لانه نوى الصدقة بشيء من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم ( الثاني ) أن يوجب بلسانه فيقول هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك اهداءه فيصير واجبا معينا يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه و يصير في يدي صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه و إيصاله إلى محله فان تلف بغير تفريط منه أو سوق أو ضل لم يلزمه شيء لانه لم يجب في الذمة انما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها كالوديعة .و قد روى الدارقطني باسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من أهدى تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل الا أن يشاء فان كان نذرا فعليه البدل " و في رواية قال " من أهدى تطوعا ثم عطب فان شاء أبدل و ان شاء أكل و ان كان نذرا فليبدل " فأما أن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه لانه أتلف واجبا لغيره فضمنه كالوديعة .و ان خاف عطبه أو عجز عن المشي و صحبه الرفاق نحره موضعه و خلى بينه و بين المساكين و لم يبح له أكل شيء منه و لا لاحد من صحابته و ان كانوا فقراء و يستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عنقه في دمه ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا انه هدي و ليس بميتة فيأخذوه و بهذا قال الشافعي و سعيد بن جبير .و روي عن ابن عمر انه أكل من هديه الذي عطب و لم يقض مكانه .و قال مالك يباح لرفقته و لسائر الناس صاحبه أو سائقه ، و لا يأمر احدا يأكل منه فان أكل أو أمر من أكل أو حز شيئا من لحمه ضمنه و احتج ابن عبد الله لذلك بما روى هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية بنت كعب صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ قال " أنحره ثم أغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه ثم خل بينه و بين الناس " قال و هذا أصح من حديث ابن عباس و عليه العمل عند الفقهاء و يدخل في عموم قوله " و خل بينه و بين الناس " رفقته و غيرهم
(561)
و لنا ما روى ابن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث معه البدن ثم يقول " أن عطب منها شيء فخشيت عليها فانحرها ثم أغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها و لا تطعمها أنت لا أحد من أهل رفقتك " رواه مسلم ، و في لفظ رواه الامام : احمد و يخليها و الناس و لا يأكل منها هو و لا أحد من أصحابه ، و قال سعيد حدثنا اسماعيل بن إبراهيم عن أبي التياح عن موسى بن سلمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا بعث بثماني عشرة بدنة مع رجل و قال " ان ازدحف عليك منها شيء فانحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اضرب بها في صفحتها و لا تأكل أنت و لا أحد من أهل رفقتك " و هذا صحيح متضمن للزيادة و معنى خاص فيجب تقديمه على عموم ما خالفه و لا تصح التسوية بين رفقته و بين سائر الناس لان الانسان يشفق على رفقته و يجب التوسعة عليهم و ربما وسع عليهم من مؤنته ، و انما منع السائق و رفقته من الاكل منها لئلا يقصر في حفظها فيعطيها ليأكل هو و رفقته منها فتلحقه التهمة في عطبها لنفسه و رفقته فحرموها لذلك ، فان أكل منها أو باع أو أطعم غنيا أو رفقته ، ضمنه بمثله لحما ، و ان أتلفها أو تلفت بتفريطه أو خاف عطبها فلم ينحرها حتى هلكت فعليه ضمانها بما يوصله إلى فقراء الحرم لانه لا يتعذر عليه إيصال الضمان إليهم بخلاف العاطب ، و ان أطعم منها فقيرا أو أمره بالاكل منها فلا ضمان عليه لانه أوصله إلى المستحق فأشبه ما لو أطعم فقيرا بعد بلوغه
(562)
محله ، و ان تعيب ذبحه و أجزأه ، و قال أبو حنيفة لا يجزئه الا أن يحدث العيب به بعد اضجاعه للذبح ، و لنا أنه لو عطب لم يلزمه شيء فالعيب أولى لان العطب يذهب بجميعه و العيب ينقصه و لانه عيب حدث بعد وجوبه فأشبه ما لو حدث بعد اضجاعه ، و ان تعيب بفعل آدمي فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به ، و قال أبو حنيفة يباع جميعه و يشترى هدي و بني على ذلك على أنه لا يجزئ و قد بينا انه مجزئ ( فصل ) و إذ أوجب هديا فله إبداله بخير منه و بيعه ليشتري بثمنه خيرا منه نص عليه احمد و هو اختيار أكثر الاصحاب و مذهب أبي حنيفة ، و قال أبو الخطاب يزول ملكه عنه و ليس له بيعه و لا إبداله ، و هو قول مالك و الشافعي لانه حق متعلق بالرقبة و يسري إلى الولد فمنع البيع كالاستيلاد و لانه لا يجوز له إبداله بمثله فلم يجز بخير منه كسائر ما لا يجوز بيعه ، و وجه الاول ان النذور محمولة على أصولها في الفرض و هو الزكاة يجوز الابدال كذلك هنا و لانه لو زال ملكه لم يعد اليه بالهلاك كسائر الاملاك إذا زالت .و قياسهم ينتقض بالمدبرة يجوز بيعها ، و قد دل على جواز بيع المدبر أن النبي صلى الله عليه و سلم باع مدبرا ، أما إبدالها بمثلها أو دونها فلم يجز لعدم الفائدة في ذلك .( فصل ) إذا ولدت الهدية فولدها بمنزلتها إن أمكن سوقه و الا حمله على ظهرها و سقاه من لبنها ، فان لم يمكن سوقه و لا حمله صنع به ما يصنع بالهدي إذا عطب و لا فرق في ذلك بين ما عينه ابتداء و بين ما عينه بدلا عن الواجب في ذمته ، و قال القاضي في المعين بدلا عن الواجب يحتمل أن لا يتبعها ولدها لان ما في الذمة واحد فلا يلزمه اثنان ، و الصحيح أنه يتبع أمه في الوجوب لانه ولد هدي واجب فكان واجبا كالمعين ابتداء ، و قال المغيرة بن حذف أتى رجل عليا ببقرة قد أولدها فقال له لا تشرب من لبنها الا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم الاضحى ضحيت بها و ولدها عن سبعة رواه سعيد
(563)
و الاثرم ، و ان تعيبت المعينة عن الواجب في الذمة و قلنا بذبحها ذبح ولدها معها لانه تبع لها ، و ان قلنا يبطل تعيينها و تعود إلى مالكها احتمل ان يبطل التعيين في ولدها تبعا كنمائها المتصل بها و احتمل ان لا يبطل و يكون للفقراء لانه تبعا في الوجوب حال اتصاله بها و لم يتبعها في زواله لانه منفصل عنها كولد المبيع المعيب إذا ولد عند المشتري ثم رده لم يبطل البيع في ولده و المدبرة إذا قتلت سيدها فبطل تدبيرها لا يبطل في ولدها ( فصل ) و للمهدي شرب لبن الهدي لان بقاءه في الضرع يضر به ، فإذا كان ذا ولد لم يشرب الا ما فضل عن ولده لما ذكرنا من خبر علي رضي الله عنه ، فان شرب ما يضر بالام أو ما لا يفضل عن الولد ضمنه لانه تعدى بأخذه ، و ان كان صوفها يضر بها بقاؤه جزها و تصدق به على الفقراء و الفرق بينه و بين اللبن أن الصوف كان موجودا حال إيجابها فكان واجبا معها و اللبن متجدد فيها شيئا فشيئا فهو كنفعها و ركوبها ( فصل ) و له ركوبه عند الحاجة على وجه لا يضر به قال أحمد لا يركبه إلا عند الضرورة و هو قول الشافعي و ابن المنذر و أصحاب الرأي لان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا " رواه أبو داود ، و لانه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركونها من ضرورة كملكهم ، فأما مع عدم الحاجة ففيه روايتان ( احداهما ) لا يجوز لما ذكرنا ( و الثانية ) يجوز لما روى أبو هريرة و أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال " اركبها " فقال يا رسول الله انها بدنة ، فقال " اركبها ويلك " في الثانية أو في الثالثة متفق عليه
(564)
( فصل ) و لا يبرأ من الهدي الا بذبحه أو نحره لان النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه ، فان نحره بنفسه أو و كل من نحره أو نحره إنسان بغير اذنه في وقته أجزأ عنه و إن دفعه إلى الفقراء سليما فنحروه أجزأ عنه لانه حصل المقصود بفعلهم فاجزاه كما لو ذبحه غيرهم ، و إن لم ينحروه فعليه أن يسترده منهم و ينحره ، فان لم يفعل أو لم يقدر فعليه ضمانه لانه فوته بتفريطه في دفعه إليهم سليما ( فصل ) و يستحب المهدي أن يتولى نحر الهدي بنفسه لان النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه بيده ، و روي عن غرفة بن الحارث الكندي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع و أتي بالبدن فقال " أدع لي أبا الحسن " فدعي له علي فقال له " خذ أسفل الحربة " و أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بأعلاها ثم طعنا بها البدن رواه أبو داود ، و انما فعلا ذلك لان النبي صلى الله عليه و سلم أشرك عليا في بدنه ، و قال جابر نحر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثا و ستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ، و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم نحر خمس بدنات ثم قال " من شاء اقتطع " رواه أبو داود ، فان لم يذبح بيده فالمستحب أن يشهد ذبحها لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة " أحضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها " و يستحب أن يتولى تفريق اللحم بنفسه لانه أحوط و أقل للضرر على المساكين ، و إن خلى بينه و بين المساكين جاز لقوله عليه السلام " من شاء اقتطع " ( فصل ) و يباح للفقراء الاخذ من الهدي إذا لم يدفعه إليهم بأحد شيئين ( أحدهما ) الاذن فيه لفظا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم " من شاء اقتطع " ( و الثاني ) دلالة على الاذن كالتخلية بينهم و بينه ، و قال الشافعي في أحد قوليه لا يباح الا باللفظ ، و قول النبي صلى الله عليه و سلم لسائق البدن " اصبغ نعلها في دمها و اضرب به صفحتها " دليل على أن ذلك و شبهه كاف في لفظ ، و لو لا ذلك لم يكن هذا مفيدا
(565)
( مسألة ) قال ( و لا يأكل من كل واجب الا من هدي التمتع ) المذهب أنه يأكل من هدي التمتع و القران دون ما سواهما نص عليه أحمد و لعل الخرقي ترك ذكر القرآن لانه متعة أو اكتفى بذكر المتعة لانهما سواء في المعنى فان سببهما محظور فأشبها هدي التطوع و هذا قول أصحاب الرأي ، و عن أحمد أنه لا يأكل من المنذور و جزاء الصيد و يأكل مما سواهما و هو قول ابن عمر و عطاء و الحسن و إسحاق لان جزاء الصيد بدل و النذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما ، و قال ابن أبي موسى لا يأكل أيضا من الكفارة و يأكل مما سوى هذه الثلاثة و نحوه مذهب مالك لان ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين و لا مدخل للاطعام فيه فأشبه التطوع ، و قال الشافعي لا يأكل من واجب لانه هدي وجب بالاحرام فلم يجز الاكل منه كدم الكفارة ، و لنا أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم تمتعن معه في حجة الوداع و أدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة ثم ذبح عنهن النبي صلى الله عليه و سلم البقرة فأكلن من لحومها ، قال أحمد : قد أكل من البقر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عائشة خاصة ، و قالت عائشة إن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا ؟ فقيل ذبح النبي صلى الله عليه و سلم عن أزواجه .و روى أبو داود و ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذبح عن آل محمد في حجة الوداع بقرة ، و قال ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة .متفق عليه ، و قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو و علي من لحمها و شربا من مرقها .رواه مسلم ، و لانهما دما نسك فأشبها التطوع و لا يؤكل من غيرهما لانه لا يجب فعل محظور فأشبه جزاء الصيد
(566)
( فصل ) فأما هدي التطوع و هو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من أن يكون عن واجب في ذمته و ما نحره توطعا من أن يوجبه فيستحب أن يأكل منه لقول الله تعالى ( فكلوا منها ) و أقل أحوال الامر الاستحباب ، و لان النبي صلى الله عليه و سلم أكل من بدنه ، و قال جابر كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث فرخص لنا النبي صلى الله عليه و سلم فقال " كلوا و تزودوا " فأكلنا و تزودنا .رواه البخاري ، و إن لم يأكل فلا بأس فان النبي صلى الله عليه و سلم لما نحر البدنات الخمس قال " من شاء اقتطع " و لم يأكل منهن شيئا و المستحب أن يأكل اليسير منها كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم و له الاكل كثيرا و التزود كما جاء في حديث جابر ، و تجزئه الصدقة باليسير منها كما في الاضحية ، فان أكلها ضمن المشروع للصدقة منها كما في الاضحية ( فصل ) و ان أكل منها ما منع من أكله ضمنه بمثله لحما لان الجميع مضمون عليه بمثله حيوانا فكذلك أبعاضه ، و كذلك إن اعطى الجازر منها شيئا ضمنه بمثله ، و إن أطعم غنيا منها على سبيل الهدية جاز كما يجوز له ذلك في الاضحية لان ما ملك أكله ملك هديته ، و إن باع شيئا منها أو أتلفه ضمنه بمثله لان ممنوع من ذلك فأشبه عطيته للجازر ، و إن أتلف أجنبي منه شيئا ضمنه بقيمته لان المتلف من ذوات الامثال فلزمته قيته كما لو أتلف لحما لآدمي معين ( فصل ) و الهدي الواجب بغير النذر ينقسم قسمين منصوص عليه .و مقيس على المنصوص ، فأما المنصوص عليه ( فأربعة ) اثنان على الترتيب و الواجب فيهما ما استيسر من الهدي و أقله شاة أو سبع بدنة ( أحدهما ) دم المتعة قال الله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجعتم ) ( و الثاني ) دم الاحصار قال الله تعالى ( فما استيسر من الهدي ) و هو على الترتيب