قيمة كل علم من العلوم تظهر نتائجها بالعمل، فالعلم ضروري وهام لكن الأهم التطبيق العملي ففيه تتبلور مهارة كل فرد من الافراد المتعلمين. وهذا يعود بلا ريب إلى المواهب الذاتية المخبؤة في الداخل فكم نجد من الأشخاص الموهوبين لكن الظروف لم تساعدهم على اظهار مواهبهم عملياً. وما نبغي إليه هو أن فائدة العلم مقرونة بالعمل.قال الدكتور زكي نجيب محمود في كتاب تجديد الفكر العربي:(من علامات هذا العصر المميزة أنه عصر العلم المقترن بالعمل والموصول أحدهما بالآخر. فإذا وجد علماً مزعوماً لا يجيء بمثابة الخطة الدقيقة لعمل يؤدي فقل إنه ليس من العلم في شيء إلا باسم زائف).وهذا الجديد المزعوم جاء عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام).قال الإمام علي (عليه السلام): (من علم عمل). وهو يشير إلى أن العمل يفتح آفاقاً جديدة لمعارف جديدة، وهذه المعارف الكريمة تخدم بدورها النشاط العملي. وهكذا تتم الدورة الحياتية. ومعنى هذا أن العلم لا حد له كما سلف القول.وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من لم يصدق قوله عمله فليس بعالم...العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل).وقال الفيلسوف الملا صدرا237 في شرح أصول الكافي: (العلم والعمل كالروح والجسد يتصاحبان ويتكاملان معاً، وإن كان مرتبة من العلم تستدعي عملاً بحسبه، وكل عمل يهيئ لنوع آخر من العلم).وكما ترى هكذا جمع أهل البيت (عليهم السلام) بين العلم النظري، والعلم العملي. بين الفكر واليد، في مركب واحد. وهل أفضل من إطاعة اليد للفكر؟ فكلما ازدادت الإطاعة بينهما كلما كان الإتقان والإبداع في الأعمال فالتوافق بين الفكر واليد يعني تقدماً حضارياً راقياً في جميع أنواع الفنون: العلمية والأدبية والفنية والاجتماعية.. كالطب والبناء وإعمار الأرض وجميع العلوم والمهن والمعارف..فالعلم هو اكتساب المعرفة الصحيحة من مصادرها السليمة، والفن يكمن في إخراج هذه العلوم وكيفية تطبيقها عملياً. ولنا في تجارب العلماء أفضل مثل على ذلك. وهذه التجارب هي التي ينادي بها العلماء في العصر الراهن. فالفيلسوف وعالم الاجتماع الانكليزي (فرنسيس بيكون) هو ـ حسب ما يزعمون ـ هو أول من دعا صراحة إلى اتخاذ العلم سبيلاً للارتقاء بحياة الإنسان العملية!238.وكم من حقائق اكتشفها الأوائل من معين العلوم الأصل (كتاب الله) الكريم، ثم اشتهر بها الأواخر. حتى الذرة التي اكتشفها قبل اينشتين وماركوني العالم العربي الجلدكي صاحب كتاب: الشذور239.كما ورد في كتاب من هدي القرآن الكريم للأستاذ أمين الخولي نقلاً عن الكامل لابن الأثير: أن عالماً مسلماً لم يعلن عن اسمه (اكتشف محرقاً جديداً أقوى ما عرف، وقدمه لجيش صلاح الدين الأيوبي ـ وقد بلغت القلوب الحناجر ـ خوفاً من حشود الصليبيين، فأحرق ما تفنن به الأعداء من إقامة أبراج لم يكن لجيش المسلمين عليه من قوة. وما من شك كان لهذا الاختراع الوقع الحسن في نفوس المسلمين عامة. قدر صلاح الدين هذا العمل وبذل لصاحبه الأموال والأقطاع، فرفضها وقال له: إنما عملت هذا العمل لله ومن أجل مساعدة عباد الله من المسلمين، وهذا واجبي الشرعي، ولا أريد الجزاء إلا من الله تعالى ثم اختفى هذا الإنسان النبيل العظيم دون أن يحمل التاريخ عنه شيئاً حتى اسمه. فكل ما يعرف عنه في المصادر التاريخية: إنسان من دمشق لا غير. وهذا هو العمل الشريف النبيل العمل في سبيل الله. حمل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مشعل النهضة العلمية في العالم الإسلامي، فأسسوا في حواضره معالم الحياة الفكرية، ودعوا المسلمين دعوات جادة تحمل طابع الإرشاد والتوجيه إلى الخير ليبنوا حياتهم الخاصة والاجتماعية على أساس من الوعي العلمي، وقد ملئت موسوعات الحديث والفقه بما أثر عنهم من أحاديث الترغيب في طلب العلم، عملاً يقول القرآن الكريم والرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، إن أول ما نزل الوحي على النبي (صلّى الله عليه وآله) نزل بآيات تدعو إلى التعلم وتطالبه بالقراءة. قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)240.ونجد القرآن الكريم بالإضافة إلى دعوته إلى التعليم وحضه على طلب العلم يبين درجات العلماء ويخاطب ذوي الألباب بقوله عزّ وجلّ:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)241.وقوله عزّ وجلّ: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)242.والرسول الكريم وهو الأمين على دعوة ربه قال (صلّى الله عليه وآله): (طلب العلم فريضة على كل مسلم)243.وقد بين (عليه السلام) منزلة العلماء، وحث الأمة على احترامهم ومعرفة حقوقهم فقال (صلّى الله عليه وآله): (ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقّه)244.هذه لمحة سريعة عن موقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لطلاب العلم وحاملي لواء التحرير من الجهل والضلال، وقد سار على مسيرته الأئمة المعصومون من أمير المؤمنين إلى ولده الحسن إلى أخيه الحسين إلى ابنه زين العابدين إلى ابنه الباقر إلى ابنه الصادق إلى ابنه الإمام موسى الكاظم عليهم جميعهم أفضل الصلاة وأزكى السلام.عني الإمام موسى (عليه السلام) بهذه الدعوة الحضارية الخلاّقة فأمر جميع المسلمين بالجد على تحصيل العلم والتفقه في الدين، وحذّرهم من طلب بعض العلوم التي لا يستفيدون بها في تطوير حياتهم الفردية والاجتماعية.من هذه العلوم المفيدة لهم: الفقه الديني.