تطور البنیة الفنیة فی القصة نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
والإحساس بالاغتراب أداة فنية لتصوير استيقاظ الوعي الوطني عند الشباب، لذلك فإن أول إحساس انتاب (بلخير) وقع بعد خروجه مباشرة من مدينة الجلفة: "انتابه فيها إحساس دافئ لم يشهد مثله طوال حياته رغم السنين العديدة التي عاشها فيها، كما بدأ ولأول مرة يكتشف جمال المدينة وطبيعة بلاده، ويشعر بصلة خفية قوية تشده إليهما كالصلة التي تربطه بأمه .وبلغ الحدث ذروته عندما اكتشف بلخير سبب إبعاده عن قريته أولاً، ثم بلاده ثانياً، وذلك عندما اتصل مباشرة بمجتمع المستعمر واطلع على الأفكار التي تنشرها وسائلهم الإعلامية حول الثوار وأعمالهم الفدائية وقد عبّر عن هذا بقوله "المقصود من ابعادنا هو إبعاد رؤوسنا، عن أفكار الثورة.هذا هو جزاؤك على إخلاصك يا بلخير..النفي..النفي والإبعاد..إنك في نظرهم لست إلا عدواً..شكراً يا فرنسا، أنا أيضاً عدو؟؟ أنت أيضاً عدو..وسنرى..إذا كان القاص قد أبدع في التعبير عن فكرته في تصوير تطور الوعي الوطني لدى الشباب وتدرجه الطبيعي في شخص (بلخير) ، فإن الذي يلاحظ من الجانب الفني، أن القاص منصرف إلى الأحداث العديدة، وكثرة تنقلات (بلخير) وهو الشيء الذي قاده إلى التعبير عن الحدث تعبيراً روائياً يبدأ بوصف الشاب وظروفه الاجتماعية وطفولته، ثم تطوعه في الجيش الفرنسي وتنقله بين بيئات عديدة داخل الجزائر وخارجها من دون تحديد للزمان، فهذه الصفات أفقدت القصة بعض عناصرها الفنية كالتركيز والوحدة والترابط وجعلها أشبه بالنص الروائي المضغوط.ومع هذا فإن القاص تمكن وبمهارة عالية، وقدرة كبيرة من التعبير عن أفكاره تعبيراً جيداً، لا يخلو من روح ملحمية في تصوير شخصية (بلخير) وهو يخوض معارك محو العار.هذا الصراع العنيف، وهذه الصور الملحمية من أجل اثبات كيان الذات الجزائرية، وتحريرها من أعمال المسخ والتشويه وقيود الأجنبي المتمثل في "العسكرية" الفرنسية وأعوانها سرعان ما أفل نجمه عقب الاستقلال (1962) في أدب وطار، وانتقل الصراع إلى الداخل.ودارت رحاه بين الأخوة نتيجة انحراف بعضهم عن المسار الصحيح للثورة.وأجمل قصصه في هذا الشأن قصة "الطاحونة ، فهي تعالج الوضع الاجتماعي الذي طغت مفاسده على سطح الحياة العامة في الجزائر، وقد مهد وطار لها بمقدمة طويلة لا تتناسب مع شكل القصة القصيرة، شرح فيها الفوضى التي غمرت مكاتب الجنود ومراكزهم .وقد تجسد المعنى القصصي في الصبيين اللذين قدما إلى مركز الجنود يرغبان في الحصول على قسط من الطعام الزائد على حاجتهم، وفي الفرق الواسع بين وضعهما الاجتماعي البائس ووضع القوات المسلحة وزوجات بعض المسؤولين الكبار.فبينما يعوم "أفراد القوات المحلية في الذهب، وتنفق مصالح القادة الجاسوسية يومياً عشرات الملايين، وتنفق في تونس زوجة أحد الوزراء في الحكومة الثورية قرابة المليونين في يومين، ورغم أن العالم يتبرع علينا، والخيرات مخزونة عند الأغنياء فإن أبناء الشهداء وقادة الثورة يتضورون جوعاً، ويكاد الأطفال الصغار من أبناء الشعب يهلكون من شدة الجوع والعري..وهذا الحدث لا يتطور إلى نقطة واحدة، يمكن تسميتها بعقدة، نظراً لسيطرة عنصر الحوار بين الجندي والصبيين، واهتمام القاص بإبراز المظاهر السلبية والانحرافات التي بدأت تغزو عقول بعض العناصر المنتمية إلى الجيش الوطني، بعد أن كانوا ثواراً ومجاهدين شرفاء.وقد طرح الصبيان (قاقا) و(بسعو) قضية سياسية كبيرة تتمثل في مصير الخونة والثورة، ثم إن القاص استطاع أن يعبر عن موقفه بطريقة ذكية، وذلك في إجابته عن سؤال الصبي (بسعو): "لكن يا بسعوما ذنب قاقا ليس هو الذي قتل وليس هو الحركي..ويعني هذا أنه لا ذنب لأبناء الخونة، فيما اقترفه آباؤهم في حق الوطن والثورة، وأن الوطن مقبل على عهد جديد، يكون فيه كل واحد مسؤول عما يقدمه.وينتهي الحدث رغم سيطرة النظرة الدكناء على القصة، نهاية لا تخلو من تفاؤل، وذلك عندما حور القاص في نص المثل الشعبي "الطاحونة تدور، والجعجعة تملأ الآذان، ولا أحد يسأل عن الطحين" ، إلى أن صار يشبه اللازمة التي تحدث وقعاً واحداً، كلما حان وقتها.ووظيفته في النص تعميق الإحساس بالتشاؤم بسبب كثرة المفاسد والانحرافات التي كادت تودي بمكتسبات الثورة إلى الهاوية.ولكن وطار انتفض في نهاية القصة، ونفخ في جسد المثل روحاً جديدة، حيث صار رمزاً للتفاؤل بدل التشاؤم، وذلك بعد أن آل إلى صياغة جديدة "خيل إلي وهما يبتعدان، أنهما يسيران في