من الحاجات الفطرية للإنسان حياته الاجتماعية الشريفة مع سائر أبناء وأمته، هذه من الميول الطبيعية فيه التي تقوده إلى تحقيق ذاته.وكل فرد في المجتمع يلتزم بمسؤولية خاصة وتكاليف خاصة عليه أن يقوم بأدائها على أكمل وجه. فإذا آمن كل واحد من أفراده بمسؤلياته التي قبلها في دائرة أعماله، ولم تتجاوز نشاطاته حدود ما رسم لنفسه منها يدار المجتمع عند ذلك بصورة صحيحة وسليمة.والإنسان العاقل الناطق قد أحاطت به قيود وقواعد وأصول قد شملت كل شؤون حياته، وهذه الحدود والقيود هي التي تميزه عن الحيوان الأعجم على صعيد الحياة.في حركة وسكون يجد كل منّا تكليفاً عليه، والتكاليف تبدأ من أبسط مراحل الحياة وتمتد حتى آخر حياته، وهذا هو النظام الذي تدار عليه حياة الإنسان. ولا يمكننا في أي حال أن نفصل بين الإنسان وبين تكاليفه، مهما كانت قدراته، فهناك تكليف عليه. اللهم إلا الموت، الذي يأخذ بتلابيب الإنسان ويطوي صحيفة أعماله.والإنسان يلتزم بفطرته بمسؤوليات وقرارات، مع قطع النظر عن أحكام الأديان وأوامرها، والتكليف هذا ينشأ من علاقته بأوصافه وخصائصه وعواطفه المغروسة في نظام كيانه ووجوده، وإن كانت دوافعه إلى أداء تكاليفه مختلفة أو صعبة. وبإمكاننا القول:إن القواعد العقلية العامة هي محور التكاليف، أما إطاعة الأحكام الدينية فإنها ترجع إلى اتباع القواعد والقرارات العقلية أيضاً، لأن أحكام الأديان وأوامرها في مراحل الحياة والمسائل الاجتماعية هي تفصيلات لإجمال المدركات العقلية ومعرفتها في الأمور الضرورية.وليست المشكلة في معرفة التكاليف، بل المشكلة الكبرى هي العمل بالتكاليف الشاقة. وهنا يتميز كل إنسان من الاقتراب إلى مرحلة الكمال في إيمانه الراسخ والثابت والقوي، ومراقبة نفسه مراقبة دقيقة أمام الله عزّ وجلّ وتوطينها وتعويدها على التضحية والعطاء.والمجتمع البشري وإن كان مرتعاً صالحاً لنمو الفضائل الإنسانية وظهورها وتكاملها، لكنه صالح أيضاً لظهور كثير من الرذائل والآفات.والتكامل الاجتماعي يصاب بالركود والتوقف فيما إذا تجاوز كل فرد من الأفراد عن حدود وظائفه وتكاليفه، أو تناسى أو تنكر لمسؤولياته الكبرى الملقاة على عاتقه. فالنبتة المزروعة حديثاً بحاجة إلى عناية خاصة ومجهود خاص حتى تتطور فتصل في مراحل نموها إلى كمالها اللائق بها. والمجتمع قد يثمر ويتكامل ليس بموقعه الجغرافي وأوضاعه المادية، بل بأوضاعه التربوية الخاصة وإمكاناته المعنوية التي يقوم على أساسها المجتمع الفاضل الراقي. وفي هذا المجتمع الذي تسود فيه روح المعرفة بالتكاليف، ستكون الطهارة والصدق في ضمائر القلوب، وفي إدراكات العقول، وفي جميع شؤون الحياة الظاهرة للعيان.إن مجتمعاً كهذا وضعه لا تنمو فيه الخيانة، ولا يظهر فيه العدوان على حقوق الآخرين، بل لا يسمح لها المجال للنمو والظهور، فيقف كل فرد فيه عند حدوده وأمام مفاسد أعماله فيحاسب نفسه ويمنعها من التجاوز عملاً بقول الرسول الأعظم: (رحم الله إمرءاً عرف حدّه فوقف عنده) ولا نضلّ الطريق إلا إذا تقاعسنا عن القيام بتكاليفنا وخفقنا تجاه واجبنا ومسؤولياتنا. فهناك كثير من الناس، مع ما لهم من إمكانات من مختلف الجهات يحاولون الاقتصاد في الإفادة من وجودهم ومن طاقاتهم، ولهذا نراهم يتهربون من المسؤوليات والأعمال التي تسلبهم بعض راحتهم وملذاتهم كما يزعمون، فهم يعيشون لأنفسهم ولا يخصصون قسماً من أوقاتهم يعود نفعها للآخرين.هؤلاء هم أصحاب الفكر الضيّق والنشاط المحدود، تدور أمورهم على محاور شخصيّة محدودة، فيعتادون على هذه الخصائص الروحية، ولهذا فلا يتمكنون من القيام بالأعمال الكبيرة، والقضايا الاجتماعية العظيمة فنراهم قد اختفوا في مجتمعهم ولم يبرزوا طاقاتهم الشخصية.لكن هناك فئة أخرى من الناس لا تتسامح أبداً بالنسبة إلى مسؤولياتهم باي حال من الأحوال، ولا يصابون بأي اضطراب أو قلق نفسي على أثر التطورات والتغييرات؛ بل نراهم مستعدين دائماً للمبادرة بتكاليفهم الواجبة، ومسؤولياتهم النافعة، فيستقبلونها بكل رحابة صدر ويقومون بكل جهودهم فيها. إنهم يتصوّرون أن خير إفادة من وجودهم القيام بمهام مثمرة ومفيدة لأمتهم مهما كانت شاقة، وعلى هذا فكلما كان الإنسان أكثر رشداً، وأكمل عقلاً، وأبعد رؤية، كان اشتياقه إلى القيام بمسؤولياته أكثر، وإلى أداء تكاليفه أشد وأكبر.