5. كل فرد او مجموعة مضطرين ـ للوصول الى اهدافهم ـ الى الاستفادة من وسائل معينة واختبار هذه الوسائل يمكنه ان يساعد الى حد بعيد في التعرف على اصالة واحقية تلك المدرسة او على تزويرها وخداعها. وبديهي ان اولئك الذين يعتبرون الاستفادة من كل وسيلة ـ للوصول الى اهدافهم ـ جائزة , ويجعلون اصل (الغاية تبرر الوسيلة ) , او (الغايات تبرر الوسائط)برنامجهم الاصلي هم بعيدون عن الاصالة . اما اولئك الذين يستخدمون الوسائل المقدسة لنيل اهدافهم المقدسة فهم يعطون الدليل على احقيتهم , ويمكن تمييز الانبيا الصادقين من الكاذبين عن هذاالطريق . الاشخاص الذين لا يعترفون باي قيد او شرط للوصول الى اهدافهم ويعتبرون كل وسيلة مشروعة او غـير مشروعة مباحة والذين يعتبرون مفاهيم من قبيل العدالة والامانة والصدق والاحترام للقيم الانـسـانـية محترمة طالما انها تعينهم للوصول الى اهدافهم والا تركوها ونبذوها فمسلما انهم في زمرة الانبيا الكاذبين . ان الانبيا الصادقين هم اولئك الذين يحترمون الاصول الانسانية حتى في حروبهم , ولا يعدلون عنها فـي الـشـدائد والـمحن مطلقا , وعند انتصارهم لايتجاوزون اصول العدالة , والعفو , والتسامح مع اعدائهم , وفي اوقات الخطر واحتمال عدم تحقيق النصر لا يلتجاون الى الوسائل غير الانسانية . واذا قسنا هذا الاصل الكلي مع حياة نبي الاسلام (ص ) والتفتنا الى سلوكه مع الاعدا والاصدقا , في اوقـات تـحـقيق النصر او عدم تحقيقه , في الشدة والرخا ,فسوف ندرك جيدا انه كان مت بعا لقيم خاصة في اختيار وسائل الوصول الى الهدف . لم يلجا النبي (ص ) مطلقا في لحظات الخطر الى استخدام اساليب غيرانسانية , بل وراعى المسائل الاخلاقية الدقيقة حتى في ساحة القتال . فـعـنـد انـتـصـاره فـي (فتح مكة ) اصدر (العفو العام ) عن اخطر اعدائه , وصفح حتى عن القتلة ومجرمي الحرب . ولما سمع احد قادة الجيش يعلن شعارا ثاريا ويقول :. (الـيوم يوم الملحمة , اليوم تستحل الحرمة , اليوم اذل اللّه قريشا) امر فورا بعزله وقال : ليقولوا بدل هذا الشعار (القبيح وغير اللائق ) : (اليوم يوم المرحمة اليوم اعز اللّه قريشا) ((317)) . وحـتـى حـيـن وقـف كبرا مكة صفا ليروا ما يحكم الرسول (ص ) بشانهم (وكان الكثير من الناس يتوقعون ان يشدد ويقسو على هؤلا الاعدا الحاقدين ) التفت اليهم (ص ) وقال : (ما تظنون اني فاعل بـكـم ؟) قالوا : (لا نظن الا خيرا فقال (ص ) :(اقول لكم ماقال يوسف لاخوته : (لاتثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو ارحم الراحمين ) ((318)) ـ (اذهبوا فانتم الطلقا). وعـنـدما قتل (خالد بن وليد) اسرى بني خزيمة بدون سبب ووصل الخبر الى نبي الاسلام (ص ) تالم بشدة وقال مرتين او ثلاث : (اللهم اني ابر اليك مما صنع خالد) , ثم امر عليا (ع ) ان يذهب مع مبلغ من المال الى تلك القبيلة فيعطيهم دى ة قتلاهم ويعوض ممتلكاتهم التي تضررت بالمال وان يسعى في جلب رضاهم ((319)) . ان هـذه الامـور لايـمكن مشاهدتها في حروب عالم اليوم , وحتى في مهدالحضارة الصناعية , فقد شـهـد الـعـالـم افضع مسي الانتقام في نهاية الحرب العالمية الاولى والثانية , والجرائم التى لاتعد للجيوش المنتصرة . والان كـيف اتصف النبي (ص ) بكل هذا العفو والرحمة بين قوم نصف متوحشين ؟ هذا السؤال يجب ان يجيب عليه العقلا والحكما. كـان ورعـه واجـتنابه عن الوسائل غير الانسانية الى درجة انه (ص ) , يرفضهاحتى ولو تهيات مـقدماتها واسبابها بصورة طبيعية , ومهما بدت في الظاهر انها مؤيدة له , ففي حادثة وفاة (ابراهيم ابـن الـنـبـي (ص ) قـيل : ان الشمس كسفت تزامنا مع هذه الواقعة , وقال بعض الناس : انها كرامة ومعجزة من قبل النبي (ص ) , وان الشمس كسفت لوفاة ابراهيم . لكن النبي (ص ) صعد المنبر وقال : (ايها الناس ان الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بامره مـطـيـعان له , لاينكسفان لموت احد ولا لحياته , فاذا انكسفا او احدهماصلوا , ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف , فلما سلم قال : ياعلى قم فجهز ابني ) ((320)) . تـشير هذه القصة الى ان النبي (ص ) سارع الى هذا العمل حتى قبل اجرامراسيم دفن ابنه ابراهيم كـي يـقضي على هذه الفكرة الخاطئة قبل شيوعها وان كانت لصالحه ظاهرا انه لايريد ان ينتفع من وسائل مغلوطة وغير مشروعة في التقدم لنيل اهدافه ومقاصده . عـلـى الرغم من ان الحديث قد طال حول هذا الموضوع , ولكن لابد في الختام من ذكر هذه النقطة وهي : ان دقائق الامور التي جات في اداب الحرب في الاسلام واكد عليها النبي (ص ) واثبت عمليا التزامه بها هى شاهد آخر على الادعا الانف الذكر. فـحـيـنـما كان الجيش الاسلامي يستعد للتحرك الى احد ميادين الجهاد , كان النبي (ص ) يعرفهم بواجباتهم الحساسة بهذه العبارات : (سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملة رسول اللّه , لاتـغـلو , و تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخا فانيا ولاصبيا ولا امراة ولا تقطعوا شجرا الا ان تضطروا اليه ). وفـي حـديـث آخـر : (( ولا تحرقوا النخل , ولا تغرقوه بالما , ولا تقطعوا شجرة مثمرة , ولا تحرقوا زرعا لانكم لا تدرون لعلكم تحتاجون اليه ولا تعقروا من البهائم يؤكل لحمه الا ما لابد لكم من اكله )) ((321)) . وكـان الـنـبي (ص ) ملتزما بكل المبادئ الاخلاقية السامية الى تلك الدرجة التي جعلته في معركة خيبر ان يرفض اقتراح من اشار عليه بقطع الما عن اليهودالمحاصرين لمدة طويلة في داخل قلاع خيبر القوية , واجابه (ص ) قائلا : (انني لااقطع عنهم الما ابدا). وعندما قال له راع لمواشي اليهود : انني حاضر لان اعطيك هذه المواشي كلها ,رفض النبي (ص ) ذلك ونهاه ان يخون الامانة التي اودعوها عنده ((322)) .