2- ان الذين كتبوا التاريخ، و دونوا الحديث كانوا يراعون الأجواء خصوصا السياسية منها، حيث كان الحكام و غيرهم يرغبون فى التخفيف من حجم ما فعلوه فى حق أهل بيت العصمة و النبوة أمام الناس، و لو أمكنهم انكار الواقعة من الاساس لفعلوا ذلك، و لأظهروا: أن المهاجمين كانت قلوبهم مملوءة بحب الزهراء، بل ذلك هو ما نجده فيما يبذله البعض من محاولات لاظهار حميمية العلاقة بين الزهراء و بين المهاجمين و انكار ما يقال من حدوث أى سوء تفاهم فى هذا المجال، فراجع ما ذكره ابن كثير الحنبلى فى بدايته و نهايته و كذلك غيره... و لعل ما سمعناه أخيرا من البعض، من شدة حبهم لها قد أخذه من بعض هؤلاء.
و قد بات واضحا: أن نقل حقيقة ما جرى على الزهراء يستبطن ادانة قوية و حاسمة لها أثارها فى فهم و وعى التاريخ، و تقييم الاحداث، و هى تؤثر على الذين يتصدون لأخطر منصب و مقام، بالاضافة الى ما لها من تأثيرات على مستوى المشاعر و الاحاسيس، و الارتباطات العاطفية و الدينية بهذا الفريق أو ذاك. فالسماح بنقل ذلك، و الستاهل فيه لم يكن هو الخيار الامثل و لا الأولى و الافضل بالنسبة لكثيرين من الناس.
3- ان حصول الاحراق قد روى من طرق شيعة أهل البيت بطرق بعضها صحيح و معتبر. فلا داعى للتقليل من أهمية هذه الروايات بالقول عن أحاديث التهديد بالاحراق- انها كثيرة- موحيا بعدم اعتبار ما عداها.
و هناك شطر من النصوص الدالة على وقوع الاحراق أوردناه فى الفصل المخصص لنقل الآثار و النصوص و سيأتى ان شاء الله تعالى.
4- ان رواية من يهمهم التخفيف من وقع ما جرى، و يهمهم ابعاد من يحبونهم عن أجواء هذا الحدث المحرج، بل و تبرئتهم منه ان أمكن. ان روايتهم لوقوع الاحراق بالفعل يجعلنا نطمئن أكثر الى صحة ما روى من طرق شيعة أهل البيت عليهم السلام.
5- أما بالنسبة لكتب الشيخ المفيد رحمه الله تعالى، فقد تحدثنا فى فصل سابق عن نهجه رحمه الله فى كتاب الارشاد، و أنه كان يريد فى كتابه هذا، ان يتجنب الامور الحساسة و المثيرة، و لذا أعرض عن الدخول فى تفاصيل ما جرى فى السقيفة، مصرحا بذلك، و قد كان عصره بالغ الحساسية، كما فصلناه فى كتابنا: « صراع الحرية فى عصر المفيد».
أم الأمالى، فهو كتاب محدود الهدف، و الاتجاه. و لم يكن بصدد ايراد أحداث تاريخية مستوفاة، و بصورة متناسقة.
أما الاختصاص فقد ذكر فيه تفاصيل هامة و أساسية ينكرها المعترض نفسه، أو يحاول التشكيك فيها.
على أنك قد عرفت انه رحمه الله قد اورد فى كل من المزار و المقنعة زيارتها عليهاالسلام المتضمنة لقوله: «السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة» أو «السلام عليك ايتها البتول الشهيدة».
6- و أخيرا، نقول: انه اذا كان المقصود، أن الذين باشروا احراق البيت كانوا يريدون أن تحرق النار البيت كله بمن فيه، ثم لم يتحقق ذلك لهم؛ فيصح أن يقال: أرادوا أن يحرقوا، أو هموا باحراق البيت، أو ما أشبه ذلك، فلا تختلف هذه النصوص عن النصوص التى تقول: انهم أضرموا النار فيه، أو نحو ذلك.
النفى يحتاج الى دليل:
يقول البعض: أنا لا أنفى قضية كسر الضلع، ولكننى أقول: اننى غير مقتنع بذلك.و كما أن الاثبات يحتاج الى دليل، كذلك فان النفى يحتاج الى دليل.
ثم ذكر اسباب عدم اقتناعه.
و نحن قد ذكرنا هذه الاسباب كلها فى هذا الكتاب، و اثبتنا عدم صحة الاستناد اليها، ولكنا نزيد هنا أمورا على ما تقدم، و هى:
الاول: سلمنا أنه غير مقتنع بكسر الضلع، ولكننا نسأله: هل هو مقتنع بسائر ما جرى على الزهراء، من ضرب، و اسقاط جنين، و تهديد باحراق البيت بمن فيه، و فيه أولادها و زوجها، ثم باشعال النار بقصد احراقهم.
فان كان مقتنعا بكل ذلك، و لم يبق عنده شى ء مشكوك سوى كسر الضلع فلا ضير فى ذلك، لأن سائر الامور تكفى لاثبات اللوازم التى يثبتها اقدامهم على كسر ضلع الزهراء و لا سيما النصوص التى تنص على انها عليهاالسلام قد ماتت شهيدة صديقة.
الثانى: ليس ثمة من مشكلة اذا لم يقتنع زيد من الناس بقضية ما، ولكن المشكلة هى: أن يكون هذا الذى يظهر أنه غير مقتنع بثبوت شى ء يجهد فى سبيل اقناع الناس، بعدمه، و يحشد ما يعتبره ادلة و شواهد من كل حدب و صوب ليثبت هذا العدم، و ذلك تحت شعار و ستار عدم الاقتناع.
و قد قال أحدهم لآخر عن صياد كان يذبح طائرا، و عيناه تدمعان بسبب مرض فيهما: انظر الى هذا الصياد ما أرق قلبه، انه يبكى على الطائر الذى يذبحه رأفة به و رحمة له.
فقال له رفيقه: لا تنظر الى دموع عينيه، بل انظر الى فعل يديه.
فكيف يقنعنا قول هذا البعض بأنه لا ينفى كسر الضلع، و هو يأتى بألف دليل و دليل- بزعمه- على هذا النفى. و على غيره مما ينفى القضية من اصلها.
الثالث: ان مهمة العالم هى أن يحل المشكلات التى يواجهها الناس فى حياتهم الفكرية و الثقافية، خصوصا فيما يرتبط بما هو من اختصاصه، و من صميم مهماته، فلا بد أن يحسم أمره؛ اما الى جانب الاثبات بدليل، أو الى جانب النفى بدليل
لا سيما اذا كان هو الذى يقول: ان النفى آيضا يحتاج الى دليل.