إنها المباراة العظيمة التي تقام كل عام في مهرجان عظيم لإمام عظيم من أئمة أل البيت (عليهم السلام)، أضاء الدنيا بنمير علومه وعطر المجتمع بأريج أخلاقه، وبعث في ضمير الأمة الإسلامية الجهاد، الأمثل في حلمه وصبره على ما صادف من خطوب جسام من حكام لئام.تعد هذه المباراة من افضل الأعمال الفكرية والعلمية والأدبية التي تقام على صعيد العالم العربي من إحياء التراث الإسلامي الخالد، كما تدل دلالة واضحة على تعلّق الأمة الإسلامية بعظمائها العظام، ورجالاتها الكرام. إنّ إحياء ذكرى عظمائنا أمر ضروري من أعمالنا وخاصة في هذه الأيام الصعبة التي تحاك فيها المؤامرات علينا من الغزو الفكري والثقافي من قبل أعداء الأمة الإسلامية المستكبرين من أجل قطع الأواصر التي تشدنا إلى تراثنا الإسلامي العريق، وعقيدتنا الإسلامية السمحاء. تعد هذه المباراة الهامة لقاءً أخوياً كريماً تتآلف فيه قلوب أبناء هذه الأمة العربية الخالدة الذين يعشقون محبة أهل البيت على اختلاف مذاهبهم ومناطقهم، فتتعانق الأقلام الملتزمة لتبديد سحب الطمس والتزييف التي مورست وما زالت تمارس لإقصاء رسالة الإسلام عن واقع الحياة، لكن المتآمرين قد فشلوا في إطفاء نور الله الذي يبقى مشرقاً منوراً بهمة علمائنا الأبرار، فلهم منّي أفضل الشكر والتقدير.كما تعد هذه المباراة الكريمة مناسبة خيّرة للحوار والمناقشة وتلاقح الأفكار وتبادل الآراء لاختيار خلاصة جهود المشاركين من أجل البحث الأمثل لتعرف الأمة بالمزيد من عظمائها، العلماء الأفذاذ الذين سطروا في التاريخ العربي الإسلامي أنصع الصفحات الدالة على سعة أفقهم العلمي، وجهادهم الحضاري، في صيانة الرسالة الإسلامية السامية. ذلك هو:الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي أكمل المسيرة العلوية بهمم أبيه، مدافعاً عن رسالة جده (صلّى الله عليه وآله) ومناضلاً عن المستضعفين من أبناء أمته بمواقفه التاريخية المشهودة، وتصديه لمناظرة الفرق الضالة عن الحق، مجاهداً صابراً لما لاقى من مؤامرات أموية وعباسية، وعالماً متألقاً بما خلف من تراث حضاري غزير في مختلف مجالات العلم والمعرفة.فتحية شكر وتقدير لكل من ساهم بهذه الدراسات القيّمة والبحوث العلمية الفاضلة في سبيل الإفادة والتنوير وإحياء القضايا الكبرى في المجتمع الإنساني.ولا أرى أية قيمة لرسالة أو أطروحة ما لم تكن في خدمة قضية إنسانية في مجتمع إنساني. ولا يطيب قلم باحث أو كاتب ما لم يعالج قضية كبرى يتبناها ويعيش أهدافها الشاهدة على صحتها؛ لأن القضايا الجليلة هي الشعاع الذي يستضيء به فكرنا، والدافع لأشواقنا والمحيي لوجداننا وعقيدتنا.إن جهودكم المشكورة التي وجهت الدعوة العامة لتقديم مباراة جديدة عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) شبيهة هي بالدراسات الناجحة التي قدمت عن الأئمة المعصومين السابقين ـ والتي كان لي الشرف بالمشاركة فيها ـ أمانة صعبة حملوها على عاتقهم وأدّوها بأمانة جميعهم (عليهم السلام).ومن أجل هذه الأمانة العظيمة شهر الإمام علي (عليه السلام) سيفه ذا الفقار في وجه المنحرفين عن الخط الإسلامي، وغمد الإمام الحسن (عليه السلام) حسامه، حقناً للدماء، وصوناً لوحدة المسلمين.ومن أجل القضية نفسها سار الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة إلى كربلاء لابساً عباءة جده (صلّى الله عليه وآله) التي ما طاب له إلا أن يصبغها بدماء وريده الشريف من أجل مصلحة الأمة الإسلامية، سار وقلبه يطفح بعزيمة الإيمان، والعزيمة تشع كضوء يتماوج بألف لون ولون، ثم رفع بصره إلى فوق فإذا بسمة عريضة من الفم الملائكي وكأنها تقول له: سر في درب الشوق فأنت محاط بالعناية الإلهية.13ومن أجلها أيضاً ناضل الإمام الباقر (عليه السلام) واستشهد بعد أن ساهم ببناء المدرسة الكبرى التي نهض بها ولده الإمام الصادق (عليه السلام) الذي نعيش مع علمه وفكره ومنهجه في هذه الأيام المباركة ونستلهم من جهوده النضالية، وسيرته المثالية، وأخلاقه المحمدية.ومن أجل القضية نفسها كافح الإمام الكاظم (عليه السلام) فقام بعد أبيه (عليه السلام) بإدارة شؤون المدرسة التي خرّجت ألمع كوكبة من كواكب العلماء الجهابذة. وصبر على الأحداث الجسام، والمحن الشاقة التي لاقاها من طغاة عصره لعنهم الله.لقد كانت القضية واحدة، والمسؤولية واحدة، والهدف واحداً، ولكن التعبير جاء مع كل إمام من كواكب الإسلام المشرقة بلون ميّزه عن الآخر وذلك حسب الظروف السياسية والاجتماعية المحدقة به. فشكراً جزيلاً لجهودكم المباركة التي حرّكت في نفسي شوقاً سامياً ألمظ به طعماً لذيذاً من لقاح العنفوان والكرامة تحيى بهما كل النفوس التي تأبى الذل والهوان، وترغب في صون الكرامة الإنسانية، والرسالة الإسلامية على مدى الزمان.آجركم الله وأمدكم بثوب العافية وطول العمر.حسين إبراهيم الحاج حسن
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيممهما تحلّى الباحث باطلاع واسع في علم النفس، ومهما أوتي من براعة في علم الاجتماع يسمح له تحليل الواقع النفسي، وإعطاء صورة حيّة عن تركيب الشخصية الإنسانية وعناصر سلوكها وإمكاناتها، فإنّه مهما بلغ من التفوّق في هذا المجال فلا يستطيع أن يلم إلماماً شاملاً بواقع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويكشف عن جوهر حياتهم، وأبعاد نزعاتهم، بما لهم من ظواهر ذاتية وإبداعات فردية.والواقع أن ما أثر عنهم من صفات مميّزة، ونزعات فذّة في سلوكهم الشخصي والاجتماعي يجعلهم في أعلى مراتب الإنسانية. وهذه الظاهرة تجدها متمثلّة في سلوكهم النبيل الذي بلغوا به أعلى درجات الإنسانية هذه الظاهرة من نزعات الإمام موسى (عليه السلام) وهي الصبر على المحن والخطوب المبرحة والمستمرة التي لاقاها من طغاة عصره، فقد أمعنوا في اضطهاده والتنكيل به، فاعتقله هارون الرشيد وزجه في ظلمات السجون زمناً طويلاً، ثم حجبه عن جميع الناس ولم يسمح لأحد بمقابلته، ومع هذا كله، لم يأثر عنه أنه أبدى أي تذمّر أو سأم أو شكوى، وإنما حسب ذلك من ضروب النعم التي تستحق الشكر لله لتفرغه لعبادته، وانقطاعه لطاعته، فكان وهو في السجن يقضي نهاره صائماً، وليله قائماً. وهو جذلان بهذه المناجاة، وبهذا الاتصال الروحي بالله العزيز الرحيم وهذا ما أجمع عليه المترجمون فقالوا انه كان من أعظم الناس عبادة، وأكثرهم طاعة لله، حتى أصبح له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود، كما كانت لجده الإمام السجاد من قبل فلقب بذي الثفنات، وقد أدلى الفضل بن الربيع بحديث له عن عبادته (عليه السلام) حينما كان سجيناً في داره.فماذا نستطيع تعليل هذا الصبر؟ لم يكن سوى الإيمان العميق بالله تعالى، والتجرد من هذه الدنيا الفانية، والإقبال على الدار الآخرة. حتى أن هارون الظالم بهر بما رآه من تقوى الإمام وكثرة عبادته، وتحمّله هذه الخطوب الثقيلة بصبر وهدوء. فقال متعجباً:(إنه من رهبان بني هاشم)!!