حکمت 036
الشرح:
اشتدوا بين يديه: اسرعوا شيئا، فنهاهم عن ذلك و قال: انكم تشقون به على انفسكم لما فيه من تعب الابدان.و تشقون به فى آخرتكم: تخضعون للولاه، كما زعمتم انه خلق و عاده لكم، خضوعا تطلبون به الدنيا و المنافع العاجله فيها، و كل خضوع و تذلل لغير الله فهو معصيه.ثم ذكر ان الخسران المبين مشقه عاجله يتبعها عقاب الاخره و الربح البين دعه عاجله يتبعها الامان من النار.حکمت 037
الشرح:
هذا الفصل يتضمن ذكر العقل و الحمق، و العجب و حسن الخلق، و البخل و الفجور، و الكذب، و قد تقدم كلامنا فى هذه الخصال اجمع، و قد اخذت قوله (ع): (اياك و مصادقه الاحمق فانه يريد ان ينفعك فيضرك) فقلت فى ابيات لى: حياتك لاتصحبن الجهول فلا خير فى صحبه الاخرق يظن اخو الجهل ان الضلا ل عين الرشاد فلا يتقى و يكسب صاحبه حمقه فيسرق منه و لايسرق و اقسم ان العدو اللبي ب خير من المشفق الاحمقحکمت 038
الشرح:
هذا الكلام يمكن ان يحمل على حقيقته، و يمكن ان يحمل على مجازه، فان حمل على حقيقته فقد ذهب الى هذا المذهب كثير من الفقهاء، و هو مذهب الاماميه، و هو انه لايصح التنفل ممن عليه قضاء فريضه فاتته لا فى الصلاه و لا فى غيرها، فاما الحج فمتفق عليه بين المسلمين انه لايصح الابتداء بنفله، و اذا نوى نيه النفل، و لم يكن قد حج حجه الاسلام وقع حجه فرضا، فاما نوافل الزكاه فما عرفت احدا قال: انه لايثاب المتصدق بها، و ان كان لم يود الزكاه الواجبه.و اما اذا حمل على مجازه، فان معناه يجب الابتداء بالاهم و تقديمه على ما ليس باهم، فتدخل هذه الكلمه فى الاداب السلطانيه و الاخوانيه، نحو ان تقول لمن توصيه: لاتبدا بخدمه حاجب الملك قبل ان تبدا بخدمه ولد الملك، فانك انما تروم القربه للملك بالخدمه، و لا قربه اليه فى تاخير خدمه ولده و تقديم خدمه غلامه، و حمل الكلمه على حقيقتها اولى، لان اهتمام اميرالمومنين (ع) بالامور الدينيه و الشرعيه فى وصاياه و منثور كلامه اعظم.حکمت 039
قال الرضى رحمه الله تعالى: و هذا من المعانى العجيبه الشريفه، و المراد به ان العاقل لايطلق لسانه الا بعد مشاوره الرويه، و موامره الفكره، و الاحمق تسبق حذفات لسانه، و فلتات كلامه، مراجعه فكره، و مماخضه رايه، فكان لسان العاقل تابع لقلبه، و كان قلب الاحمق تابع للسانه.قال: و قد روى عنه (ع) هذا المعنى بلفظ آخر، و هو قوله: (قلب الاحمق فى فيه، و لسان العاقل فى قلبه) و معناهما واحد.الشرح:
قد تقدم القول فى العقل و الحمق، و نذكر هاهنا زيادات اخرى.(اقوال و حكايات حول الحمقى) قالوا كل شى ء يعز اذا قل، و العقل كلما كان اكثر كان اعز و اغلى.و كان عبدالملك يقول: انا للعاقل المدبر ارجى منى للاحمق المقبل.قيل لبعضهم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رايته مجتمعا فى احد فاصفه، و ما لايوجد كاملا فلا حد له.و قال الزهرى: اذا انكرت عقلك فاقدحه بعاقل.و قيل: عظمت المئونه فى عاقل متجاهل، و جاهل متعاقل.و قيل: الاحمق يتحفظ من كل شى ء الا من نفسه.و قيل لبعضهم: العقل افضل ام الجد؟ فقال العقل من الجد.و خطب رجلان الى ديماووس الحكيم ابنته، و كان احدهما فقيرا و الاخر غنيا، فزوجها من الفقير، فساله الاسكندر عن ذلك، فقال: لان الغنى كان احمق، فكنت اخاف عليه الفقر، و الفقير كان عاقلا، فرجوت له الغنى.و قال ارسطو: العاقل يوافق العاقل، و الاحمق لايوافق العاقل، و لااحمق كالعود المستقيم الذى ينطبق على المستقيم، فاما المعوج فانه لاينطبق على المعوج و لا على المستقيم.و قال بعضهم: لان ازاول احمق احب الى من ان ازاول نصف احمق- اعنى الجاهل المتعاقل.و اعلم ان اخبار الحمقى و نوادرهم كثيره، الا انا نذكر منها هاهنا ما يليق بكتابنا، فانه كتاب نزهناه عن الخلاعه و الفحش اجلالا لمنصب اميرالمومنين.قال هشام بن عبدالملك يوما لاصحابه: ان حمق الرجل يعرف بخصال اربع: طول لحيته، و بشاعه كنيته، و نقش خاتمه، و افراط نهمته.فدخل عليه شيخ طويل العثنون، فقال هشام: اما هذا فقد جاء بواحده، فانظروا اين هو من الباقى، قالوا له: ما كنيه الشيخ؟ قال: ابوالياقوت، فسالوه عن نقش خاتمه، فاذا هو: (و جائوا على قميصه بدم كذب) فقيل له: اى الطعام تشتهى؟ قال: الدباء بالزيت، فقال هشام: ان صاحبكم قد كمل.و سمع عمر بن عبدالعزيز رجلا ينادى آخر: يا اباالعمرين، فقال: لو كان له عقل لكفاه احدهما.و ارسل ابن لعجل بن لجيم فرسا له فى حلبه، فجاء سابقا، فقيل له: سمه باسم يعرف به، فقام ففق
ا عينه و قال: قد سميته الاعور، فقال شاعر يهجوه: رمتنى بنو عجل بداء ابيهم و اى عباد الله انوك من عجل! اليس ابوهم عار عين جواده فاضحت به الامثال تضرب بالجهل و قال ابوكعب القاص فى قصصه: ان النبى (ص) قال فى كبد حمزه ما علمتم، فادعوا الله ان يطعمنا من كبد حمزه!.و قال مره فى قصصه: اسم الذئب الذى اكل يوسف كذا و كذا، فقيل له: ان يوسف لم ياكله الذئب؟ فقال: فهذا اسم الذئب الذى لم ياكل يوسف.و دخل كعب البقر الهاشمى على محمد بن عبدالله بن طاهر يعزيه فى اخيه، فقال له: اعظم الله مصيبه الامير! فقال الامير: اما فيك فقد فعل، و الله لقد هممت ان احلق لحيتك، فقال: انما هى لحيه الله و لحيه الامير فليفعل ما احب.و كان عامر بن كريز ابوعبدالله بن عامر، من حمقى قريش، نظر الى عبدالله و هو يخطب و الناس يستحسنون كلامه، فقال لانسان الى جانبه: انا اخرجته من هذا- و اشار الى متاعه.و من حمقى قريش العاص بن هشام المخزومى، و كان ابولهب قامره فقمره ماله ثم داره، ثم قليله و كثيره و اهله و نفسه، فاتخذه عبدا، و اسلمه قينا، فلما كان يوم بدر بعث به بديلا عن نفسه، فقتل ببدر، قتله عمر بن الخطاب، و كان ابن عم امه.و من الحمقى الاحوص بن جعفر ب
ن عمرو بن حريث، قال له يوما مجالسوه: ما بال وجهك اصفر! اتشتكى شيئا؟ فرجع الى اهله، و قال: يا بنى الخيبه، انا شاك و لاتعلموننى! اطرحوا على الثياب و ابعثوا الى الطبيب.و من حمقى بنى عجل حسان بن الغضبان من اهل الكوفه، ورث نصف دار ابيه، فقال: اريد ان ابيع حصتى من الدار، و اشترى بالثمن النصف الباقى، فتصير الدار كلها لى.و من حمقى قريش بكار بن عبدالملك بن مروان، و كان ابوه ينهاه ان يجالس خالد ابن يزيد بن معاويه لما يعرف من حمقه، فجلس يوما الى خالد، فقال خالد يعبث به: هذا و الله المردد فى بنى عبدمناف، فقال بكار: اجل، انا و الله كما قال الاول: مردد فى بنى اللخناء ترديدا.و طار لبكار هذا بازى، فقال لصاحب الشرطه: اغلق ابواب دمشق لئلا يخرج البازى.و من حمقى قريش معاويه بن مروان بن الحكم، بينا هو واقف بباب دمشق ينتظر اخاه عبدالملك على باب طحان و حمار الطحان، يدور بالرحا و فى عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت فى عنق هذا الحمار جلجلا؟ فقال: ربما ادركتنى نعسه او سامه، فاذا لم اسمع صوت الجلجل علمت انه قد نام، فصحت به، فقال: ارايته ان قام و حرك راسه، ما علمك به انه قائم؟ فقال: و من لحمارى بمثل عقل الامير!.و قال معاويه لحميه و
قد دخل بابنته تلك الليله فافتضها: لقد ملاتنا ابنتك البارحه دما، فقال: انها من نسوه يخبان ذلك لازواجهن.و من حمقى قريش سليمان بن يزيد بن عبدالملك، قال يوما: لعن الله الوليد اخى! فلقد كان فاجرا، ارادنى على الفاحشه، فقال له قائل من اهله، اسكت ويحك، فو الله ان كان هم لقد فعل!.و خطب سعيد بن العاص عائشه ابنه عثمان، فقالت: هو احمق، لااتزوجه ابدا، له برذونان لونهما واحد عند الناس، و يحمل مونه اثنين.و ممن كان يحمق من قريش عتبه بن ابى سفيان بن حرب و عبدالله بن معاويه بن ابى سفيان و عبدالله بن قيس بن مخرمه بن المطلب و سهل بن عمرو اخو سهيل بن عمرو بن العاص و كان عبدالملك بن مروان يقول: احمق بيت فى قريش آل قيس ابن مخرمه.و من القبائل المشهوره بالحمق الازد، كتب مسلمه بن عبدالملك الى يزيد بن المهلب لما خرج عليهم: انك لست بصاحب هذا الامر، ان صاحبه مغمور موتور، و انت مشهور غير موتور.فقام اليه رجل من الازد، فقال: قدم ابنك مخلدا حتى يقتل فتصير موتورا.و قام رجل من الازد الى عبيدالله بن زياد فقال: اصلح الله الامير! ان امراتى هلكت، و قد اردت ان اتزوج امها، و هذا عريفى فاعنى فى الصداق، فقال: فى كم انت من العطائ؟ فقال فى سبعمائه
، فقال: حطوا من عطائه اربعمائه، يكفيك ثلاثمائه.و مدح رجل منهم المهلب فقال: نعم امير الرفقه المهلب ابيض وضاح كتيس الحلب فقال المهلب: حسبك يرحمك الله!.و كان عبدالملك بن هلال عنده زنبيل مملوء حصا للتسبيح، فكان يسبح بواحده واحده، فاذا مل طرح اثنتين اثنتين، ثم ثلاثا ثلاثا، فاذا ازداد ملاله قبض قبضه و قال: سبحان الله عددك! فاذا ضجر اخذ بعرا الزنبيل و قلبه، و قال: سبحان الله بعدد هذا.و دخل قوم منزل الخريمى لبعض الامر، فجاء وقت صلاه الظهر، فسالوه عن القبله، فقال: انما تركتها منذ شهر.و حكى بعضهم: قال: رايت اعرابيا يبكى، فسالته عن سبب بكائه، فقال: بلغنى ان جالوت قتل مظلوما.وصف بعضهم احمق، فقال: يسمع غير ما يقال، و يحفظ غير ما يسمع، و يكتب غير ما يحفظ، و يحدث بغير ما يكتب.قال المامون لثمامه: ما جهد البلاء يا ابامعن؟ قال: عالم يجرى عليه حكم جاهل.قال: من اين قلت هذا؟ قال: حبسنى الرشيد عند مسرور الكبير، فضيق على انفاسى، فسمعته يوما يقرا: (ويل يومئذ للمكذبين) بفتح الذال، فقلت له: لاتقل ايها الامير هكذا، قل: (للمكذبين)، و كسرت له الذال، لان المكذبين هم الانبياء، فقال: قد كان يقال لى عنك: انك قدرى، فلا نجوت ان نجو
ت الليله منى! فعاينت منه تلك الليله الموت من شده ما عذبنى.قال اعرابى لابنه: يا بنى كن سبعا خالصا، او ذئبا حائسا، او كلبا حارسا، و لاتكن احمق ناقصا.و كان يقال: لولا ظلمه الخطا ما اشرق نور الصواب.و قال ابوسعيد السيرافى: رايت متكلما ببغداد بلغ به نقصه فى العربيه انه قال فى مجلس مشهور: ان العبد (مضطر) بفتح الطاء، و الله (مضطر) بكسرها، و زعم ان من قال: (الله مضطر عبد الى كذا)، بالفتح كافر، فانظر اين بلغ به جهله، و الى اى رذيله اداه نقصه!.وصف بعضهم انسانا احمق، فقال: و الله للحكمه ازل عن قلبه من المداد عن الاديم الدهين.مر عمر بن الخطاب على رماه غرض، فسمع بعضهم يقول: اخطيت و اسبت، فقال له: مه، فان سوء اللحن شر من سوء الرمايه.تضجر عمر بن عبدالعزيز من كلام رجل بين يديه، فقال له صاحب شرطته: قم فقد اوذيت اميرالمومنين! فقال عمر: و الله انك لاشد اذى لى بكلامك هذا منه.و من حمقى العرب و جهلائهم كلاب بن صعصعه، خرج اخوته يشترون خيلا، فخرج معهم، فجاء بعجل يقوده، فقيل له: ما هذا؟ فقال: فرس اشتريته، قالوا: يا مائق، هذه بقره، اما ترى قرنيها! فرجع الى منزله فقطع قرنيها، ثم قادها، فقال لهم: قد اعدتها فرسا كما تريدون، فاولاد
ه يدعون بنى فارس البقره.و كان شذره بن الزبرقان بن بدر من الحمقى، جاء يوم الجمعه الى المسجد الجامع فاخذ بعضادتى الباب، ثم رفع صوته: سلام عليكم، ايلج شذره؟ فقيل له: هذا يوم لايستاذن فيه، فقال: او يلج مثلى على قوم و لم يعرف له مكانه.و استعمل معاويه عاملا من كلب، فخطب يوما، فذكر المجوس، فقال: لعنهم الله! ينكحون امهاتهم، و الله لو اعطيت عشره آلاف درهم ما نكحت امى، فبلغ ذلك معاويه، فقال: قبحه الله! اترونه لو زادوه فعل! و عزله.و شرد بعير لهبنقه- و اسمه يزيد بن شروان- فجعل ينادى: لمن اتى به بعيران، فقيل له: كيف تبذل ويلك بعيرين فى بعير! فقال لحلاوه الوجدان.و سرق من اعرابى حمار، فقيل له: اسرق حمارك؟ قال: نعم، و احمد الله، فقيل له: على ماذا تحمده؟ قال: كيف! لم اكن عليه.و خطب وكيع بن ابى سود بخراسان، فقال: ان الله خلق السموات و الارض فى سته اشهر، فقيل له: انها سته ايام، فقال: و الله لقد قلتها و انا استقلها!.و اجريت خيل فطلع فيها فرس سابق، فجعل رجل من النظاره يكبر و يثبت من الفرح، فقال له رجل الى جانبه: يا فتى، اهذا الفرس السابق لك؟ قال: لا و لكن اللجام لى.و قيل لابى السفاح الاعرابى عند موته: اوص، فقال: انا الكرا
م يوم طخفه، قالوا: قل خيرا يا اباالسفاح، قال: ان احبت امراتى فاعطوها بعيرا، قالوا: قل خيرا، قال: اذا مات غلامى فهو حر.و قيل لرجل عند موته: قل لا اله الا الله، فاعرض، فاعادوا عليه مرارا، فقال لهم: اخبرونى عن ابى طالب، قالها عند موته؟ قالوا: و ما انت و ابوطالب! فقال: ارغب بنفسى عن ذلك الشريف.و قيل لاخر عند موته: الا توصى؟ فقال: انا مغفور لى، قالوا: قل: ان شاء الله، قال: قد شاء الله ذلك، قالوا: يا هذا لاتدع الوصيه، فقال: لابنى اخيه، يابنى حريث، ارفعا وسادى، و احتفظا بالحله الجياد، فانما حولكما الاعادى.و قيل: لمعلم ابن معلم: ما لك احمق؟ فقال: لو لم اكن احمق، لكنت ولد زنا.
حکمت 040
قال الرضى رحمه الله تعالى: و اقول: صدق (ع)، ان المرض لااجر فيه، لانه من قبيل ما يستحق عليه العوض، لان العوض يستحق على ما كان فى مقابله فعل الله تعالى بالعبد من الالام و الامراض و ما يجرى مجرى ذلك، و الاجر و الثواب يستحقان على ما كان فى مقابل فعل العبد، فبينهما فرق قد بينه (ع) كما يقتضيه علمه الثاقب و رايه الصائب.الشرح:
ينبغى ان يحمل كلام اميرالمومنين (ع) فى هذا الفصل على تاويل يطابق ما تدل عليه العقول و الا يحمل على ظاهره، و ذلك لان المرض اذا استحق عليه الانسان العوض لم يجز ان يقال: ان العوض يحط السيئات بنفسه، لا على قول اصحابنا، و لا على قول الاماميه، اما الاماميه فانهم مرجئه، لايذهبون الى التحابط، و اما اصحابنا فانهم لاتحابط عندهم الا فى الثواب و العقاب، فاما العقاب و العوض فلا تحابط بينهما، لان التحابط بين الثواب و العقاب، انما كان باعتبار التنافى بينهما من حيث كان احدهما يتضمن الاجلال و الاعظام، و الاخر يتضمن الاستخفاف و الاهانه، و محال ان يكون الانسان الواحد مهانا معظما فى حال واحده، و لما كان العوض لايتضمن اجلالا و اعظاما، و انما هو نفع خالص فقط، لم يكن منافيا للعقاب، و جاز ان يجتمع للانسان الواحد فى الوقت الواحد كونه مستحقا للعقاب و العوض، اما بان يوفر العوض عليه فى دار الدنيا، و اما بان يوصل اليه فى الاخره قبل عقابه، ان لم يمنع الاجماع من ذلك فى حق الكافر، و اما ان يخفف عليه بعض عقابه، و يجعل ذلك بدلا من العوض الذى كان سبيله ان يوصل اليه، و اذا ثبت ذلك وجب ان يجعل كلام اميرالمومنين (ع) على تاويل صحيح، و هو الذى اراده (ع)، لانه كان اعرف الناس بهذه المعانى، و منه تعلم المتكلمون علم الكلام، و هو ان المرض و الالم يحط الله تعالى عن الانسان المبتلى به ما يستحقه من العقاب على معاصيه السالفه تفضلا منه سبحانه، فلما كان اسقاط العقاب متعقبا للمرض، و واقعا بعده بلا فصل، جاز ان يطلق اللفظ بان المرض يحط السيئات و يحتها حت الورق، كما جاز ان يطلق اللفظ بان الجماع يحبل المراه، و بان سقى البذر الماء ينبته، ان كان الولد و الزرع عند المتكلمين وقعا من الله تعالى على سبيل الاختيار، لا على الايجاب، و لكنه اجرى العاده، و ان يفعل ذلك عقيب الجماع و عقيب سقى البذر الماء.فان قلت: ايجوز ان يقال: ان الله تعالى يمرض الانسان المستحق للعقاب، و يكون انما امرضه ليسقط عنه العقاب لا غير؟ قلت: لا، لانه قادر على ان يسقط عن
ه العقاب ابتداء، و لايجوز انزال الالم الا حيث لايمكن اقتناص العوض المجزى به اليه الا بطريق الالم، و الا كان فعل الالم عبثا، الا ترى انه لايجوز ان يستحق زيد على عمرو الف درهم فيضربه و يقول: انما اضربه لاجعل ما يناله من الم الضرب مسقطا لما استحقه من الدراهم عليه؟ و تذمه العقلاء و يسفهونه، و يقولون له فهلا وهبتها له، و اسقطتها عنه من غير حاجه الى ان تضربه و تولمه! و البحث المستقصى فى هذه المسائل مذكور فى كتبى الكلاميه، فليرجع اليها.و ايضا فان الالام قد تنزل بالانبياء و ليسوا ذوى ذنوب و معاص ليقال: انها تحطها عنهم.فاما قوله (ع): (و انما الاجر فى القول.) الى آخر الفصل، فانه (ع) قسم اسباب الثواب اقساما، فقال: لما كان المرض لايقتضى الثواب لانه ليس فعل المكلف- و انما يستحق المكلف الثواب على ما كان من فعله- وجب ان يبين ما الذى يستحق به المكلف الثواب، و الذى يستحق المكلف به ذلك ان يفعل فعلا اما من افعال الجوارح، و اما من افعال القلوب، فافعال الجوارح اما قول باللسان او عمل ببعض الجوارح و عبر عن سائر الجوارح- عدا اللسان- بالايدى و الاقدام، لان اكثر ما يفعل بها، و ان كان قد يفعل بغيرها نحو مجامعه الرجل زوجته اذا قصد به
تحصينها و تحصينه عن الزنا، و نحو ان ينحى حجرا ثقيلا براسه عن صدر انسان قد يقتله، و غير ذلك، و اما افعال القلوب فهى العزوم و الارادات و النظر و العلوم و الظنون و الندم، فعبر (ع) عن جميع ذلك بقوله: (بصدق النيه و السريره الصالحه)، و اكتفى بذلك عن تعديد هذه الاجناس.فان قلت: فان الانسان قد يستحق الثواب على الا يفعل القبيح، و هذا يخرم الحصر الذى حصره اميرالمومنين؟ قلت: يجوز ان يكون يذهب مذهب ابى على فى ان القادر بقدره لايخلو عن الاخذ و الترك.
حکمت 041
الشرح:
(خباب بن الارت) هو خباب بن الارت بن جندله بن سعد بن خزيمه بن كعب بن سعد بن زيد مناه ابن تميم، يكنى اباعبدالله- و قيل: ابامحمد و قيل: ابايحيى- اصابه سبى فبيع بمكه.و كانت امه ختانه، و خباب من فقراء المسلمين و خيارهم، و كان به مرض، و كان فى الجاهليه قينا حدادا يعمل السيوف، و هو قديم الاسلام، قيل انه كان سادس سته، و شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد، و هو معدود فى المعذبين فى الله، ساله عمر بن الخطاب ايام خلافته: ما لقيت من اهل مكه؟ فقال: انظر الى ظهرى، فنظر فقال: ما رايت كاليوم ظهر رجل! فقال خباب: اوقدوا لى نارا و سحبت عليها، فما اطفاها الا ودك ظهرى.و جاء خباب الى عمر، فجعل يقول: ادنه، ادنه، ثم قال له: ما احد احق بهذا المجلس منك، الا ان يكون عمار بن ياسر.نزل خباب الى الكوفه، و مات بها فى سنه سبع و ثلاثين، و قيل: سنه تسع و ثلاثين، بعد ان شهد مع اميرالمومنين على (ع) صفين و نهروان، و صلى عليه على (ع)، و كانت سنه يوم مات ثلاثا و سبعين سنه، و دفن بظهر الكوفه.و هو اول من دفن بظهر الكوفه، و عبدالله بن خباب هو الذى قتلته الخوارج، فاحتج على (ع) به و طلبهم بدمه، و قد تقدم ذكر ذلك.حکمت 042
الشرح:
جماتها بالفتح: جمع جمه، و هى المكان يجتمع فيه الماء و هذه استعاره، و الخيشوم: اقصى الانف.و مراده (ع) من هذا الفصل اذكار الناس ما قاله فيه رسول الله (ص)، و هو: (لايبغضك مومن، و لايحبك منافق)، و هى كلمه حق، و ذلك لان الايمان و بغضه (ع) لايجتمعان، لان بغضه كبيره، و صاحب الكبيره عندنا لايسمى مومنا، و اما المنافق فهو الذى يظهر الاسلام و يبطن الكفر، و الكافر بعقيدته لايحب عليا (ع)، لان المراد من الخبر المحبه الدينيه، و من لايعتقد الاسلام لايحب احدا من اهل الاسلام، لاسلامه و جهاده فى الدين، فقد بان ان الكلمه حق، و هذا الخبر مروى فى الصحاح بغير هذا اللفظ: (لايحبك الا مومن، و لايبغضك الا منافق)، و قد فسرناه فيما سبق.حکمت 043
الشرح:
هذا حق، لان الانسان اذا وقع منه القبيح ثم سائه ذلك و ندم عليه و تاب حقيقه التوبه كفرت توبته معصيته، فسقط ما كان يستحقه من العقاب، و حصل له ثواب التوبه، و اما من فعل واجبا و استحق به ثوابا ثم خامره الاعجاب بنفسه و الادلال على الله تعالى بعلمه، و التيه على الناس بعبادته و اجتهاده، فانه يكون قد احبط ثواب عبادته بما شفعها من القبيح الذى اتاه، و هو العجب و التيه و الادلال على الله تعالى، فيعود لامثابا و لامعاقبا، لانه يتكافا الاستحقاقان.و لاريب ان من حصل له ثواب التوبه، و سقط عنه عقاب المعصيه، خير ممن خرج من الامرين كفافا لا عليه و لا له.حکمت 044
الشرح:
قد تقدم الكلام فى كل هذه الشيم و الخصال، ثم نقول هاهنا: ان كبر الهمه خلق مختص بالانسان فقط، و اما سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك، و انما يتجرا كل نوع منها الفعل بقدر ما فى طبعه، و علو الهمه حال متوسطه محموده بين حالتين طرفى رذيلتين، و هما الندح، و تسميه الحكماء التفتح- و صغر الهمه- و تسميه الناس الدنائه، فالتفتح تاهل الانسان لما لايستحقه، و صغر الهمه تركه لما يستحقه لضعف فى نفسه، فهذان مذمومان، و العداله و هى الوسط بينهما محموده، و هى علو الهمه، و ينبغى ان يعلم ان المتفتح جاهل احمق، و صغير الهمه ليس بجاهل و لااحمق، و لكنه دنى ء ضعيف قاصر، و اذا اردت التحقيق، فالكبير الهمه من لايرضى بالهمم الحيوانيه، و لايقنع لنفسه ان يكون عند رعايه بطنه و فرجه، بل يجتهد فى معرفه صانع العالم و مصنوعاته، و فى اكتساب المكارم الشرعيه ليكون من خلفاء الله و اوليائه فى الدنيا، و مجاوريه فى الاخره.و لذلك قيل: من عظمت همته لم يرض بقنيه مسترده، و حياه مستعاره، فان امكنك ان تقتنى قنيه موبده، و حياه مخلده، فافعل غير مكترث بقله من يصحبك و يعينك على ذلك فانه كما قيل: اذا عظم المطلوب قل المساعد.و كما قيل: طرق العلاء قليله الايناس.و اما الكلام فى الصدق و المروئه و الشجاعه و الانفه و العفه و الغيره، فقد تقدم كثير منه، و سياتى ما هو اكثر فيما بعد ان شاءالله تعالى.
حکمت 045
الشرح:
قد تقدم القول فى كتمان السر و اذاعته.و قال الحكماء: السر ضربان: احدهما ما يلقى الى الانسان من حديث ليستكتم، و ذلك اما لفظا كقول القائل: اكتم ما اقوله لك، و اما حالا و هو ان يجهر بالقول حال انفراد صاحبه، او يخفض صوته حيث يخاطبه، او يخفيه عن مجالسيه، و لهذا قيل: اذا حدثك انسان و التفت اليه فهو امانه.و الضرب الثانى نوعان: احدهما ان يكون حديثا فى نفسك تستقبح اشاعته، و الثانى ان يكون امرا تريد ان تفعله.و الى الاول اشار النبى (ص) بقوله: (من اتى منكم شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز و جل)، و الى الثانى اشار من قال: (من الوهن و الضعف اعلان الامر قبل احكامه)، و كتمان الضرب الاول من الوفاء، و هو مخصوص بعوام الناس، و كتمان الضرب الثانى من المروئه و الحزم، و النوع الثانى من نوعيه اخص بالملوك و اصحاب السياسات.قالوا: و اذاعه السر من قله الصبر، و ضيق الصدر، و يوصف به ضعفه الرجال و النساء و الصبيان.و السبب فى انه يصعب كتمان السر ان للانسان قوتين: احداهما آخذه، و الاخرى معطيه، و كل واحده منهما تتشوق الى فعلها الخاص بها، و لولا ان الله تعالى وكل المعطيه باظهار ما عندها لما اتاك بالاخبار من لم تزود، فعلى الانسان ان يمسك هذه القوه و لايطلقها الا حيث يجب اطلاقها، فانها ان لم تزم و تخطم، تقحمت بصاحبها فى كل مهلكه.