( مسألة ) قال ( و يكبر في دبر كل صلاة من صلاة الظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ) إنما خص المحرم بالتكبير من يوم النحر ظهرا لانه قبل ذلك مشغول بالتلبية فلا يقطعها الا عند رمي جمرة العقبة كما بيناه فيما قبل و ليس بعدهما صلاة قبل الظهر فيكبر حينئذ بعدها كالمحل و يستوي هو و الحلال في آخر مدة التكبير وصفة التكبير ما ذكرنا في صلاة العيد و هو ان يقول ( الله أكبر الله أكبر لا إله الا الله و الله أكبر و لله الحمد ) ( فصل ) قال بعض أصحابنا يستحب لمن نفر أن يأتي المحصب و هو الابطح وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة فيصلي به الظهر و العصر و المغرب و العشاء ثم يضطجع يسيرا ثم يدخل مكة و كان ابن عمر
(484)
يرى التحصيب سنة قال ابن عمر يصلي بالمحصب الظهر و العصر و المغرب و العشاء و كان كثير الاتباع لرسول الله صلى الله عليه و سلم و كان طاوس يحصب في شعب الجور و كان سعيد بن جبير يفعله ثم تركه و كان ابن عباس و عائشة لا يريان ذلك سنة ، قال ابن عباس التحصيب ليس بشيء انما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و عن عائشة ان نزول الابطح ليس بسنة انما نزله رسول الله صلى الله عليه و سلم ليكون اسمح لخروجه إذا خرج متفق عليهما ، و من استحب ذلك فلا تباع رسول الله صلى الله عليه و سلم فانه كان ينزله قال نافع كان عمر يصلي بها الظهر و العصر و المغرب و العشاء و يهجع هجعة و يذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه ، و قال ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عثمان ينزلون الابطح ، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب و لا خلاف في انه ليس بواجب و لا شيء على تاركه .
(485)
( مسألة ) قال ( فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا و يصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت ) و جملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الاقامة بها أو الخروج منها فان أقام بها فلا وداع عليه لان الوداع من المفارق لا من الملازم سواء نوى الاقامة قبل النفر أو بعده ، و بهذا قال الشافعي و قال أبو حنيفة ان نوى الاقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف و لا يصح لانه مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر و انما قال النبي صلى الله عليه و سلم " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " و هذا ليس بنا فر فأما الخارج من مكة فليس له ان يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع و هو واجب على من تركه لزمه دم ، و بذلك قال الحسن و الحكم و حماد و الثوري و إسحاق و أبو ثور و قال الشافعي في قول له لا يجب بتركه شيء لانه يسقط عن الحائض فلم يكن واجبا كطواف القدوم و لانه كتحية البيت أشبه طواف القدوم و لنا ما روى ابن عباس قال امر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه ، و لمسلم قال كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " و ليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض و تجب على غيرها بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها
(486)
إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى و إذا ثبت وجوبه فانه ليس بركن بغير خلاف و لذلك سقط عن الحائض و لم يسقط طواف الزيارة و يسمى طواف الوداع لانه لتوديع البيت و طواف الصدر لانه عند صدور الناس من مكة و وقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر اخوانه و أهله و لذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم " حتى يكون آخر عهده بالبيت " ( فصل ) و من كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه و من كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي انه لا يخرج حتى يودع البيت و هذا قول أبي ثور و قياس قول مالك ذكره ابن القاسم و قال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر واهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لانهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم و لنا عموم قوله صلى الله عليه و سلم " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " و لانه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد .( فصل ) فان أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج ففيه روايتان ( احداهما ) يجزئه عن طواف الوداع لانه امر أن يكون آخر عهده بالبيت و قد فعل و لان ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزي عنهما المكتوبة و عنه لا يجزئه عن طواف الوداع لانهما عبادتان واجبتان فلم تجز احداهما عن الاخرى كالصلاتين الواجبتين ( مسألة ) قال ( فان ودع و اشتغل في تجارة عاد فودع ) قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت فان طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو اقامة فعليه إعاته ، و بهذا قال عطاء و مالك و الثوري و الشافعي و أبو ثور و قال أصحاب الرأي إذا طاف للوداع أو طاف تطوعا بعد ماحل له النفر أجزأه عن طواف الوداع و إن
(487)
قام شهرا أو أكثر لانه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقيبه .و لنا قوله عليه السلام " لا ينفرن احد حتى يكون آخر عهده بالبيت " و لانه إذا أقام بعده خرج عن ان يكون وداعا في العادة فلم يجزه كما لو طافه قبل حل النفر فاما ان قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده لان ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن ان يكون آخر عهده بالبيت و بهذا قال مالك و الشافعي و لا نعلم مخالفا لهما ( مسألة ) قال ( فان خرج قبل الوداع رجع ان كان بالقرب و ان بعد بعث بدم ) هذا قول عطاء و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي ثور ، و القريب هو الذي بينه و بين مكة دون مسافة القصر و البعيد من بلغ مسافة القصر نص عليه احمد و هو قول الشافعي و كان عطاء يرى الطائف قريبا و قال الثوري حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب و من خرج منه فهو بعيد و وجه القول الاول ان من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر و لا يفطر و لذلك عددناه من حاضري
(488)
المسجد الحرام و قد روي أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت رواه سعيد ، و إن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد و لو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم و لا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره لانه من واجبات الحج فاستوى عمده و خطؤه و المعذور و غيره كسائر واجباته فان رجع البعيد فطاف للوداع فقال القاضي لا يسقط عنه الدم لانه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم تسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات محرم فأحرم دونه ثم رجع اليه و إن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أولا لان الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر و يحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لانه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب ( فصل ) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات ان كان جاوزه الا محرما لانه ليس من أهل الاعذار فيلزمه طواف لاحرامه بالعمرة و السعي و طواف لوداعه و في سقط و الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف .و إن كان دون الميقات أحرم من موضعه فاما ان رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله انه لا يلزمه إحرام لانه رجع لاتمام نسك مأمور به فأشبه من رجع لطواف الزيارة فان ودع و خرج ثم دخل مكة لحاجة فقال أحمد : أحب الي أن لا يدخل إلا محرما و أحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف و هذا لانه لم يدخل لاتمام النسك إنما دخل لحاجة متكررة فأشبه من يدخلها للاقامة بها
(489)
( مسألة ) قال ( و المرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت و لا وداع عليها و لا فدية ) هذا قول عامة فقهاء الامصار و قد روي عن عمر و ابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع و كان زيد بن ثابت يقول به ثم رجع عنه فروى مسلم أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا قال طاوس : كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت يفتي : أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت .فقال له ابن عباس : إما لا تسأل فلانة الانصارية هل أمرها رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك ؟ قال فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك و هو يقول : ما أراك إلا قد صدقت ، و روي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا و قد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا يا رسول الله أنها حائض فقال " أحابستنا هي ؟ " قالوا يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر .قال " فلتنفر إذا " و لا أمرها بفدية و لا غيرها ، و في حديث ابن عباس إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ، و الحكم في النفساء كالحكم في الحائض لان أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب و يسقط ( فصل ) و إذا نفرت الحائض بغير وداع فطهرت قبل مفارقة البنيان رجعت فاغتسلت و ودعت لانها في حكم الاقامة بدليل أنها لا تستبيح الرخص فان لم يمكنها الاقامة فمضت أو مضت لغير عذر فعليها دم ، و ان فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة كالخارج من عذر قلنا هناك ترك