كان لهارون بعض العملاء المأجورين يراقبون ويوصلون بأخبارهم إليه، كما في عصرنا اليوم، انطلقوا إليه وأخبروه بحسن معاملة الفضل للإمام (عليه السلام) ولما سمع ذلك الطاغية استشاط غضباً وأنفذ بالحال خادمه مسرور إلى بغداد ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان الأمر على ما بلغه مضى إلى العباس بن محمد وأوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل بن يحيى، وكذلك أمره بالوصول إلى السندي بن شاهك مدير شرطته ومنفذ أوامره لينفذ ما أمر به دون أي تأخير.قدم العميل مسرور إلى بغداد فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريده ثم دخل خلسة إلى الإمام موسى (عليه السلام) فوجده مرفّهاً مرتاحاً كما بلغ هارون فمضى من فوره إلى العباس وأمره بتنفيذ أمر الخليفة، وكذلك سار إلى السندي فأمره بإطاعة العباس، أرسل العباس فوراً الشرطة إلى الفضل فأخرجوه من داره وهو يهرول والناس من حوله، فدخل على العباس فأمر بتجريده، ثم ضربه مائة سوط.خرج الفضل بعد هذا الجزاء الظالم وقد انهارت قواه ودكّت أعصابه متحرقاً على الإمام ماذا سيحصل له.كتب مسرور الوغد الحقير إلى هارون بما فعله، فأمره بنقل الإمام من عند الفضل واعتقاله في دار السندي بن شاهك. ثم جلس هارون في مجلس حافل ضمّ جمهوراً غفيراً من الناس، فرفع صوته قائلاً: أيها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني، وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه.ارتفعت أصوات العملاء من جميع جنبات الحفل باللعن والسباب والشتم على الفضل حتى اهتزت الأرض من أصوات اللعن.وبلغ يحيى بن خالد ذلك فأسرع إلى الرشيد ودخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس، وأسره قائلاً: يا أمير المؤمنين، إن الفضل حدث، وأنا أكفيك ما تريد.فسرّ هارون بما أخبره صنيعه الوغد وذهب عن نفسه ما يحمله من الحقد على الفضل، فأراد يحيى أن يستعيد كيان ولده ويرد له كرامته.فقال للرشيد: (يا أمير المؤمنين، قد غضضت من الفضل بلعنك إياه فشرّفه بإزالة ذلك) فأقبل هارون يوجهه على الناس، ورفع عقيرته قائلاً: (إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وناب إلى طاعتي فتولوه).ارتفعت الأصوات المأجورة ثانية من جميع جنبات الحفل وأعلنت التأييد الشامل لتلك السياسة المتقلبة والمتناقضة وهي ذات لهجة واحدة أعلنها أولئك الناس الذين يهتمون بمصالحهم الخاصة ولا يؤمنون بالقيم ولا بالمثل العليا مرددين:(يا أمير المؤمنين، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، وقد توليناه)524.وكما ترى هكذا كانت حالة الجماهير الإسلامية في ذلك العصر قد انحرفت عن المبادئ الأصيلة، وفقدت وعيها وحسها وساعدت الطاغية على ظلمه في أطاعته ونفذت رغباته الظالمة والجائرة بحق إمام معصوم ابن إمام معصوم، شريف بريء لم يقترف ذنباً ولا ارتكب خطأ، ولو كان عندهم أي شعور ديني لما سجن الإمام (عليه السلام) ولما نكل به من سجن إلى سجن مقيداً بالأغلال والحديد.ويعود السبب في ذلك كله إلى عبث السياسة الملتوية في الأوساط الاجتماعية ونشرها الفساد والفجور والبؤس والشقاء والتسبّب في ربوع ذلك المجتمع حتى كان من نتائجه مواقف مذمومة لا يحمد عقباها بأي حال. كما كشفت لنا هذه البادرة مدى الحقد والكراهية التي يكنها هارون اللعين في نفسه للإمام (عليه السلام) الشريف. فقد نكل بالفضل بن يحيى وهو كان من أعز الناس عنده وأقربهم إليه، وأعلن شتمه وسبه لأنه أحسن معاملته للإمام (عليه السلام) ولم يضيق عليه في السجن. علماً أن المدة التي قضاها الإمام (عليه السلام) في سجن الفضل قصيرة للغاية كما ذكر الرواة أياماً معدودة. ونختصر فنقول:كانت أرواح الناس في العصر العباسي ودماؤهم يتصرف فيها الحكام حسب ما أرادوا، فالملك يفعل ما يريد فهو ظل الله على الأرض لا يسأل عن ذنب ولا جرم، همه كرسي الحكم وكفى.