وردت ضـمـن الايات القرآنية المرتبطة بعلائم التوحيد ودلائل المعاد اشارات غزيرة المعاني الى مـسـالـة خلق الانسان من النطفة ومن ثم مراحل تطور الجنين والتي يمكن عد بعض منها في قائمة المعجزات العلمية للقرآن . مـن جـمـلتها ما نقراه في الاية الثانية من سورة الانسان : (ان ا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا). (النطفة ) في اللغة بمعنى الما الصافي او الما القليل ((210)) (الامشاج ) جمع مشج (على وزن نسج او على وزن سبب ) او جمع مشيج بمعنى الشي المختلط وقد ابدى المفسرون احتمالات متعددة في صدد الجواب عن ما هوالشي الذي تختلط به النطفة . فتارة تصوروا ان ذلك اشارة الى تركيب نطفة الانسان من ((الحيامن )) و((البويضة )) , وتارة بانه اشارة الى كونها مركبة من الاستعدادات المختلفة من الناحية الجسمية او الروحية (القبح والحسن , الـذكـا والـغـبا و ) واخرى الى انه اشارة الى ان نطفة الانسان مركبة من مواد مختلفة من المعادن نحوها. بـطـبيعة الحال ان ذلك كله حسن , ولعله كان من افضل التفاسير في عصره , الا انه لاينطبق بدقة عـلى معنى الاية ذلك ان لفظة الامشاج جمع , واطلاقها على شيئين اي (البويضة والحيمن ) خلاف الظاهر , هذا اولا , وثانيا : ان وجود الاستعدادات المختلفة في الاشخاص بشكل مستقل لا يتلام مع مـعنى الامشاج , وكذلك ليس من المناسب القول بتركيب النطفة من انواع المعادن واشباهها , لان هذا الامر لاينحصر في النطفة فقط , وانما تتركب من هذه المواد كل الموجودات العالية نظيرالانسان والـنـبات والوان الاطعمة , اضافة الى ان كلمة النطفة في آيات متعددة من القرآن جا في خصوص نطفة الرجل . فمثلا نقرا في الاية (37) من سورة القيامة قوله تعالى : (الم يك نطفة من مني يمنى ) ؟. لـكـن مع تطور العلم واتساع نطاق تحقيقات العلماثبت اليوم بان القطرات القليلة للمني والتي تدعى بـ (الـنطفة ) مركبة من مياه متعددة تفرزها الغدد المختلفة للجسم , وبشكل رئيسي فهناك خمس غدد تتظافر فيما بينها لكي تصنع المني من ترشحاتها , وهي عبارة عن :غدتان تقعان في اكياس قريبة من غدة البروستات وتدعى بـ (البيضة ). والاخرى هي غدة البروستات نفسها , وكذلك غدتا ((الكوبر)) و ((الليترة )) اللتان تقعان بالقرب من مجاري الادرار ((211)) . وتختلط هذه المياه الخمسة مع بعضها بنسب دقيقة وموزونة لتشكل مادة الحياة (النطفة ). ويـعـتـقـد هذا العالم الفرنسي ان التعبير بـ (الامشاج ) الوارد في القرآن هو اشارة الى تلك النكتة الدقيقة التي خفيت عن انظار علما ذلك العصر. ومـمـا يـسترعي الانتباه هو قوله تعالى في ذيل الاية السابقة : (فجعلناه سميعابصيرا) , بمعنى ان نعمة السمع قد تقدمت على نعمة البصر , لاحتمال ان يكون السبب في ذلك كما ذهب اليه العلما من ان الحس الاول الذي يبدا بالعمل لدى الرضيع هو السمع , فهو يستعد لالتقاط الاصوات في الايام الاولى من حياته بل ان له قبل ذلك نشاطا محدودا في العالم الجنيني ايضا. وهـذا بـخـلاف البصر فانه يستعد للابصار بعد ذلك ولعله بعد مرور اسبوعين ,لعدم امتلاك العين الـمغمضة اي استعداد لرؤية امواج النور في البيئة المظلمة للرحم ولهذا السبب فان عين الرضيع تبقى مغمضة بعد ولادته مدة من الزمن ايضا , حتى تعتاد على الضيا بالتدريج . مـن جـانـب آخـر يقول في الاية (20) الى (23) من سورة المرسلات : (الم نخلقكم من ما مهين # فجعلناه في قرار مكين # الى قدر معلوم # فقدرناه فنعم القادرون ). لقد توصل علما الاجنة اليوم من خلال مطالعاتهم ومشاهداتهم الدقيقة والمصورة عن تحولات الجنين الـى هذه النكتة , بان لقا (الحيامن والبيوض ) ان مايتم خارج الرحم و في الممرات المنتهية اليه ثم تنعقد النطفة لتشق طريقها نحوقرارها الاصلي وهو الرحم فتلتصق بجداره . ويـتـبى ن هذا المعنى بوضوح في الاية الانفة الذكر ايضا , ففي البداية تتحدث عن خلقة الانسان , ومن ثم عن استقراره في قرار الرحم (وينبغي الالتفات الى ان ((ثم )) تستعمل في لغة العرب عادة لـلـتـرتـيب بشي من الفاصلة ) , وعليه فان الامرالذي توارى عن نظر جميع العلما في ذلك العصر ومابعده قد جا في القرآن بشكل واضح . والـتـعـبير بـ ((القرار المكين )) هو الاخر تعبير غني جدا في معناه والذي كان مجهولا في ذلك الزمان قطعا. نعلم في وقتنا الحاضر ان هناك خصائص مهمة اخذت بنظر الاعتبار في خلق الرحم بحيث اصبح من آمن الاماكن للجنين . وبـغـض الـنظر عن الاغشية الثلاثة التي تحيط بالجنين من كل جوانبه (غلاف باطن الام , جدار الـرحـم , الـكـيـس الخاص لاستقرار الجنين ) فان كل جنين يسبح في كيس يحتوي على ما لزج , ويـسـتقر هناك تقريبا في حالة من انعدام الوزن وعدم الاتكا على شي معين , وهو يتحمل كثيرا من الـصـدمات التي ترد على انحا جسدالام , ذلك ان الصدمات في الواقع تصيب (كيس الما) لا الجنين نـفـسـه مـبـاشـرة ,وبعبارة اخرى يمكن ان نسمي ذلك الكيس ومحتواه بالجهاز المضاد للصدمات نـظـيرالنوابض المرنة للسيارة التي تخفف من تاثير عراقيل الطريق فضلا عن ذلك انه يحول دون تسليط ضغط على اعضا جسم الجنين , ذلك ان هذا الضغط يلحق الضرر بذلك الجسم اللطيف , اضافة الى ان البرودة والحرارة الخارجية لا تنتقل الى الجنين بسهولة كما لايخفى , لانها تضطر في سبيل الى الجنين ان تخترق ذلك الكيس المملؤ بالما , فتصل اليه معتدلة الحرارة , والا من الممكن ان يختل وضع الجنين بصورة كاملة عند استحمام واحد للام بالما البارد او الحار. وبـنا على هذه الامور التي توضح لنا مفهوم (القرار المكين ) بصورة كاملة لايعتبر الرحم ملجا آمنا ومناسبا للجنين فحسب , بل ان هذه الامنية والحصانة تسايره في المراحل التي تمر بها ولادته ايضا . وكما قال بعض المفسرين الجدد : ان المادة السائلة الخاصة التي يسبح فيهاالجنين تتسبب في اتساع فـوهـة الـرحم حين الولادة وتعقيم المجرى الذي يمر منه الجنين ليتمكن من اجتياز هذا المجرى المتلوث بانواع الميكروبات عادة فيخرج الى الدنيا سالما , في منتهى الامن والراحة ((212)) . ومـما يستحق الاهتمام ان القرآن الكريم عندما يريد ان يفصح عن سلسلة المراحل التكاملية للجنين يقول في الاية (14) من سورة المؤمنين : (ثم خلقنا النطفة علقة # فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما # ثم انشاناه خلقا آخر # فتبارك اللّه احسن الخالقين ). ومن طريف القول هو ما اثبته علم الاجنة حاليا بان الجنين عندما يطوي مرحلة كونه علقة ومضغة , تـتـبدل كل خلاياه الى خلايا عظمية , ثم تغطيها العضلات واللحم بالتدريج (وقد اثبت ذلك الافلام الدقيقة الباهضة التكاليف التي اخذت لكل المراحل الجنينية ). وهـذا هـو مـا جـات به الاية السابقة بدقة اذ تقول : (فخلقنا المضغة عظامافكسونا العظام لحما) , وهـذه هـي احـدى الـمعجزات العلمية للقرآن الكريم , ذلك انه لم يكن في ذلك الزمن مايسمى بعلم ((الاجـنة )) , وعلى الخصوص في محيط جزيرة العرب الذي لم يتوفر فيه الاطلاع عن بابسط المسائل العلمية ((213)) .