تفسير واستنتاج :.
تـدعـو الايـة الاولـى الـمؤمنين في كل العالم الى الصلح والسلام والاستقرار, وتعتبرالحرب من
مؤامرات ومخططات الشيطان , يقول تعالى :.
(يا ايها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدومبين ).
فمن جهة تخاطب الاية المؤمنين , وهذا يدل على ان السلام والصلح لا يتحقق الا في ظل الايمان .
ومـن جـهـة اخرى , فان الاعتماد على مصطلح ((كافة )) يدل على عدم وجود اي استثنا في قانون
الصلح , وان الحرب امر مخالف لتعاليم الاسلام والقرآن , ولا يمكن تصورها الا بشكل مفروض .
ومـن جـهـة ثالثة , فان التعبير ((بخطوات الشيطان )) اشارة لطيفة الى اسباب الحرب تنشا بشكل
تـدريجي وان شياطين الجن والانس يسوقون الناس خطوة وخطوة نحوبحر النار هذا, وكما ورد
فـي الـمـثـل المعروف ((بدو القتال اللطام )) اي صفعة , ولذاينبغي اخماد نار الحرب في خطواتها
الاولى .
ومن جهة رابعة , يستفاد من الاية ان كل عمل يؤدي الى عرقلة عملية السلام والصلح , انما هو عمل
شـيـطـانـي , ولـم لا يـكون كذلك والحال ان الحرب نار محرقة تاكل كل القوى والطاقات المادية
والمعنوية البشرية وغير البشرية وتحيلها الى رماد,وخاصة في مثل عصرنا الحاضر والذي تكون
الـحروب فيه افضع واكثر تخريباوخسارة من الحروب السابقة , وطبقا لحساب الاحصائيات فان
جـبـران الـخـسـائرالناجمة من بعض الحروب تستغرق احيانا قرنا من الزمن , وهذا بالنسبة الى
الخسائرالاقتصادية فقط, اما الخسائر البشرية فهي غير قابلة للتعويض والجبران ابدا.
وقـد يـكون ذلك هو السبب في ان الملائكة اعتبروا ان من اهم العيوب في الانسان هو اراقته للدما
والـحروب المدمرة , وذلك عندما قال تعالى : (انى جاعل فى الارض خليفة ) فكان جواب الملائكة :
(قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدما)((407)) .
فيتضح انه لا عيب اقبح من هذا العيب .
ومـا يـنـبغي التامل فيه هنا هو ان ارباب اللغة صرحوا بان ((السلم )) و ((السلم )) كلاهمابمعنى
((الـصـلح )) وقد اخذا من مادة ((السلامة )) وان احد اسما اللّه تعالى هو ((السلام )),وذلك لان
ذاتـه الـمنزهة هي مصدر الصلح والاستقرار والسلامة , وطبقا لما ورد في ((التحقيق )) فان مادة
((سـلـم )) فـي الاصل ما يقابل ((الخصومة )) ولازمها الخلاص من الافاق والبلايا والوصول الى
السلامة والعافية , وانما سمي الاسلام اسلاما لانه منشاالصلح والسلامة في الدنيا والاخرة , والسلم
هو الالة التي يصل بها الانسان سالما الى النقاط العالية ثم يعود كذلك .
والعجيب ان بعض المفسرين الكبار فسروا ((السلم )) في هذه الاية بتفسيرات لاتتناسب مع ظاهر
الاية .
وفي الاية الثانية , اشارة الى جماعة من الذين يحاربون المسلمين , يقول عزوجل :(وان جنحوا للسلم
فاجنح لها وتوكل على اللّه انه هو السميع العليم ).
والـمـهـم هـنا هو ان هذه الاية في سورة الانفال وردت بعد آية شريفة تامرالمسلمين بالاستعداد
الدائم وتهيئة كل انواع القوى لاخافة الاعدا.
اي ان الـهدف الاصلي ليس هو الحرب , بل من اجل تقوية دعائم الصلح ايضا, اذلو لم يكن المسلمون
مستعدين تماما, لسيطرت الروح الاستعمارية والتسلط على تفكير العدو.
والـنكتة المهمة الاخرى هنا هي استخدام لفظ ((جنحوا)) الماخوذة من مادة جناح بمعنى الخضوع
والرغبة والتحرك نحو الشي , ومفهومها الترغيب في قبول حتى المحادثات الاولية للصلح .
والتعبير ب((توكل على اللّه )) قد يكون اشارة الى ان بعض المسلمين اخذ يروج ان رغبة العدو في
الصلح انما هي خدعة منهم , ولذا خالفوا ذلك , او على الاقل دبت فيهم بعض الوساوس .
فـالـقـرآن يخاطب الرسول الكريم ويامره بعدم الاخذ برا هؤلا ووساوسهم اذا مارغب العدو في
الصلح , وانما عليه ان يتوكل على اللّه ويجنح للسلم مع رعاية موازين الاحتياط اللازم .
فـهـذه الايـة من الايات التي توصي الحكومات الاسلامية باتخاذ الرغبة في الصلح اصلا اساسيا في
سـيـاسـاتها, وما قاله البعض من ان هذه الاية نسخت بيات الجهاد((408)) لا اساس له , اذ لا دليل
عليه , حيث لا تنافي بين آيات الجهاد وهذه الاية ,فلا ضرورة للقول بالنسخ .
وفـي الاية الثالثة اشارة الى مجموعة من الكفار من انصار الحرب , حيث تقول :(فان اعتزلوكم فلم
يقاتلوكم و القوا اليكم السلم فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلا).
وتعبير (فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلا) تاكيد كامل على قبول دعوة الصلح التي تقدم بها العدو, ذلك
الصلح العادل الحقيقي لا الصلح الكاذب الذليل .
وذكـر فـي شـان نـزول هذه الاية , انها تحكي عن طائفة ((الاشجع )) حيث جا جمع منهم بزعامة
مسعود بن رجيله الى مقربة من المدينة , فارسل الرسول (ص ) ممثلين عنه اليهم للتعرف على نواياهم
من هذا السفر, فقالوا:.
جـئنـا للتعاقد مع محمد على ترك المخاصمة (وان نكون على حياد في نزاعكم مع الاخرين ) فامر
رسول اللّه (ص ) ان ياخذوا اليهم مقدارا من التمر بعنوان الهدية ,ووقع على عقد ترك التعرض معهم
.
ومـن البديهي ان مفهوم الاية قانون كلي عام وخالد, وان كان شان نزولها مورداخاصا, لاننا نعلم بان
شان النزول لا يحدد مفهوم الايات العام .
وفـي الايـة الـرابـعـة , حـديـث عن الحروب المحتملة في داخل الدولة الاسلامية بين الاجنحة
الـمـتخاصمة , اي طوائف من المؤمنين , ففي الاية امر اكيد على اقرار الصلح بينها, فان انسدت كل
الطرق الا قتال الفئة الباغية لتحقيق الصلح والسلام , كان ذلك واجبا على المؤمنين , يقول تعالى :.
(وان طـائفـتـان مـن المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما) ثم يضيف (فان بغت احداهماعلى الاخرى
فـقـاتـلـوا الـتى تبغى حتى تفئ الى امر اللّه ), وفي الختام يعود الى مسالة الصلح ويقول :(فان فائت
فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان اللّه يحب المقسطين ).
فـالـمـستفاد من صدر الاية هو ان ترك الخصام واقرار الصلح داخل الدول الاسلامية اصل اساسي
ايضا, ولذا فان الشارع جوز القتال باعتباره آخر الحلول المتصورة لتحقيق هذا الهدف ويـسـتفاد من ذيل الاية ان الصلح لابد ان يكون عادلا ومن موقع القوة , لا ان يكون جائرا ومن موقع
الضعف والاستسلام , اذ ان مثل هذا الصلح الاخير يكون دائمامتزلزلا وغير ثابت ويربي في داخله
نطفة الحرب .
والـنكتة المهمة هنا هو انه ورد التعبير في الاية ب((العدل )) احيانا, واخرى بتعبير((القسط)),
وعـلـى راي الـراغب الاصفهاني فالعدل لفظ يحمل مفهوم المساواة , و((القسط)) يعني ((النصيب
العادل )) (غاية الامر, اذا جا هذا المصطلح بصيغة الثلاثي المجرد فانه يعني اخذ نصيب الاخرين ,
وعـلـيـه فانها تعطي مفهوم الظلم , وتارة تستعمل على وزن افعال ـ اقساط ـ ومفهومها اعطا نصيب
وسهم الاخرين , وحينئذيحمل معنى العدالة ).
وطـبـقـا لهذا البيان , وتعبيرات اخرى للراغب , فان كلمة ((القسط)) و ((العدل )) واحدمن حيث
الـمـعنى والمفهوم , ولكن يمكن ان يكون بينهما فارق وهو ان مصطلح ((القسط)) و ((الاقساط))
يـستعمل في الموارد التي يشترك فيها جماعة اذا اعطي لكل واحد منهم نصيبه الكامل فذلك القسط,
والا فهو ((الجور)).
واما ((العدالة )) التي يقابلها ((الظلم )) فان لها مفهوما اوسع من ذلك فهي تستعمل في موارد الشركة
وفـي غـير موارد الشركة , وعليه , فان كان مال حقا مسلما لشخص ما,واعطي ذلك الحق فتلك هي
العدالة وان اخذ ذلك الحق منه فهو ((الظلم ))((409)) .
والاية الخامسة ناظرة الى الخلافات الشخصية الخاصة , فتامر باقرار الصلح بين الرجل والمراة اذا
برزت الخلافات العائلية بينهم , يقول تعالى : (وان امراة خافت من بعلها نشوزا او اعراضا فلا جناح
عليهما ان يصلحا بينهما صلحا, والصلح خير).
وعلى الرغم من ان مورد الاية هو الصلح في الخلافات العائلية , ولكن مفهوم العبارة واسع جدا يشمل
كل صلح وصفا بين شخصين او مجموعتين او شعبين ودولتين (تاملوا جيدا).
والملفت للنظر هو ان الصلح الوارد في هذه الايات المتعاقبة ورد في ثلاث صورهي :.
الصلح بين المسلمين واعدائهم الذين يرغبون في الصلح .
والصلح بين المجاميع المتخاصمة من المسلمين انفسهم .
والصلح بين فردين متنازعين .
ان الـصـلـح الـعادل الشريف مطلوب بكل اشكاله , وان الاسلام يدافع عن مثل هذاالصلح , ومسئولية
الحكومة الاسلامية هي تقوية اسس الصلح في هذه المراحل الثلاثة ايضا.
والايـة الـسادسة التي لا تشير الى مسالة الصلح بشكل مباشر ولكنها تحمل رسالة بينة بشكل غير
مـباشر في هذا المجال , اذ انها تقول في ذم بعض المنافقين (ان له ظاهرا خادعا) وعندما يخرج من
عندك : (واذا تولى سعى فى الارض ليفسد ويهلك الحرث والنسل واللّه لا يحب الفساد).
وفـي الايـة الـلاحـقـة في نفس هذه السورة يهدد امثال هؤلا الاشخاص بالعذاب الالهي الاليم ومن
الـطـبـيـعـي , فـان الحروب لا تثمر الا الفساد في الارض وهلاك الحرث والنسل والاموال سوا
الـمزارع وحقول تربية الحيوانات وغير ذلك , ولذا فانها منفورة في نظر الاسلام , ومالم يكن هناك
موجب ومسوغ مشروع للحرب , ينبغي الانتهاعنها, وبعبارة اخرى الصلح اصل والحرب استثنا.
النتيجة :.
مـن مـجـموع ما جا في الايات اعلاه , يستفاد ان اساس الحكومة الاسلامية قائم على الصلح والصفا والـصداقة , وقد اعتبر القرآن الكريم ذلك اصلا ثابتا في كل الاحوال سوا في مورد الاعدا,او في
مـورد الاصـدقـا والاحـبة , وحتى في داخل العائلة الواحدة وآحاد الناس , واذا لم يكن هناك مبرر
وموجب لفرض الحرب , فلايرجح القرآن الحرب ابدا.
ولكن هذا لا يعني ان يفقد المسلمون استعدادهم العسكري فيرغب الاعدا في الهجوم عليهم , كما انه
لا يعني ان يقبل المسلمون الصلح غير العادل ومن موقع الضعف , اذ ان هذين الامرين من عوامل الحر
لا الصلح العادل الثابت .
وكـذلـك الروايات الاسلامية فانها تؤكد على ضرورة السعي والجد في اقرار السلام والصلح في
المجتمعات البشرية , حتى ورد في الحديث :.
((اجـر الـمصلح بين الناس كالمجاهد في سبيل اللّه )), اي لا تتصوروا ان كل ذلك الثواب العظيم
المذكور ((للمجاهدين في سبيل اللّه )) لا يشمل ((المصلحين )), بل ان الساعين الى اقرار السلام
حالهم حال المجاهدين المترصدين للعدو في المتاريس ,وورد في حديث آخر عن امير المؤمنين (ع )
قال :.
((من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور))((410)) .
ويمكن ان يكون لهذا الحديث مفهوم اوسع يشمل كل صلاح اجتماعي , ولكنه بلا شك يدل على الصلح
في قبال الحرب .
وجا في عهده (ع ) لمالك الاشتر الذي يعتبر افضل مصدر للابحاث المرتبطة بالحكومة الاسلامية ,
حول اقرار الصلح :.
((ولا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوك وللّه فيه رضى فان في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك
وامنا لبلادك )).
فـالامـام (ع ) يـبـيـن هنا فلسفة الصلح في ثلاث ثمرات : الامن للناس , وفرصة لتجديد القوى عند
العسكر, وراحة لفكر رئيس الدولة .
والـنكتة المهمة هنا هي ان الامام (ع ) لا يعتبر كل صلح مفيد بل ذلك الصلح الذي فيه رضى للّه تعالى
اي ذلك الصلح الذي يكون سببا في عزة المسلمين ونشر العدل ,ولكنه يحذر مالكا من العدو بعد عقد
الصلح ويقول :.
((ولـكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فان العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم واتهم في
ذلك حسن الظن ))((411)) .