دليلنا قوله تعالى " و إن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذي ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم صالح قريشا عام الحديبية على أن المرأة المسلمة إذا هاجرت ردها زوجها إليهم فنهاه الله عن ذلك و أمره برد مهورهن إلى أزواجهن لانه حال بينهن و بين أزواجهن ، فدل على أن كل من حال بين الرجل و بين زوجته كان عليه ضمان البضع ، و هذه المرضعة قد حالت بينها و بين زوجها فكان عليها الضمان .و عند أبى حنيفة أن كل ما ضمن بالعهد ضمن بالخطأ كالاموال .إذا ثبت هذا فحكم القدر الذي يرجع به على المرضعة نص الشافعي ههنا أنه يرجع عليها بنصف مهر المثل ، و نص في الشاهدين إذا شهدا على رجل أنه طلق إمرأته فبل الدخول و حكم بشادتهما ثم رجعا عن الشهادة فإنها لا ترد اليه ، و بما ذا يرجع الزوج عليهما ؟ فيه قولان .أحدهما يرجع عليهما بنصف المثل .و الثاني يرجع عليهما بجميع مهر المثل ، لانها أتلفت عليه البضع فرجع عليهما بقيمته .( و الثاني ) يرجع عليهما بنصف مهر المثل ، لانه لم يغرم إلا نصف بدل البضع فلم يجب له أكثر من نصف بدله ، و حملهما أبو إسحاق و أكثر أصحابنا على ظاهرهما فجعلوا في الشاهدين قولين ، و في المرضعة للزوج يرجع عليهما بنصف مهر المثل قولا واحدا ، لان الفرقة في الرضاع وقعت ظاهرا و باطنا ، و الذى غرم الزوج نصف المهر فلم يرجع عليها بأكثر من بدله .و في الشاهدين لم تقع الفرقة ظاهرا و باطنا ، و إنما وقعت في الظاهر و هما يقران أنها زوجته الآن ، و إنما حالا بينه و بينها فرجع عليهما بقيمة جميع البضع .و قال أبو حنيفة : يرجع على المرضعة بنصف المسمى .دليلنا أن هذا تعلق بالاتلاف فلم يضمن بالمسمى ، و إنما يضمن بقيمته كضمان الاموال ، فإذا قلنا يرجع عليها بنصف مهر المثل - و هو الاصح و عليه التفريع - فجاء خمسة أنفس و أرضعوا الصغيرة من أم الزوج كل واحد منهم رضعة ، فإن الزوج يرجع على كل واحد منهم بخمس نصف مهر المثل ليساويهم في الاتلاف .و إن كانوا ثلاثة فأرضعها اثنان كل واحد منهما رضعة من لبن أم الزوج و أرضعها الثالث منها ثلاث رضعات ففيه وجهان
(232)
( أحدهما ) يجب على كل واحد منهم ثلث نصف مهر المثل ، لان كل واحد منهم وجد منه سبب الاتلاف فتساووا في الضمان ، كما لو كان عبد بين ثلاثة لاحدهم النصف و لآخر السدس و للثالث الثلث ، فأعتق صاحب النصف و صاحب السدس نصيبهما في وقت واحد .( و الثاني ) يقسط النصف على عدد الرضعات فيجب على من أرضعه رضعة خمس نصف مهر المثل ، و على من أرضع ثلاث رضعات ثلاثة أخماس نصف مهر المثل ، لان الفسخ حصل بعدد الرضعات فقسط الضمان عليهن ( فرع ) و إن كان للرجل ثلاث زوجات كبيرة ، و للكبيرة ثلاث بنات من النسب أو الرضاع لهن لبن ، فأرضعت كل واحدة من بنات الزوجة الكبيرة واحدة من الثلاث الزوجات الصغار نظرت - فإن وقع رضاعهن دفعة واحدة بأن اتفقن في الخامسة - انفسخ نكاح الكبيرة و الصغائر ، لانه لا يجوز الجمع بينهن و بين جدتهن ، و إن كان الزوج لم يدخل بالكبيرة فإنهن يرجعن عليه بنصف المسمى ، و يرجع الزوج على كل واحدة من بنات الكبيرة بنصف مهر الصغيرة التي أرضعت ، و يرجع على الثلاث المرضعات بنصف مهر الكبيرة بينهن أثلاثا .و من أصحابنا من قال ، يرجع بنصف مهر كل واحدة من الصغار على الثلاث المرضعات بينهن بالسوية كنصف مهر الكبيرة ، لانهن اشتركن في إفساد نكاح كل واحدة منهن ، و الاول أصح ، و تحرم عليه الكبيرة على التأبيد .و أما الصغار فلا يحرمن عليه بل يجوز له أبتداء عقد النكاح على كل واحدة منهن ، و يجوز له الجمع بينهن لانهن بنات خالات ، و إن كان قد دخل بالكبيرة حرمن جميعا على التأبيد ، و الكلام في مهور الصغائر ما مضى و أما مهر الكبيرة فإنه يرجع على الثلاث المرضعات بينهن أثلاثا و قال ابن الحداد : لا يرجع عليهن بمهر المثل لانه قد وطئها ، فلو ثبت له الرجوع لكانت في معنى المرهونة ، و هذا ليس بصحيح ، لان المهر يرجع به على غيرها فلا تكون في معنى المرهونة و إن تقدم إرضاع بعضهن على بعض فإن الاولة من بنات الكبيرة لما أرضعت واحدة من الصغار انفسخ نكاح الصغيرة و الكبيرة و رجع الزوج على المرضعة
(233)
بنصف مهر مثل الصغيرة و بنصف مهر الكبيرة إن لم يدخل بها ، و بجميع مهرها إن دخل بها على الاصح و حرمت الكبيرة على التأييد ، فلما أرضعت الثانية الصغيرة و أرضعت الثالثة الصغيرة الثالثة ، فإن كان الزوج قد دخل بالكبيرة انفسخ نكاحهما لانهما بنتا أبنة إمرأته المدخول بها و الكلام في مهرهما على ما مضى ، و إن كان لم يدخل بالكبيرة لم ينفسخ نكاحهما لانهما بنتا ابنة إمرأته التي لم يدخل بها .( فرع ) إذا كان له ثلاث زوجات كبيرتان و صغيرة فأرضعتها كل واحدة من الكبيرتين أربع رضعات ثم حلبت كل واحدة منهما لبنا منها و خلطتاه و سقتاه الصغيرة معا انفسخ نكاح الكبيرتين و الصغيرة و على الزوج للصغيرة نصف المسمى و للزوج على الكبيرتين نصف مهر مثل الصغيرة بينهما نصفين و أما مهر الكبيرتين فإن كان قد دخل بهما فلهما عليه المهر المسمى و يرجع الزوج على كل واحدة منهما من مهر صاحبتها ، لان كل واحدة منهما أتلف نصف بضع صاحبتها و نكاح كل واحدة منها انفسخ بفعل نفسها و فعل صاحبتها فلا تضمن كل واحدة منها من مهر صاحبتها إلا ما قابل فعلها ، و إن كان لم يدخل بهما فلكل واحدة منهما ربع مهرها المسمى على الزوج ، لانه لو لم يكن من جهتها سبب في فسخ النكاح لاستحقت نصف مهرها المسمى .و لو انفسخ نكاحها بفعلها سقط جيمع مهرها ، فإذا انفسخ نكاحها قبل الدخول لا مهر لها ، و ما قابل فعل صاحبتها لا يسقط ، و يرجع الزوج على كل واحدة منهما بربع مهر مثل صاحبتها لانه قيمة ما أتلفته من بعض صاحبتها .قال الشيخ أبو حامد : فإن كانت بحالها إلا أن أحدهما انفرد بإيجارها اللبن المخلوط منهما انفسخ نكاح الجميع و للصغيرة على الزوج نصف المسمى ، و يرجع الزوج على الموجرة بنصف مهر الصغيرة لانها هي انفردت بالاتلاف و أما مهر الكبيرتين - فإن كان الزوج لم يدخل بالتي لم تؤجر - كان لها على الزوج نصف المسمى و يرجع الزوج على الموجرة بنصف مهر مثل التي لم تؤجر ، و إن كان قد دخل بالتي لم تؤجر فلها على الزوج جيمع ما سمى و لها و يرجع الزوج على الموجرة بجميع مهر مثل التي لم تؤجر و أما مهر الموجرة - فإن كان ذلك قبل الدخول بها - فلا شيء لها .
(234)
و إن كان بعد الدخول فلها عليه جميع المسمى و لا يسقط عنه شيء منه ، و تحرم الكبيرتان عليه على التأييد بكل حال .و أما الصغيرة - فإن دخل بالكبيرتين أو بإحداهما حرمت عليه على التأييد و إن لم يدخل بواحدة منهما جاز له ابتداء العقد على الصغيرة .( فرع ) و إن تزوج صغيرة فارتضعت من أم الزوج خمس رضعات متفرقات و الام نائمة أنفسخ نكاحها و سقط مهرها ، لان الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول فإن ارتضعت من الام رضعتين و هي نائمة ، ثم أرضعتها الام ثلاث رضعات متفرقات انفسخ نكاحها .قال الشيخ أبو إسحاق : و في قدر ما يسقط عنه من نصف المسمى وجهان ( أحدهما ) يسقط نصفه و هو الربع و يجب عليه الربع ( و الثاني ) يقسط على عدد الرضعات فيسقط من نصف المسمى الخمسان و يجب ثلاثة أخماسه ، فإذا قلنا بالاول وجب على الام للزوج ربع مهر المثل ، و إذا قلنا بالثاني وجب على الام ثلاثة أخماس نصف مهر المثل و إن تقاطر من لبن أمه في حلق زوجته الصغيرة فوصل إلى جوفها خمس رضعات انفسخ نكاحها فوجب عليه للصغيرة نصف المسمى و لا يرجع الزوج على الام بشيء لانه ليس من جهة أحدهما فعل ( فرع ) و إن ارتضعت زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة خمس رضعات متفرقات و الكبيرة نائمة أنفسخ نكاحهما و سقط مهر الصغيرة ، و إن كان لم يدخل بالكبيرة رجعت على الزوج بنصف مهرها المسمى و رجع الزوج في مال الصغيرة بجميع مهر مثل الكبيرة على قول أكثر أصحابنا ، و لا يرجع عليها بشيء على قول ابن الحداد .( فرع ) و إن كان له زوجة صغيرة و زوجة كبيرة و للكبيرة ابن من هذا الزوج له زوجة لها لبن من ابن الكبيرة فأرضعت به الصغيرة انفسخ نكاح الكبيرة و الصغيرة ، لان الكبيرة صارت جدة الصغيرة ، و لا يجوز الجمع بين المرأة وجدتها ، و تحرم الكبيرة على التأييد ، و أما الصغيرة - فإن كان قد دخل بالكبيرة - حرمت عليه على التأبيد ، و إن لم يدخل بالكبيرة لم تحرم عليه على التأييد ،
(235)
و يجب على الزوج للصغيرة نصف المسمى ، و يرجع الزوج على زوجته الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة .و أما الكبيرة فإن لم يدخل بها وجب لها نصف مهرها المسمى و يرجع على زوجة الابن بنصف مهر مثل الكبيرة .و ان دخل بالكبيرة رجعت الكبيرة بجميع مهرها المسمى ، و يرجع الزوج على زوجة ابنها بجميع مهر مثل الكبيرة على قول أكثر أصحابنا ، و لا يرجع عليها بشيء ههنا على قول ابن الحداد و الله تعالى أعلم .قال المصنف رحمه الله تعالى : كتاب النفقات ( باب نفقة الزوجات ) إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها و تمكن من الاستمتاع بها و نقلها إلى حيث يريد ، و هما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح ، وجبت نفقتها ، لما روى جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس فقال " اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، و استحللتم فروجهن بكلمة الله ، و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف و إن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أو في منزل دون منزل أو في بلد لم تجب النفقة لانه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع ، أو سلم في موضع دون موضع ، فإن عرضت عليه و بذلت له التمكين التام و النقل إلى حيث يريد و هو حاضر ، وجبت عليه النفقة لانه وجد التمكين التام .و إن عرضت عليه و هو غائب لم يجب حتى يقدم هو أو وكيله ، أو يمضى زمان لو أراد المسير لكان يقدر على أخذها ، لانه لايوجد التمكين التام إلا بذلك و إن لم تسلم اليه و لم تعرض عليه حتى مضى على ذلك زمان لم تجب النفقة ، لان النبي صلى الله عليه و سلم تزوج عائشة رضى الله عنها و دخلت عليه بعد سنتين .
(236)
لم ينفق إلا من حين دخلت عليه و لم يلتزم نفقتها لما مضى ، و لانه لم يوجد التمكين التام فيما مضى فلم يجب بدله ، كما لا يجب بدل ما كلف من المبيع في يد البائع قبل التسليم .( فصل ) و إن سلمت إلى الزوج أو عرضت عليه و هي صغيرة لا يجامع مثلها ففيه قولان : أحدهما تجب النفقة لانها سلمت من منع .و الثاني لا يجب و هو الصحيح لانه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع ، و إن كانت الكبيرة و الزوج صغير ففيه قولان : أحدهما لا تجب لانه لم يوجد التمكين من الاستمتاع .و الثاني تجب و هو الصحيح لان التمكين وجد من جهتها و إئما تعذر الاستيفاء من جهته فوجبت النفقة ، كما لو سلمت إلى الزوج و هو كبير فهرب منها ، و إن سلمت و هي مريضة أو رتفاء أو نحيفة لا يمكن وطؤها أو الزوج مريض أو مجبوب أو حسيم لا يقدر على الوطء وجبت النفقة لانه وجد التمكين من الاستمتاع ، و ما تعذر فهو بسبب لا تنسب فيه إلى التفريط ( الشرح ) حديث جابر جزء من حديث جابر الطويل في الحج ، و قد ورد بمعناه عن عمرو بن الاحوص عند أصحاب السنن كلهم " أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه و سلم فحمد الله و أثنى عليه و ذكر و وعظ ثم قال ، استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع و اضربوهن ضربا مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبعنوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا و لنسائكم عليكم حقا ، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، و لا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا و حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن و طعامهن " أما خبر عائشة فقد أخرجه أحمد و البخارى و مسلم بلفظ عن عائشة رضى الله عنها " أن النبي صلى الله عليه و سلم تزوجها و هي بنت ست سنين و أدخلت عليه و هي بنت تسع سنين و مكثت عنده تسعا " و في رواية لاحمد و مسلم " تزوجها و هي بنت سبع سنين و زفت اليه و هي بنت تسع سنين " أما الاحكام فإن الاصل في وجوب نفقة الزوجات من الكتاب قوله تعالى
(237)
و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ، و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف " و المولود له هو الزوج ، و انما نص على وجوب نفقة الزوجات حال الولادة ليدل على أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس لئلا يتوهم متوهم أنه لا يجب لها و قوله تعالى " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا " قال الشافعي : معناه أن لا يكثر عيالكم و من تمونونه .و قيل إن أكثر السلف قالوا معنى أن لا تعولوا أن لا تجوروا ، يقال عالي يعولوا عولا إذا جار .و عال يعيل إذا كثر عياله إلا زيد بن أسلم فإنه قال .معناه أن لا يكثر عيالكم و قول النبي صلى الله عليه و سلم يشهد لذلك حيث قال " ابدا بنفسك ثم بمن تعول " و يدل على نفقة الزوجات قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ، و بما أنفقوا من أموالهم " و قوله تعالى ، لينفق ذو سعة من سعته .و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ، لا تكلف نفس إلا ما آتاها " و معنى قوله تعالى " قدر عليه " أى ضيق عليه و من السنة ما رواه حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال " قلت يا رسول الله ماحق الزوجة ؟ فقال أن تطعمها إذا طعمت و أن تكسوها إذا اكتسبت " أخرجه النسائي و ابن ماجه و أبو داود و ابن حبان و الحاكم و صححاه ، و علق البخارى طرفا منه و صححه الدار قطنى في العلل .و ما قيده المصنف هنا عن جابر ، و قد وردت أحاديث منها حديث أبى هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تصدقوا قال رجل عندي دينار ، قال تصدق به على نفسك .قال عندي دينار آخر .قال تصدق به على زوجتك .قال عندي دينار آخر ، قال تصدق به على ولد لك ، قال عندي دينار آخر .قال تصدق به على خادمك : قال عندي دينار آخر ، قال أنت أبصر به " و رواه أحمد و النسائي ، و رواه أبو داود بتقديم الولد على الزوجة .و احتج به أبو عبيد بتحديد الغنى بخمسة دنانير ذهبا ، تقوية بحديث ابن مسعود في الخمسين درهما ،