الركن الثاني :السلطة التنفيذية
الـقـوانـين بشكل مجرد, عبارة عن كلمات مدونة على الورق , ولا تظهر قيمتهاالحقيقية الا بعد ان تصل الى مرحلة التطبيق العملي , وهي بالضبط تشبه وصفة الطبيب , التي مهما كانت دقيقة وصحيحة
في تشخيصها للدا والدوا, لن يكون لهاادنى تاثير يذكر على حالة المريض الا بعد ان يعمل بها, اذ ان
تـشـخيص المرض ,والقيام بجميع التحليلات وبدقة , والمعرفة الصحيحة بكمية ونوعية الادوية
كلهاعلى حدة , والتطبيق العملي لها على حدة ـ بل ان الركن الاساسي يتمثل بالجوانب العملية .
ان اي قـانـون مـهـمـا كـان مـثـاليا وقيما, لن يكون له ادنى تاير ملموس مالم نتحرك نحو تطبيقه ,
ف((السلطة التنفيذية )) هي التي تحفظ ما وجه السلطة التشريعية .
وبالرغم من ان هذه المسالة تعد من الواضحات , الا ان القرآن الكريم له اشارات غنية المعنى بشانها
ومن ذلك :.
1 ـ عـندما بلغ النبي موسى (ع ) بالرسالة في جانب الطور في الوادي الايمن ,واخذ الامر بالتصدي
لفرعون وانقاذ بني اسرائيل والدعوة الى التوحيد والحق والعدالة , طلب من اللّه تعالى ان يعينه على
تنفيذ ذلك وقال :.
(واجعل لى وزيرا((106)) من اهلى هارون اخى اشدد به ازرى واشركه فى امرى )((107)) .
2 ـ ونـطـالـع فـي قـصـة ((بني اسرائيل )) و ((طالوت )): عندما انتفض بنو اسرائيل من ظلم
((جالوت )), ذلك الرجل الذي اخرجهم من ديارهم واسر ابنائهم , فخططوا لقتاله وخوض الحرب
ضده , ولتطبيق هذه الخطة , لابد من قائد خبير وجدير, ومدبر من جميع الجوانب , ومن اجل اختيار
مـثـل هـذا الـرجـل , قـصدوا نبي زمانهم ((اشموئيل ))وقالوا له : (اجعل لنا ملكا نقاتل فى سبيل
اللّه )((108)) .
فـاوحـى له اللّه تعالى بان يختار طالوت , ذلك الشاب المؤمن الواعي والشجاع ,وقال : ((ان اللّه قد
بعث لكم طالوت ملكا)) (البقرة ـ 247).
3 ـ ونـقـرا في قصة النبي يوسف (ع ) كذلك : عندما تنبا بسنين عجاف من الناحية الاقتصادية لاهل
مـصر, ووضع لهم برنامجا حكيما لتجاوز هذه السنين الصعبة ,اختار سلطان مصر النبي يوسف (ع )
لتنفيذ ذلك البرنامج والاشراف عليه , وتم ذلك الاختيار باقتراح من النبي يوسف (ع ), اذ يقول القرآن
الكريم بهذا الشان : (قال اجعلنى على خزائن الارض انى حفيظ عليم )((109)) .
وتمكن النبي يوسف (ع ) بما يمتلكه من القدرة الجيدة والادارة الرشيدة , ان يعبرببلاد مصر من تلك
السنين العجاف ويحافظ عليها.
4 ـ مـما لا شك فيه ان الارض شهدت قيام حكومة النبي سليمان (ع ) والتي تعدمن اكبر الحكومات
التي قامت على وجه البسيطة , ولغرض دفع عجلة تطورالمجتمع البشري الى الامام , ونشر العدالة
فيه , لجا النبي سليمان (ع ) الى الاستفادة القصوى من جميع الوسائل والسبل الممكنة , وبدرجة عالية
مـن الحنكة الادارية والضبط العالي , وبعبارة اخرى , فقد سخر اللّه تعالى له كل الامكانيات اللازمة
لـتـحقيق تلك الاهداف , وتمكن هو ايضا ومن خلال الاستفادة من هذه الوسائل , ان يحقق اهدافا هامة
وسامية .
ويشير القرآن الكريم في سورة النمل المباركة في شرح قصة حكومة داود وابنه سليمان (ع ), الى
العلم الواسع والجم الذي يتمتعان به (ع ) اذ يقول :.
(ولـقـد آتـينا داود وسليمان علما) ثم يضيف قائلا: (وورث سليمان داود وقال يا ايهاالناس علمنا
منطق الطير واعطينا من كل شي )((110)) .
ويتحدث القرآن الكريم في سورة سبا المباركة عن الاب وابنه (ع ) اذ يقول :.
(ولـقـد آتـينا داود منا فضلا يا جبال اوبى معه والطير والنا له الحديد ان اعمل سابغات وقدر فى
السرد واعملوا صالحا انى بما تعملون بصير ـ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحهاشهر وارسلنا
له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه ومن يزغ منهم عن امرنانذقه من عذاب السعير
ـ يـعـمـلون له ما يشا من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدورراسيات اعملوا آل داود شكرا
وقليل من عبادى الشكور)((111)) .
ان القوة الادارية التي كان يتمتع بها سليمان (ع ) وشدة انضباطه في الامورالتنفيذية وادارة البلاد,
كـانـت الـى درجة انه عندما قضى فيها نحبه وهو متكي على عصاه (ولهذا السبب مات واقفا), كان
عـماله يؤدون واجباتهم بمنتهى الدقة , حتى اكلت دابة الارض منساته وسقط على الارض , كما جا
ذلك في القرآن الكريم :.
(فـلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته الا دابة الارض تاكل منساته فلما خر تبينت الجن ان لو
كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين )((112)) .
وكـل هذه الامور تحكي عن مدى الادارة المحكمة والقوية السليمان (ع ) وشدة التزامه وانضباطه
في العمل .
وكـمـا يـلاحـظ فـي عالم الخلقة من ان المكلفين من قبل اللّه تعالى بتنظيم وادارة العالم في مختلف
المجالات والمشار اليهم في القرآن الكريم بعبارة (والمدبرات امرا)((113)) ووردت الكثير من
الاشـارات الاخـرى ايـضـا بشان اعمال الملائكة في هذاالمجال , ففي عالم البشرية ايضا لا يمكن
اشاعة النظام وتنفيذ القوانين بدون جهازتنفيذي قوي ومنظم ومعتبر يتم فيه تقسيم الاعمال وتوزيع
المسؤوليات .
ويـتـضـح هذا الامر بشكل جلي في كتاب الامام علي (ع ) لمالك الاشتر(رض )الذي يضم النموذج
الكامل للنظام التنفيذي من حيث كيفية ادارة الدولة .
وبعد ان يشير الامام علي (ع ) في هذا الكتاب الى مسالة المستشارين ينتقل للاشارة الى واجبات مالك
الاشـتر(رض ) باعتباره حاكم بلاد مصر, اذ يامره (ع )ويقول : ((اختر وزراك من الافراد ذوي
السيرة الحسنة والاذكيا)).
ومن ثم ينتقل الى ذكر الامور والجوانب الادارية والتنفيذية المختلفة للدولة ,فيشير في البداية الى
مـسالة القوة الدفاعية والجيش الاسلامي المقتدر, ومن ثم يشيرالى الموظفين والعمال الحكوميين ,
وبـعـد ذلـك يـشـير الى القضات , ثم ينتقل الى التجار والامور التجارية والصناعية والاقتصادية ,
واخيرا يتناول المسائل المتعلقة بالمحتاجين , والمعوزين في المجتمع , ويتطرق الى شرح وواجبات
ومـسـؤولـيـة كـل مـنـهـم في هذا المجال من خلال شرح مستفيض ودقيق , ويذكر في ذلك ادق
الامورواظرفها.
ان هـذا العهد الذي يعد في الواقع مستخلصا من آيات القرآن الكريم والروايات النبوية الشريفة , تم
تنظيمه بالشكل الذي لم تتمكن فيه القرون الاربعة عشر ان تغطيه بغبارها وتجعل منه عهدا تقادمت
عـلـيـه الـسـنـون فـعاد قديما فحسب , بل ان عظمته وبريقه اصبح اكثر بها بمرور الزمان عليه ,
ونـمـوذجا بارزا من التخطيطالاسلامي في مجال الاصول التي ينبغي ان تسير الادارة الاسلامية ,
والنظام التنفيذي في الحكومة الاسلامية .