نخلص من هذا إلى أن البدايات الأولى للقصة الجزائرية جاءت على أيدي عدد من الكتاب كالجلالي والزاهري وابن عاشور وعبد المجيد الشافعي وغيرهم، وأنها أخذت صورة شكلين قصصيين بسيطين هما: "المقال القصصي" و"الصورة القصصية"، وقد نشأا متأثرين بالمقال الاصلاحي والديني، ذلك المقال الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الأولى في الوسط الثقافي الجزائري، وخصوصاً بعد انشاء الصحافة الإصلاحية باللغة العربية.ورغم البساطة التي رافقت مسيرة هذين الشكلين القصصيين فقد أديا وظيفة ذات أهمية في التعبير عن أفكار الكتاب وآرائهم الإصلاحية، وأسهما بقوة في نشرها بين فئات المجتمع، وأوساطه الثقافية مما أثر في نهوض الوعي الوطني فيما بعد.وقد تطور كل من هذين الشكلين عبر مرحلتين، حيث تميز (المقال القصصي) في مرحلته الأولى بأن سيطرت عليه النبرة الخطابية والسرد الوعظي، ونثر الحكم الدينية كالدعوة إلى الدين الإسلامي ونشر مبادئه الصحيحة.وفي المرحلة الثانية تمايز عنصر الحوار عن الأسلوب المقالي وأخذت الشخصيات القصصية والأحداث تتحرر من طغيان شخصية المؤلف لتظهر في شكلها الفني.أما "الصورة القصصية" فامتزجت في مرحلتها الأولى مع خصائص فنية لأنواع أدبية أخرى كالرواية والمقالة إلا أنها في مرحلتها الثانية (1947-1956) تطورت بسرعة على أيدي عدد من الكتاب يأتي أحمد رضا حوحو في طليعتهم فصار للقصة لغتها وكثافتها وإيحاؤها كما اهتم الكتاب برسم الشخصيات والأحداث ومكنوا العناصر الفنية الأخرى من خدمتها وتصويرها، والتركيز عليها.وفي هذه المرحلة الفنية من مسار القصة الجزائرية القصيرة علت تجربة أحمد رضا حوحو على بقية تجارب الكتاب الآخرين لثرائها وتنوعها ونضجها الفني، خصوصاً في قصصه التي كتبها بعد سنة 1947م، وبذلك استحق أن يطلق عليه النقاد رائد فن القصة الجزائرية المكتوبة باللغة العربية في الأدب الجزائري الحديث.
نتناول في هذا الفصل مرحلة تألق القصة الجزائرية وبلوغها درجة النضج الفني.ونركز على دراسة البناء الفني في الحدث القصصي، وفي الشخصيات وطرائق عرضها عند بعض أعلام هذه المرحلة وهم: عبد الحميد بن هدوقة وأبو العيد دودو والطاهر وطار.وننوه بجهود الدكتور عبد الله ركيبي والأستاذة: زهور ونيسي والدكتور عثمان سعدي..وقد يشكو الباحث في هذا الموضوع من قلة المراجع المخصصة لمرحلة (1956-1972م)، فنحن لا نعثر على مرجع ذي أهمية في هذا الموضوع عدا كتاب الأستاذ الركيبي في "القصة الجزائرية القصيرة" ، الذي تناول هذه المرحلة الأدبية بالدرس والتحليل، حتى سنة 1962 ، وقد ظهرت بعد هذا التاريخ مجموعات قصصية عديدة للأدباء أنفسهم الذين تناولهم الأستاذ الركيبي الأمر الذي سمح لنا بإعادة قراءة تجربة هؤلاء المبدعين واستكمال دراسة فن القصة القصيرة في الأدب الجزائري المعاصر، ورصد ملامحها واتجاهاتها الفنية إلى سنة 1985.وربما ذللنا كثيراً من الصعوبات التي اعترضت البحث بفضل مساعدة الأدباء أنفسهم، إذ لم يبخلوا بأي توضيح ولا بأية معلومة طلبناها.وقد يلوح لقارئي هذا الفصل أننا خرجنا ببعض الاستنتاجات وأننا حاولنا تحديد الإطار الفني العام للقصة الجزائرية، وتقدير مدى استيعابها لمختلف الأصول الفنية واسهامها في تطوير فن القصة في الوطن العربي عموماً.
تمهيد : جيـــل الثــــــورة الأدبــــي
عرفت الحياة الأدبية والثقافية في الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية (1944) تطوراً ملحوظاً، فقد كثر عدد الكتاب ورجع