مراقبة النفس
ينبغي على العبد أن يراقب نفسه في جميع أعماله، ويلاحظها بالعين الخالصة لأنها إن تركت بلا مراقبة فسدت وأفسدت. ثم عليه أن يراقب الله في كل حركة وسكون، وذلك بأن يعلم بان الله مطلع عليه وعلى ضميره، خبير بسرائره، رقيب على أعماله، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب عنده مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أشد من ذلك قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)296.وقال تعالى أيضاً: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى)297.وقال النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله): (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).ويروى أن زليخا لما خلت بيوسف قامت فغطّت وجه صنمها، فقال يوسف: ما لك تستحين من مراقبة جماد ولا استحي من مراقبة الملك الجبار؟!).ولا ريب أن المراقبة تحصل من معرفة الله، والعلم بأنّه تعالى مطلع على الضمائر، عالم بما في السرائر، بمرأى منه وبمسمع، هؤلاء هم من الورعين أصحاب اليقين غلب اطلاع الله على ظواهرهم وبواطنهم، ولم يدهشهم ملاحظة الجمال والجلال، بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال، متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال والمراقبة فيها، وغلب عليهم الحياة من الله فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبيت، ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في يوم القيامة. فإنّهم يرون الله عليهم، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة.قال الفقهاء: إن العبد لا يخلو إما أن يكون في طاعة أو معصية أو مباح.فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها من الآفات. ومراقبته في المعصية بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكير ومراقبته في المباح بمراعاة الأدب، بأن يقعد مستقبل القبلة وينام على اليد اليمنى مستقبلاً إلى غير ذلك. فكل ذلك داخل في المراقبة. وبشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها، وبالصبر على البلاء فإن لكل واحد منها حدوداً لابدّ من مراعاتها بدوام المراقبة.قال تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)298.وقال (صلّى الله عليه وآله): (رحم الله امرئً عرف حدّه فوقف عنده).كيف تقاس الأعمال؟الإسلام قد نظر إلى الدوافع الذاتية التي تدفع الإنسان إلى عمل الخير نظرة موضوعية أصيلة، وبنى الأعمال على أساس (النية) وقال: (الأعمال بالنيات).لكل عمل يقوم به الإنسان جانبان، لكل منهما حساب مستقل على حدة فمن الممكن أن يكون عمله خيراً من جهة ولا قيمة له من جهة أخرى.فهنا يجب أن ينظر إلى ما حمل فاعله عليه من الدوافع النفسية والروحية وحكمنا في مثل هذه الأعمال يستند إلى القيم الخاصة الاجتماعية والخارجية للعمل، ولا موضوعية لنية الفاعل من هذا المنظار. المهم النتيجة الإيجابية فلا يفرق لدينا أن يكون هدف المحسن من إحسانه الرياء والمنافع المادية، أو يكون له في علمه دافع قيم، وأن تكون هناك نية صافية نزيهة في هدف عمله. فالعمل الصالح في النظام الاجتماعي هو ما يكون نافعاً للمجتمع، ولا علاقة له بما فيه للفرد من تكامل معنوي، وأنه بادر إلى ذلك العمل بتأثر من أي دافع أو عامل؟في شريعة الله لا ينظر إلى كمية العمل، بل إلى كيفية العمل وأثره النفسي والذاتي في شخص الفاعل، فهذا الذي يتقبله الله تعالى.في هذا المجال الحساب يتبع ما بين الفعل والفاعل من الرابطة، وبأي نية أو هدف أقدم على ذلك العمل، فلو كان قد بادر إلى ذلك العمل الصالح بدافع الرياء فإن نفسه لم تتقرب بذلك إلى الله تعالى بل ابتعد وخاب ظنه، ولا يكفي لتلقي العمل الصالح لديه أن يكون مفيداً للمجتمع فحسب بل العمل الاجتماعي المفيد إنما يكون نافعاً بالنظر إلى التكامل المعنوي فيما إذا كانت الروح خارجة عن حصار الرياء والأهواء الشخصية إلى الصفاء في النيّة والخلوص إلى الله تعالى.قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)299.وعن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): (إنما الأعمال بالنيات).فثبوت الإيمان بالله هي النية المعنوية، وعندئذٍ يتصف العمل بالقيمة الخالصة وسيكون صاحب هذا العمل مورد لطف الله وعنايته وحمايته. فالإنسان الذي لم تسطع أشعة الله على روحه هو خال من الإيمان والإخلاص، إنما يدفعه إلى القيام بالأعمال الميول النفسانية والشهرة الدنيوية الفانية، إنه بدأ عمله خلواً من روح الحقيقة وأنهاه ليظهر فضائله الإنسانية على الملأ بغية احترامه وتقديره.هذا الهدف غير القيم يكون السبب الأساسي في رد عمله، ويصبح عمله لا قيمة له عند الله تعالى، ولا تعود منه عائدة سوى ذلك الهدف المحدود الذي كان يهدف إليه ليفيده في حياته الحاضرة.وهذا ما نلاحظه اليوم عند اكثر المرشحين للنيابة في الانتخابات حيث يبدأ نشاطهم في إعمار المساجد ولم يدخلوها إلا وقت التدشين، وينفقون الأموال الطائلة على الموائد الشهية، والمظاهر الفارغة، والتبرعات الخاصة لذوي الحاجات. كل ذلك لإظهار كرمهم الزائف وافتخارهم أمام الناس لكسب رضاهم.هؤلاء عطاؤهم مردود عند الله، لأنهم لم يكونوا مخلصين في نواياهم، ولم يعملوا لكسب رضا الله، بل همهم رضا الناس من أجل مصالحهم الخاصة. لكنهم لو عقلوا أكثر لأخلصوا في نواياهم وكسبوا رضا العباد، ورضى رب العباد. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...)300.أما الذين يتمتعون بالثقة بأنفسهم ويعتمدون على أعمالهم فلا يشعرون بحاجة إلى الرياء لأنهم لا يعانون من أي مرض نفسي. وقد وصفهم أمير المؤمنين علي بن أي طالب (عليه السلام) فقال: (لسان المرائي جميل، وفي قلبه داء دخيل)301.وفيه عنه (عليه السلام) قال: (الافتخار من صغير الأقدار). يقول عالم نفسي كبير:(من الوسائل التي نتوسل بها لجلب انتباه الآخرين عند الفشل وخيبة الأمل وعدم التوفيق، هو الإطراء في الثناء على أنفسنا، نتصور الأعمال التي نحب لو كنا نعملها لو كنا نحصل عليها، وكأنها كانت وحصلت فننسبها إلى أنفسنا، أو نقنع من أنفسنا أن نتحدث دائماً عن الأفعال التي عملناها وأن نعظمها مهما كانت صغيرة وحقيرة بدلاً من الأعمال التي لم نعملها والموفقيات التي لم نحصل عليها).هذه الفئة من الناس ينخدع أفرادها بجزافاتهم ويرضون عن أنفسهم مخدوعين بحيث تفوتهم أية فرصة للسعي والتوفيق.ولو كان الثناء على النفس يريح صاحبه من خيبة عدم التوفيق في الأعمال وعدم اجتذاب الناس إلى نفسه، فيخدع بذلك المستمعين بصورة مؤقتة، فإن ذلك لن يعالج المرض الأصيل.أما الذي يعمل أعمالاً صالحة ويحصل من جراء ذلك على موقع محترم في قلوب الآخرين فلا حاجة له إلى الثناء على نفسه، فهو بدل ذلك يسعى ويعمل، ويحصل كل يوم على اصدقاء مخلصين وتقدير خاص في مجتمعه.ويقول عالم نفسي آخر: إن الثناء على النفس يولد الانزعاج لدى الآخرين، فهو من جانب قد يشتمل على شيء من الكذب والتزوير، ومن جانب آخر هو ينشأ من الجهل والحماقة. إن من يتحدث عن صفة خاصة في نفسه وبصورة مستمرة قد يكون فاقداً لها. (وفاقد الشيء لا يعطيه). واعلموا أن الذين يتحدثون عن نجاحاتهم ومظاهر نشاطاتهم، وحسن تدبيرهم يفقدون بلا ريب مثل هذه المزايا.ولا ينبغي أن ننسى أن الكذب حبله قصير، ولا يدوم كثيراً حتى ترتفع الحجب والستائر عن وجه الحقيقة، وحينئذ يفقد المرء كل مكانته ووجاهته بين أفراد مجتمعه مهما حاول التستر. وفي ذلك قال أحد الشعراء:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى عن الناس تعلم
وإن خالها تخفى عن الناس تعلم
وإن خالها تخفى عن الناس تعلم