لطفا منتظر باشید ...
جهاز الحسبة والمحتسب في الحكومة الاسلامية :
هـذا الـبـحـث مـرتـبط تماما ببحث الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو في الحقيقة غصن من اغصانه , اذ كما اشرنا فان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر له شقان , شق عام يشمل جميع الناس ,
وشـق خاص تختص به الحكومة الاسلامية ,ففي هذه المرحلة قد يلزم ابدا الخشونة والشدة وهذا
لـيـس مـن شان الناس , بل لابدان يقوم مامور والحكومة المدربون بهذه الوظيفة , وهذا يشكل اساس
((الحسبة ))((269)) .
توضيح ذلك :.
((الـحـسـبـة )) فـي اللغة , اسم مصدر من مادة ((احتساب )), وكما ذكر ارباب اللغة فانه بمعنى
الـتـسليم والصبر حيال المشكلات طلبا للاجر الالهي , وكذلك السعي في ادااعمال الخير لتحصيل
الثواب .
ولما كان هذا الشق من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سعي واجتهاد وجدفي طريق اطاعة اللّه
ومكافحة المنكرات لنيل رضا اللّه , سمي ((حسبة )).
يـقـول في كتاب ((التحقيق )) حول معنى مادة ((حسب )): الاصل في هذا المصطلح بمعنى التحقيق
والبحث والتدقيق بقصد الامتحان .
وهـذا الـتعبير يناسب كثيرا شغل المحتسب الذي يستخبر عن شرائح مختلفة من المجتمع ويبحث
ويحقق ويراقب حركاتهم , فان وجد انحرافا نبههم عليه , فان لم ينفع واجههم بشدة .
وكـانـت دائرة ((الـحـسبة )) من الدوائر المعروفة في زمن الخلفا وتشرف على فعاليات الكسبة
والـتـجـار والـفـلاحـيـن وشرائح المجتمع الاخرى من حيث التخلفات والمنكرات , وكلما راى
المحتسبون مخالفة كانوا ينهون المرتكبين لها, فان لم يؤثرفيهم التنبيه والتذكير والموعظة , كانوا
يعاقبون المخالف في نفس المكان مباشرة , اويقبضون عليه ويسلمونه الى القاضي والحبس .
وبـاعـتقاد البعض , فان جذور هذه المسالة تعود الى عصر النبي (ص ) حيث كان (ص ) يمارس عمل
الـمـحتسب بنفسه الشريفة , وتارة كان يوكل الامر الى شخص ينتخبه لهذا الغرض , ولكن لابد من
الاذعـان الـى ان اسـتعمال هذا المصطلح لم يكن معمولا في ذلك العصر, وحتى في كثير من كلمات
الـفقها المتقدمين لم يكن موجودا, ويبدو ان اول مرة استعمل هذا المصطلح , في عصر خلفا بني امية
وبني العباس , حيث انتخب لهذا الشق من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعـلـى اي حال , فان الاخبار الواصلة عن عصر النبي (ص ) تدل على ان كلمة ((الحسبة )) وان لم
تـكن متداولة في ذلك العصر بمعناها ومفهومها المعهود اليوم ,ولكن مفهومها الواقعي اي النظارة على
المسائل الاجتماعية من قبل الحكومة الاسلامية , كان مراعا تماما حينذاك , فتارة كان الرسول (ص )
يقوم بنفسه بهذه الوظيفة واخرى يوكلها الى آخرين .
ومن جملة الشواهد على ذلك , ما ورد من ان الرسول (ص ) قد امر سعيد بن سعيد بن العاص بعد فتح
مكة بالنظارة على السوق , حيث ورد في الحديث :((استعمل رسول اللّه سعيد بن سعيد بن العاص بعد
الفتح على سوق مكة ))((270)) .
حتى ان المستفاد من بعض الروايات , ان بعض النسا كن يمارسن وظيفة النظارة في المسائل النسائية
(كمسائل الحجاب وامثال ذلك ), ومن جملة تلك النسوة امراة باسم ((سحرا)) بنت نهيك ((271))
الـذي ادرك عـصر النبي (ص ), كانت مامورة بالقيام بتلك الوظيفة , فكانت تدور في الاسواق وتامر
بـالـمـعروف وتنهى عن المنكر (وان ذهب البعض الى انها لم تقم بذلك الدور في عصر النبي (ص )
وانما كان ذلك في زمن عمر بن الخطاب )((272)) .
وفـي كـثـيـر مـن المواضع , كان النبي الاكرم (ص ) يتولى ذلك بنفسه , خاصة في مسائل الاحتكار
والـغـش والتدليس في المعاملة وامثال ذلك , ومن جملة ما ورد في ذلك : ((ان رسول اللّه (ص ) مر
بـالمحتكرين فامر بحكرتهم ان تخرج الى بطون الاسواق وحيث تنظر الابصار اليها))((273))
فاقترح الناس ان تعين اسعارها, فرفض النبي (ص ) ذلك .
وفـي حديث آخر, ان النبي (ص ) مر على رجل خلط طعاما جيدا بردي فقال له النبي (ص ) في ذلك ,
فـقـال الـرجـل : اردت ان ابـيعه جميعا فقال (ص ): ((ميز كل واحدفهما على حدة , ليس في ديننا
غش ))((274)) .
وجا في عهد الامام علي (ع ) الى مالك الاشتر:.
(امـنع من الاحتكار فان رسول اللّه (ص ) منع منه , وليكن البيع بيعا سمعابموازين عدل , واسعار لا
تـجـحـف بـالـفريقين من البائع والمبتاع , فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه , فنكل به وعاقبه في غير
اسراف ))((275)) .
ونـقرا ايضا في احوال الامام علي (ع ) انه كان يتولى بنفسه الامور المرتبطة بالحسبة , فكان احيانا
يمر في سوق القصابين وينهاهم عن المخالفة((276)) .
وكان (ع ) يمر تارة في سوق السماكين وينهاهم عن بيع الاسماك المحرمة((277)) .
ولكن , وبمرور الزمان , اتسعت مسالة ((الحسبة )) واتخذت تدريجيا صورة دائرة مهمة من دوائر
الدولة الاسلامية , فكان المامورين باسم ((المحتسبين )) يدورون في الازقة والاسواق والشوارع
الـكـبـيـرة ليل نهار ويراقبون الامور الاجتماعية , المختلفة ,فيعاقبون المتخلفين في محل ارتكاب
المخالفة احيانا, واحيانا اخرى ياخذونه الى القاضي (كما في ماموري شرطة المرور هذه الايام ).
واتـسـعـت دائرة ((الحسبة )) الى درجة ان ((جرجي زيدان )) المؤرخ المعروف ذكر في كتابه
((تاريخ الحضارة الاسلامية )) يقول :.
يراجع المصدر تاريخ الحضارة الاسلامية جرجي زيدان .
ومن مجموع هذا الكلام والمطالب الاخرى المذكورة في الكتب المصنفة في ((الحسبة )), يظهر ان
((دائرة الـحـسـبـة )) كانت تتولى كثيرا من الامور التي تتولاها اليوم الداوائر الحكومية كامانة
الـعـاصـمة والقوى الداخلية , وقوى التعزيرات والغرامات الحكومية , والتربية والتعليم , والقضاة ,
وانـهـا احـد اركـان الـحـكومة الاسلامية الفعالة ,وخاصة في دورها الواضح والبارز في محاربة
المنكرات , ولذا فان اشعار الشعراتضمنت مصطلح ((المحتسب )) و وظائفه بشكل موسع .
والـمستفاد من مجموعة من المصادر ان القيام بوظيفة ((المحتسب )) كان من الواجبات الكفائية بين
الـمسلمين , اذ كما قلنا فان ((الحسبة )) فرع من فروع الامربالمعروف والنهي عن المنكر, حتى
ان بعض النسا كن ينتخبن لهذه الوظيفة ليشرفن على تحركات النسا الاجتماعية .
ونـقـرا في ((دائرة معارف دهخدا)) (فارسي ) في بحث ((وظائف المحتسب )) يقول :ان وظيفة
الـمـحـتـسـب اولا: النظارة على اجرا المقررات الشرعية والمنع من ارتكاب المحرمات , وثانيا:
الـنـظـارة على صحة جريان الامور المرتبطة بالمصالح العامة للمجتمع ورفاههم وحياتهم , وكذلك
الـحـد من سد الطرقات العامة والازقة من قبل بعض المتخلفين والباعة والاشراف على الوزن , وما
هـو الـيوم في عهدة ((البلديات ))وهذه الوظائف كان في الاصل في عهدة القاضي , ولكنهم جعلوها
شغلا مستقلا لكي لا يبتلي القاضي بها))((278)) .
ويـذكـر في نفس الكتاب وظائف المحتسب نقلا عن كتاب ((معالم القربة )) والذي قد يكون اجمع
كـتاب كتب في احكام الحسبة , حيث يذكر ما يظهر منه ان شغل المحتسب يشمل النظارة على انواع
الكسب والتجارات وموارد الانتاج والخدمات والتربية والتعليم .
ومـن جـمـلـة الـموارد نظارتهم على امور المنكرات في الازقة والاسواق ومراقبة صحة الوزن
والـمـكـيـال وامـور الافـران والـمـخابز, والامور الصحية والمسالخ والتدقيق فى صحة الذبح
وشـرائطـه , والحمامات العامة , والاطبا والمعلمين والمؤذنين وخدمة المساجد والوعاظ والكتاب ,
وكـذا الـنـظـارة على اشغال التجارة , والملاحين ,والمعمارين والبنائين , والسماسرة والصرافين
والصاغة وامثالهم((279)) .
وفـيـمـا يـرتبط بالفرق بين مسالة ((الحسبة )) ومسالة ((الامر بالمعروف والنهي عن المنكر))
ذكرت بعض الكتب مثل ((الاحكام السلطانية )) فروقا كثيرة بينهما بلغت تسعة فوارق((280)) .
ويـمـكن في الواقع تلخيص تلك الفروق في جملة واحدة وهي ان ((الحسبة )) هي الشق الحكومي
لـلامـر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي يمكن التوسل به في موارد اللزوم , وعليه فالمحتسب
يـعين من قبل الحكومة , وله اعوان وانصار,وظيفتهم الاشراف والنظارة على المسائل الاجتماعية
الـمذكورة , وهؤلا يستلمون مرتباتهم الشهرية من صندوق بيت المال , ويلقون القبض على المتخلفين
ويـعـزروهـم ويـعـاقـبـونـهـم على النحو الذي مر, واما الشق العام للامر بالمعروف والنهي عن
المنكر,فلا يكون بهذا النحو.
