مناقبه وفضائله (عليه السلام)
مناقب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بحر زاخر لا يمكن حصره أو الخوض فيه إلى النهاية، لكننا سوف نذكر بعض هذه المناقب الكريمة على سبيل الذكر لا الحصر؛ من هنا كان قول محمد بن صلحة:(أما مناقبه فكثيرة، ولو لم يكن منها إلا العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة)50.1ـ العلم
فقد روى عنه العلماء أكثر فنون العلم من علم الدين وغيره ممّا ملأ بطون الكتب، وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنهم بالأسانيد المتصلة.جاء في تحف العقول عن الحسن بن علي بن شعبة قال أبو حنيفة51:حججت في أيام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فلما أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز انتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت: يا غلام ممن المعصية؟ فقال: أن السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث:أ. إما أن تكون من الله وليست منه فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا يرتكب.ب. وإما أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف.ج. وإما أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته.قال أبو حنيفة فانصرفت ولم ألق أبا عبد الله، واستغنيت بما سمعت.قال الشيخ المفيد في الإرشاد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): أكثر الناس في الرواية عنه، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله، وأحسنهم صوتاً بتلاوة القرآن.وقال علي بن شعبة الحراني في تحف العقول: سأل رجل موسى بن جعفر عن الجواد فقال: إن كنت تسأل عن المخلوقين فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه والبخيل من بخل بما افترض الله، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، أعطاك لأنه إن أعطاك ما ليس لك وإن منعك منعك ما ليس لك.2ـ الحلم
جاء في مقاتل الطالبيين قال أبو الفرج بسنده عن يحيى بن الحسن: كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين إلى المائة دينار. وكانت صرار موسى مثلاً شائعاً بين الناس.وجاء في الإرشاد للشيخ المفيد: أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد عن جده عن غير واحد من أصحابه ومشايخه أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً. فقال له بعض أصحابه: دعنا نقتله. فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر. وسأل عن العمري فذكر له انه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا! فتوطأه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده، وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك؟ قال له: مائة دينار، قال الإمام: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: أنا لا اعلم الغيب. قال: إنما قلت لك كم ترجو إن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار فأعطاه الإمام (عليه السلام) ثلاثمائة دينار. وقال: هذا زرعك على حاله فقام العمري وقبل رأسه وانصرف. فراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته. فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتك؟ قال كنت تقول خلاف هذا فخاصمهم وشاتمهم وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلما دخل وخرج، فقال أبو الحسن موسى لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار.3ـ التواضع ومكارم الأخلاق
مر برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه، ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له: يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج؟ فقال (عليه السلام): عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعل الدهر يرد من حاجتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه، ثم قال:
نواصل من لا يستحق وصالنا
مخافة أن نبقى بغير صديق52
مخافة أن نبقى بغير صديق52
مخافة أن نبقى بغير صديق52
4ـ عبادته (عليه السلام)
لقد شهدت له ألقابه على حسن عبادته، وشدة خوفه من الله تعالى، فمن زين المجتهدين، إلى العبد الصالح،والنفس الزكيّة، والصابر، إلى غير ذلك من الألقاب المشيرة إلى صفاته الموقرة، وعبادته المتواصلة؛ ولم يحدثنا التاريخ عن مسجون غير الإمام موسى بن جعفر كان يشكر الله تعالى على ما أتاح له من نعمة التفرغ للعبادة بين جدران السجن، ويحسب ذلك نعمة، وجب بها عليه الشكر.قال ابن الصباغ المالكي: إن شخصاً من بعض العيون التي كانت عليه في السجن، رفع إلى عيسى بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه: (اللّهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد)54.وعن أبي حنيفة انه دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه.فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ادعوا لي موسى، فدعوه، فقال له في ذلك. فقال: نعم يا أبة، إن الذي كنت أصلّي إليه كان أقرب إليّ منهم، يقول الله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فضمه أبو عبد الله إلى نفسه ثم قال: بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار.55وجاء في كشف الغمة: كان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع وكان إذا قرأ القرآن يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته.56 ولكثرة سجوده كان له غلام يقص اللحم من جبينه، وعرنين أنفه، فقد نظم بعض الشعراء ذلك بقوله:
طالت لطول سجود منه ثفنته
رأى فراغته في السجن منيته
ونعمة شكر الباري بها حينا57
فقرحت جبهة منه وعرنينا
ونعمة شكر الباري بها حينا57
ونعمة شكر الباري بها حينا57
5ـ كرمه وصدقاته
من أبرز خصائص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) البر والإحسان إلى الناس كافة، وبصورة خاصة الطبقة الضعيفة، فكانوا يخصّونهم بجزيل فضلهم، ونبل عطاياهم، حتى كان من منهجهم في الليالي المظلمة هو التطواف على بيوت الفقراء والمساكين بالأغذية والمال وهم لا يعرفونهم.قال ابن الصباغ المالكي: كان موسى الكاظم (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً وكان يتفقد فقراء المدينة ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلا بعد موته.58وقال محمد بن عبد الله البكري: قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى فشكوت إليه، فأتيته في ضيعته، فذكرت له قضيّتي، فدخل ولم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليّ، فقال لغلامه: إذهب، ثم مدّ يده إليّ فرفع إليّ صرة فيها ثلاثمائة دينار، فركبت دابتي وانصرفت.59كما رووا عن عيسى بن محمد بن مغيث القرطبي قال: زرعت بطّيخاً وقثاءاً وقرعاً في موضع بالجوانية، على بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير، واستوى الزرع بغتني الجراد فأتى على الزرع كله، وكنت غرمت على الزرع وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر بن محمد، فسلّم ثم قال: أي شيء حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي.قال (عليه السلام) وكم غرمت فيه؟ فقلت: مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين.فقال (عليه السلام): يا عرفة زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً، فربحك ثلاثون ديناراً والجملان. فقلت يا مبارك ادخل وادع لي فيها بالبركة. فدخل ودعا وحدثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: تمسّكوا ببقايا المصائب، ثم علقت عليه الجملين وسقيت، فجعل الله فيها البركة وزكت، فبعث منها بعشرة آلاف.60وقال علي بن عيسى الأربلي61:(مناقب الكاظم وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة تشهد أنه افترع قبة الشرف وعلاها، وسماها إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها.طالت أصوله، فسمت إلى أعلى رتب الجلال، وسمت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال، يأتيه المجد من كل أطرافه، ويكاد الشرف يقطر من أعطافه.فكان كما قال الشاعر:
أتاه المجد من هنا وهنا
وكنا له كمجتمع السيول
وكنا له كمجتمع السيول
وكنا له كمجتمع السيول