( فرع ) إذا اختلف الاب و الام في أمر السفر فقالت الام : يسافر مشغولا بمصالحه و حاجياته فلن يلتفت إلى رعاية الولد فأنا أحق به ، و قال الاب : أسافر للنقلة و الاستيطان فأنا أحق كان القول قول الاب لانه أعلم بقصده و الله تعالى أعلم بالصواب و هو حسبي و نعم الوكيل قال المصنف رحمه الله تعالى : كتاب الجنايات ( الشرح ) الجنايات جمع جناية .و في القاموس : جنى الذنب عليه يجنيه جناية جره طلبه اليه ، و الثمرة اجتنها كتجناها و هو جان و الجمع جناة وجنتاه و أجناء " نادر " اه .و في اللسان قال أبو حية النميري : و ان دما لو تعلمين جنيته على الحى جاني مثله سالم فأما قولهم في المثل " أبناؤها أجناؤها " فزعم أبو عبيد أن أبناء جمع بان و أجناء جمع جان كشاهد و أشهاد و صاحب و أصحاب .قال ابن سيده في المخصص و أراهم لم يكسروا بانيا على أبناء و لا جانيا على أجناء الا في هذا المثل ، المعنى أن الذي جنى و هدم الدار هده هو الذي بناها .قال الجوهرى و أنا أظن أن المثل جنانها بناتها ، لان فاعل لا تجمع على أفعال ، ثم أستطرد خطأ فقال : ان اشهادا و أصحابا جمع شهد و صحب و هو خطأ فإن فعل لا تجمع على أفعال الا إذا كانت عينها واوا ياء كقول و شيخ تجمع على أقوال و أشياخ الا جمعا شاذا ، و قد رأيتهم في كتب الفقة و الحديث و التفسير و اللغة يجمعون بحث على أبحاث فإذا جاز فهو شاذ و صوابه بحوث .و هذا المثل يضرب لمن عمل شيئا بغير روية فأخطأ فيه ثم استدركه فنقبض ما عمله .و أصله أن بعض ملوك اليمن غزا و استخلف ابنته فبنت بمشورة قوم بنيانا كرهة أبوها ، فلما قدم أمر المشيرين ببنائه أن يهدموه ، و المعنى أن الذين جنوا عليه هذه الدار بالهدم هم الذين بنوها ، و المدينة التي هدمت اسمها براقش ، و من ثم قيل " على نفسها جنت براقش " و في الحديث " لا يجنى جان الا على نفسه "
(344)
و الجناية الذنب و الجرم ، و ما يفعله الانسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا و الاخرة ، و المعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه و أبا عده ، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الاخر لقوله تعالى ( و لا تزر وازرة وزر أخرى ) و جنى فلان على نفسه إذا جر جريرة يجئ جناية على قومه ، و تجنى فلان على فلان ذنبا إذا تقوله عليه و هو بري ، و تجنى عليه و جانى ادعى جناية .قال شمر : حنيت لك و عليك و منه قوله : جانيك من يجنى عليك و قد تعدى الصحاح - فتجرب - الجرب و جنيت الثمرة أجنيها جنى ، و اجتنيتها بمعنى .قال ابن سيده : جنى الثمرة و نحوها و تجناها كل ذلك تناولها من شجرتها .قال الشاعر إذا دعيت بما في البيت قالت تجن من الجذال و ما جنيت قال أبو حنيفة ، هذا شاعر نزل بقوم فقرؤه صمغا و لم يأتوه به و لكن دلوه على موضعه و قالوا اذهب فاجنه ، فقال هذا البيت يذم به أم مثواه و استعاره أبو ذويب للشرف فقال و كلاهما قد عاش عيشة ماجد و جنى العلاء لو أن شيئا ينفع و في الحديث إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دخل بيت المال فقال يا حمراء و يا بيضاء احمرى و ابيضى و غرى غيري هذا جناي و خياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه و أراد على أن يتمثل بهذا البيت الذي قاله في الجاهلية عمرو بن عدي اللحمي ابن أخت جذيمة .أى أنه لم يتلطخ بشيء من فىء المسلمين بل وضعه مواضعه .و الجنى الثمر المجتنى ما دام طريا ، و في التنزيل العزيز ( تساقط عليك رطبا جنيا ) و قال القائل " إنك لا تجنى من الشوك العنب " و في حديث أبى بكر رضى الله عنه أنه رأى أبا ذر رضى الله عنه فدعاه فجنى عليه فساره .جنى عليه أكب عليه و الاصل فيه من جنأ يجنا إذا مال عليه و عطف ، ثم خفف .هذا بعض ما ألمت به من مادة " جناية " لغة و استعمالا ، و شواهد و أمثالا ، و آثارا و قرآنا تضفى على البحث كمالا ، و الله الموفق حالا و مآلا
(345)
قال المصنف رحمه لله تعالى ( باب تحريم القتل ) و من يجب عليه القصاص و من لا يجب عليه القتل بغير حق حرام و هو من الكبائر العظام ، و الدليل عليه قوله عز و جل ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه وأعد له عذابا عظيما ) و روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " و روى ابن عباس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لو أن أهل السموات و الارض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز و جل الا أن لا يشاء ذلك " ( الشرح ) قوله تعالى ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها ) الاية .في صحيح البخارى عن أبن جبير قال ، اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) هي آخر ما نزل و ما نسخها شيء ، و كذا رواه مسلم و النسائي من طرق عن شبعة به و رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الاية فقال ما نسخها شيء و قال ابن جرير بإسناده عن يحيى الجابرى عن سالم بن أبى الجعد قال " كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عبد الله ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها الخ آخر الاية ، قال أ فرأيت إن تاب و عمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس " ثكلته أمه ، وأنى له التوبة و الهدى ؟ و الذي نفسى بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله .تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله ، و بيده الاخرى رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلنى ؟ " و ايم الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاية فما نسخها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه و سلم و ما نزل بعدها من برهان .و قد رواه
(346)
أحمد في مسنده .أما حديث " لزوال الدينا أهون على الله من قتل رجل مسلم " فإنى لم أعثر عليه من حديث أبى هريرة ، و لا اتهم المصنف بالخطأ في عزوه اليه فلست أهلا لذاك ، و إنما وجدت الحديث في سنن النسائي من حديث بريدة رضى الله عنه .و عنده أيضا من حديث ابن عمر و لفظه " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " و كذلك الترمذي و عند ابن ماجه من حديث البراء .أما حديث ابن عباس فقد أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد و أبى هريرة بلفظ " لو أن أهل السماء و الارض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله في النار " في الديات .أما الاحكام فإن القتل بغير حق حرام ، و الاصل فيه الكتاب و السنة و الاجماع أما الكتاب فقوله تعالى " و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " و قوله تعالى " و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطا " فأخبر أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ، و لم يرد بقوله " الا خطأ " أن قتله خطأ يجوز ، و إنما أراد لكن إذا قتله خطأ فعليه الدية و الكفارة .و قوله " و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " الآية ، أما السنة فعلى ما مضى من الاحاديث ، و ما سيأتي بما يجاوز الحصر .و أما الاجماع فإنه لا خلاف بين الامة في تحريم القتل بغير حق .إذا ثبت هذا فمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق فسق و استوجب النار ، الا أن يتوب .و حكى عن ابن عباس قوله " لا تقبل توبة القاتل " .و دليلنا قوله تعالى ( و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق - إلى قوله تعالى - الا من تاب ) الآية و لقوله صلى الله عليه و سلم " التوبة تحت ما قبلها " و لان التوبة إذا صحت من الكفر فلان تصح من القتل أولى .قال المصنف رحمه الله تعالى ( فصل ) و يجب القصاص بجناية العبد ، و هو أن يقصد الاصابة بما يقتل غالبا فيقتله ، و الدليل عليه قوله تعالى ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
(347)
و العين بالعين و الانف بالانف و الاذن بالاذن و ألسن بألسن و الجروح قصاص ) و قوله تعالى ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد ) الاية .و قوله تعالى ( و لكم في القصاص حياة يا أولي الالباب ) و روى عثمان رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث : الزاني المحصن و المرتد عن دينه و قاتل النفس ، و لانه لو لم يجب القصاص أدى ذلك إلى سفك الدماء و هلاك الناس و لا يجب بجناية الخطأ ، و هو أن يقصد غيره ، فيصبيه فيقتله ، لقوله عليه السلام " رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه " و لان القصاص عقوبة مغلظة فلا يستحق مع الخطأ و لا يجب في عمد الخطأ ، و هو أن يقصد الاصابة بما لا يقتل غالبا فيموت منه ، لانه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل ، كما لا يجب حد الزنا في وطء الشبهة حيث لم يقصد الزنا .( الشرح ) قوله تعالى ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) الخ الايات .أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله ابن عباس عن أبيه قال ان الله أنزل و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و أولئك هم الظالمون و أولئك هم الفاسقون .أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، و كانت أحدهما قد قهرت الاخرى في الجاهلية حتى ارتضوا و اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، و كل قتيل قتله الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه و سلم ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة تطلب مائة وسق ، فقالت الذليلة و هو لكان في حيين دينهما واحد و نسبهما واحد و بلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض ؟ انما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا و فرقا منكم .فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما ( و هما قريظه و النضير ) ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة فقالت و الله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، و لقد صدقوا ما أعطونا هذا الا ضيما منا و قهرا لهم ; فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه أن أعطاكم ما تريدون
(348)
حكمتموه و إن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه .فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسا من المنافقين ليخيروا لهم رأى النبي صلى الله عليه و سلم ، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله و ما أرادوا ، فأنزل الله تعالى ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون - إلى قوله تعالى - و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله تعالى - و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) و روى الامام أحمد بإسناده عن الزهرى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأها ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين ) نصب النفس و رفع العين ، و كذا رواه أبو داود و التزمذى و الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله ابن المبارك .و قال الترمذي حسن غريب .و قال البخارى تفرد ابن المبارك بهذا الحديث .و قد استدل كثير ممن ذهب من الاصوليين و الفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكى مقررا و لم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور ، و كما حكاه الشيخ أبو إسحاق الاسفرائينى عن نص الشافعي و أكثر الاصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات .و قال الحسن البصري : هي عليهم و على الناس عامة .رواه ابن أبى حاتم ، و قد حكى الامام النووي في كتاب الصوم من المجموع في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها : أن شرع إبراهيم حجة دون غيره و صحح منها عدم الحجية .و نقلها الشيخ أبو إسحاق الاسفرائيني أ قولا عن الشافعي و أكثر الاصحاب .و رجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا .و قد حكى الامام أبو قصر بن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الاية على ما دلت عليه .أما حديث عثمان رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود في الديات عن سليمان ابن حرب و الترمذى في الفتن عن أحمد بن الضبى و النسائي في المحاربة عن إبراهيم ابن يعقوب و عن مؤمل بن إهاب و عن أبى الازهر أحمد بن الازهر و ابن ماجه في الحدود عن أحمد بن عبدة ، و لفظه " أن عثمان أشرف يوم الدار فقال أنشدكم الله أ تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، زنا بعد إحصان ، أو ارتداد بعد اسلام ، أو قتل نفسا بغير حق
(349)
فقتل به ، فو الله ما زنيت في جاهلية و لا في إسلام ، و لا ارتدت منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لا قتلت النفس التي حرم الله .فيم تقتلوني ؟ " قال الترمذي و رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه و روى يحيى بن سعيد القطان و غير واحد عن يحيى بن سعيد هذا الحديث فأوقفوه و لم يرفعوه ، و قد روى هذا الحديث من وجه عن عثمان عن النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا و رواه الشيخان و أصحاب السنن و أحمد عن ابن مسعود بلفظ " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله الا الله وأنى رسول الله الا بإحدى ثلاث ، الثيب الزاني ، و النفس بالنفس ، و التارك لدينه المفارق للجماعة " و روى أحمد و النسائي عن عائشة مرفوعا " لا يحل دم امرئ مسلم الا من ثلاثة إلا من زنى بعد ما أحصن ، أو كفر بعد ما أسلم ، أو قتل نفسا فقتل بها " و رواه مسلم عنهما بمعناه .و في لفظ رواه النسائي عنها " لا يحل قتل مسلم الا في إحدى ثلاث خصال زان محصن فيرجم ، و رجل يقتل مسلما متعمدا ، و رجل يخرج من الاسلام فيحارب الله عز و جل فيقتل أو يصلب أو ينفى من الارض " و أخرجه بهذا اللفظ أبو داود و الحاكم و صححه .أما الاحكام فإنه إذا قتل من يكأفئه عامدا - و هو أن يقصد قتله بما يقتل غالبا فيموت منه - وجب عليه القصاص لقوله تعالى ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية .و هذه الآية حجه لنا بلا خلاف ، لان من أصحابنا يقول شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يتصل به نكير .و من قال منهم ليس بشرع لنا ، فإن الشرع قد ورد به ثبوت حكم هذه الاية في حقنا ، لان النبي صلى الله عليه و سلم قال للربيع بنت معوذ حين كسرت سن جارية من الانصار " كتاب الله القصاص " و ليس للسن ذكر في القصاص إلا في هذه الاية .و قوله تعالى ( كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحر بالحر ، و العبد بالعبد ) الاية .و قوله تعالى ( و لكم في القصاص حياة ) و معنى ذلك أن الانسان إذا علم أنه يقتل إذا قتل لم يقتل ، فكان في ذلك