لقد عرف التراث الأدبي العربي القديم، أشكالاً قصصية متنوعة طمحت إلى التعبير عن مشاغل الكتاب وآرائهم في شؤون عصورهم، كقصص كليلة ودمنة والنوادر، والمقامات والسير الشعبية.إلا أن هذه الأشكال ظلت حبيسة في أساليبها وطرائقها، ولم يسع الكتاب إلى تطويرها بعد وفاة مبدعيها، فكان أن بقيت على حالها طوال قرون الضعف وكأنها من تحف التراث.ورغم التجارب الجيدة التي قام بها في عصر النهضة بعض الكتاب كناصيف اليازجي، ومحمد المويلحي، وحافظ إبراهيم لإحياء الأشكال القصصية العربية القديمة فإنها لم تستطع التطور والانتشار، ولعل ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى أن أساليبها ومضموناتها أقرب إلى روح التراث الأدبي العربي منهاإلى الحياة المعاصرة وروحها.ولقد ازدهرت حركة الترجمة والنقل من الثقافات والآداب الأجنبية، خصوصاً الأوروبية مع تطور الصحافة العربية بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر.وكان للأشكال القصصية، حظّ حسن من اهتمامات الكتاب والمترجمين، حيث عربوا الكثير من القصص والروايات والمسرحيات، والدراسات الأدبية.وتعد هذه الأعمال والمجهودات، حقولاً خصبة انتعشت فيها القصة العربية الحديثة، بعد صراع، وجدل بين الأساليب الأدبية القديمة، وأسلوب الإنشاء الحديث.والذي ينزع نحو التجديد والانعتاق من القديم.إلا أنه يجب أن نقر بدور التراث القصصي العربي، فهو أحد المؤهبات الرئيسية.ولولاه لما وجدت الفنون الأدبية الجديدة، وأساليبها طريقاً إلى الجمهور، ولما انتشرت بهذه السرعة وبلغت هذه المكانة.ثم إن فن القصة القصيرة أحد الأِشكال الأدبية التي ظهرت حديثاً في الآداب العالمية.وهي تمتاز بحجمها، وعناصرها المحددة، ولا يعني هذا أنها مطية لكل كاتب، إذ تعد كتابتها من أصعب أنواع الكتابة وأعسرها، وذلك لدقة عناصرها وشدة خصوصياتها.وقد تطور شكلها وملامحها الفنية في أدبنا الحديث بعد ازدهار حركة الترجمة والنقل واتخاذ اتصالنا بالثقافات الأجنبية مجرى الحوار والتأثر.كما كان لبعض أعضاء البعثات العلمية دور كبير في إثراء الحركة الأدبية العربية بنماذج قصصية رائدة، من مثل الدكتور محمد حسين هيكل، ومحمد تيمور، ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم، والدكتور طه حسين.أما شكل القصة التجريبية، فيعود تاريخ ظهوره إلى أواخر العقد السادس من هذا القرن، متأثراً بالظروف الحضارية والسياسية للإنسان العربي وبالتجارب الأدبية الجديدة في الغرب.خصوصاً التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية.ويجدر بنا أن نلفت الانتباه إلى أن ملامح هذا الشكل لا تزال في بدايتها ولم تتجاوز إطار التجارب الفردية، كما أن النقد الأدبي لا يزال محجماً عن دراسة نصوصها.وخلاصة القول إن القصة فن صعب يحتاج إلى خبرات طويلة وثقافة واسعة آخذة بعيون الآداب التراثية والمعاصرة فضلاً عن الموهبة الأدبية.وهو كغيره من الفنون يتحدد بجملة من العناصر الفنية تميزه عن غيره من أشكال التعبير المتنوعة.وقد خصصنا الفصول التالية لدراسة خصائص فن القصة القصيرة في الأدب الجزائري المعاصر.
الفصل الثاني: القصة الإصلاحية (النشأة والتطور: 1925- 1956م)
نعالج في هذا الفصل المرحلة الأولى لظهور القصة الجزائرية حسب المفهوم الحديث للفن القصصي، وقد قسمناه إلى ثلاثة أقسام:1- ركزنا على دراسة نشأة القصة الإصلاحية، وتطورها، سواء من حيث الشكل الفني، أم من حيث الموضوعات التي عالجتها، ولم نعرض للعوامل التاريخية والسياسية والأدبية، لأن من فصل الحديث فيها قبلنا قد وفاها حقها، فليرجع إليه ، وبهذا آثرنا تجنب