باب الحوائج الإمام موسی الکاظم (علیه السلام) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

باب الحوائج الإمام موسی الکاظم (علیه السلام) - نسخه متنی

حسین إبراهیم الحاج حسن

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

6ـ بثّ الدواب في الأرض

ومن آياته العظيمة سبحانه وتعالى بثّ الحيوانات في الأرض المختلفة، في أنواعها وأصنافها وأشكالها وطبايعها المختلفة، ومعيشتها المتباينة. ولا يخفى أن الإنسان كما عرّفوا عنه حيوان ناطق لكنه شرّفه الله بالعقل المستنير، واللسان الناطق الفصيح، فهو خليفة الله في أرضه، وهو النموذج المحتذى لجميع ما في العالمين: عالم الملك، وعالم الملكوت، وبصورة خاصة حسب وعيه وإدراكه وإحاطته بما يخزن في ذاكرته من الحقائق والمعلومات الكليّة والجزئية، بل هو اكبر ما في العالم؛ يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):




  • أتحسب أنك جرم صغير
    وفيك انطوى العالم الأكبر



  • وفيك انطوى العالم الأكبر
    وفيك انطوى العالم الأكبر



ولنتأمل في تكوين الإنسان فنرى فيه أعظم آيات الله، الأجهزة الدقيقة التي لا تعد ولا تحصى كتكوين العين التي تحتوي على 130 مليون من مستقبلات الضوء وهي أطراف أعصاب الأبصار، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً نهاراً، وتعتبر حركته حركة غير إرادية يمنع عنها الأتربة والذرّات، كما يكسر من حدة الشمس. ثم جعل لها سبحانه السائل المحيط بها المعروف بالدموع التي يقول عنها الأطباء: إنها من أقوى المطهّرات والمعقّمات، إلى غير ذلك ما هو أبلغ دليل على وجود الله مبدع الكون. قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)196 وفي الإنسان حاسة السمع وهي أعجب أجهزة الإنسان تحتوي على مجموعة أقنية بين لولبية ونصف مستديرة، ففي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس. فما طول هذه الأقواس؟ وما حجمها؟ وكيف ركبت؟ إنها دقة تحيّر الألباب، فسبحان الله المبدع المصوّر!!

وفي الإنسان حاسة الشم: وهي من أعظم آيات الله فمركز هذه الحاسة منطقة محدودة من الغشاء المخاطي المبطن لتجويف الأنف، تسمى منطقة الشم، وهي خالية من الأهداب وبها عدة خلايا شمّية طويلة رقيقة تنقل الأثر إلى المخ، وذلك في جزء من الأنف، وهو المدخل الرئيسي للجهاز التنفسي الذي يتوقف عليه حياة الإنسان.

وفي جسم الإنسان الجهاز العظمي، وهو يتكوّن من 206 عظمة مختلفة الأشكال، يتصل بعضها ببعض المفاصل التي تحركها العضلات، وهذه العظام يقول عنها العلماء: إنها مصنع الحياة في الجسم إذ أنها تكوّن الكريات الدموية الحمراء والبيضاء.

ومن عجيب أمر هذه الكريات أنها في كل دقيقة من حياة الإنسان يموت منها ما لا يقل عن (180.000.000) مائة وثمانين مليون بسبب دفاعها عن الجسم ضد المكروبات الوافدة.

وبالإضافة إلى ما تصنعه العظام من كريات الدم فإنها مخزن تحفظ للجسم ما يزيد عن حاجته من الغذاء، سواء كان ذلك في داخل العظام نفسها كالمواد الدهنية والزلالية، أو على العظام نفسها كالمواد الجيرية.

أما عن أشكال العظام الملائمة لكل موضع خلقت له فهذا أمر عجيب، فعظام الجمجمة تحمي المخ لأنها أشد صلابة من غيرها...

إلى غير ذلك ممّا في الإنسان من الأجهزة الأخرى التي يطول الحديث عنها ولها علماؤها المختصون بها:

كالجهاز العصبي، والجهاز اللمفاوي، والجهاز التناسلي، والجهاز العضلي. وهي تدل بوضوح على قدرة صانعها ودقة إبداعه.197

7ـ تسخير السحاب

كل ما في الكون سخّره سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان، ومصالحه وسعادته، ومن آياته تسخير السحاب، فقد سخّره في أوقات مخصوصة لإحياء العباد والبلاد، واستمرار وجوده يؤدي إلى فساد جميع المركبات التي تتوقف على الجفاف، لأنه يستر أشعة الشمس؛ وانقطاعه يؤدي إلى القحط فيهلك الإنسان والحيوان فكان تقديره بالأوقات الخاصة، والفصول المعيّنة، بحكمة إلهية لأجل الصالح العام، لعامة المخلوقات. وهذه بلا ريب من رحمته الواسعة التي وسعت كل شيء.

والسحاب كما هو معلوم يتكوّن من تكاثف البخار في الهواء، ويختلف ارتفاعه على حسب نوع السحب، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من 12 كيلومتراً، وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة لا يمكن نزول قطرات المطر المتكوّن. وذلك لمقاومة الرياح لها.

وكلما تناثرت النقط تشحن بالكهرباء الموجبة، وتنفصل عنها الكهرباء السالبة التي تحملها الرياح.. وبعد مدة تصير مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء، وعندما تقترب الشحنتان بعضها من بعض بواسطة الرياح.. يتم التفريغ الكهربائي، وذلك بمرور شرارة بينهما، ويستغرق وميض البرق لحظة قصيرة ويكون شكله خطاً منكسراً، ويسمع بعده الرعد وهو عبارة عن الموجبات الصوتية التي يحدثها الهواء، وتخيّم السحابة، ويتنزل منها المطر الذي يغيث الأرض فتأخذ منها حاجته المطلوبة.

فتأمل كيف ولدت الرياح الكهرباء بنوعيه الموجب والسالب في السحب، وسببت نزول المطر منها.198 كل ذلك بتقدير دقيق من الله العزيز العليم الرحيم...

هذا بعض ما ورد في الآية الكريمة من الشواهد والأدلة الواضحة على وجود الله تقدّس اسمه وتعالى ذكره. فهو المصدر الوحيد لوجود هذه العوالم. وقد استدل الإمام (عليه السلام) بهذه الآيات لدعم حقيقة الإيمان.

من وصية له (عليه السلام) لهشام بن الحكم في وصفه للعقل

إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه العزيز فقال سبحانه: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ)199.

استدل (عليه السلام) بهذه الآية لترغيب الناس على اتباع القول الحسن، وهذه الفئة من الناس يبشرهم الله انهم على هداية منه وهم أصحاب العقول الراجحة، يميزون بنور عقولهم بين الكلام الخبيث فيتجنبونه والكلام الحسن فيتبعونه.

ثم تابع (عليه السلام) القول لهشام (يا هشام، قد وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال عزّ وجلّ: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)200.

وهنا أيضاً يرغّب الله تعالى عباده العقلاء في دار الخلود والنعيم، ويذم دار الدنيا لأنّها محصورة على الأكثر في اللهو واللعب، فالعقلاء يزهدون فيها، ويجتنبون شرّها وحرامها، ويعملون للدار الباقية التي أعدت للمتقين، والعباد الصالحين.

يا هشام: ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزّ وجلّ:

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)201 استدل (عليه السلام) بهذه الآية وما شابهها على تدميره تعالى للذين لا يعقلون من الأمم السالفة التي كفرت بالله وقد نزلت في قوم لوط حينما جحدوا الله وكفروا بآياته، فأنزل تعالى بهم عقابه، وجعل موطنهم قبيح المنظر منتناً يمر بها المارون ليلاً نهاراً ساخرين من أهلها حيث جعلهم عبرة للذين يعقلون، وقد حذّرهم من مخالفة المرسلين،الصالحين، فإن عاقبة المخالفة والعصيان الدمار والهلاك.

ثم بين أن العقل مع العلم فقال سبحانه:

(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ)202.

استدل (عليه السلام) بالآية الكريمة على ملازمة العقل للعلم فإن العقل بجميع مراتبه لا يفترق عن العلم فكلاهما صنوان متلازمان.

قال المفسرون عن سبب نزول هذه الآية: إن الكافرين انتقدوا ضرب الأمثال بالحشرات والهوام كالذباب والبعوض والعنكبوت...

وفي نظرهم أن الأمثال يجب أن تضرب بغير ذلك من الأمور الهامة وفي نظرنا أن منطقهم هذا هزيل للغاية لأن التشبيه إنما يكون بليغاً فيما إذا كان مؤثراً في النفس.

ثم ذم الذين لا يعقلون في فصل آخر لأن معرفة حقيقة الاشياء لا يميزها إلا العالمون الذين حصل لهم العلم والمعرفة (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ).

يا هشام: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)203.

وقال سبحانه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)204.

ثم تابع في سرد الآيات الشبيهة بهذه وكلها تذم الذين لا يعقلون205 استدل الإمام (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على ذم من لا يعقل، ففي الآية الأولى من هذا الفصل يقول الطبرسي:

لقد اتبع القوم أسلافهم ومشايخهم في الأمور الدينية من غير بصيرة ولا دليل، والذي حفزهم إلى اتباعهم الجهل والتعصب والغباوة وهذه الآية حسب رأي المفسرين نزلت في اليهود حينما دعاهم الرسول الأكرم إلى الإسلام فرفضوا ذلك، وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فانهم كانوا خيراً منا.206 ولو كانت لهم عقول سليمة، وأفكار ناضجة لفقهوا أن التقليد في العقائد لا يقرّه العقل السليم، لأن العقيدة لا تؤخذ إلا من الدليل العلمي الصحيح، وهي أساس ثابت لحياة الإنسان وسلوكه. إذ ما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره، ولا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله، ولا معصوم إلا من عصم الله، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله في اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل؟؟!

والآية الثانية متممة للآية الأولى:

فإنّه تعالى لما وصف حالة الكفّار في إصرارهم على التقليد الأعمى عند دعوتهم إلى الإسلام، ضرب لهم مثلاً للسامعين عن حالم بأنهم كالأنعام والبهائم التي لا تعي دعاء الداعي لها سوى سماع الصوت منه دون أن تفهم المعنى، فكذلك حال هؤلاء لا يتأملون دعة الحق ولا يعونها، فهم بمنزلة الجاهلين لا يعقلون، وهذا أعظم قدح وذم للذين لا يعقلون. لأن الإنسان إذا اتهم بعقله فقد دنياه وآخرته.

وفي الآية الثالثة: وصف سبحانه منتهى القسوة وجمود الطبع وخمول الذهن لبعض الكفار فهم يستمعون ما يتلى عليهم من الآيات والأدلة على صحة دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله) ولكنهم صم بكم لا يسمعون ولا يفقهون، وبذلك لا جدوى ولا فائدة في دعوتهم إلى اعتناق هذا الدين؛ لقد بلغوا الحد الأقصى في أمراضهم العقلية والنفسية، ولا يجدي معهم أي نصح أو إرشاد أو علاج.

وسنكتفي بهذا القدر من الآيات التي استدل بها (عليه السلام) على ذم من لا يعقل من الناس. والآن إلى فصل آخر من كلامه، قال (عليه السلام): (يا هشام: لقد ذم الله الكثرة فقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَخْرُصُونَ)207. وقال سبحانه أيضاً:

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)208.

استدل (عليه السلام) بهاتين الآيتين على ذم أكثر الناس لأنهم قد حجبوا عن نفوسهم الحق، وتوغلوا في الباطل، وغرقوا في الشهوات، إلا من رحمه الله منهم. ففي الآية الأولى:

خاطب تعالى نبيه (صلّى الله عليه وآله) وأراد به غيره، فإنه لو أطاع الجمهور من الناس وسار وفق أهواءهم وميولهم لأضلوه عن دين الله وصرفوه عن الحق. وفي الآية الثانية:

دلت على أن أكثر الناس يقولون ما لا يعلمون، وأنهم لا يؤمنون بالله في قلوبهم، بل إنما يجري على ألسنتهم دون أن ينفذ إلى أعماق قلوبهم.209

ثم مدح القلّة فقال:

(يا هشام: قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)210.

وقال: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَ قَلِيلٌ)211.

وقال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)212.

وقال: (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)213.

استدل (عليه السلام) من خلال هذه الآيات الكريمة على مدح قلة المؤمنين، وندرة وجودهم، كما صرحت الأحاديث النبوية والأخبار الواردة عن أهل البيت بذلك، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام):

(المؤمنة أعز من المؤمن، والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر؟)

والسبب في ندرة هذه الفئة من المؤمنين الصالحين يعود إلى أن الإيمان الحقيقي بالله يعد من أعظم مراتب الكمال التي يصل إليها الإنسان.

لكن الوصول إلى هذا الإيمان يصطدم بموانع كثيرة تحول دون الوصول إليه مثل: التربية البيتية السيئة حيث يعتاد الفرد على الغش والخداع والكذب منذ الطفولة الأولى.

إن التفاحة الفاسدة تفسد التفاح السليم، والرفيق المنحط أخلاقياً وسلوكياً يفسد غيره من الرفاق الصالحين، لأن الانزلاق نحو الرذائل أسهل من الصعود نحو الفضائل، والمثل العليا وهناك حواجز كثيرة تؤدّي إلى حجب الإنسان عن خالقه، وتماديه في الإثم والموبقات.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) تعني صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما خلق لأجله. وهذه أعظم مرتبة لا تصدر إلا ممن عرف الله واعتقد بأن جميع الخيرات والنعم صادرة منه سبحانه وتعالى. فيعمل بكل طاقته على تحصيل الخير وردع نفسه عن الحرام وحينئذ يكون من الشاكرين، والشكر لله بهذا المعنى من المقامات العالية التي لا يتصف بها إلا القليل من عباد الله.

وننتقل إلى فصل آخر من كلامه (عليه السلام) مخاطباً هشام.

(يا هشام: ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وأفضل الصفات فقال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الألْبَابِ)214.

وقال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الألْبَابِ)215.

وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ)216.

ـ استدل (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على مدح العقلاء المتفوّقين على غيرهم، فقد مدحهم تبارك وتعالى بأحسن الصفات، وأضفى عليهم النعوت السامية. ففي الآية الأولى: منح بعض عباده (الحكمة) وهي من أعظم المواهب، ومن أجل الصفات، فقد قيل في تعريفها، إنها العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته. ثم وصف تعالى من مُنِحَ بها بأنه أوتي خيراً كثيراً ولا يعلم معنى الحكمة ولا يفهم القرآن الكريم إلا أولوا الألباب.

وفي الآية الثانية: وصف تعالى عباده الكاملين في عقولهم بثلاثة أوصاف: 1ـالرسوخ في العلم. 2ـ الإيمان بالله. 3ـ العرفان بأن الكل من عند الله.217

ثم بين سبحانه: إن المتصفين بهذه النعوت العظيمة هم العقلاء الكاملون الذين هم ذووا الألباب.

وفي الآية الثالثة دلالة على التفاوت بين من يسهر ليله في طاعة الله وبين غيره الذي يقضي أوقاته بالملاهي والملذّات، وهو معرض عن ذكر الله، فكيف يكونان متساويين. هذا غير معقول!

وقال (عليه السلام): (يا هشام، إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز:

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)218 يعني العقل.

وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)219 يعني الفهم والعقل، وضّح (عليه السلام) أن المراد بالقلب ليس العضو الخاص الموجود عند الإنسان وعند الحيوان، بل المراد منه هو العقل الذي يدرك المعاني الكلية والجزئية ليتوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وهو بذلك يمثل الكيان المعنوي للإنسان.

وفي الآية الثانية يشير (عليه السلام) إلى نعمة الله تعالى على لقمان، فقد منّ عليه بالحكمة، وهي من أفضل النعم وأجلها. ثم أخذ (عليه السلام) يتلو على هشام بعض حكم لقمان ونصائحه لولده فقال:

(يا هشام: إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس.

يا بني: إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العِلم، وسكّانها الصبر).

لقد ركز لقمان الحكيم في وصيّته لولده بالتواضع للحق، فلا يرى الإنسان لنفسه وجوداً إلا بالحق ولا قوّة له ولا لغيره إلا بالله.

والتواضع من افضل الصفات. وقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من تكبر وضعه الله، ومن تواضع لله رفعه الله).

وورد عنه (صلّى الله عليه وآله) في تعديد أقوام ذمهم: (ورجل ينازع الله رداءَه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العظمة)220.

فالمراد بذلك أن الكبرياء والعظمة من صفات الله جلّ جلاله، لا يجوز لأحد من عباده أن يتصف بهما.

فالإنسان كلما تواضع كلما تجرد عن الأنانية، ومحا عن نفسه التكبر، زاده الله شرفاً وفضلاً.

ثم شبه لقمان الحكيم الدنيا بالبحر ووجه الشبه في ذلك:

تغير الدنيا وتغير أشكالها وصورها في كل لحظة، فالكائنات التي فيها كالأمواج في البحر معرضة للزوال والفناء.

ويحتمل وجه آخر للشبه أن الدنيا كالبحر الذي يعبر عليه الناس، فالدنيا يعبر عليها الناس إلى دار الآخرة وتكون النفوس فيها كالمسافرين، والأبدان كالسفن والبواخر تنقلهم من دار الدنيا إلى دار الخلود. وقد غرق كثير من الناس في هذه الدنيا، وسبب غرقهم يعود لتهالكهم على الشهوات.

ولما كانت الدنيا بحراً توجب الغرق والهلاك، فلا نجاة منها إلا بسبيل واحد: ألا وهو الصلاح والتقوى؛ ويكون شراعها التوكل على الله والاعتماد عليه في جميع الأمور. كما أنه لابدّ من عقل يكون قيّماً لتلك السفينة ورباناً لها، والعقل نور دليله العلم والمعرفة فإن نسبته إليه كنسبة الرؤية من البصر؛ ومع هذه الخصال كلها لابدّ من الصبر فإن ارتقاء الإنسان وقربه من ربّه لا يحصل إلا بمجاهدات قويّة للنفس.

وللنتقل إلى مشهد آخر من كلامه (عليه السلام):

يا هشام: ما بعث الله أنبياءه رسوله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة).

ينظر من كلامه (عليه السلام) التأكيد على شرف الأنبياء العظيم وفضلهم الكبير بكمال عقولهم. ولا ريب أن وفور العقل من أفضل ما يمنح به الإنسان، إذ به يتوصّل إلى سعادة الدنيا، والفوز في دار الآخرة.

والعقل حسنة كبرى من حسنات الله تبارك وتعالى، ونعمة جُلّى لا تحصى فضائلها.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض حكمه: (أغنى الغنى العقل).

ثم تابع (عليه السلام) قائلاً لهشام:

(يا هشام: لو كان في يدك جوزة وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس إنها جوزة ما ضرّك وأن تعلم أنها لؤلؤة).

كل ذلك يعود إلى قوة العقل وحسن التمييز، فالعاقل هو الذي يعتمد على نفسه ما دام متأكّداً ممّا هو عليه، ولا يعير بالاً للآخرين من الناس الجاهلين الذين يقولون ما يحلو لهم دون رويّة أو تعقّل ما ينفع العقل إذا خدع الإنسان نفسه؟!

وقال (عليه السلام) (يا هشام: إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة فاطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليه السلام). وأما الباطنة فالعقول) ثم تابع (عليه السلام):

(يا هشام: إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره).

ذكر (عليه السلام) في الفقرات الأخيرة من كلامه إلى بعض أحوال العقلاء من أنهم لا تمنعهم كثرة نعم الله عليهم من شكره تعالى، كما لا تزيل صبرهم النوائب والكوارث. ثم قال (عليه السلام):

(يا هشام من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعلن هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

/ 169