هل يمتلك الرسول (ص ) والمعصومون حق التشريع ؟
ان مـسـالـة الـولايـة على التشريع , او بتعبير ابسط, حق التشريع بالنسبة للرسول (ص ) والائمة الـمـعـصـومـيـن (ع ) من المسائل المعقدة جدا, اذ تناولت الاحاديث الاسلامية هذه المسالة مرارا
وتكرارا.
فـهـل يمتلك الرسول الاكرم (ص ) الحق في ان يضع مايراه من المصلحة على شكل قانون المسلمين
حتى مع عدم نزول الوحي الالهي بشان تلك المسالة ؟.
لاشك في ان هذا الامر ليس محالا بشرط ان يمنحه اللّه تعالى مثل هذا الحق (اي حق التشريع ), و
مفاد الكلام هنا هل وقع مثل هذا الامر, وهل تشهد الادلة النقلية على ذلك ام لا؟.
لـدينا الكثير من الروايات (وبعضها صحيحة السند والبعض الاخر ضعيفة ) اذتقول : ان اللّه تبارك
وتـعـالـى قـد ((فـوض الامر)) الى الرسول الاكرم (ص ) والاوصيا من بعده (والمراد من مسالة
((تفويض الامر)) هنا حق التشريع ).
وقـد جـمع المرحوم الكليني الروايات المتعلقة بموضوع ((التفويض )) في الجزالاول من اصول
الـكافي , وصنفها في باب واحد, اذ ينقل في هذا الباب عشرة احاديث في هذا المجال , ومن جملة هذه
الاحـاديـث نـقرا في حديث عن الامام الباقر والامام الصادق (ع ) انما قالا: ((ان اللّه تبارك وتعالى
فوض الى نبيه امر خلقه لينظر كيف طاعتهم , ثم تلى هذه الاية , وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا)((77)) .
ونقرا في حديث آخر عن الامام الصادق (ع ):.
(ان اللّه عزوجل ادب نبيه على محبته فقال : وانك لعلى خلق عظيم , ثم فوض اليه فقال عزوجل : وما
آتـاكـم الـرسـول فـخـذوه ومـا نـهـاكم عنه فانتهوا, وقال عزوجل :من يطع الرسول فقد اطاع
اللّه )((78)) فـاذا الـقـرائن الموجودة في العبارات الواردة في هذا الحديث توضح بشكل جلي ما
المراد من التفويض .
وقـد جـا فـي بعض هذه الروايات انه بعد هذا التفويض الالهي , مارس الرسول (ص ) امر التشريع
وشـرع بـعـض الـقـوانين , منها: ان اللّه تبارك وتعالى جعل الصلاة ركعتين واضاف الرسول (ص )
ركعتين اخريين عليهما (في صلوات الظهروالعصر والعشا), وركعة واحدة في المغرب , وتشريع
الرسول (ص ) هذا ملازم للفريضة الالهية والعمل به واجب , كما اضاف (ص ) على ذلك (34 ركعة
اخـرى (اي ضـعف الفرائض ) بعنوان صلاة النوافل , واوجب اللّه تعالى صيام شهر رمضان المبارك ,
وقال الرسول (ص ) باستحباب صيام شهر شعبان وثلاثة ايام من كل شهر((79)) .
ويـلاحـظ فـي احاديث اخرى واردة في امر تفويض التشريع الى الرسول (ص ),نماذج اخرى من
تشريعات الرسول (ص )((80)) .
وفيما يتعلق بالمراد من ((تفويض الامر)) هناك عدة احتمالات بخصوص هذه المسالة , منها:.
1 ـ تفويض امر التشريع للرسول (ص ) كليا.
2 ـ تـشـريع جزئي في الموارد المحدودة , وفيها ان الرسول (ص ) قام بتشريع بعض الاحكام قبل
نزول الاحكام الالهية او بعدها, وامضاها اللّه تعالى .
3 ـ تفويض امر الحكومة والتدبير والسياسة وتربية النفوس والمحافظة على النظام .
4 ـ تـفـويض امر العطا والمنع (فيعطي من بيت المال لمن يرى فيه الصلاح ,ويمنع من لا يرى فيه
الصلاح ).
5 ـ الـتفويض في بيان حقائق اسرار الاحكام , اي يبين للناس كل ما يرى فيه المصلحة من الاسرار
والاحكام , ولا يفصح عن مالا يرى فيه المصلحة .
والـمعنى الثاني هو المستفاد من مجموع الروايات الواردة في باب التفويض , وهوان الرسول (ص )
قـام بالتشريع في موارد محدودة باذن اللّه تعالى (ولعلها لم تتجاوزحدود العشرة موارد), وان اللّه
تـعالى قد امضى هذا الامر, وبعبارة اخرى , ان اللّه تبارك وتعالى قد اعطاه هذه الصلاحية في قيامه
بالتشريع في بعض الموارد, ومن ثم امضاها اللّه تعالى .
ويستفاد ايضا من هذه الروايات وبشكل جيد, ان اللّه تبارك وتعالى , قد اعطاه هذا المقام لعدة اسباب :.
اولا: لكي يبين عظمة مقامه ومنزلته وبان تشريعاته من سنخ تشريعات اللّه تعالى .
والثاني : لكي يمتحن الناس ويرى مدى تسليمهم لاوامر النبي (ص ).
والثالث : ان اللّه تعالى قد ايده بروح القدس , واطلعه من خلال ذلك على اسرارالاحكام الالهية .
ومن خلال ماذكرنا, اعلاه تتضح لنا عدة امور:.
1 ـ يستفاد من مجموع روايات التفويض , ان اللّه تبارك وتعالى اعطى رسول الاسلام (ص ) الولاية
على التشريع اجمالا, لكي يمتحن طاعة الخلق من جهة ,ولتعظيم المقام الرفيع للرسول (ص ) وبيان
منزلته عند اللّه تعالى من جهة اخرى .
2 ـ ان هذا التفويض لا يتمتع بصفة الكلية والشمول , بل بتحقق في مواردمحدودة ومعدودة , ولهذا
الـسـبب كان الرسول (ص ) ينتظر نزول الوحي في الامورالمهمة التي كان المسلمون يسالونه فيها
غـالبا, وهذا دليل على عدم شمول التفويض , والا لمادعت الضر الى ان ينتظر الرسول (ص ) نزول
الوحي , بل كان بمقدوره ان يشرع اي قانون يراه (فتامل ).
3 ـ هـذا المقام الرفيع اعطي له (ص ) باذن اللّه تعالى , واضافة لذلك فان بعض القوانين التي شرعها
الـرسـول (ص ), امـضاها اللّه سبحانه واقرها وبنا على ذلك فلادليل على تعدد الشارع والمشرع
اطلاقا, بل ان تشريع النبي (ص ) يعد ايضا فرعا من تشريع اللّه تعالى .
4 ـ هذا المقام الرفيع والسامي تحقق للنبي (ص ) بعد النبوة و بعد ان صار مؤيدابروح القدس , وكان
مـعـصـوما, ولم يطرا على فعله اي خطا او زلل , وبنا على ذلك فالذين لا يتمتعون بهذه الشروط لن
تتحقق لهم مثل هذه المنزلة الرفيعة .
5 ـ بـالرغم من ان الائمة المعصومين (ع ) كانوا مؤيدين بروح القدس , ولم يصدرعنهم اي خطا او
انحراف اطلاقا, الا انهم لم يصدروا تشريعا جديدا, لانه بعد اكمال الدين واتمام النعمة الالهية , فان
جـمـيـع الاحـكـام التي تحتاجها الامة الى يوم القيامة وطبقا للروايات الكثيرة التي قد تصل الى حد
الـتـواتـر, قـد تـم تـشـريـعها ولم يبق مجال لاي تشريع جديد, وبنا على ذلك فان واجب الائمة
الـمـعصومية (ع ) اقتصر على توضيح وتبيين الاحكام التي وصلت اليهم عن الرسول الاكرم (ص )
سوا بدون واسطة او بالواسطة .
سؤال :.
مـن الـمـمـكن ان يقال انه يستفاد من بعض الروايات , ان امير المومنين علي0 ع )فرض الزكاة على
الخيل فكان ذلك تشريعا جديدا.
والـروايـة هـكـذا: ان الامـامين الباقر والصادق (ع ) قالا: (وضع امير المؤمنين على الخيل العتاق
الراعية في كل فرس في كل عام دينارين وعلى البراذين دينارا).
وجا ايضا في رواية علي بن مهزيار ان الامام الجواد(ع ) عندما جا الى بغدادفي عام 220 ه, فرض
خـمـسـا آخـر غـيـر الـخمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الاموال , ولمرة واحدة
فقط((81)) .
وكلا الحديثين معتبران من حيث السند, وبنا على ذلك لابد من القول ان الائمة المعصومين (ع ) كانوا
يمتلكون حق التشريع ايضا.
الجواب :.
ان الاحكام الكلية في التشريع تختلف مع الاحكام التنفيذية للحاكم , فالاحكام الكلية هي نفس القوانين
الـثـابـتـة والـمـستمرة التي تبقى قائمة في كل عصر وزمان ومكان الى يوم القيامة , الا ان الاحكام
الـصادرة عن الحاكم الشرعي هي التي تصدربسبب الامور الضرورية وامثالها وبشكل مؤقت (مثل
حـكم تحريم التنباكو الذي صدر في فترة محددة لغرض محاربة الاستعمار الاقتصادي الانكليزي
من قبل مرجع كبير ثم رفع بعد انتها الخطر).
يستفاد من القرائن الواردة في رواية الامام الجواد(ع ) وبشكل واضح , انه (ع ) لماجا الى بغداد كان
الـشيعة يعانون الفاقة والضنك , وقد اقر الامام تعدد الخمس في تلك السنة لغرض حل هذه المشكلة
بـشكل خاص , والواقع انه (ع ) طبق احكام العناوين الثانوية والضرورة على احدى مصاديقها, بدون
ان يمثل ذلك تشريعاجديدا.
ويمكن ان يكون حكم الزكاة الوارد في رواية الامام امير المؤمنين (ع ) من هذاالنوع ايضا, ولذا فان
هـذا الحكم محدود بذلك الزمان فقط, ولم ينظر اليه الفقهاكتشريع عام ولم يصدروا فتاواهم طبقا
لتلك الفتوى (فتامل ).
6 ـ مـمـا ورد فـي الـبند الخامس يتضح لنا ان غير الائمة المعصومين (ع ) لا يملكون حق تشريع
الـقـوانـين الكلية الالهية بطريق اولى , لانه باختتام النبوة وارتحال النبي (ص ) واكمال الدين واتمام
الـنـعـمـة , لـم يبق مجال لتشريع الاخرين من جهة , وان جميع الاحكام الالهية الكلية التي يحتاجها
الانسان الى يوم القيامة تم تبيينها طبقاللكثير من الروايات الواردة بذلك الشان , ومن جهة اخرى فان
غـيـرهـم مـن الـنـاس لـيسوا معصومين وغير مؤيدين بروح القدس لكي يثبت لهم مثل هذا الحق ,
خاصة وقد اعتبرت الروايات السابقة هذا المعنى شرطا للحاكمية على التشريع .
7 ـ لا بـد مـن الالتفات الى ان البعض من روايات التفويض , لم تنظر الى مسالة تشريع الاحكام , بل
تناولت تسليمهم امر الحكومة والولاية , او تسليمهم بيت المال .
8 ـ تـعـتقد طائفة من علما السنة بتفويض تشريع الاحكام الى الفقها في مالانص فيه , وتوضيح ذلك :
يقسم علما السنة المسائل الى قسمين : مافيه نص (في القرآن والسنة ) ومالا نص فيه .
وفـيـمـا يتعلق بالقسم الاول يعتقدون جميعا بوجوب العمل بالاوامر والنصوص ,وفي القسم الثاني
يعتقد الكثير منهم بوجوب الذهاب الى القياس اولا, بمعنى قياس تلك المسالة التي لم يرد فيها نص مع
المسائل التي ورد فيها حكم معين , والافتابحكم شبيه بذلك الحكم لتلك المسالة , وبغير ذلك فان علما
الـديـن مكلفون بدراسة مصلحة ومفسدة ذلك الامر, ثم وضع حكم مناسب حسب ما هو افضل واقوى
برايهم , ويجب على اتباعهم القبول بذلك الحكم , والعمل به كحكم الهي .
وهذا ما يصطلحون عليه احيانا ب((الاجتهاد)) (طبعا الاجتهاد بمعناه الخاص ,وليس الاجتهاد بمعنى
استنباط الاحكام من الادلة الشرعية ), واحيانا يصطلحون عليه بكلمة ((التصويب )), ويقولون ان ما
يـضـعـه الفقيه في هذه الموارد على شكل قانون يحظى بتصويب اللّه تعال احكاما متعددة ومختلفة ,فانها جميعا تحظى بالقبول بعنوان حكم الهي وبهذا الشكل فانهم يعطون للفقها حق في التشريع في الموارد التي لم يرد بشانهانص او دليل خاص .
الا ان فقها الشيعة السائرون على مذهب اهل البيت (ع ) يخالفون لهذا الكلام جملة وتفصيلا ويقولون :
ان جميع الاحكام التي يحتاجها الانسان الى يوم القيامة وردت في الشريعة الاسلامية ولم يبق شي لم
يذكر له حكم لكي يقوم احد بتشريع قانون ما ولكن البعض من هذه الاحكام وردت بشكل صريح في
الـقـرآن الـكـريـم اوالسنة النبوية الشريفة , او سنة الائمة المعصومين (ع ), والبعض منها ورد
بـشـكـل الـقـواعـد الـكـلـيـة والاصـول الـعـامـة , او بـعـبـارة اخـرى ان في ((العمومات ))
و((الاطـلاقـات ))هناك ادلة اولية وثانوية , بحيث ان لكل موضوع من المواضيع , هناك حكم ثابت
له ,سوا كان هذا الحكم حكما واقعيا تارة او حكما ظاهريا تارة اخرى .
وبـنـا عـلـى ذلـك لا وجـود لـشـي باسم الاجتهاد (بالمعنى الخاص ) او القياس , اومالا نص فيه ,
فمسؤولية الفقها تقتصر على تطبيق الاحكام الكلية على مصاديقهافقط.
ويـتـضـح لـنا مما تقدم ذكره ان ((التشريع )) في المجالس التشريعية لايعني في عرف مذهب اهل
البيت (ع ) وضع احكام جديدة بشان المسائل التي يواجهها الانسان ,بل المراد به تطبيق الاصول على
الفروع او تشخيص الموضوعات المختلفة بمعنى التشريع الموضوعي .
وخـلاصة القول , ان مجالس التشريع في مذهب الشيعة , ليست بمعنى وضع الاحكام الكلية ازا احكام
الاسلام , او بدل مالا نص فيه , والمسالة هي من قبيل تطبيق الاحكام , او التشريع الموضوعي , ولهذا
الـسـبب وضع ((مجلس صيانة الدستور)) الى جانب المجلس التشريعي , لكي يشرف عليه جمع من
الفقهاويتاكدوا من ان القوانين الموضوعة غير مخالفة لاحكام الاسلام .
وحـتى مجلس ((تشخيص المصلحة )) الذي اقر مؤخرا في الدستور, هو الاخربمعنى تشخيص
الموضوع ايضا, وليس جعل القانون .
وبـعـبـارة اوضح , ان احدى العناوين الثانوية هو عنوان الاهم والمهم , يعني متى ماتعارضت مسالتان
شرعيتان مع بعضهما, كما هو الحال مثلا في المحافظة على اموال الناس وعدم التصرف بها الا باذن
صـاحـبـها مع مسالة الحاجة الملحة لفتح شارع في المدينة او طريق في الصحرا, فمن جهة تعتبر
مسالة المحافظة على النظام في المجتمع الاسلامي واجبة , ولا يمكن ان يتحقق ذلك الا بشق الطرق
الـضـروريـة , ومـن جـهـة اخـرى فان المحافظة على اموال الناس امر واجب , ففي هذه الحالات
يـجـب تـقـديـم الاهم على المهم , وان تمنح الاجازة بفتح هذه الطرق , مع دفع الاضراروالخسائر
الناجمة عن ذلك الى مالكي تلك الاراضي .
وكذلك الحال فيما يتعلق بمسالة وضع الاسعار على المواد المختلفة , فالقانون الاسلامي اساسا, يقول
بـحـريـة الاسعار والتسعيرة , ولكن في الحالات التي تصبح فيهاهذه الحرية سببا لاستغلال بعض
الـمـجـامـيع الانتهازية والجشعة , ويضعون المجتمع بالتالي في وضع حرج بحيث تتوقف معها مسالة
الـمـحـافـظـة على النظام الاقتصادي في المجتمع على تحديد الاسعار, فمما لاشك فيه ان مسالة
الـمـحـافـظـة على النظام مرجحة , ومن الممكن هنا القيام باصدار قانون لتحديد الاسعار, وتكليف
الحكومة الاسلامية بتنفيذه .
وعـلـى مجلس تشخيص المصلحة في هذه الموارد, اختيار الاهم من خلال دراسته الدقيقة للامر,
لـكـي تقوم الحكومة الاسلامية بتنفيذ القانون , بالضبط كما هومعروف من ان المحافظة على النفس
واجـبـة واكـل الـلحم الحرام ممنوع , ولكن في موارد خاصة عندما ينحصر فيه حفظ النفس على
الاستفادة من اللحم الحرام فقط,نسمح بذلك ونعتبره امرا مجازا, وذلك لان اهمية حفظ النسل اكبر
واهم من ذلك .
وبـنـا عـلى هذا المفهوم فان (مجلس تشخيص المصلحة ) يختلف كثيرا عن الاجتهاد والاستحسان
والـمصالح المرسلة الشائعة بين علما السنة , اذ يدور الامرهنا بين تعارض وتضاد حكمين , فتصبح
مـسـالـة تـشـخيص المصلحة هي الاهم , في حين ان الذي يحصل هناك بعارة عن وضع حكم معين
لموضوع يعتقد بعدم وجودحكم معين له (فتامل ).
ومن مجموع ما ذكرنا اعلاه نستنتج ان المجلس التشريعي يعد احد اركان الحكومة الاسلامية , ذلك
انـه فـي كل زمان ومكان وفي كل مرحلة معينة تبرزمجموعة من المتطلبات والمسائل المستحدثة
الـتـي تـستوجب تحديد القانون الخاص بها بشكل دقيق , ولكن التشريع هنا معنى التخطيط وتطبيق
الاصول على الفروع , واستخراج الفروع من القوانين الكلية وتشخيص المواضيع بشكل دقيق .