بلا شك و لا تلوم فعلى القول الثاني لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا وقع عن رمضان و صح صومه و هذا قول أبي حنيفة إذا كان مقيما لانه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له كطواف الزيارة و لنا انه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء و طواف الزيارة كمسألتنا في افتقاره إلى التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أو طاف بنية الطواف مطلقا لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج مخالف للصوم و لهذا ينعقد مطلقا و ينصرف إلى الفرض و لو حج عن غيره و لم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه و لو نوى الاحرام بمثل ما أحرم به فلان صح و ينعقد فاسدا بخلاف الصوم ( فصل ) و لو نوى ليلة الشك ان كان غدا من رمضان فانا صائم فرضا و الا فهو نفل لم يجزئه على الرواية الاولى لانه لم يعين الصوم من رمضان جزما و يجزيه على الاخرى لانه قد نوى الصوم و لو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه بصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الاحد و كان الاثنين أو ظن أن غدا الاحد فنواه و كان الاثنين صح صومه لان نية الصوم لم تختل و انما اخطأ في الوقت ( فصل ) و إذا عين النية عن صوم رمضان أو قضائه كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا و قال ابن حامد يجب ذلك و قد مر بيان ذلك في الصلاة
(29)
( مسألة ) قال ( و من نوى صيام التطوع من النهار و لم يكن طعم أجزأه )
(30)
و جملة ذلك أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند امامنا و أبي حنيفة و الشافعي و روي ذلك عن أبي الدرداء و أبي طلحة و ابن مسعود و حذيفة و سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و النخعي و أصحاب الرأي و قال مالك و داود لا يجوز الا بنية من الليل لقوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " و لان الصلاة يتفق وقت النية لفرضها و نفلها و كذلك الصوم و لنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه و آله ذات يوم فقال " هل عندكم من شيء ؟ قلنا لا قال " فاني إذا صائم " أخرجه مسلم و أبو داود و النسائي و يدل عليه أيضا حديث عاشوراء و لان الصلاة يخفف نفلها عن فرضها بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها و يجوز في السفر على الراحلة إلى القبلة فكذا الصيام و حديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم فانا من رواية ابن لهيعة و يحيى بن أيوب قال الميموني سألت أحمد عنه فقال أخبرك ما له عندي ذلك الاسناد الا أنه عن ابن عمر و حفصة اسناد ان جيدان و الصلاة يتفق وقت النية لنفلها و فرضها لان اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فانه يعين له الصوم من النهار فعفى عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا و على الراحلة لهذه العلة ( فصل ) وأى وقت من النهار نوى أجزأه سوا في ذلك ما قبل الزوال و بعده هذا ظاهر كلام أحمد و الخرقي و هو ظاهر قول ابن مسعود فانه قال أحدكم بأخير النظرين ما لم يأكل أو يشرب و قال رجل لسعيد بن المسيب اني لم آكل إلى الظهر أو إلى العصر أ فأصوم بقية يومي ؟ قال نعم
(31)
و اختار القاضي في المحرر أنه لا تجزئه النية بعد الزوال و هذا مذهب أبي حنيفة و المشهور من قولي الشافعي لان معظم النهار مضى من نية بخلاف الناوي قبل الزوال فانه قد أدرك معظم العبادة و لهذا تأثير في الاصول بدليل أن من أدرك الامام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة لادراكه معظمها و لو أدركه بعد الرفع لم يكن مدركا لها و لو أدرك مع الامام من الجمعة ركعة كان مدركا لها لانها تزيد بالشهد و لو أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها و لنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله و لان جميع الليل وقت لنية الفرض فكذا جميع النهار وقت لنية الفل ، إذا ثبت هذا فانه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد فانه قال من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه و اذ أجمع من الليل كان له يومه و هذا أقول بعض أصحاب الشافعي ، و قال أبو الخطاب في الهداية يحكم له بذلك من أول النهار و هو قول بعض أصحاب الشافعي لان الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجز له صيام باقيه فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله و لا يمنع الحكم بالصوم من نية حقيقية كما لو نسى الصوم بعد نيته أو غفل عنه و لانه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها و لنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يكون صائما فيه لقوله عليه السلام " انما الاعمال بالنيات و انما لكل أمرئ ما نوى " و لان الصوم عبادة محضة فلا توجد بغير نية كسائر العبادات المحضة و دعوى
(32)
أن الصوم لا يتبعض دعوى محل النزاع و انما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم و لهذا قال النبي صلى الله عليه و آله في حديث عاشوراء " فليصم بقية يومه " و أما إذا نسي النية بعد وجودها فانه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فانها لم توجد حكما و لا حقيقة و لهذا لو نوى الفرض من الليل و نسيه في النهار صح صومه و لو لم ينو من الليل لم يصح صومه ، و أما إدراك الركعة و الجماعة فانما معناه أنه لا يحتاج إلى قضأ ركعة و ينوي انه مأموم و ليس هذا مستحيلا اما أن يكون ما صلى الامام قبله من الركعات محسوبا له بحيث يجزئه عن فعله فكلا و لان درك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لان القيام وجد حين كبر و فعل سائر الاركان مع الامام و أما الصوم فان النية شرط له أو ركن فيه فلا يتصور وجوده بدون شرطه و ركنه إذا ثبت هذا فان من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية و لا فعل ما يفطره فان فعل شيئا من ذلك لم يجزئه الصيام بغير خلاف نعلمه ( مسألة ) قال ( و من نوى من الليل فاغمي عليه قبل طلوع الفجر فلم يفق حتى غربت الشمس لم يجزه صيام ذلك اليوم ) و جملة ذلك أنه متى أغمي عليه جميع النهار فلم يفق في شيء منه لم يصح صومه في قول امامنا و الشافعي .و قال أبو حنيفة : يصح لان النية قد صحت و زوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم و لنا أن الصوم هو الامساك مع النية ، قال النبي صلى الله عليه و آله " يقول الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فانه لي و أنا أجزي به يدع طعامه و شرابه من أجلي " متفق عليه ، فأضاف ترك الطعام و الشراب اليه ، فإذا كان مغمي عليه فلا يضاف الامساك اليه فلم يجزئه ، و لان النية أحد ركني الصوم فلا تجزي وحدها كالامساك وحده ، أما النوم فانه عادة لا يزيل الاحساس بالكلية و متى نبه انتبه ، و الاغماء عارض يزيل العقل فأشبه الجنون ، إذا ثبت هذا فزوال العقل يحصل بثلاثة أشياء ( أحدها ) الاغماء و قد ذكرناه و متى فسد الصوم هب فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلاف علمناه لان مدته لا تتطاول غالبا ، و لا تثبت الولاية على صاحبه فلم يزل التكليف به و قضاء العبادات كالنوم ، و متى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو في آخره ، و قال الشافعي في أحد قوله : تعتبر الافاقة في أول النهار ليحصل حكم النية في أوله
(33)
و لنا أن الافاقة حصلت في جزء من النهار فاجزأ كما لو وجدت في أوله و ما ذكروه لا يصح فان النية قد حصلت من الليل فيستغنى عن ذكرها في النهار كما لو نام أو غفل عن الصوم ، و لو كانت النية انما تحصل بالافاقة في النهار لما صح منه صوم الفرض بالافاقة لانه لا يجزئ بنية من النهار ( الثاني ) النوم فلا يؤثر في الصوم سواء وجد في بعض النهار أو جيعه ( الثالث ) الجنون فحكمه حكم الاغماء إلا أنه إذا وجد في جميع النهار لم يجب قضاؤه .و قال أبو حنيفة : متى أفاق المجنون في جزء من رمضان لزمه قضأ ما مضى منه لانه أدرك جزأ من رمضان و هو عاقل فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم .و قال الشافعي : إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم لانه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه كالحيض و لنا أنه معنى يمنع الوجوب إذا وجد في جميع الشهر فمنعه إذا وجد في جميع النهار كالصبا و الكفر و أما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوبه ، و إن سلمناه فانه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمه كالصبي إذا بلغ و الكافر إذا أسلم في بعض النهار و كما لو أدرك بعض وقت الصلاة و لنا على الشافعي أنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم كالاغماء والنوم ، و يفارق الحيض فان الحيض لا يمنع الوجوب ، و انما يجوز تأخير الصوم و يحرم فعله و يوجب الغسل و يحرم الصلاة و القراءة و اللبث في المسجد و الوطء فلا يصح قياس الجنون عليه ( مسألة ) قال ( و إذا سافر ما يقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره ) و جملة ذلك أن للمسافر أن يفطر في رمضان و غيره بدلالة الكتاب و السنة و الاجماع ، أما الكتاب فقول الله تعالى ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) و أما السنة فقول النبي صلى الله عليه و آله " إن الله وضع عن المسافر الصوم " رواه النسائي و الترمذي و قال حديث حسن في أخبار كثيرة سواه ، و أجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة ، و انما يباح الفطر في السفر الطويل الذي يبيح القصر و قد ذكرنا قدره في الصلاة ، ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال ( أحدها ) أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له ( الثاني ) أن يسافر في أثناء الشهر ليلا فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها و ما بعدها في قول عامة أهل العلم .و قال عبيدة السلماني و أبو مجاز و سويد بن غفلة : لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر لقول الله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) و هذا قد شهده و لنا قول الله تعالى ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) و روى ابن عباس
(34)
قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و آله عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر و أفطر الناس متفق عليه ، و لانه مسافر فأبيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر ، و الآية تناولت الامر بالصوم لمن شهد الشهر كله و هذا لم يشهده كله ( 1 ) ( الثالث ) أن يسافر في أثناء يوم من رمضان فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلا ، و في إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان ( احداهما ) له أن يفطر و هو قول عمرو بن شرحبيل و الشعبي و إسحاق و داود و ابن المنذر لما روى عبيد بن جبير قال : ركبت مع أبي بصرة الغفاري سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال إقترب فقلت ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة أ ترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه و آله ؟ فأكل .رواه أبو داود ، و لان السفر معنى لو وجد ليلا و استمر في النهار لاباح الفطر فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض ، و لانه أحد الامرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فاباحه في أثناء النهار كالآخر ( و الرواية الثانية ) لا يباح له الفطر ذلك اليوم و هو قول مكحول و الزهري و يحيى الانصاري و مالك و الاوزاعي و الشافعي و أصحاب الرأي لان الصوم عبادة تختلف بالسفر و الحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة و الاول اصح للخبر ، و لان الصوم يفارق الصلاة فان الصلاة يلزم إتمامها بنيته بخلاف الصوم إذا ثبت هذا فانه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره يعني أنه يجاوزها و يخرج من بين بنيانها و قال الحسن يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج ، و روي نحوه عن عطاء قال ابن عبد الله قول الحسن قول شاذ ، و ليس الفطر لاحد في الحضر في نظر و لا أثر ، و قد روي عن الحسن خلافه و قد روى محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد السفر و قد رحلت له راحلته و لبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة ؟ فقال سنة ثم ركب .قال الترمذي هذا حديث حسن و لنا قول الله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) و هذا شاهد لا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ، و مهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين و لذلك لا يقصر الصلاة ، فأما أنس فيحتمل أنه قد كان برز من البلد خارجا منه فأتاه محمد بن كعب في منزله ذلك ( فصل ) و إن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدا له أن يفطر فله ذلك ، و اختلف قول الشافعي فيه فقال مرة لا يجوز له الفطر ، و قال مرة أخرى إن صح حديث الكديد لم ار به بأسا أن يفطر ، و قال مالك : إن أفطر فعليه القضاء و الكفارة لانه أفطر في صوم رمضان فلزمه ذلك كما لو كان حاضرا و لنا حديث ابن عباس و هو حديث صحيح متفق عليه ، و روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه و آله خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس معه ، فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام و إن