التكملة الثانية المجموع شرح المهذب للامام أبي زكريا محيى الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه الجزء الثامن عشر دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع
(2)
(3)
قال المصنف رحمه الله تعالى : كتاب الايمان ( باب من تصح يمينه و ما تصح به اليمين ) تصح اليمين من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين لقوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " و أما المكلف كالصبي و المجنون و النائم فلا تصح يمينه لقوله صلى الله عليه و سلم " رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يبلغ ، و عن النائم حتى يستيقظ ، و عن المجنون حتى يفيق " و لانه قول يتعلق به وجوب حق فلا يصح من مكلف كالبيع ، و فيمن زال عقله بالسكر طريقان على ما ذكرناه في الطلاق .و أما المكره فلا تصح يمينه لما روى واثلة بن الاسقع و أبو أمامة رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " ليس على مقهور يمين " و لانه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح ، كما لو أكره على كلمة الكفر .و أما من لا يقصد اليمين و هو الذي يسبق لسانه إلى اليمين ، أو أراد اليمين على شيء فسبق لسانه إلى غيره فلا تصح يمينه لقوله عز و جل " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " و روى عن أبن عمر و ابن عباس و عائشة رضى الله عنهم أنهم قاوا " هو قول الرجل لا و الله ، ويلي و الله " و لان ما سبق اليه اللسان من قصد لا يؤاخذ به ، كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر .( الشرح ) قوله تعالى " باللغو " مصدر لغا يلغو و يلغي و بابه نصر و علم إذا أتى بما لا يحتاج اليه في الكلام أو بما لا خير فيه .قال ابن بطال بما لا قصد له فيه .و في الحديث " إذا قلت لصاحبك و الامام يخطب أنصت فقد لغوت " و لفظ أبى هريرة " فقد لغيت " قال العجاج و رب أسراب حجيج كظئم عن اللغا و رفث التكلم و قال الفرزدق : و لست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم
(4)
و اختلف في سبب نزول الآية ، فقال ابن عباس سبب نزولها الرهط الذين حرموا طيبات المطاعم و الملابس و المناكح على أنفسهم ، حلفوا على ذلك ، فلما نزلت " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قالوا كيف نصنع بأيماننا ؟ فنزلت هذه الآية .قال القرطبي و المعنى على هذا القول ، إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها ، أى أسقطتم حكمها بالتكفيرة و كفرتم فلا يؤاخذكم الله بذلك ، و إنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه - أى فلم تكفروا - فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا .و هو دليل الشافعي رضى الله عنه على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال و أن تحريم الحلال لغو كما أن تحليل الحرام لغو .اه و روى أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف ، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل فقال أعشيتم ضيفي ؟ فقالوا انتظرناك ، فقال لا و الله لا آكلة الليلة فقال ضيفه و ما أنا بالذي يأكل .و قال أيتامه و نحن لا نأكل ، فلما رأى ذلك أكل و أكوا ، ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال له " أطعت الرحمن و عصيت " فنزلت الآية و في البخاري في آية البقرة " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يوأخذكم بما كسبت قلوبكم " عن عائشة رضى الله عنها أنها نزلت في قول الرجل لا و الله و بلى و الله .و قيل اللغو ما يحلف به على الظن فيكون بخلافه .قاله مالك حكاه ابن القاسم عنه .قال القرطبي و قال به جماعة من السلف قرأ حمزة و الكسائي و شعبة عن عاصم ( عقدتم ) بالتخفيف بلا ألف ، و قرأه ابن ذكوان عن ابن عامر " عاقدتم " بألف بوزن فاعل ( 1 ) و قرأه الباقون بالتشديد من ألف .قال مجاهد معناه تعمدتم أى قصدتم .و روى عن أبن عمر أن التشديد يقتضي التكرار ، فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر ، و هذا يرده ما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " إنى و الله ، ان شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها 1 - و ذلك لا يكون إلا من اثنين في الاكثر من حلف لاجله في كلام وقع منه أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الايمان
(5)
خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير و كفرت عن يميني فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر قال أبو عبيد التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة ، و لست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا و هذا قول خلاف الاجماع كما يقول القرطبي .و روى عن نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين ، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة .قيل لنافع ما معنى وكد اليمين ؟ قال أن يحلف على الشيء مرارا و قال الجكني في أضواء البيان و التضعيف و المفاعلة معناهما مجرد الفعل بدليل قراءة ( عقدتم ) بلا ألف و لا تضعيف ، و القراءات يبين بعضها بعضا ، و ما في قوله ( بما عقدتم ) مصدرية على التحقيق لا موصولة ، كما قاله بعضهم زاعما أن ضمير الربط محذوف اه و قال القرطبي في الآية ( عقدتم ) مخفف القاف من العقد ، و العقد على ضربين حسى كعقد الحبل و حكمي كعقد البيع .قال الشاعر ( 1 ) قوما إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج و شدوا فوقه الكربا فاليمين المنعقدة منفلعة من العقد ، و هي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم ، فهذه التي يحلها الاستثناء و الكفارة على ما يأتي .و حديث رفع القلم وقع في رواية لاحمد في مسنده و أبى داود و النسائي و الحاكم في الصحيح عن عائشة بلفظ " رفع القلم عن ثلاثة ، عن النائم حتى يستيقظ ، و عن المبتلى حتى يبرأ ، و عن الصبي حتى يكبر " و في رواية لهم عن علي و عمر رضى الله عنهما " رفع القلم عن ثلاثة ، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ ، و عن النائم حتى يستيقظ ، و عن الصبي 1 - هذا البيت للحطيئة و العناج ككتاب حبل يشد في أسفل الدلو العظيمة ، و يطلق على الامر و ملاكه .و قوله " لا عناج له " أرسل بلا روية ، و الكرب بالتحريك أصول السعف الغلاظ العراض ، و الحبل يشد في وسط العراقي ليلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير ؟ المطيعى
(6)
حتى يحتلم " و الرفع لا يقتضى تقدم وضع كما في قول يوسف عليه السلام " انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله " و هو لم يكن على ملتهم أصلا .و كذا في قول شعيب " قد افترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد اذ نجانا الله منها " و معلوم أن شعيبا لم يكن على ملتهم قط .و أخرجه الدارقطني : انا أبو بكر النيسابوري نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم نا عبد الله بن وهب أخبر جرير بن حازم عن سليمان ابن مهران عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال " مر علي بن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت فأمر عمر بزحمها فردها على و قال لعمر : أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : رفع القلم عن ثلاثة .عن المجنون المغلوب على عقله .و عن النائم حتى يستيقظ .و عن الصبي حتى يحتلم ؟ قال : صدقت فخلى عنها " .و أخرج البخارى قول على تعليقا في باب الطلاق و الرجم .و وصله البغوى في الجعديات عن علي بن الجعد عن شعبه عن الاعمش عن أبى ظبيان عن ابن عباس أن عمر أتى بمجنونة قد زنت و هي حبلى فأراد أن يرجمها فقال له علي : أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة فذكره و تابعه ابن نمير و وكيع و غير واحد عن الاعمش و رواه جرير بن حازم عن الاعمش فصرح فيه بالرفع .أخرجه أبو داود و ابن حبان من طريقه .و أخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعا و موقوفا لكن لم يذكر فيهما ابن عباس جعله عن أبي ظبيان عن على .و رجح الموقوف على المرفوع .و لفظ الحديث المرفوع " مر بمجنونة بني فلان قد زنت فأمر عمر برجمها فردها علي و قال لعمر : أما تذكر " الحديث .و رواية جرير بن حازم متصل لكن أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها .و في رواية أبي داود و النسائي أتى عمر بإمرأة فذكر الحديث و فيه فخلى علي سبيلها .فقال عمر ، ادعو إلى عليا فقال : يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إلخ .أما حديث واثلة و أبي أمامه فقد أخرجه الدار قطني : نا أبو بكر محمد بن الحسن المقري نا الحسين بن إدريس عن خالد بن الهياج نا أبى عن عنبسه بن عبد الرحمن عن العلاء عن مكحول عن واثلة بن الاسقع و عن أبي أمامه قالا " قال رسول الله