تفسير واستنتاج روح الجهاد, دفاع لاغزو:
فـي الايـة الاولـى مـن الايات اعلاه , والتي يعتقد جمع من المفسرين انها اول آية في الجهاد, تزيح الستار عن اهم فلسفة للجهاد, وتجيز للمسلمين الذين حوصروا من قبل الاعدا الشرسين الجائرين ,
ان يحاربوا هؤلا عسكريا ويجاهدوهم , يقول تعالى .
(اذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان اللّه على نصرهم لقدير).
فـهنا حصل المسلمون على اذن بالجهاد, مضافا الى انهم وعدوا بالنصر من قبل اللّه تعالى , وقد ذكر
لذلك دليل , وهو ان العدو هو الذي بدا الحرب العدوانية عليهم ,ولذا فالسكوت عنه خطا, لانه يؤدي
الى تجرؤ العدو وتجاسره والى ضعف المسلمين .
يـقول المرحوم الشيخ الطبرسي في مجمع البيان : وكان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجي
مشجوج ومضروب الى رسول اللّه (ص ) ويشكون ذلك الى رسول اللّه (ص ) فيقول لهم صلوات اللّه
عـليه وآله : اصبروا فاني لم اؤمر بالقتال ,حتى هاجر فانزل اللّه عليه هذه الاية بالمدينة وهي اول
آية نزلت في القتال ))((388)) .
والـمـلـفـت للنظر هو ان القرآن المجيد يقول في الاية السابقة لهذه الاية : (ان اللّه يدافع عن الذين
آمـنوا), اي ان هذا الكلام لا يعني ان يجلس هؤلا في زاوية من زوايا المسجد ويضعون يدا على يد
وينتظرون دفاع اللّه , بل ان سنة اللّه اقتضت ان يكون دفاعه عن المؤمنين بعد ادا وظيفتهم في امر
الـجهاد ومواجهة العدو, اذن فالذين يحق لهم الاطمئنان للحماية الالهية هم الذين لم يتركوا وظيفة
الجهاد.
كـما ان النكتة الاخرى التي ينبغي الالتفات اليها هي ان الاية اللاحقة (الحج ـ 40)تقول في تحفيز
المؤمنين على الدفاع المقدس : (الذين اخرجوا من ديارهم بغيرحق )اي ان المشركين اخرجوكم من
وطـنكم ومنازلكم لا لذنب الا ايمانكم باللّه , ولذااذا لم تقفوا في وجوههم وتقاتلون تعرضت دنياكم
ودينكم وايمانكم ومساجدكم للخطر.
وبـمـا ان الامـر بـالـجهاد صدر بعد الهجرة , فيدل على ان اصل الجهاد في الاسلام هو الدفاع ضد
الاعـدا, لان الـمـسلمين لم يحملوا السلاح طيلة السنوات الثلاثة عشرعلى الرغم من كل اساليب
الايـذا والـضـرب والـجرح لعل المشركين يعودون الى الرشد, ولما لم تنفع الاساليب السلمية مع
الـمـشـركين وكانت نتيجة الصبر والتحمل هو الهجرة العامة والضغوط الاجتماعية والاقتصادية
حـتـى بـعد الهجرة , لم يكن هناك اي مبرر عقلي لجلوس المسلمين مكتوفي الايدي ناظرين قساوة
الاعداواضطهادهم واعتدااتهم وفي الاية الثانية اشارة الى فلسفة اخرى للجهاد, وهي كالفلسفة المذكورة في الاية السابقة يمكن ان
توجد في كل زمان ومكان , يقول تعالى : (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله للّه ).
والظريف ان القران الكريم يشير في ذيل هذه الاية بصراحة ويقول :.
(فان انتهوا فان اللّه بما يعلمون بصير).
وذهب جمع من المفسرين الى ان المراد من ((الفتنة )) هو ((الشرك )), وبعض قال ان المراد منها
الضغوط التي استعملها المشركون لارجاع المؤمنين الى الشرك وردهم عن ايمانهم .
وفي تفسير الميزان ـ واعتمادا على جذور هذا المصطلح الاصلية ـ فسر الفتنة بمعنى الامور التي
يـمتحن الناس بها, وبالطبع فان تلك الامور تكون ثقيلة على الناس وتستعمل عادة بمعنى زوال الامن
والصلح .
وقـد ذكـرنـا في التفسير الامثل , في ذيل الاية 193 من سورة البقرة خمسة معاني لهذا المصطلح
استنادا الى آيات القرآن وهي :.
1 ـ الامتحان .
2 ـ المكر.
3 ـ البلا والعذاب .
4 ـ الشرك وعبادة الاوثان .
5 ـ الاضلال والاغوا.
وقـد اشير في بعض كتب اللغة كلسان العرب الى اغلب هذه المعاني ايضا, ومن البديهي ان الفتنة في
الايـة مورد البحث لا يمكن ان تكون بمعنى الامتحان او المكروالبلا, وعليه فهي بمعنى الشرك او
ضغوط المشركين لاضلال الاخرين , ويمكن ان تكون بمعنى جامع شامل للشرك وضغوط المشركين
والعذاب والبلا, وعليه فمادامت الضغوط مستمرة من قبل الكفار لتغيير عقيدة المؤمنين , يكون القتال
في مواجهة ذلك ماذون فيه , ويجوز الجهاد للحصول على الحرية والحد من الضغوطوالتعذيب , ولكن
مـتى ما رفع الكفار ايديهم عن ممارسة ذلك , ينبغي الكف عن قتالهم , وعليه فالجهاد هنا نوع من انواع
الدفاع .
وفي الاية الثالثة امر للمسلمين لاعداد كل لون من الوان القوة لقتال الاعدا, يقول عزوجل : (واعدوا
لـهم ما استطعتم من قوة ) ثم يشير الى مصداق واضح لذلك كان يعد حينذاك من وسائل القتال المهمة ,
يقول عزوجل : (ومن رباط الخيل ).
وفي العبارة اللاحقة يشير الى الهدف النهائي لهذا الاعداد ويقول : (ترهبون به عدو اللّه وعدوكم ).
وعـلـيـه فالهدف من الاعداد وتهيئة القوى ليس غزو الاخرين والهجوم على احد,وانما الهدف هو
اخافة الاعدا, ذلك التخويف الذى يكون رادعا من نشوب الحرب والقتال .
وفـي الـحـقيقة , فان تقوية البنية الدفاعية , كان دائما عاملا مؤثرا في الحد من هجوم الاعدا, وهذا
هدف مقدس جدا ومطابق للعقل والمنطق .
ولابـد مـن الالـتفات الى هذه النكتة وهي ان مفهوم الاية الكريمة اوسع بكثير,ويشمل كل نوع من
انواع اعداد القوى المعنوية والمادية والعسكرية والاقتصادية والثقافية , وخصوصا وانها تؤكد على
الـقـوى الـمتناسبة مع كل زمان , ويدل ذلك على ان المسلمين يجب ان لا يتوانوا, بل عليهم ان يسعوا
جـاهـديـن لـتـوفير احدث الاسلحة المعقدة في زمنهم , بل ويسبقوا الاخرين في ذلك , ولكن يبقى
الـهدف الاصلي لهذا الاعداد والاستعداد ليس غزو الاخرين والاعتدا عليهم , بل هو اطفانار الفتنة
والحد من الاعتدا, وبعبارة اخرى خنق هجوم الاعدا في مرحلة النطفة .
ولما كان اعداد المعدات العسكرية المتطورة والحديثة في قبال الاعدا يحتاج الى اموال طائلة , وهذا
الامـر لا يـمكن بدون اشتراك جميع افراد المجتمع , تعقب الاية الكريمة بهذا المعنى بالقول : (وما
تنفقوا من شي فى سبيل اللّه يوف اليكم وانتم لاتظلمون ).
والنكتة المهمة هنا هي ان الاية اللاحقة لهذه الاية (الاية ـ 61 ـ الانفال ):.
(وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللّه انه هو السميع العليم ).
فـذكر هذه الاية بعد تلك له معنى دقيق وعميق , وهو تاكيد آخر على روح حب الصلح والسلام في
الاسـلام , اي ان امـر المسلمين باعداد افضل انواع الاسلحة والقوى انما هو من اجل تحكيم اسس
السلام والصلح لا الاعتدا على احد.
والايـة الـرابـعـة وفي ضمن الترغيب بالجهاد, تقيد الجهاد اولا بالاهداف المقدسة ,ثم تؤكد على
تـوحيد صفوف المسلمين , وهي من اهم عوامل الانتصار في الحرب مع الاعدا, يقول عزوجل : (ان
اللّه يـحـب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كانهم بنيان مرصوص ) وعبارة ((في سبيله )) الواردة في
كـثـير من آيات الجهاد يكشف لنا هذه الحقيقة وهي ان الجهاد يجب ان لا يكون من اجل حب التسلط
والاسـتـعـمـاروالاسـتـعـلا وغـصـب حـقـوق الاخـرين واراضيهم او الانتقام منهم او اتباعا
للهوى والرغبات , بل لابد ان يكون الهدف هو الحق والعدالة وما يوجب رضا اللّه تعالى فقط, وتكرار
هـذا الـتـعـبـير في آيات عديدة من القرآن انما هو للحد من وقوع الحروب التي يكون الهدف منها
وسـاوس ورغبات شيطانية ومادية , وهذا الامر هو الفارق الاساسي بين القوى المسلحة الاسلامية
وبين غيرها ثـم ان الـتـعـبـيـر بـجملة بنيان مرصوص (وهو البنا الذي استعمل فيه الرصاص الذائب بدلا من
الاسـمـنـت , لـكـي يـكون صلدا وقويا) يمكن ان يكون اشارة الى ان اعدا الاسلام كالسيل الجارف
المخرب , وان صفوف المجاهدين الاسلاميين كالسد الحديدي المنيع الذي يصمد امام السيول او هو
اشـارة الى السد الحديدي الذي بناه ذو القرنين لمقابلة قوم ((ياجوج وماجوج )) السفاكين للدما, او
كناية عن كل سد يقام في وجه الاعدا وهجومهم .
وعـلـى كـل حـال , فان هذا التعبير يدل على ان الجهاد في الاسلام له جنبة دفاعية في الاصل , لان
السدود وسيلة دفاعية مؤثرة في قبال امثال ((ياجوج وماجوج )) على مر التاريخ , ولا يوجد سد له
جنبة الغزو والهجوم والاعتدا.
وكـمـا ان الـسدود اذا اصابها خلل او ثغرة فانها ستكون معرضة للخطر والتلاشي ,فكذلك صفوف
المجاهدين الرساليين فمتى ما برز فيها اختلاف وفرقة وعدم انسجام , فستكون محكومة بالاندحار
والفشل , فاللّه عزوجل يحب الصفوف المتراصفة المتحدة المتفقة والمنسجمة تماما.
وفـي الايـة الخامسة , يامر نبي الاسلام (ص ) ان يحفز المسلمين على قتال مع الاعدا, وهذا الامر
وارد بـعـد تـلـك الايـات الـتي تحرض على اعداد القوى لاخافة العدو والحد من وقوع الحروب
المدمرة , وكذلك بعد الاية التي تحرضهم على الصلح والسلم .
وفـي الـحقيقة , الحرب في نظر الاسلام آخر وسيلة مشروعة تستعمل للحد من اعتداات الاجانب
الاعـدا, فـفـي الـبـد تعد القوى لترهب الاعدا, ثم دعوتهم الى السلم من موضع القدرة لا من موضع
الـضـعـف , ثـم يصدر امر القتال والجهاد اذا لم تنفع تلك السبل , يقول عزوجل : (يا ايها النبى حرض
الـمـؤمنين على القتال ), ثم يشيرالى اهم عوامل النصر يعني الاستقامة والصمود, ويقول : (ان يكن
منكم عشرون صابرون يغلبوا ماتين وان يكن منكم ماة يغلبوا الفا من الذين كفروا بانهم قوم لايفقهون )
.
فغبا هؤلا وجهلهم يكون من جهة سببا في عنادهم للمنطق والعقل واصرارهم على روح العدوان فلا
يـفـهـمـون الا مـنطق القوة , ومن جهة اخرى يكون جهلهم سببالضعفهم وعدم اقتدراهم في ميدان
الـحـرب , وذلـك لانـهم يفتقدون الهدف والمبررالواقعي في حروبهم , ومن هنا فان بامكان المؤمن
الواحد ان يغلب عشرة منهم اذا مااستقام وصمد, وبامكان العشرين ان يغلبوا ماتين من الكفار.
يقول الراغب في مفرداته : التحريض في الاصل بمعنى التحريك نحو شي بعدتزيينه وتسهيل طريق
الوصول اليه عن طريق ازالة الموانع ـ وفي الحقيقة فان الايمان باللّه والاعتقاد بيوم المعاد والاجر
الـعـظـيـم الـذى اعـده اللّه للمجاهدين والشهدا في سبيل اللّه يزيل كل الموانع عن طريق جنود
الاسلام , ويهون عليهم هذا العمل الصعب جدا والثقيل .
هذه الاية تخطي كل حسابات الموازنة بين القوى الظاهرية والمادية , وتدل بوضوح على ان سلسلة
مـن الـقوى المعنوية موجودة عند المسلمين يمكنهم بالاتكا عليها كسر شوكة جيش العدو المتفوق
صوريا بعدته وعدده عليهم , وكسب المعركة لصالح المسلمين .
الايـة الـسادسة تحرض المؤمنين على الجهاد بطريق آخر, وهي تشبيه الجهادبالتجارة المربحة
الـتـي توجب النجاة من عذاب اليم , والنصر في الدنيا والاخرة , يقول تعالى : (يا ايها الذين آمنوا هل
ادلـكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم ـ تؤمنون باللّه ورسوله وتجاهدون فى سبيل اللّه باموالكم
وانـفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون ),وفي الايات اللاحقة لهذه الايات يعد المؤمنين بئدرجات
عـظيمة , حيث يقول :(يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار ومساكن طيبة فى
جنات عدن ذلك الفوز العظيم ـ واخرى تحبونها نصر من اللّه وفتح قريب وبشر المؤمنين ).
ففي هذه الايات يعتبر راسمال هذه التجارة المربحة في الدنيا والاخرة مركب من الايمان والجهاد,
اي ان ((الـعقيدة )) و ((الجهاد)) هما ركنا هذه التجارة , ذلك الجهادالذي يكون بالمال والنفس معا,
اذ ان اعـداد الـوسـائل والـمعدات العسكرية اللازمة للنصر لا يمكن الا بصرف الاموال , والملفت
لـلـنظر هنا هو انه لم يذكر ان نتيجة الجهاد هي المغفرة والرحمة الالهية والنعم الخالدة في الجنة
فقط, وانما يذكر النصرالقريب في هذه الدنيا ويعتبره اعز من آثاره الاخرى (دققواجيدا).
والـتـعبير بالتجارة , اشارة الى نكتة ان الانسان على اي حال له راسمال , وهذه الدنيا كالمتجر يمكن
اسـتـغـلال رؤوس الاموال , وتشغيلها فيه وتبديلها الى رؤوس اموال خالدة وباقية , وهذا لا يتم الا
بالتعامل مع الوجود المقدس للباري تعالى ,الوجود الذي بيده كل مفاتيح الخير والسعادة , والتجارة مع
هذا الوجود مقترن على الدوام مع الكرامة والمواهب وانواع النعم .
كما ان النكتة الجديرة بالذكر هنا هي ان المخاطب في هذه الايات هم المؤمنون ,مع انها تدعوهم في
نـفـس الـوقـت الـى الايـمـان الابـتـدائية والصورية الى المراحل العالية المقترنة بالجهاد والاعمال الصالحة , وذلك لان الايمان
شـجـرة مـثـمـرة تبدا من شجيرة صغيرة حتى تصير اغصانها عالية الى عنان السما, فتثمر انواع
الفضائل ومكارم الاخلاق ,وهذا يحتاج الى طي مراحل تكاملية مختلفة .
وفـي الايـة الـسـابـعة , نجد نفس مضمون الاية السابقة ولكن في صورة جميلة اخرى , فهي تصور
المعاملة وكان اللّه هو المشتري والمؤمن هو البائع , والمتاع هوالاموال والانفس , والثمن هو الجنة
الـخالدة , واسناد هذه المعاملة العظيمة المربحة ووثائقها, ثلاث كتب سماوية هي التوراة والانجيل
والقرآن , يقول :.
(ان اللّه اشـترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون فى سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون
وعدا عليه حقا فى التوراة والانجيل والقرآن ومن اوفى بعهده من اللّه ).
وهذه التجارة المربحة باركانها الاربعة ووثائقها المضمونة , من اهم التجارات التي يمكن ان يقوم بها
الانـسان في طول عمره ولهذا يبارك عزوجل للمؤمنين بصورة مباشرة هذه المعاملة المربحة حيث
يقول : (واستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ).
نـعـم لـقد كانت هذه الدواعي هي السبب في وصول معنويات المقاتلين المسلمين الى اعلى مستوياتها
الممكنة , فمع قلة عددهم وعدتهم استطاعوا ان يتغلبوا على عدوهم في شرق العالم وغربه .
وفي الاية الثامنة يخاطب المؤمنين مرة اخرى ويامرهم بالصبر والمثابرة والاستعداد لصد هجمات
الاعدا, يقول عزوجل :.
(يا ايها الذين آمنوا اصبروا وصابروا وررابطوا واتقوا اللّه لعلكم تفلحون ).
ففي هذه الاية اربعة اوامر مهمة تضمن عزة المؤمنين وانتصارهم : الاول , الامربالصبر والصمود
امام الاحداث المختلفة وهوى النفس والشهوات , فيقول : اصبرواوهو في الواقع اساس كل انتصار.
ثم يامرهم بعد ذلك بالمصابرة وهي من باب مفاعلة بمعنى الصبر والاستقامة في مقابل صبر واستقامة
العدو, وبتعبير آخر فان مفهومها هو انه مهما كانت المشاكل كثيرة وصعبة فان صبركم واستقامتكم
ايـهـا الـمؤمنون لابد وان يكون اكبر, وكلما زادالعدو من استقامته عليكم ان تزيدوا من استقامتكم
وصمودكم حتى تغلبوا العدو(وصابروا).
وفـي الامر الثالث يامرهم بالمرابطة ويقول : (ورابطوا), وهذه الجملة ماخوذة من مادة ((رباط))
وهي بالاصل بمعنى ربط شي في مكان ما (كربط الفرس في محل معين ) وكناية عن الاستعداد الذي
يـعـتـبـر الاسـتعداد وحماية الثغور من اوضح مصاديقه , اذ ان الجنود يحفظون دوابهم ووسائلهم
ومعداتهم في ذلك المحل .
ولـذا فان بعض المفسرين فسرها بحفظ الخيل والدواب المركوبة في الثغور فقط,والاستعداد في
مـقابل العدو حتى قالوا ان مفهومها الواسع يشمل الاستعداد لصناعة المعدات الحربية الحديثة ـ اعم
من تلك التي يستفاد منها في حروب الجو او الارض او البحر((389)) .
ولا شـك فـي ان هـذا لا يـعـنـي ان الاية الكريمة لا تشمل الحدود الثقافية والعقائدية , فان مفهوم
(رابـطـوا) واسع الى درجة انه يشمل كل استعداد للدفاع مقابل العدو, ولذا شبهت بعض الروايات
الاسـلامية , العلما بحراس الحدود حيث يقف هؤلا صفا بوجه جنود ابليس , ويحولون دون هجومهم
عـلى الاشخاص الفاقدين لقدرة الدفاع عن انفسهم , يقول الامام الصادق (ع ): ((علما شيعتنامرابطون
فـي الـثغر الذي يلي ابليس وعفاريته ويمنعونه عن الخروج على ضعفاشيعتنا وعن ان يسلط عليهم
ابليس ))((390)) .
حـتـى انه ورد في بعض الروايات عن الامام علي (ع ) تفسير جملة ((رابطوا))بانتظار الصلوات
الـواحـدة بـعـد الاخرى((391)) , وهو في الحقيقة كالاستعداد في مقابل جنود الشيطان (تاملوا
جيدا).
وفي الامر الرابع , يامرهم بالتقوى , اشارة الى ان الصبر والاستقامة والمرابطة لابدان تكون جميعا
منسجمة ومعجونة بالتقوى والاخلاص , وان تكون منزهة عن كل ريا وتظاهر.
وفـي الايـة الـتـاسـعـة , يامرهم عزوجل بان يقاتلوا على جبهتين ويغلظوا في القتال ,جبهة الاعدا
الـداخـليين والعناصر المخربة الذين تغلغلوا في صفوف المسلمين والذين يستغلون الفرص لتضعيف
الحكومة الاسلامية وزعزعة الامن الداخلي ,ويامرهم ان يقفوا ايضا بوجه الاعدا في الخارج الذين
اشـارت الايـة الـيهم بعنوان الكفار, يقول تعالى : (يا ايها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم
وماواهم جهنم وبئس المصير).
وبـطـبـيـعة الحال فان الجهاد له معنى واسع , فكما يشمل المواجهة المسلحة يشمل ايضا المواجهة
الـثـقافية والاجتماعية والغلظة في الكلام والكشف عن الهويات والتهديد ايضا, وعليه فما ورد في
الروايات عن الامام الصادق (ع ): ((ان رسول اللّه لم يقاتل منافقا قط))((392)) لا ينافي ما جا في
هذه الاية .
ومـضـافـا الـى ذلـك فان ما جا في الاية الشريفة يعتبر امرا كليا, فان لم يتجاوزالمنافقون الحدود
المعينة لابد من مواجهتهم بالاساليب غير المسلحة فقط, واما اذاكانت مؤامراتهم تشكل خطرا جديا,
لم يكن الا مواجهتهم بالجهاد المسلح وكسرشوكتهم , كما حدث مرارا في زمن الامام علي (ع ).
وبـتـعبير آخر, فانه وان كان رسول اللّه (ص ) قد سلك طريق المداراة واللين مع المنافقين ولكن ,
كـمـا وذكـر ذلك سيد قطب في تفسير الظلال فان اللين له مواضع وللشدة مواضع اخرى , واذا لم
يـتـصرف في كل موضع بما يناسبه , ادى الامر الى تضرر الشريعة والمسلمين , وعليه فلا مانع من
الـمداراة في شرائط معينة , واستعمال الشدة والخشونة وحتى الجهاد المسلح في شرائط وظروف
اخرى((393)) .
وفـي الايـة الـعـاشرة اشارة الى مقام المجاهدين والقوى العسكرية الاسلامية الشامخ , وافضليتهم
وامـتيازهم على الاخرين , يقول : (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون
فـى سـبيل اللّه باموالهم وانفسهم فضل اللّه المجاهدين باموالهم وانفسهم على القاعدين درجة وكلا
وعد اللّه الحسنى وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين اجرا عظيما).
وبـهـذا يـقسم القرآن المجيد المسلمين الى مجموعتين ((المجاهدين )) و((القاعدين )), ثم يقسم
الـقاعدين الى قسمين ((اولي الضرر)) و ((غير اولي الضرر)) الذين يمتنعون عن الاشتراك في
الـقـتال لتخاذلهم ثم يعتبر ان الدرجات العظيمة والفضل الكبير والمغفرة والرحمة الالهية لا تشمل
الا المجاهدين .
ومـن هـنـا يتضح تماما فانه , وخلافا لما هو المعروف اليوم في العالم من ان وظيفة القتال مع الاعدا
مـخـتـصة بمجموعة خاصة من الناس , ان واجب القتال في الاسلام يكون في عهدة كل من يقدر على
حـمـل الـسـلاح وجهاد الاعدا ولهذا لم نعهد في عهد رسول اللّه (ص ) تشكيل جيش خاص بعنوان
الـقـوات المسلحة , وعندما تشتعل الحرب كان كل من يقدر على حمل السلاح وباستلهام من القرآن
الـمـجـيـد يـحـمـل سـلاحه ويتجه نحو ميدان القتال , وبتعبير اليوم , فان لكل فرد من المسلمين
مـكـانـه الـخاص في صف التعبئة العسكرية , وهذا الامر صار سببا في تعاظم القدرة العسكرية عند
المسلمين .