيه
إلاّ انّه فطحي المذهب وهذا ـ مضافاً إلى عدم اختصاصه بذلك بل غير واحد من
المحدّثين الذين يفتى برواياتهم من الفطحية ـ لاضير في ذلك أصلا لأنّ روايتهم عن
الصادق(عليه السلام) كانت قبل الأفطح وهذا غير مضرّ بعد ما كانوا ثقات ، نعم انتفاء
بعض الشرائط مضرّ في بعض الحجج بالنسبة إلى السابق أيضاً كعروض الجنون أو الفسق أو
الخروج من الايمان إلى الإسلام وغيرها في الفتيا ، ففتاواه السابقة ليست بحجة في
زمن العروض وبعده ولعلّ الدليل عليه الاجماع فراجع .
ونظيره فيه وانّه ممّا لاينبغي صدوره من مثله ما أتى به الشيخ(رحمه الله( في
مسألة هدم الطلاق وإن تكرر مائة مرّة ورواية ابن بكير فيها ، فإنّه قال : وقد
قدّمنا من الأخبار ما تضمّن انّه قال حين سئل عن هذه المسألة : هذا ممّا رزق الله
من الرأي ، ولو كان سمع ذلك من زرارة لكان يقول حين سأله الحسين بن هاشم وغيره عن
ذلك وانّه هل عندك في ذلك شيء ؟ كان يقول : نعم ، رواية زرارة ولايقول : نعم رواية
رفاعة حتى قال له السائل : إنّ رواية رفاعة تتضمن انّه إذا كان بينهما زوج ، فقال
هو عند ذلك : هذا ممّا رزق الله تعالى من الرأي ، فعدل عن قوله إنّ هذا في رواية
رفاعة إلى أن قال : الزوج وغير الزوج سواء عندي ، فلمّا ألحّ عليه السائل ، قال :
هذا ممّا رزق الله من الرأي ، ومن هذه صورته فيجوز أن يكون اسند ذلك إلى رواية
زرارة نصرة لمذهبه الذي كان أفتى به ، وانّه لمّا أن رأى أنّ أصحابه لايقبلون ما
يقوله برأيه أسنده إلى من رواه عن أبي جعفر(عليه السلام) ، وليس عبدالله بن بكير
معصوماً لايجوز هذا عليه ، بل وقع منه من العدول عن اعتقاد مذهب الحق إلى اعتقاد
مذهب الفطحية ما هو معروف من مذهبه ، والغلط في ذلك أعظم من إسناد فتيا الغلط فيمن
يعتقد صحته لشبهة إلى بعض أصحاب الأئمة)عليهم السلام)[183] .
أقول : وفي كلامه ما لايخفى حيث إنّ نسبة الافتراء عليه الراجعة إلى افترائين ،
افتراء على مثل زرارة وافتراء على الامام أبي جعفر(عليه السلام( كما يعلم ذلك بأدنى
الدقّة مناف لتوثيقه(رحمه الله) في الفهرست ، ولكونه من أصحاب الإجماع الدالّ على
كونه ثقة عند الكلّ وإن لم نقل بما هو المعروف فيهم من اعتبار السند المتصل إليهم
وكفاية اعتبار من كان قبلهم في الحجيّة وعدم الاحتياج إلى اعتبار من بعدهم حيث إنّ
الوثاقة هي القدر المتيقن أو الظاهر من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ، هذا
مع أنّ ما ذكره)رحمه الله) من نسبة الغلط إليه في مسألة الإمامة التي هي من أعظم
المسائل فوقوعه في الغلط في مسألة فرعيّة يكون سهلا .
ففيه : أنّ في اختياره مذهب الفطحية لم يرتكب الغلط بل اشتبه الأمر عليه كبعض
آخر من الأصحاب ، في رعاية كون الامام أقدم سنّاً وعدم رعاية السالم بدناً ؟ فهم
كانوا قاصرين معذورين وأين هذا من ارتكاب الكذب والافتراء عمداً ولم نجد نظير هذا
الكلام في غير كلمات الشيخ من الفقهاء والمحدّثين .
ومنها : قوله في الراوي الحسن بن سماعة شيخ الواقفة ووجههم بأنه «أين هذا من
حديث سنده علي بن إبراهيم ؟» ففيه أنّ ما ذكره في الحسن تام وممّا لا كلام فيه
وصرّح به الشيخ والنجاشي وغيرهما بل عن النجاشي انّه كان يعاند في الوقف ويتعصّب
لكن النجاشي قال فيه : كثير الحديث ، فقيه ، ثقة . وقال الشيخ : انّه جيّد التصانيف
، نقيّ الفقه ، حسن الانتقاد ، وله ثلاثون كتاباً[184]
ومع هذه الفضائل الدخيلة في حجية الرواية تعبيره(رحمه الله)بقوله «أين هذا . . .
»الخ ممّا يشعر بعدم قابلية معارضة روايته من رأس لتلك الأخبار الصحيحة ، ممّا
لاينبغي صدوره منه ، نعم في مقام المعارضة فإنّ الترجيح مع تلك الأخبار لما ذكره ،
بناءً على الترجيح بمطلق المزيّة .
ومنها : عند إيراده على الشيخ بأن العطف في «اعتدّي» صريح في وقوع الطلاق بكلّ
واحدة من الصيغتين «أنت طالق» و«اعتدّي» كما أنّ قوله(عليه السلام) في رواية محمد
بن مسلم أو «إعتدّي يريد بذلك : الطلاق»[185] ، صريح في انّه كناية من
حيث انّه قيّد وقوع الطلاق به بإرادة الطلاق .
ففيه : أنّ في العطف ليست صراحة في وقوع الطلاق بحيث يكون غير قابل للحمل بل له
ظهور في وقوعه بها ، فإنّ المقابلة الظاهرة من كلمة «أو» وإن كانت صريحة في أصل
الاختلاف والمقابلة بين المعطوف والمعطوف عليه وأمّا أنّ الاختلاف في نوعي صيغة
الطلاق من «اعتدّي» و«أنت طالق» أو الاختلاف في نوع آخر وجهة اُخرى فلا صراحة لها
فيه ، فمن الممكن حملها على نوعين من الطلاق وهما الحاضر والغائب ، بأن يقال : «أنت
طالق» في طلاق الحاضر و«اعتدّي» في طلاق الغائب هو إخبار بوقوع الطلاق عليها بقوله
«هي طالق» فهما يرجعان إلى نوعين من الطلاق بل في الأخبار لشهادة على هذا الاحتمال
:
فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : «الطلاق للعدّة أن يطلّق الرجل
امرأته عند كلّ طهر يرسل إليها أن اعتدّي فإنّ فلاناً قد طلّقك ، قال : وهو أملك
برجعتها ما لم تنقض عدّتها»[186] . ومثله ما عن عبدالله بن سنان ، عن
أبي عبدالله(عليه السلام) ، قال : «يرسل إليها فيقول الرسول : اعتدّي فإنّ فلاناً
قد فارقك . قال ابن سماعة : وإنّما معنى قول الرسول : اعتدّي فإنّ فلاناً قد فارقك
يعني : الطلاق ، انّه لاتكون فرقة إلاّ بطلاق»[187] .
هذا مع أنّ لقائل أن يقول : إنّ العطف هنا بمعنى الواو وأنّ «اعتدّي» قرينة على
كون المراد من الطلاق في قوله «أنت طالق» الطلاق من الزوجية لا الطلاق بمعنى آخر
كالطلاق من البيت لزيارة المشاهد المشرّفة مثلا ، فالمراد من المعطوف عليه والمعطوف
أمر واحد وأنّ صيغة الطلاق هي «أنت طالق» ولفظ «اعتدّي» قرينة ، قضاءً لكون «أو»
بمعنى «الواو» الظاهرة في الجمع . وأمّا ما قاله أخيراً في كون المشار إليه في
«يريد بذلك ـ اعتدّي ـ الطلاق» ففيه : انّه يحتمل كونه إشارة إلى الطلاق خلافاً
للعامّة حيث ذهبوا إلى عدم اعتبار القصد في لفظ الصريح كقوله «أنت طالق» دون غيره
وفى غير واحد من الروايات أنّ اشتراط النية في الطلاق هو في مقابلهم[188]
.
ومنها : توجيهه عدم إمكان الحمل على التقية بكون التقية في الآخر مناف لعدمها في
أوّل الحديث ففيه : أنّ التقية يمكن أن تحصل في آخر الحديث أو وسطه وعند وصول كلام
الإمام(عليه السلام( هذا الموضع كما يمكن أن تقع في أوّله فإنّها دائرة مدار الخوف
ومدار حضورهم والعجب من الشهيد الثاني)قدس سره) الذي استشهد من عنادهم للتشيّع
والذي يكون ممّن قلّ نظيره في التفريع والتحقيق والإحاطة بالمسائل الاجتماعية كيف
أورد هذا مع أنّ الجواسيس والمكرّمين من شرّهم ليس لهم وقت معيّن لحضورهم فإنّه
ينافي عملهم في الحصول على المعلومات والاتيان بالوظيفة المقرّرة لهم من قبل حكّام
الجور .
ومنها : قوله بالتعميم بمفهوم الموافقة وفيه : أنّ مفهوم الموافقة هو في مورد
يلتفت العرف إليه بلا تدبّر ، وبعبارة اُخرى : أنّ الحكم في مفهوم الموافقة
بالأولوية القطعية وليس الأمر هنا هكذا . هذا مضافاً إلى لزومه صحة الطلاق بما هو
أصرح من «أنت طالق» بالموافقة وهو كما ترى .
ومنها : قوله أخيراً في منع الاجماع ففيه : أنّ الظاهر من الاجماع هو اتفاق الكل
إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه ، وما ترى في بعض الاجماعات من خلافه من مدّعى
الاجماع نفسه فإنّه قرينة صارفة ، فهو اجماع حدسي لا نقلي ; كيف وقد ذكر في
الانتصار لفظ «اعتدّي» وكذا الشيخ في الخلاف ، مع أ نّهما ادّعيا الاجماع على عدم
الوقوع به .