الشرح:
المرتاد: الطالب.و الضغث من الحشيش: القبضه منه، قال الله تعالى: (و خذ بيدك ضغثا).يقول (ع): ان المذاهب الباطله و الاراء الفاسده التى يفتتن الناس بها، اصلها اتباع الاهواء، و ابتداع الاحكام التى لم تعرف يخالف فيها الكتاب، و تحمل العصبيه و الهوى على تولى اقوام قالوا بها، على غير وثيقه من الدين.و مستند وقوع هذه الشبهات امتزاج الحق بالباطل فى النظر الذى هو الطريق الى استعلام المجهولات، فلو ان النظر تخلص مقدماته و ترتب قضاياه من قضايا باطله، لكان الواقع عنه هو العلم المحض، و انقطع عنه السن المخالفين، و كذلك لو كان النظر تخلص مقدماته من قضايا صحيحه، بان كان كله مبنيا على الفساد، لظهر فساده لطلبه الحق، و انما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقه بالقضايا الكاذبه.مثال ذلك احتجاج من اجاز الرويه بان البارى ء تعالى ذات موجوده، و كل موجود يصح ان يرى، فاحدى المقدمتين حق، و الاخرى باطل، فالتبس امر النتيجه على كثير من الناس.و مثال ما يكون المقدمتان جميعا باطلتين، قول قوم من الباطنيه: البارى ء لا موجود و لا معدوم، و كل ما لايكون موجودا و لا معدوما يصح ان يكون حيا قادرا، فالبارى ء تعالى يصح ان يكون حيا قادرا، فهاتان المقدمتان جميعا باطلتان.لاجرم ان هذه المقاله مرغوب عنها عند العقلاء! و مثال ما تكون مقدماته حقا كلها: العالم متغير، و كل متغير ممكن، فالعالم ممكن، فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء.فان قيل: فما معنى قوله (ع): (فهنالك يستولى الشيطان على اوليائه، و ينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)، اليس هذا اشعارا بقول المجبره و تلويحا به؟.قيل: لااشعار فى ذلك بالجبر، و مراده (ع) انه اذا امتزج فى النظر الحق بالباطل، و تركبت المقدمات من قضايا صحيحه و فاسده، تمكن الشيطان من الاضلال و الاغواء، و وسوس الى المكلف، و خيل له النتيجه الباطله، و اماله اليها، و زينها عنده، بخلاف ما اذا كانت المقدمات حقا كلها، فانه لايقدر الشيطان على ان يخيل له ما يخالف العقل الصريح، و لايكون له مجال فى تزيين الباطل عنده، الا ترى ان الاوليات لا سبيل للانسان الى جحدها و انكارها، لا بتخييل الشيطان و لا بغير ذلك! و معنى قوله: (على اوليائه)، اى على من عنده استعداد للجهل، و تمرن على اتباع الهوى، و زهد فى تحقيق الامور العقليه على وجهها، تقليدا للاسلاف، و محبه لاتباع المذهب المالوف، فذاك هو الذى يستولى عليه الشيطان و يضله، و ينجو الذين سبقت
لهم من الله الحسنى، و هم الذين يتبعون محض العقل، و لايركنون الى التقليد، و يسلكون مسلك التحقيق، و ينظرون النظر الدقيق، يجتهدون فى البحث عن مقدمات انظارهم، و ليس فى هذا الكلام تصريح بالجبر، و لا اشعار به على وجه من الوجوه، و هذا واضح.و حمل الراوندى قوله (ع): (فلو ان الباطل خلص) الى آخره، على ان المراد به نفى القياس فى الشرع، قال: لان القائسين يحملون المسكوت عنه على المنطوق، فيمتزج المجهول بالمعلوم، فيلتبس و يظن لامتزاج بعضه ببعض حقا، و هذا غير مستقيم، لان لفظ الخطبه ان الحق يمتزج بالباطل، و اصحاب القياس لايسلمون ان استخراج العله من الحكم المعلوم باطل، بل يقولون انه حق، و ان الدليل الدال على ورود العباره بالقياس، قد امنهم من كونه باطلا.و اعلم ان هذا الكلام الذى قاله (ع) حق اذا تاملته، و ان لم تفسره على ما قدمناه من التفسير، فان الذين ضلوا من مقلده اليهود و النصارى و ارباب المقالات الفاسده من اهل المله الاسلاميه و غيرها، انما ضل اكثرهم بتقليد الاسلاف، و من يحسن الظن فيه من الروساء و ارباب المذاهب، و انما قلدهم الاتباع، لما شاهدوا من اصلاح ظواهرهم، و رفضهم الدنيا و زهدهم فيها، و اقبالهم على العباده، و تمسكهم با
لدين، و امرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر، و شدتهم فى ذات الله، و جهادهم فى سبيله، و قوتهم فى مذاهبهم، و صلابتهم فى عقائدهم، فاعتقد الاتباع و الخلف و القرون التى جاءت بعدهم ان هولاء يجب اتباعهم، و تحرم مخالفتهم، و ان الحق معهم، و ان مخالفهم مبتدع ضال، فقلدوهم فى جميع ما نقل اليهم عنهم، و وقع الضلال و الغلط بذلك، لان الباطل استتر و انغمر بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا، او الحكم الظاهر، و لو لاه لما تروج الباطل، و لاكان له قبول اصلا.