خطبه 083-درباره عمرو بن عاص - شرح نهج البلاغه نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شرح نهج البلاغه - نسخه متنی

ابن ابی الحدید معتزلی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

خطبه 083-درباره عمرو بن عاص

الشرح:

الدعابه: المزاح، دعب الرجل، بالفتح.

و رجل تلعابه، بكسر التاء: كثير اللعب، و التلعاب، بالفتح: مصدر (لعب).

و المعافسه: المعالجه و المصارعه، و منه الحديث: (عافسنا النساء).

و الممارسه نحوه.

يقول (ع): ان عمرا يقدح فى عند اهل الشام بالدعابه و اللعب، و انى كثير الممازحه، حتى انى الاعب النساء و اغازلهن، فعل المترف الفارغ القلب، الذى تتقضى اوقاته بملاذ نفسه.

و يلحف: يلح فى السوال، قال تعالى: (لايسالون الناس الحافا)، و منه المثل: (ليس للملحف مثل الرد).

و الال: العهد، و لما اختلف اللفظان حسن التقسيم بهما، و ان كان المعنى واحدا.

و معنى قوله: (ما لم تاخذ السيوف ماخذها)، اى ما لم تبلغ الحرب الى ان تخالط الرءوس، اى هو ملى ء بالتحريض و الاغراء قبل ان تلتحم الحرب، فاذا التحمت و اشتدت فلا يمكث، و فعل فعلته التى فعل.

و السبه: الاست، و سبه يسبه: طعنه فى السبه.

و يجوز رفع (اكبر) و نصبه، فان رفعت فهو الاسم، و ان نصبت فهو الخبر.

و الاتيه: العطيه، و الايتاء: الاعطاء.

و رضخ له رضخا: اعطاه عطاء بالكثير، و هى الرضيخه: لما يعطى.

(نسب عمرو بن العاص و طرف من اخباره) و نحن نذكر طرفا من نسب عمرو بن العاص و اخباره
الى حين وفاته ان شاء الله.

هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لوى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.

يكنى ابا عبدالله، و يقال: ابومحمد.

ابوه العاص بن وائل، احد المستهزئين برسول الله (ص)، و المكاشفين له بالعداوه و الاذى، و فيه و فى اصحابه انزل قوله تعالى: (انا كفيناك المستهزئين).

و يلقب العاص بن وائل فى الاسلام بالابتر، لانه قال لقريش: سيموت هذا الابتر غدا، فينقطع ذكره، يعنى رسول الله (ص)، لانه لم يكن له (ص) ولد ذكر يعقب منه، فانزل الله سبحانه: (ان شانئك هو الابتر).

و كان عمرو احد من يوذى رسول الله (ص) بمكه، و يشتمه و يضع فى طريقه الحجاره، لانه كان (ص) يخرج من منزله ليلا فيطوف بالكعبه، و كان عمرو يجعل له الحجاره فى مسلكه ليعثر بها.

و هو احد القوم الذين خرجوا الى زينب ابنه رسول الله (ص) لما خرجت مهاجره من مكه الى المدينه، فروعوها و قرعوا هودجها بكعوب الرماح، حتى اجهضت جنينا ميتا من ابى العاص بن الربيع بعلها، فلما بلغ ذلك رسول الله (ص)، نال منه و شق عليه مشقه شديده و لعنهم.

روى ذلك الواقدى.

و روى الواقدى ايضا و غيره من اهل الحديث ان عمرو بن العاص هجا رسول الله (ص) هجاء كثيرا
، كان يعلمه صبيان مكه، فينشدونه و يصيحون برسول الله اذا مر بهم، رافعين اصواتهم بذلك الهجاء، فقال رسول الله (ص) و هو يصلى بالحجر: (اللهم ان عمرو بن العاص هجانى، و لست بشاعر، فالعنه بعدد ما هجانى).

و روى اهل الحديث ان النضر بن الحارث و عقبه بن ابى معيط و عمرو بن العاص، عهدوا الى سلى جمل فرفعوه بينهم و وضعوه على راس رسول الله (ص) و هو ساجد بفناء الكعبه، فسال عليه، فصبر و لم يرفع راسه، و بكى فى سجوده و دعا عليهم، فجاءت ابنته فاطمه (ع) و هى باكيه، فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فالقته و قامت على راسه تبكى، فرفع راسه (ص)، و قال: (اللهم عليك بقريش)، قالها ثلاثا، ثم قال رافعا صوته: (انى مظلوم فانتصر)، قالها ثلاثا، ثم قام فدخل منزله: و ذلك بعد وفاه عمه ابى طالب بشهرين.

و لشده عداوه عمرو بن العاص لرسول الله (ص)، ارسله اهل مكه الى النجاشى ليزهده فى الدين، و ليطرد عن بلاده مهاجره الحبشه، و ليقتل جعفر بن ابى طالب عنده ان امكنه قتله، فكان منه فى امر جعفر هناك ما هو مذكور مشهور فى السير، و سنذكر بعضه.

فاما النابغه فقد ذكر الزمخشرى فى "كتاب ربيع الابرار" قال: كانت النابغه ام عمرو بن العاص امه لرجل من عنزه، فسبيت، فاشتراها عبد
الله بن جدعان التيمى بمكه، فكانت بغيا، ثم اعتقها، فوقع عليها ابولهب بن عبدالمطلب، و اميه بن خلف الجمحى، و هشام بن المغيره المخزومى، و ابوسفيان بن حرب، و العاص بن وائل السهمى، فى طهر واحد، فولدت عمرا، فادعاه كلهم، فحكمت امه فيه، فقالت: هو من العاص بن وائل و ذاك لان العاص بن وائل، كان ينفق عليها كثيرا، قالوا: و كان اشبه بابى سفيان، و فى ذلك يقول ابوسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب فى عمرو بن العاص: ابوك ابوسفيان لا شك قد بدت لنا فيك منه بينات الشمائل و قال ابوعمر بن عبدالبر صاحب كتاب "الاستيعاب": كان اسمها سلمى- و تلقبت بالنابغه- بنت حرمله من بنى جلان بن عنزه بن اسد بن ربيعه بن نزار، اصابها سباء، فصارت الى العاص بن وائل بعد جماعه من قريش، فاولدها عمرا.

قال ابو عمر: يقال انه جعل لرجل الف درهم على ان يسال عمرا و هو على المنبر: من امه؟ فساله: فقال امى سلمى بنت حرمله، تلقب بالنابغه، من بنى عنزه ثم احد بنى جلان و اصابتها راح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيره، ثم اشتراها منه عبدالله بن جدعان، ثم صارت الى العاص بن وائل، فولدت فانجبت، فان كان جعل لك شى ء فخذ.

و قال المبرد فى كتاب "الكامل": اسمها ليلى.

و ذك
ر هذا الخبر و قال: انها لم تكن فى موضع مرضى، قال المبرد: و قال المنذر بن الجارود مره لعمرو بن العاص: اى رجل انت لولا ان امك امك! فقال: انى احمد الله اليك، لقد فكرت البارحه فيها فاقبلت انقلها فى قبائل العرب ممن احب ان تكون منها، فما خطرت لى عبدالقيس على بال! و قال المبرد: و دخل عمرو بن العاص مكه، فراى قوما من قريش قد جلسوا حلقه، فلما راوه رمقوه بابصارهم، فعدل اليهم فقال: احسبكم كنتم فى شى ء من ذكرى! قالوا: اجل، كنا نمثل بينك و بين اخيك هشام بن العاص، ايكما افضل؟ فقال عمرو: ان لهشام على اربعه: امه بنت هشام بن المغيره، و امى من قد عرفتم، و كان احب الى ابيه منى، و قد علمتم معرفه الوالد بولده، و اسلم قبلى، و استشهد و بقيت.

و روى ابوعبيده معمر بن المثنى فى كتاب "الانساب" ان عمرا اختصم فيه يوم ولادته رجلان: ابوسفيان بن حرب، و العاص بن وائل، فقيل: لتحكم امه، فقالت امه: انه من العاص بن وائل، فقال ابوسفيان: اما انى لااشك انى وضعته فى رحم امه، فابت الا العاص.

فقيل لها: ابوسفيان اشرف نسبا، فقالت: ان العاص بن وائل كثير النفقه على و ابوسفيان شحيح.

ففى ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو بن العاص حيث هجاه مكافئا له عن هجاء رسول ال
له (ص): ابوك ابوسفيان لا شك قد بدت لنا فيك منه بينات الدلائل ففاخر به اما فخرت و لاتكن تفاخر بالعاص الهجين بن وائل و ان التى فى ذاك يا عمرو حكمت فقالت رجاء عند ذاك لنائل من العاص عمرو تخبر الناس كلما تجمعت الاقوام عند المحافل (مفاخره بين الحسن بن على و رجالات من قريش) و روى الزبير بن بكار فى كتاب "المفاخرات" قال: اجتمع عند معاويه عمرو بن العاص، و الوليد بن عقبه بن ابى معيط، و عتبه بن ابى سفيان بن حرب، و المغيره بن شعبه، و قد كان بلغهم عن الحسن بن على (ع) قوارص، و بلغه عنهم مثل ذلك، فقالوا: يا اميرالمومنين، ان الحسن قد احيا اباه و ذكره، و قال فصدق، و امر فاطيع، و خفقت له النعال، و ان ذلك لرافعه الى ما هو اعظم منه، و لايزال يبلغنا عنه ما يسوءنا.

قال معاويه: فما تريدون؟ قالوا: ابعث عليه فليحضر لنسبه و نسب اباه، و نعيره و نوبخه، و نخبره ان اباه قتل عثمان و نقرره بذلك، و لايستطيع ان يغير علينا شيئا، من ذلك.

قال معاويه: انى لاارى ذلك و لاافعله، قالوا: عزمنا عليك يا اميرالمومنين لتفعلن، فقال: و يحكم لاتفعلوا! فو الله ما رايته قط جالسا عندى الا خفت مقامه و عيبه لى، قالوا: ابعث اليه على كل حال، قا
ل: ان بعثت اليه لانصفنه منكم.

فقال عمرو بن العاص: اتخشى ان ياتى باطله على حقنا، او يربى قوله على قولنا! قال معاويه: اما انى ان بعثت اليه لامرنه ان يتكلم بلسانه كله، قالوا: مره بذلك.

قال: اما اذ عصيتمونى، و بعثتم اليه و ابيتم الا ذلك فلا تمرضوا له فى القول، و اعلموا انهم اهل بيت لايعيبهم العائب، و لايلصق بهم العار، و لكن اقذفوه بحجره، تقولون له: ان اباك قتل عثمان، و كره خلافه الخلفاء من قبله.

فبعث اليه معاويه، فجاءه رسوله، فقال: ان اميرالمومنين يدعوك.

قال، من عنده؟ فسماهم له، فقال الحسن (ع): ما لهم خر عليهم السقف من فوقهم، و اتاهم العذاب من حيث لايشعرون.

ثم قال: يا جاريه، ابغينى ثيابى، اللهم انى اعوذ بك من شرورهم، و ادرا بك فى نحورهم، و استعين بك عليهم، فاكفنيهم كيف شئت، و انى شئت بحول منك و قوه، يا ارحم الراحمين! ثم قام، فلما دخل على معاويه، اعظمه و اكرمه، و اجلسه الى جانبه، و قد ارتاد القوم، و خطروا خطران الفحول، بغيا فى انفسهم و علوا، ثم قال: يا ابامحمد، ان هولاء بعثوا اليك و عصونى.

فقال الحسن (ع): سبحان الله! الدار دارك، و الاذن فيها اليك، و الله ان كنت اجبتهم الى ما ارادوا و ما فى انفسهم انى لاستحيى لك من
الفحش، و ان كانوا غلبوك على رايك انى لاستحيى لك من الضعف، فايهما تقرر، و ايهما تنكر؟ اما انى لو علمت بمكانهم جئت معى بمثلهم من بنى عبدالمطلب، و ما لى ان اكون مستوحشا منك و لا منهم! ان وليى الله، و هو يتولى الصالحين.

فقال معاويه: يا هذا، انى كرهت ان ادعوك، و لكن هولاء حملونى على ذلك مع كراهتى له، و ان لك منهم النصف و منى، و انما دعوناك لنقررك ان عثمان قتل مظلوما، و ان اباك قتله، فاستمع منهم ثم اجبهم، و لاتمنعك وحدتك و اجتماعهم ان تتكلم بكل لسانك.

فتكلم عمرو بن العاص، فحمد الله و صلى على رسوله، ثم ذكر عليا (ع)، فلم يترك شيئا يعيبه به الا قاله، و قال: انه شتم ابابكر و كره خلافته، و امتنع من بيعته، ثم بايعه مكرها، و شرك فى دم عمر، و قتل عثمان ظلما.

و ادعى من الخلافه ما ليس له.

ثم ذكر الفتنه يعيره بها، و اضاف اليه مساوى ء، و قال: انكم يا بنى عبدالمطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء، و استحلالكم ما حرم الله من الدماء، و حرصكم على الملك، و اتيانكم ما لايحل.

ثم انك يا حسن، تحدث نفسك ان الخلافه صائره اليك، و ليس عندك عقل ذلك و لا لبه، كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك، و تركك احمق قريش، يسخر منك و يهزا بك، و
ذلك لسوء عمل ابيك! و انما دعوناك لنسبك و اباك، فاما ابوك فقد تفرد الله به و كفانا امره، و اما انت فانك فى ايدينا نختار فيك الخصال، و لو قتلناك ما كان علينا اثم من الله، و لا عيب من الناس، فهل تستطيع ان ترد علينا و تكذبنا؟ فان كنت ترى انا كذبنا فى شى ء فاردده علينا فيما قلنا، و الا فاعلم انك و اباك ظالمان.

ثم تكلم الوليد بن عقبه بن ابى معيط، فقال: يا بنى هاشم، انكم كنتم اخوال عثمان، فنعم الولد كان لكم، فعرف حقكم، و كنتم اصهاره فنعم الصهر كان لكم، يكرمكم فكنتم اول من حسده، فقتله ابوك ظلما، لا عذر له و لا حجه، فكيف ترون الله طلب بدمه، و انزلكم منزلتكم! و الله ان بنى اميه خير لبنى هاشم من بنى هاشم لبنى اميه، و ان معاويه خير لك من نفسك.

ثم تكلم عتبه بن ابى سفيان، فقال: يا حسن، كان ابوك شر قريش لقريش، اسفكها لدمائها، و اقطعها لارحامها، طويل السيف و اللسان، يقتل الحى و يعيب الميت، و انك ممن قتل عثمان، و نحن قاتلوك به، و اما رجاوك الخلافه فلست فى زندها قادحا، و لا فى ميزانها راجحا، و انكم يا بنى هاشم قتلتم عثمان، و ان فى الحق ان نقتلك و اخاك به، فاما ابوك فقد كفانا الله امره و اقاد منه، و اما انت، فو الله ما علينا ل
و قتلناك بعثمان اثم و لا عدوان.

ثم تكلم المغيره بن شعبه، فشتم عليا، و قال: و الله ما اعيبه فى قضيه يخون، و لا فى حكم يميل، و لكنه قتل عثمان.

ثم سكتوا.

فتكلم الحسن بن على (ع)، فحمد الله و اثنى عليه، و صلى على رسوله (ص)، ثم قال: اما بعد يا معاويه، فما هولاء شتمونى و لكنك شتمتنى، فحشا الفته، و سوء راى عرفت به، و خلقا شيئا ثبت عليه، و بغيا علينا، عداوه منك لمحمد و اهله، و لكن اسمع يا معاويه، و اسمعوا فلاقولن فيك و فيهم ما هو دون ما فيكم.

انشدكم الله ايها الرهط، اتعلمون ان الذى شتمتموه منذ اليوم، صلى القبلتين كلتيهما و انت يا معاويه بهما كافر، تراها ضلاله، و تعبد اللات و العزى غوايه! و انشدكم الله هل تعلمون انه بايع البيعتين كلتيهما: بيعه الفتح و بيعه الرضوان، و انت يا معاويه باحداهما كافر، و بالاخرى ناكث! و انشدكم الله هل تعلمون انه اول الناس ايمانا، و انك يا معاويه و اباك من المولفه قلوبهم تسرون الكفر، و تظهرون الاسلام، و تستمالون بالاموال! و انشدكم الله، الستم تعلمون انه كان صاحب رايه رسول الله (ص) يوم بدر، و ان رايه المشركين كانت مع معاويه و مع ابيه، ثم لقيكم يوم احد و يوم الاحزاب، و معه رايه رسول الله (ص)، و
معك و مع ابيك رايه الشرك، و فى كل ذلك يفتح الله له و يفلج حجته، و ينصر دعوته، و يصدق حديثه، و رسول الله (ص) فى تلك المواطن كلها عنه راض، و عليك و على ابيك ساخط! و انشدك الله يا معاويه، اتذكر يوما جاء ابوك على جمل احمر، و انت تسوقه، و اخوك عتبه هذا يقوده، فرآكم رسول الله (ص)، فقال: (اللهم العن الراكب و القائد و السائق!).

اتنسى يا معاويه الشعر الذى كتبته الى ابيك لما هم ان يسلم، تنهاه عن ذلك: يا صخر لاتسلمن يوما فتفضحنا بعد الذين ببدر اصبحوا فرقا خالى و عمى و عم الام ثالثهم و حنظل الخير قد اهدى لنا الارقا لاتركنن الى امر تكلفنا و الراقصات به فى مكه الخرقا فالموت اهون من قول العداه: لقد حاد ابن حرب عن العزى اذا فرقا و الله لما اخفيت من امرك اكبر مما ابديت.

و انشدكم الله ايها الرهط، اتعلمون ان عليا حرم الشهوات على نفسه بين اصحاب رسول الله (ص) فانزل فيه: (يا ايها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات ما احل الله لكم)، و ان رسول الله (ص) بعث اكابر اصحابه الى بنى قريظه فنزلوا من حصنهم فهزموا، فبعث عليا بالرايه، فاستنزلهم على حكم الله و حكم رسوله، و فعل فى خيبر مثلها! ثم قال: يا معاويه اظنك لاتعلم انى اعلم ما د
عا به عليك رسول الله (ص) لما اراد ان يكتب كتابا الى بنى خزيمه، فبعث اليك (ابن عباس، فوجدك تاكل، ثم بعثه اليك مره اخرى فوجدك تاكل، فدعا عليك الرسول بجوعك) و نهمك الى ان تموت.

و انتم ايها الرهط: نشدتكم الله، الا تعلمون ان رسول الله (ص) لعن اباسفيان فى سبعه مواطن لاتستطيعون ردها: اولها: يوم لقى رسول الله (ص) خارجا من مكه الى الطائف، يدعو ثقيفا الى الدين، فوقع به و سبه و سفهه و شتمه و كذبه و توعده، و هم ان يبطش به، فلعنه الله و رسوله و صرف عنه.

و الثانيه يوم العير، اذ عرض لها رسول الله (ص) و هى جائيه من الشام، فطردها ابوسفيان، و ساحل بها، فلم يظفر المسلمون بها، و لعنه رسول الله (ص) و دعا عليه، فكانت وقعه بدر لاجلها.

و الثالثه يوم احد، حيث وقف تحت الجبل، و رسول الله (ص) فى اعلاه، و هو ينادى: اعل هبل! مرارا، فلعنه رسول الله (ص) عشر مرات، و لعنه المسلمون.

و الرابعه يوم جاء بالاحزاب و غطفان و اليهود، فلعنه رسول الله و ابتهل.

و الخامسه يوم جاء ابوسفيان فى قريش فصدوا رسول الله (ص) عن المسجد الحرام (و الهدى معكوفا ان يبلغ محله) ذلك يوم الحديبيه، فلعن رسول الله (ص) اباسفيان، و لعن القاده و الاتباع، و قال: (ملعونون كلهم،
و ليس فيهم من يومن)، فقيل: يا رسول الله، افما يرجى الاسلام لاحد منهم فكيف باللعنه؟ فقال: (لاتصيب اللعنه احدا من الاتباع، و اما القاده فلا يفلح منهم احد).

و السادسه يوم الجمل الاحمر.

و السابعه يوم وقفوا لرسول الله (ص) فى العقبه ليستنفروا ناقته، و كانوا اثنى عشر رجلا، منهم ابوسفيان.

فهذا لك يا معاويه، و اما انت يا بن العاص، فان امرك مشترك، وضعتك امك مجهولا، من عهر و سفاح، فيك اربعه من قريش، فغلب عليك جزارها، الامهم حسبا، و اخبثهم منصبا، ثم قام ابوك فقال: انا شانى ء محمد الابتر، فانزل الله فيه ما انزل.

و قاتلت رسول الله (ص) فى جميع المشاهد، و هجوته و آذيته بمكه و كدته كيدك كله، و كنت من اشد الناس له تكذيبا و عداوه.

ثم خرجت تريد النجاشى مع اصحاب السفينه، لتاتى بجعفر و اصحابه الى اهل مكه، فلما اخطاك ما رجوت و رجعك الله خائبا، و اكذبك واشيا، جعلت حدك على صاحبك عماره بن الوليد، فوشيت به الى النجاشى، حسدا لما ارتكب مع حليلتك، ففضحك الله و فضح صاحبك.

فانت عدو بنى هاشم فى الجاهليه و الاسلام.

ثم انك تعلم و كل هولاء الرهط يعلمون انك هجوت رسول الله (ص) بسبعين بيتا من الشعر، فقال رسول الله (ص): (اللهم انى لااقول الشعر و ل
اينبغى لى اللهم العنه بكل حرف الف لعنه)، فعليك اذا من الله ما لايحصى من اللعن.

و اما ذكرت من امر عثمان، فانت سعرت عليه الدنيا نارا، ثم حلقت بفلسطين، فلما اتاك قتله، قلت: انا ابو عبدالله اذا نكات قرحه ادميتها.

ثم حبست نفسك الى معاويه، و بعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض، و لانعاتبك على ود، و بالله ما نصرت عثمان حيا و لاغضبت له مقتولا، ويحك يا بن العاص! الست القائل فى بنى هاشم لما خرجت من مكه الى النجاشى: تقول ابنتى اين هذا الرحيل و ما السير منى بمستنكر فقلت: ذرينى فانى امرو اريد النجاشى فى جعفر لاكويه عنده كيه اقيم بها نخوه الاصعر و شانى ء احمد من بينهم و اقولهم فيه بالمنكر و اجرى الى عتبه جاهدا و لو كان كالذهب الاحمر و لا انثنى عن بنى هاشم و ما اسطعت فى الغيب و المحضر فان قبل العتب منى له و الا لويت له مشفرى فهذا جوابك، هل سمعته! و اما انت يا وليد، فو الله ما الومك على بغض على، و قد جلدك ثمانين فى الخمر، و قتل اباك بين يدى رسول الله صبرا، و انت الذى سماه الله الفاسق، و سمى عليا المومن، حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا على، فانا اشجع منك جنانا، و اطول منك لسانا، فقال لك على: اسكت،
يا وليد فانا مومن و انت فاسق، فانزل الله تعالى فى موافقه قوله: (افمن كان مومنا كمن كان فاسقا لايستوون)، ثم انزل فيك على موافقه قوله ايضا: (ان جاءكم فاسق بنبا فتبينوا).

و يحك يا وليد! مهما نسيت، فلا تنس قول الشاعر فيك و فيه: انزل الله و الكتاب عزيز فى على و فى الوليد قرآنا فتبوا الوليد اذ ذاك فسقا و على مبوا ايمانا ليس من كان مومنا- عمرك الله- كمن كان فاسقا خوانا سوف يدعى الوليد بعد قليل و على الى الحساب عيانا فعلى يجزى بذاك جنانا و وليد يجزى بذاك هوانا رب جد لعقبه بن ابان لابس فى بلادنا تبانا و ما انت و قريش؟ انما انت علج من اهل صفوريه، و اقسم بالله لانت اكبر فى الميلاد، و اسن ممن تدعى اليه.

و اما انت يا عتبه، فو الله ما انت بحصيف فاجيبك، و لا عاقل فاحاورك و اعاتبك، و ما عندك خير يرجى، و لا شر يتقى، و ما عقلك و عقل امتك الا سواء، و ما يضر عليا لو سببته على رووس الاشهاد! و اما وعيدك اياى بالقتل، فهلا قتلت اللحيانى اذا وجدته على فراشك! اما تستحيى من قول نصر بن حجاج فيك: يا للرجال و حادث الازمان و لسبه تخزى اباسفيان نبئت عتبه خانه فى عرسه جبس لئيم الاصل من لحيان و بعد هذا، ما اربا
بنفسى عن ذكره لفحشه، فكيف يخاف احد سيفك، و لم تقتل فاضحك! و كيف الومك على بغض على، و قد قتل خالك الوليد مبارزه يوم بدر، و شرك حمزه فى قتل جدك عتبه، و اوحدك من اخيك حنظله فى مقام واحد! و اما انت يا مغيره، فلم تكن بخليق ان تقع فى هذا و شبهه، و انما مثلك مثل البعوضه اذ قالت للنخله: استمسكى، فانى طائره عنك، فقالت النخله: و هل علمت بك واقعه على فاعلم بك طائره عنى! و الله ما نشعر بعداوتك ايانا و لااغتممنا اذ علمنا بها، و لايشق علينا كلامك، و ان حد الله فى الزنا لثابت عليك، و لقد درا عمر عنك حقا، الله سائله عنه! و لقد سالت رسول الله (ص): هل ينظر الرجل الى المراه يريد ان يتزوجها، فقال: (لاباس بذلك يا مغيره ما لم ينو الزنا)، لعلمه بانك زان.

و اما فخركم علينا بالاماره: فان الله تعالى يقول: (و اذا اردنا ان نهلك قريه امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).

ثم قام الحسن فنفض ثوبه، و انصرف، فتعلق عمرو بن العاص بثوبه، و قال: يا اميرالمومنين، قد شهدت قوله فى و قذفه امى بالزنا، و انا مطالب له بحد القذف.

فقال معاويه: خل عنه لا جزاك الله خيرا.

فتركه.

فقال معاويه: قد انباكم انه ممن لانطاق عارضته، و نهيتكم ان
تسبوه فعصيتمونى، و الله ما قام حتى اظلم على البيت، قوموا عنى، فلقد فضحكم الله و اخزاكم بترككم الحزم، و عدولكم عن راى الناصح المشفق، و الله المستعان.

(عمرو بن العاص و معاويه) و روى الشعبى، قال: دخل عمرو بن العاص على معاويه يساله حاجه، و قد كان بلغ معاويه عنه ما كرهه، فكره قضاءها و تشاغل، فقال عمرو: يا معاويه، ان السخاء فطنه، و اللوم تغافل، و الجفاء ليس من اخلاق المومنين.

فقال معاويه: يا عمرو، بماذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام؟ فغضب عمرو و قال: باعظم حق و اوجبه، اذ كنت فى بحر عجاج، فلولا عمرو لغرقت فى اقل مائه و ارقه، و لكنى دفعتك فيه دفعه فصرت فى وسطه، ثم دفعتك فيه اخرى فصرت فى اعلى المواضع منه، فمضى حكمك، و نفذ امرك، و انطلق لسانك بعد تلجلجه، و اضاء وجهك بعد ظلمته، و طمست لك الشمس بالعهن المنفوش، و اظلمت لك القمر بالليله المدلهمه.

فتناوم معاويه، و اطبق جفنيه مليا، فخرج عمرو، فاستوى معاويه جالسا و قال لجلسائه: ارايتم ما خرج من فم ذلك الرجل؟ ما عليه لو عرض، ففى التعريض ما يكفى! و لكنه جبهنى بكلامه، و رمانى بسموم سهامه.

فقال بعض جلسائه: يا اميرالمومنين، ان الحوائج لتقضى على ثلاث خصال: اما ان يكون السائل ل
قضاء الحاجه مستحقا فتقضى له بحقه، و اما ان يكون السائل لئيما فيصون الشريف نفسه عن لسانه فيقضى حاجته، و اما ان يكون المسئول كريما فيقضيها لكرمه، صغرت او كبرت.

فقال معاويه: لله ابوك! ما احسن ما نطقت! و بعث الى عمرو فاخبره، و قضى حاجته و وصله بصله جليله، فلما اخذها ولى منصرفا.

فقال معاويه: (فان اعطوا منها رضوا و ان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون) فسمعها عمرو، فالتفت اليه مغضبا و قال: و الله يا معاويه، لاازال آخذ منك قهرا، و لااطيع لك امرا، و احفر لك بئرا عميقا، اذا وقعت فيه لم تدرك الا رميما.

فضحك معاويه، فقال: ما اريدك يا اباعبدالله بالكلمه، و انما كانت آيه تلوتها من كتاب الله عرضت بقلبى، فاصنع ماشئت.

(عبدالله بن جعفر و عمرو بن العاص فى مجلس معاويه) و روى المدائنى قال: بينا معاويه يوما جالسا عنده عمرو بن العاص، اذ قال الاذن: قد جاء عبدالله بن جعفر بن ابى طالب، فقال عمرو: و الله لاسوءنه اليوم، فقال معاويه: لاتفعل يا اباعبدالله، فانك لاتنصف منه، و لعلك ان تظهر لنا من منقبته ما هو خفى عنا، و ما لانحب ان نعلمه منه.

و غشيهم عبدالله بن جعفر، فادناه معاويه و قربه، فمال عمرو الى بعض جلساء معاويه، فنال من على (ع) جهار
ا غير ساتر له، و ثلبه ثلبا قبيحا.

فالتمع لون عبدالله بن جعفر و اعتراه افكل حتى ارعدت خصائله، ثم نزل عن السرير كالفنيق، فقال عمرو: مه يا اباجعفر! فقال له عبدالله: مه لا ام لك! ثم قال: اظن الحلم دل على قومى و قد يستجهل الرجل الحليم ثم حسر عن ذراعيه، و قال: يا معاويه، حتام نتجرع غيظك؟ و الى كم الصبر على مكروه قولك، و سيى ء ادبك، و ذميم اخلاقك! هبلتك الهبول! اما يزجرك ذمام المجالسه عن القذع لجليسك اذا لم تكن لك! حرمه من دينك تنهاك عما لايجوز لك اما و الله لو عطفتك اواصر الارحام، او حاميت على سهمك من الاسلام، ما ارعيت بنى الاماء المتك، و العبيد الصك اعراض قومك.

و ما يجهل موضع الصفوه الا اهل الجفوه، و انك لتعرف وشائظ قريش و صبوه غرائزها، فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك فى سفك دماء المسلمين، و محاربه اميرالمومنين، الى التمادى فيما قد وضح لك الصواب فى خلافه.

فاقصد لمنهج الحق، فقد طال عمهك عن سبيل الرشد، و خبطك فى بحور ظلمه الغى.

فان ابيت الا تتابعنا فى قبح اختيارك لنفسك، فاعفنا من سوء القاله فينا اذا ضمنا و اياك الندى، و شانك و ما تريد اذا خلوت، و الله حسيبك، فو الله لولا ما جعل الله لنا فى يديك لما اتيناك.

ثم ق
ال: انك ان كلفتنى ما لم اطق ساءك ما سرك منى من خلق.

فقال معاويه: يا اباجعفر، اقسمت عليك لتجلسن، لعن الله من اخرج ضب صدرك من وجاره، محمول لك ما قلت، و لك عندنا ما املت، فلو لم يكن محمدك و منصبك لكان خلقك و خلقك شافعين لك الينا، و انت ابن ذى الجناحين و سيد بنى هاشم.

فقال عبدالله: كلا، بل سيد بنى هاشم حسن و حسين، لاينازعهما فى ذلك احد.

فقال: اباجعفر، اقسمت عليك لما ذكرت حاجه لك الا قضيتها كائنه ما كانت، و لو ذهبت بجميع ما املك، فقال: اما فى هذا المجلس فلا، ثم انصرف.

فاتبعه معاويه بصره، و قال: و الله لكانه رسول الله (ص)، مشيه و خلقه و خلقه، و انه لمن مشكاته، و لوددت انه اخى بنفيس ما املك.

ثم التفت الى عمرو، فقال: اباعبدالله، ما تراه منعه من الكلام معك؟ قال: ما لا خفاء به عنك، قال: اظنك تقول: انه هاب جوابك، لا و الله، و لكنه ازدراك و استحقرك، و لم يرك للكلام اهلا، اما رايت اقباله على دونك ذاهبا بنفسه عنك! فقال عمرو: فهل لك ان تسمع ما اعددته لجوابه؟ قال معاويه: اذهب اليك اباعبدالله، فلات حين جواب سائر اليوم.

و نهض معاويه و تفرق الناس.

(عبدالله بن العباس و رجالات قريش فى مجلس معاويه) و روى المدائنى ايضا قال: وف
د عبدالله بن عباس على معاويه مره، فقال معاويه لابنه يزيد، و لزياد بن سميه، و عتبه بن ابى سفيان، و مروان بن الحكم، و عمرو بن العاص، و المغيره بن شعبه، و سعيد بن العاص، و عبدالرحمن بن ام الحكم: انه قد طال العهد بعبد الله بن عباس، و ما كان شجر بيننا و بينه و بين ابن عمه، و لقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه، فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقه صفته، و نقف على كنه معرفته، و نعرف ما صرف عنا من شبا حده، و زوى عنا من دهاء رايه، فربما وصف المرء بغير ما هو فيه، و اعطى من النعت و الاسم ما لايستحقه.

ثم ارسل الى عبدالله بن عباس، فلما دخل و استقر به المجلس، ابتداه ابن ابى سفيان فقال: يا بن عباس، ما منع عليا ان يوجه بك حكما؟ فقال: اما و الله لو فعل لقرن عمرا بصعبه من الابل، يوجع كفه مراسها، و لاذهلت عقله، و اجرضته بريقه، و قدحت فى سويداء قلبه، فلم يبرم امرا، و لم ينفض ترابا، الا كنت منه بمراى و مسمع، فان انكاه ادميت قواه، و ان ادمه فصمت عراه، بغرب مقول لايقل حده، و اصاله راى كمتاح الاجل لا وزر منه، اصدع به اديمه، و افل به شبا حده، و اشحذ به عزائم المتقين، و ازيح به شبه الشاكين.

فقال عمرو بن العاص: هذا و الله يا اميرالمومنين نجوم اول
الشر، و افول آخر الخير، و فى حسمه قطع مادته، فبادره بالحمله، و انتهز منه الفرصه، و اردع بالتنكيل به غيره، و شرد به من خلفه.

فقال ابن عباس: يا بن النابغه، ضل و الله عقلك، و سفه حلمك، و نطق الشيطان على لسانك، هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال، و تكافح الابطال، و كثرت الجراح، و تقصفت الرماح، و برزت الى اميرالمومنين مصلولا، فانكفا نحوك بالسيف حاملا، فلما رايت الكواشر من الموت، اعددت حيله السلامه قبل لقائه، و الانكفاء عنه بعد اجابه دعائه، فمنحته- رجاء النجاه- عورتك، و كشفت له- خوف باسه- سواتك، حذرا ان يصطلمك بسطوته، و يلتهمك بحملته، ثم اشرت على معاويه كالناصح له بمبارزته، و حسنت له التعرض لمكافحته، رجاء ان تكتفى مونته، و تعدم صورته، فعلم غل صدرك، و ما انحنت عليه من النفاق اضلعك، و عرف مقر سهمك فى غرضك.

فاكفف غرب لسانك، و اقمع عوراء لفظك، فانك لمن اسد خادر، و بحر زاخر، ان تبرزت للاسد افترسك، و ان عمت فى البحر قمسك.

فقال مروان بن الحكم: يا بن عباس انك لتصرف انيابك، و تورى نارك، كانك ترجو الغلبه و تومل العافيه، و لولا حلم اميرالمومنين عنكم لتناولكم باقصر انامله، فاوردكم منهلا بعيدا صدره، و لعمرى لئن سطا بكم
لياخذن بعض حقه منكم، و لئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب الى ذلك.

فقال ابن عباس: و انك لتقول ذلك يا عدو الله، و طريد رسول الله، و المباح دمه، و الداخل بين عثمان و رعيته، بما حملهم على قطع اوداجه، و ركوب اثباجه! اما و الله لو طلب معاويه ثاره لاخذك به، و لو نظر فى امر عثمان لوجدك اوله و آخره.

و اما قولك لى: (انك لتصرف انيابك، و تورى نارك)، فسل معاويه و عمرا يخبراك ليله الهرير، كيف ثباتنا للمثلات، و استخفافنا بالمعضلات، و صدق جلادنا عند المصاوله، و صبرنا على اللاواء و المطاوله، و مصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفه، و مباشرتنا بنحورنا حد الاسنه، هل خمنا عن كرائم تلك المواقف، ام لم نبذل مهجنا للمتالف؟ و ليس لك اذ ذاك فيها مقام محمود، و لا يوم مشهود، و لا اثر معدود، و انهما شهدا ما لو شهدت لاقلقك، فاربع على ظلعك، و لاتتعرض لما ليس لك، فانك كالمغروز فى صفد، لايهبط برجل، و لايرقى بيد.

فقال زياد: يا بن عباس، انى لاعلم ما منع حسنا و حسينا من الوفود معك على اميرالمومنين الا ما سولت لهما انفسهما، و غرهما به من هو عند الباساء سلمهما، و ايم الله لو وليتهما لادابا فى الرحله الى امير المومنين انفسهما، و لقل بمكانهما لبثهما.

فقا
ل ابن عباس: اذن و الله يقصر دونهما باعك، و يضيق بهما ذراعك، و لو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئه صدقا، صبرا على البلاء، لايخيمون عن اللقاء، فلعركوك بكلاكلهم، و وطئوك بمناسمهم، و اوجروك مشق رماحهم، و شفار سيوفهم و و خز اسنتهم، حتى تشهد بسوء ما اتيت، و تتبين ضياع الحزم فيما جنيت.

فحذار حذار من سوء النيه فتكافا برد الامنيه، و تكون سببا لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما، و سعيا فى اختلافها بعد ائتلافهما، حيث لايضرهما ابساسك، و لايغنى عنهما ايناسك.

فقال عبدالرحمن بن ام الحكم: لله در ابن ملجم! فقد بلغ الامل، و امن الوجل، و احد الشفره و الان المهره، و ادرك الثار، و نفى العار، و فاز بالمنزله العليا، و رقى الدرجه القصوى.

فقال ابن عباس: اما و الله: لقد كرع كاس حتفه بيده، و عجل الله الى النار بروحه، و لو ابدى لامير المومنين صفحته لخالطه الفحل القطم و السيف الخذم، و لالعقه صابا، و سقاه سما، و الحقه بالوليد و عتبه و حنظله، فكلهم كان اشد منه شكيمه، و امضى عزيمه، ففرى بالسيف هامهم، و رملهم بدمائهم، و قرى الذئاب اشلاءهم، و فرق بينهم و بين احبائهم: (اولئك حصب جهنم هم لها واردون)، و (هل تحس منهم من احد او تسمع لهم ركزا)، و لا غرو ان
ختل، و لا وصمه ان قتل، فانا لكما قال دريد بن الصمه: فانا للحم السيف غير مكره و نلحمه طورا و ليس بذى نكر يغار علينا واترين فيشتفى بنا ان اصبنا او نغير على وتر فقال المغيره بن شعبه: اما و الله لقد اشرت على على بالنصيحه فاثر رايه، و مضى على غلوائه، فكانت العاقبه عليه لا له، و انى لاحسب ان خلقه يقتدون بمنهجه.

فقال ابن عباس: كان و الله اميرالمومنين (ع) اعلم بوجوه الراى، و معاقد الحزم، و تصريف الامور، من ان يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه، و عنف عليه، قال سبحانه: (لاتجد قوما يومنون بالله و اليوم الاخر يوادون من حاد الله و رسوله...)، و لقد وقفك على ذكر مبين، و آيه متلوه قوله تعالى: (و ما كنت متخذ المضلين عضدا)، و هل كان يسوغ له ان يحكم فى دماء المسلمين و فى ء المومنين، من ليس بمامون عنده، و لاموثوق به فى نفسه؟ هيهات هيهات! هو اعلم بفرض الله و سنه رسوله ان يبطن خلاف ما يظهر الا للتقيه، و لات حين تقيه! مع وضوح الحق، و ثبوت الجنان، و كثره الانصار، يمضى كالسيف المصلت فى امر الله، موثرا لطاعه ربه، و التقوى على آراء اهل الدنيا.

فقال يزيد بن معاويه: يابن عباس، انك لتنطق بلسان طلق ينبى ء عن مكنون قلب حرق، فاطو ما انت
عليه كشحا، فقد محا ضوء حقنا ظلمه باطلكم.

فقال ابن عباس: مهلا يزيد، فو الله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت بالعداوه عليكم، و لادنت بالمحبه اليكم مذ نات بالبغضاء عنكم، لارضيت اليوم منكم ما سخطت بالامس من افعالكم، و ان تدل الايام نستقض ما سد عنا، و نسترجع ما ابتز منا، كيلا بكيل، و وزنا بوزن، و ان تكن الاخرى فكفى بالله وليا لنا، و وكيلا على المعتدين علينا.

فقال معاويه: ان فى نفسى منكم لحزازات يا بنى هاشم، و انى لخليق ان ادرك فيكم الثار، و انفى العار، فان دماءنا قبلكم، و ظلامتنا فيكم.

فقال ابن عباس: و الله ان رمت ذلك يا معاويه لتثيرن عليك اسدا مخدره، و افاعى مطرقه، لايفثوها كثره السلاح، و لايعضها نكايه الجراح، يضعون اسيافهم على عواتقهم، يضربون قدما قدما من ناواهم، يهون عليهم نباح الكلاب و عواء الذئاب، لايفاتون بوتر، و لايسبقون الى كريم ذكر، قد وطنوا على الموت انفسهم، و سمت بهم الى العلياء هممهم، كما قالت الازديه: قوم اذا شهدوا الهياج فلا ضرب ينهنههم و لا زجر و كانهم آساد غينه قد غرثت و بل متونها القطر فلتكونن منهم بحيث اعددت ليله الهرير للهرب فرسك، و كان اكبر همك سلامه حشاشه نفسك، و لولا طغام من اهل الشام و
قوك بانفسهم، و بذلوا دونك مهجهم، حتى اذا ذاقوا وخز الشفار، و ايقنوا بحلول الدمار، رفعوا المصاحف مستجيرين بها، و عائذين بعصمتها- لكنت شلوا مطروحا بالعراء، تسفى عليك رياحها، و يعتورك ذبابها.

و ما اقول هذا اريد صرفك عن عزيمتك، و لاازالتك عن معقود نيتك، لكن الرحم التى تعطف عليك، و الاوامر التى توجب صرف النصيحه اليك.

فقال معاويه: لله درك يا بن عباس! ما تكشف الايام منك الا عن سيف صقيل، و راى اصيل! و بالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم، و لو لم يكن لاهلك سواك لكان الله قد كثرهم.

ثم نهض، فقام ابن عباس و انصرف.

و روى ابوالعباس احمد بن يحيى ثعلب فى اماليه، ان عمرو بن العاص قال لعتبه بن ابى سفيان يوم الحكمين: اما ترى ابن عباس قد فتح عينيه، و نشر اذنيه، و لو قدر ان يتكلم بهما فعل، و ان غفله اصحابه لمجبوره بفطنته، و هى ساعتنا الطولى فاكفنيه.

قال عتبه: بجهدى.

قال: فقمت فقعدت الى جانبه، فلما اخذ القوم فى الكلام اقبلت عليه بالحديث، فقرع يدى، و قال: ليست ساعه حديث، قال: فاظهرت غضبا، و قلت: يا بن عباس، ان ثقتك باحلامنا اسرعت بك الى اعراضنا، و قد و الله تقدم من قبل العذر، و كثر منا الصبر، ثم اقذعته فجاش لى مرجله و ارتفعت ا
صواتنا، فجاء القوم فاخذوا بايدينا فنحوه عنى و نحونى عنه، فجئت فقربت من عمرو بن العاص، فرمانى بموخر عينيه و قال: ما صنعت؟ فقلت: كفيتك التقواله، فحمحم كما يحمحم الفرس للشعير.

قال: و فات ابن عباس اول الكلام، فكره ان يتكلم فى آخره.

و قد ذكرنا نحن هذا الخبر فيما تقدم فى اخبار صفين على وجه آخر غير هذا الوجه.

(عماره بن الوليد و عمرو بن العاص فى الحبشه) فاما خبر عماره بن الوليد بن المغيره المخزومى، اخى خالد بن الوليد مع عمرو بن العاص فقد ذكره ابن اسحق فى كتاب "المغازى" قال: كان عماره بن الوليد بن المغيره و عمرو بن العاص بن وائل، بعد مبعث رسول الله (ص)، خرجا الى ارض الحبشه على شركهما، و كلاهما كان شاعرا عارما فاتكا.

و كان عماره بن الوليد رجلا جميلا وسيما تهواه النساء، صاحب محادثه لهن، فركبا البحر و مع عمرو بن العاص امراته، حتى اذا صاروا فى البحر ليالى، اصابا من خمر معهما، فلما انتشى عماره قال لامراه عمرو بن العاص: قبلينى، فقال لها عمرو: قبلى ابن عمك، فقبلته فهويها عماره، و جعل يراودها عن نفسها، فامتنعت منه.

ثم ان عمرا جلس على منجاف السفينه يبول، فدفعه عماره فى البحر فلما وقع عمرو سبح، حتى اخذ بمنجاف السفينه، فقال
له عماره: اما و الله لو علمت انك سابح ما طرحتك، و لكننى كنت اظن انك لاتحسن السباحه، فضغن عمرو عليه فى نفسه، و علم انه كان اراد قتله، و مضيا على وجههما ذلك، حتى قدما ارض الحبشه، فلما نزلاها كتب عمرو الى ابيه العاص بن وائل، ان اخلعنى و تبرا من جريرتى الى بنى المغيره و سائر بنى مخزوم، و خشى على ابيه ان يتبغ بجريرته.

فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل، مشى الى رجال بنى المغيره و بنى مخزوم، فقال: ان هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، و كلاهما فاتك صاحب شر، غير مامونين على انفسهما، و لاادرى ما يكون منهما! و انى ابرا اليكم من عمرو و جريرته، فقد خلعته.

فقال عند ذلك بنو المغيره و بنو مخزوم: و انت تخاف عمرا على عماره! و نحن فقد خلعنا عماره و تبرانا اليك من جريرته، فحل بين الرجلين.

قال: قد فعلت، فخلعوهما و برى ء كل قوم من صاحبهم و ما يجرى منه.

قال: فلما اطمانا بارض الحبشه، لم يلبث عماره بن الوليد ان دب لامراه النجاشى- و كان جميلا صبيحا و سيما- فادخلته، فاختلف اليها، و جعل اذا رجع من مدخله ذلك يخبر عمرا بما كان من امره، فيقول عمرو: لااصدقك انك قدرت على هذا، ان شان هذه المراه ارفع من ذلك، فلما اكثر عليه عماره بما كان يخبره- و
كان عمرو قد علم صدقه، و عرف انه دخل عليها، و راى من حاله و هيئته و ما تصنع المراه به اذا كان معها و بيتوتته عندها، حتى ياتى اليه مع السحر ما عرف به ذلك، و كانا فى منزل واحد، و لكنه كان يريد ان ياتيه بشى ء لايستطاع دفعه، ان هو رفع شانه الى النجاشى- فقال له فى بعض ما يتذاكران من امرها: ان كنت صادقا فقل لها: فلتدهنك بدهن النجاشى الذى لايدهن به غيره، فانى اعرفه، و ائتنى بشى ء منه حتى اصدقك، قال: افعل.

فجاء فى بعض ما يدخل اليها، فسالها ذلك، فدهنته منه، و اعطته شيئا فى قاروره، فلما شمه عمرو عرفه، فقال: اشهد انك قد صدقت! لقد اصبت شيئا ما اصاب احد من العرب مثله قط، (و نلت من) امراه الملك (شيئا) ما سمعنا بمثل هذا.

و كانوا اهل جاهليه وشبانا، و ذلك فى انفسهم فضل لمن اصابه و قدر عليه.

ثم سكت عنه حتى اطمان، و دخل على النجاشى، فقال: ايها الملك، ان معى سفيها من سفهاء قريش، و قد خشيت ان يعرنى عندك امره، و اردت ان اعلمك بشانه، و الا ارفع ذلك اليك حتى استثبت انه قد دخل على بعض نسائك فاكثر.

و هذا دهنك قد اعطته و ادهن به.

فلما شم النجاشى الدهن، قال: صدقت، هذا دهنى الذى لايكون الا عند نسائى، فلما اثبت امره، دعا بعماره، و دعا نسو
ه اخر، فجردوه من ثيابه، ثم امرهن ان ينفخن فى احليله، ثم خلى سبيله.

فخرج هاربا فى الوحش، فلم يزل فى ارض الحبشه، حتى كانت خلافه عمر بن الخطاب، فخرج اليه رجال من بنى المغيره، منهم عبدالله بن ابى ربيعه بن المغيره- و كان اسم عبدالله قبل ان يسلم بجيرا، فلما اسلم، سماه رسول الله (ص)- عبدالله فرصدوه على ماء بارض الحبشه، كان يرده مع الوحش، فزعموا انه اقبل فى حمر من حمر الوحش ليرد معها، فلما وجد ريح الانس، هرب منه، حتى اذا اجهده العطش، ورد فشرب حتى تملا، و خرجوا فى طلبه.

قال عبدالله بن ابى ربيعه: فسبقت اليه فالتزمته، فجعل يقول: ارسلنى، انى اموت ان امسكتنى.

قال عبدالله: فضبطته فمات فى يدى مكانه، فواروه ثم انصرفوا.

و كان شعره- فيما يزعمون- قد غطى كل شى ء منه، فقال عمرو بن العاص، يذكر ما كان صنع به و ما اراد من امراته: تعلم عمار ان من شر سنه على المرء ان يدعى ابن عم له ابنما اان كنت ذا بردين احوى مرجلا فلست براع لابن عمك محرما اذا المرء لم يترك طعاما يحبه و لم ينه قلبا غاويا حيث يمما قضى وطرا منه يسيرا و اصبحت اذا ذكرت امثالها تملا الفما (امر عمرو بن العاص مع جعفر بن ابى طالب فى الحبشه) و اما خبر عمرو
بن العاص فى شخوصه، الى الحبشه ليكيد جعفر بن ابى طالب و المهاجرين من المومنين عند النجاشى، فقد رواه كل من صنف فى السيره، قال محمد بن اسحاق فى كتاب "المغازى" قال: حدثنى محمد بن مسلم بن عبدالله بن شهاب الزهرى، عن ابى بكر بن عبدالرحمن، بن الحارث بن هشام المخزومى، عن ام سلمه بنت ابى اميه بن المغيره المخزوميه، زوجه رسول الله (ص)، قالت: لما نزلنا بارض الحبشه جاورنا بها خير جار، النجاشى، امنا على ديننا، و عبدنا الله لانوذى كما كنا نوذى بمكه، و لانسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم ان يبعثوا الى النجاشى فى امرنا رجلين، منهم جلدين و ان يهدوا للنجاشى هدايا مما يستطرف من متاع مكه، و كان من اعجب ما ياتيه منه الادم، فجمعوا ادما كثيرا، و لم يتركوا من بطارقته بطريقا الا اهدوا اليه هديه.

ثم بعثوا بذلك مع عبدالله بن ابى ربيعه بن المغيره المخزومى و عمرو بن العاص بن وائل السهمى، و امروهما امرهم، و قالوا لهما: ادفعا الى كل بطريق هديته، قبل ان تكلما النجاشى فيهم.

ثم قدما الى النجاشى، و نحن عنده فى خير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق الا دفعا اليه هديته، قبل ان يكلما النجاشى، ثم قالا للبطارقه: انه قد فر الى
بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، و لم يدخلوا فى دينكم، و جاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن و لا انتم، و قد بعثنا الى الملك اشراف قومهم لنردهم اليهم، فاذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه ان يسلمهم الينا و لايكلمهم، فان قومهم اعلى بهم عينا، و اعلم بما عابوا عليهم.

فقالوا لهما: نعم.

ثم انهما قربا هدايا الملك اليه فقبلها منهم، ثم كلماه، فقالا له: ايها الملك، قد فر الى بلادك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، و لم يدخلوا فى دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لانعرفه نحن و لا انت، و قد بعثنا فيهم اليك اشراف قومنا من آبائهم و اعمامهم و عشائرهم، لتردهم عليهم فهم اعلى بهم عينا، و اعلم بما عابوا عليهم و عاينوه منهم.

قالت ام سلمه: و لم يكن شى ء ابغض الى عبدالله بن ابى ربيعه و عمرو بن العاص، من ان يسمع النجاشى كلامهم.

فقالت بطارقه الملك و خواصه حوله: صدقا ايها الملك، قومهم اعلى بهم عينا، و اعلم بما عابوا عليهم فليسلمهم الملك اليهما، ليرادهم الى بلادهم و قومهم.

فغضب الملك و قال: لا ها الله! اذا لااسلمهم اليهما، و لااخفر قوما جاورونى و نزلوا بلادى، و اختارونى على سواى، حتى ادعوهم و اسالهم عما يقول هذان فى امرهم، فان كانوا كما
يقولون اسلمتهم اليهما و و رددتهم الى قومهم، و ان كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، و احسنت جوارهم ما جاورونى.

قالت: ثم ارسل الى اصحاب رسول الله (ص) فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل اذا جئتموه؟ قالوا: نقول و الله ما علمناه، و ما امرنا به نبينا (ص) كائنا (فى ذلك) ما هو كائن، فلما جاءوه، و قد دعا النجاشى اساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سالهم فقال لهم: ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم، و لم تدخلوا فى دينى و لا فى دين احد من هذه الملل؟ قالت ام سلمه: و كان الذى كلمه جعفر بن ابى طالب فقال له: ايها الملك انا كنا قوما فى جاهليه نعبد الاصنام، و ناكل الميته، و ناتى الفواحش، و نقطع الارحام، و نسى ء الجوار، و ياكل القوى منا الضعيف.

فكنا على ذلك حتى بعث الله عز و جل علينا رسولا منا، نعرف نسبه و صدقه و امانته و عفافه، فدعانا الى الله لنوحده و نعبده، و نخلع ما كنا عليه نحن و آباونا من دونه، من الحجاره و الاوثان، و امرنا بصدق الحديث، و اداء الامانه، و صله الرحم، و حسن التجاور، و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن سائر الفواحش، و قول الزور، و اكل مال اليتيم، و قذف المحصنه، و امرنا ان نعبد الل
ه لانشرك به شيئا، و بالصلاه و بالزكاه و الصيام.

قالت: فعدد عليه امور الاسلام كلها، فصدقناه و آمنا به، و اتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، و حرمنا ما حرم علينا، و احللنا ما احل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، و فتنونا عن ديننا، ليردونا الى عباده الاصنام و الاوثان عن عباده الله، و ان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا و ظلمونا و ضيقوا علينا، و حالوا بيننا، و بين ديننا، خرجنا الى بلدك، و اخترناك على من سواك، و رغبنا فى جوارك، و رجونا الا نظلم عندك ايها الملك.

فقال النجاشى: فهل معك مما جاء به صاحبكم عن الله شى ء؟ فقال جعفر: نعم.

فقال اقراه على، فقرا عليه صدرا من (كهيعص)، فبكى حتى اخضلت لحيته، و بكت اساقفته حتى اخضلوا لحاهم.

ثم قال النجاشى: و الله ان هذا و الذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاه واحده، و الله لااسلمكم اليهم.

قالت ام سلمه: فلما خرج القوم من عنده، قال عمرو بن العاص: و الله لاعيبهم غدا عنده بما يستاصل به خضراءهم، فقال له عبدالله بن ابى ربيعه- و كان اتقى الرجلين، لاتفعل، فان لهم ارحاما و ان كانوا قد خالفوا، قال: و الله لاخبرنه غدا انهم يقولون فى عيسى بن مريم انه عبد.

ثم
غدا عليه من الغد، فقال: ايها الملك، ان هولاء يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما، فارسل اليهم فسلهم عما يقولون فيه، فارسل اليهم.

قالت ام سلمه: فما نزل بنا مثلها.

و اجتمع المسلمون، و قال بعضهم لبعض: ما تقولون فى عيسى اذا سالكم عنه؟ فقال جعفر بن ابى طالب: نقول فيه و الله ما قال عز و جل، و ما جاء به نبينا (ع)، كائنا فى ذلك ما هو كائن.

فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى بن مريم؟ فقال جعفر: نقول انه عبدالله و رسوله و روحه و كلمته القاها الى مريم العذراء البتول.

قالت: فضرب النجاشى يديه على الارض، و اخذ منها عودا، و قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قال هذا العود.

قالت: فقد كانت بطارقته تناخرت حوله، حين قال جعفر ما قال، فقال لهم النجاشى: و ان تناخرتم! ثم قال للمسلمين: اذهبوا فانتم (سيوم) بارضى، اى آمنون، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ما احب ان لى دبرا ذهبا و انى آذيت رجلا منكم- و الدبر بلسان الحبشه: الجبل- ردوا عليهما هداياهما فلا حاجه لى فيها، فو الله ما اخذ الله منى الرشوه حتى ردنى الى ملكى.

فاخذ الرشوه فيه، و ما اطاع الناس فى افاطعيهم فيه! قالت: فخرج الرجلان من عنده مقبوحين مردودا عليهما ماجاءا به
، و اقمنا عنده فى خير دار مع خير جار، فو الله انا لعلى ذلك، اذ نزل به رجل من الحبشه ينازعه فى ملكه.

قالت ام سلمه: فو الله مااصابنا خوف و حزن قط كان اشد من خوف و حزن نزل بنا ان يظهر ذلك الرجل على النجاشى، فياتى رجل لايعرف من حقنا ما كان يعرف منه.

قالت: و سار اليه النجاشى و بينهما عرض النيل، فقال اصحاب رسول الله (ص): من رجل يخرج حتى يحضر وقعه القوم ثم ياتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: انا- و كان من احدث المسلمين سنا- فنفخوا له قربه فجعلناها تحت صدره، ثم سبح عليها حتى خرج الى ناحيه النيل التى بها يلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم.

قالت: و دعونا الله للنجاشى بالظهور على عدوه و التمكين له فى بلاده، فو الله انا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، اذ طلع الزبير يسعى و يلوح بثوبه و يقول: الا ابشروا، فقد ظهر النجاشى و اهلك الله عدوه.

قالت: فو الله ما اعلمنا فرحنا فرحه مثلها قط، و رجع النجاشى، و قد اهلك الله عدوه و تمكن و مكن له فى بلاده، و استوثق له امر الحبشه، فكنا عنده فى خير منزل و دار الى ان رجعنا الى رسول الله (ص) بمكه.

و روى عن عبدالله بن جعفر بن محمد (ع) انه قال: لقد كاد عمرو بن العاص عمنا جعفرا بارض الحبشه عند ال
نجاشى، و عند كثير من رعيته بانواع الكيد ردها الله تعالى عنه بلطفه، رماه بالقتل و السرق و الزنا فلم يلصق به شى ء من تلك العيوب، لما شاهده القوم من طهارته و عبادته، و نسكه و سيما النبوه عليه، فلما نبا معوله عن صفاته، هيا له سما قذفه اليه فى طعام، فارسل الله هرا كفا تلك الصحفه، و قد مد يده نحو ثم مات لوقته، و قد اكل منها.

فتبين لجعفر كيده و غائلته فلم ياكل بعدها عنده، و ما زال ابن الجزار عدوا لنا اهل البيت.

(امر عمرو بن العاص فى صفين) و اما خبر عمرو فى صفين و اتقائه حمله على (ع)، بطرحه نفسه على الارض و ابداء سواته: فقد ذكره كل من صنف فى السير كتابا، و خصوصا الكتب الموضوعه لصفين.

قال نصر بن مزاحم فى كتاب صفين، قال: حدثنا محمد بن اسحاق، عن عبدالله بن ابى عمرو، و عن عبدالرحمن بن حاطب، قال: كان عمرو بن العاص عدوا للحارث بن نضر الخثعمى، و كان من اصحاب على (ع)، و كان على (ع) قد تهيبته فرسان الشام، و ملا قلوبهم بشجاعته، و امتنع كل منهم من الاقدام عليه.

و كان عمرو قلما جلس مجلسا الا ذكر فيه الحارث بن نضر الخثعمى و عابه، فقال الحارث: ليس عمرو بتارك ذكره الحا رث بالسوء او يلاقى عليا واضع السيف فوق منكبه الاي م
ن لايحسب الفوارس شيا ليت عمرا يلقاه فى حومه النق ع و قد امست السيوف عصيا حيث يدعو للحرب حاميه القو م اذا كان بالبراز مليا فالقه ان اردت مكرمه الده ر او الموت كل ذاك عليا فشاعت هذه الابيات حتى بلغت عمرا، فاقسم بالله ليلقين عليا و لو مات الف موته.

فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه، فتقدم على (ع) و هو مخترط سيفا معتقل رمحا، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه، فالقى عمرو نفسه عن فرسه الى الارض شاغرا برجليه، كاشفا عورته، فانصرف عنه لافتا وجهه مستدبرا له، فعد الناس ذلك من مكارمه و سودده، و ضرب بها المثل.

قال نصر: و حدثنى محمد بن اسحاق، قال: اجتمع عند معاويه فى بعض ليالى صفين عمرو بن العاص، و عتبه بن ابى سفيان، و الوليد بن عقبه، و مروان بن الحكم، و عبدالله بن عامر، و ابن طلحه الطلحات الخزاعى، فقال عتبه: ان امرنا و امر على بن ابى طالب لعجب! ما فينا الا موتور مجتاح.

اما انا فقتل جدى عتبه بن ربيعه، و اخى حنظله، و شرك فى دم عمى شيبه يوم بدر.

و اما انت يا وليد، فقتل اباك صبرا، و اما انت يا بن عامر، فصرع اباك و سلب عمك.

و اما انت يا بن طلحه، فقتل اباك يوم الجمل، و ايتم اخوتك.

و اما انت يا مروان فكما قال الش
اعر: و افلتهن علباء جريضا و لو ادركنه صفر الوطاب فقال: معاويه هذا الاقرار فاين الغير؟ قال مروان: و اى غير تريد؟ قال: اريد ان تشجروه بالرماح.

قال: و الله يا معاويه ما اراك الا هاذيا او هازئا، و ما ارانا الا ثقلنا عليك، فقال ابن عقبه.

يقول لنا معاويه بن حرب اما فيكم لواتركم طلوب يشد على ابى حسن على باسمر لاتهجنه الكعوب فيهتك مجمع اللبات منه و نقع الحرب مطرد يووب فقلت له: اتلعب يا بن هند كانك بيننا رجل غريب! اتغرينا بحيه بطن واد اذا نهشت، فليس لها طبيب و ما ضبع يدب ببطن واد اتيح له به اسد مهيب باضعف حيله منا اذا ما لقيناه و لقياه عجيب سوى عمرو وقته خصيتاه و كان لقلبه منه وجيب كان القوم لما عاينوه خلال النقع، ليس لهم قلوب لعمر ابى معاويه بن حرب و ما ظنى ستلحقه العيوب لقد ناداه فى الهيجا على فاسمعه و لكن لايجيب فغضب عمرو، و قال: ان كان الوليد صادقا فليلق عليا، او فليقف حيث يسمع صوته.

و قال عمرو: يذكرنى الوليد دعا على و نطق المرء يملوه الوعيد متى تذكر مشاهده قريش يطر من خوفه القلب الشديد فاما فى اللقاء فاين منه معاويه بن حرب و الوليد! و عيرنى الوليد لقاء
ليث اذا ما شد هابته الاسود لقيت و لست اجهله عليا و قد بلت من العلق اللبود فاطعنه و يطعنى خلاسا و ماذا بعد طعنته اريد! فرمها منه يا بن ابى معيط و انت الفارس البطل النجيد و اقسم لو سمعت ندا على لطار القلب و انتفخ الوريد و لو لاقيته شقت جيوب عليك و لطمت فيك الخدود و ذكر ابو عمر بن عبدالبر فى كتاب "الاستيعاب" فى باب بسر بن ارطاه قال: كان بسر من الابطال الطغاه، و كان مع معاويه بصفين، فامره ان يلقى عليا (ع) فى القتال، و قال له: انى سمعتك تتمنى لقاءه، فلو اظفرك الله به و صرعته حصلت على الدنيا و الاخره، و لم يزل يشجعه و يمنيه حتى راى عليا فى الحرب، فقصده، و التقيا فصرعه على (ع)، و عرض له معه مثل ما عرض له مع عمرو بن العاص فى كشف السواه.

قال ابوعمر: و ذكر ابن الكلبى فى كتابه فى اخبار صفين، ان بسر بن ارطاه بارز عليا يوم صفين، فطعنه على (ع) فصرعه، فانكشف له، فكف عنه، كما عرض له مثل ذلك مع عمرو بن العاص.

قال: و للشعراء فيهما اشعار مذكوره فى موضعها من ذلك الكتاب، منها فيما ذكر ابن الكلبى و المدائنى قول الحارث بن نضر الخثعمى- و كان عدوا لعمرو بن العاص و بسر بن ارطاه: افى كل يوم فارس لك ينتهى و عو
رته وسط العجاحه باديه يكف لها عنه على سنانه و يضحك منها فى الخلاء معاويه بدت امس من عمرو فقنع راسه و عوره بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو ثم بسر: الا انظرا لنفسكما: لاتلقيا الليث ثانيه و لاتحمدا الا الحيا و خصاكما هما كانتا و الله للنفس واقيه و لولاهما لم تنجوا من سنانه و تلك بما فيها الى العود ناهيه متى تلقيا الخيل المغيره صبحه و فيها على فاتركا الخيل ناحيه و كونا بعيدا حيث لايبلغ القنا نحوركما، ان التجارب كافيه و روى الواقدى قال: قال معاويه يوما بعد استقرار الخلافه له لعمرو بن العاص: يا اباعبدالله، لااراك الا و يغلبنى الضحك، قال: بماذا؟ قال: اذكر يوم حمل عليك ابوتراب فى صفين، فازريت نفسك فرقا من شبا سنانه، و كشفت سواتك له، فقال عمرو: انا منك اشد ضحكا، انى لاذكر يوم دعاك الى البراز فانتفخ سحرك، و ربا لسانك فى فمك، و غصصت بريقك، و ارتعدت فرائصك، و بدا منك ما اكره ذكره لك، فقال معاويه: لم يكن هذا كله، و كيف يكون و دونى عك و الاشعريون! قال: انك لتعلم ان الذى وصفت دون ما اصابك، و قد نزل ذلك بك و دونك عك و الاشعريون، فكيف كانت حالك لو جمعكما ماقط الحرب! فقال: يا اباعبدالله، خض بنا ال
هزل الى الجد، ان الجبن و الفرار من على لاعار على احد فيهما.

(خبر اسلام عمرو بن العاص) فاما القول فى اسلام عمرو بن العاص، فقد ذكره محمد بن اسحاق فى كتاب "المغازى" قال: حدثنى زيد بن ابى حبيب، عن راشد مولى حبيب بن ابى اوس الثقفى، عن حبيب بن ابى اوس، قال: حدثنى عمرو بن العاص من فيه، قال: لما انصرفنا (مع الاحزاب) من الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رايى، و يسمعون منى، فقلت لهم: و الله انى لارى امر محمد يعلو الامور علوا منكرا، و انى قد رايت رايا، فما ترون فيه؟ فقالوا: ما رايت فقلت: ارى ان نلحق بالنجاشى، فنكون عنده، فان ظهر محمد على قومه اقمنا عند النجاشى، فان نكون تحت يديه احب الينا من ان نكون تحت يدى محمد، فان ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، (فلن ياتنا منهم الا خير).

قالوا: ان هذا الراى، فقلت: فاجمعوا ما نهدى له- و كان احب ما ياتيه من ارضنا الادم- فجمعنا له ادما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فو الله انا لعنده، اذ قدم عمرو بن اميه الضمرى، و كان رسول الله (ص) بعثه اليه فى شان جعفر بن ابى طالب و اصحابه.

قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده، فقلت لاصحابى: هذا عمرو بن اميه، لو قد دخلت على النجاشى فسالته اياه فاعطانيه
، فضربت عنقه، فاذا فعلت ذلك رات قريش انى قد اجزات عنها حين قتلت رسول محمد، قال: فدخلت عليه فسجدت له فقال: مرحبا بصديقى اهديت الى من بلادك شيئا؟ قلت: نعم ايها الملك، قد اهديت لك ادما كثيرا، ثم قربته اليه، فاعجبه و اشتهاه، ثم قلت له: ايها الملك، انى قد رايت رجلا خرج من عندك، و هو رسول رجل عدو لنا فاعطنيه لاقتله، فانه قد اصاب من اشرافنا و خيارنا.

فغضب الملك، ثم مد يده فضرب بها انفه ضربه ظننت انه قد كسره، فلو انشقت لى الارض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: ايها الملك، و الله لو ظننت انك تكره هذا ما سالتكه، فقال: اتسالنى ان اعطيك رسول رجل ياتيه الناموس الاكبر الذى كان ياتى موسى لتقتله؟ فقلت ايها الملك، اكذلك هو؟ فقال: اى و الله! اطعنى ويحك و اتبعه، فانه و الله لعلى حق، و ليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون و جنوده، قلت: فبايعنى له على الاسلام، فبسط يده، فبايعته على الاسلام، و خرجت عامدا لرسول الله (ص)، فلما قدمت المدينه جئت الى رسول الله (ص)، و قد اسلم خالد بن الوليد، و قد كان صحبنى فى الطريق اليه، فقلت: يا رسول الله، ابايعك على ان تغفر لى ما تقدم من ذنبى، و لم اذكر ما تاخر، فقال: بايع يا عمرو، فان الاسلام يجب
ما قبله، و ان الهجره تجب ما قبلها، فبايعته و اسلمت.

و ذكر ابوعمر فى "الاستيعاب" ان اسلامه كان سنه ثمان، و انه قدم و خالد بن الوليد و عثمان بن طلحه المدينه، فلما رآهم رسول الله، قال: رمتكم مكه بافلاذ كبدها.

قال: و قد قيل انه اسلم بين الحديبيه و خيبر، و القول الاول اصح.

(بعث رسول الله عمرا الى ذات السلاسل) قال ابوعمر: و بعث رسول الله عمرا الى ذات السلاسل من بلاد قضاعه فى ثلثمائه، و كانت ام العاص بن وائل من بلى، فبعث رسول الله (ص) عمرا الى ارض بلى و عذره، يتالفهم بذلك و يدعوهم الى الاسلام، فسار حتى اذا كان على ماء ارض جذام، يقال له: السلاسل- و قد سميت تلك الغزاه ذات السلاسل- خاف، فكتب الى رسول الله (ص) يستنجد، فامده بجيش فيه مائتا فارس، فيه اهل الشرف و السوابق من المهاجرين و الانصار، فيهم ابوبكر و عمر، و امر عليهم اباعبيده بن الجراح، فلما قدموا على عمرو، قال عمرو: انا اميركم و انما انتم مددى، فقال ابوعبيده: بل انا امير من معى و انت امير من معك، فابى عمرو ذلك، فقال ابوعبيده: ان رسول الله (ص) عهد الى فقال: اذا قدمت الى عمرو فتطاوعا و لاتختلفا، فان خالفتنى اطعتك، قال عمرو: فانى اخالفك، فسلم اليه ابوعبيده، و صل
ى خلفه فى الجيش كله، و كان اميرا عليهم، و كانوا خمسمائه.

(ولايات عمرو فى عهد الرسول و الخلفاء) قال ابوعمر: ثم ولاه رسول الله (ص) عمان، فلم يزل عليها حتى قبض رسول الله (ص) و عمل لعمر و عثمان و معاويه، و كان عمر بن الخطاب ولاه بعد موت يزيد بن ابى سفيان فلسطين و الاردن، و ولى معاويه دمشق و بعلبك و البلقاء، و ولى سعيد بن عامر بن خذيم حمص.

ثم جمع الشام كلها لمعاويه، و كتب الى عمرو بن العاص ان يسير الى مصر، فسار اليها فافتتحها، فلم يزل عليها واليا حتى مات عمر فامره عثمان عليها اربع سنين و نحوها، ثم عزله عنها و ولاها عبدالله بن سعد العامرى.

قال ابوعمر: ثم ان عمرو بن العاص ادعى على اهل الاسكندريه انهم قد نقضوا العهد الذى كان عاهدهم، فعمد اليها، فحارب اهلها و افتتحها، و قتل المقاتله و سبى الذريه، فنقم ذلك عليه عثمان، و لم يصح عنده نقضهم العهد، فامر برد السبى الذى سبوا من القرى الى مواضعهم، و عزل عمرا عن مصر، و ولى عبدالله بن سعد بن ابى سرح العامرى مصر بدله، فكان ذلك بدو الشر بين عمرو بن العاص و عثمان بن عفان، فلما بدا بينهما من الشر ما بدا، اعتزل عمرو فى ناحيه فلسطين باهله، و كان ياتى المدينه احيانا، فلما استقر ا
لامر لمعاويه بالشام، بعثه الى مصر بعد تحكيم الحكمين فافتتحها، فلم يزل بها الى ان مات اميرا عليها، فى سنه ثلاث و اربعين، و قيل سنه اثنتين و اربعين، و قيل سنه ثمان و اربعين، و قيل سنه احدى و خمسين.

قال ابوعمر: و الصحيح انه مات فى سنه ثلاث و اربعين، و مات يوم عيد الفطر من هذه السنه و عمره تسعون سنه، و دفن بالمقطم من ناحيه السفح، و صلى عليه ابنه عبدالله، ثم رجع فصلى بالناس صلاه العيد، فولاه معاويه مكانه، ثم عزله و ولى مكانه اخاه عتبه بن ابى سفيان.

قال ابوعمر: و كان عمرو بن العاص من فرسان قريش و ابطالهم فى الجاهليه، مذكورا فيهم بذلك، و كان شاعرا حسن الشعر، و احد الدهاه المتقدمين فى الراى و الذكاء، و كان عمر بن الخطاب اذا استضعف رجلا فى رايه و عقله، قال: اشهد ان خالقك و خالق عمرو واحد، يريد خالق الاضداد.

(نبذ من كلام عمرو بن العاص) و نقلت انا من كتب متفرقه كلمات حكميه تنسب الى عمرو بن العاص، استحسنتها و اوردتها، لانى لااجحد لفاضل فضله، و ان كان دينه عندى غير مرضى.

فمن كلامه: ثلاث لااملهن: جليسى ما فهم عنى، و ثوبى ما سترنى، و دابتى ما حملت رحلى.

و قال لعبد الله بن عباس بصفين: ان هذا الامر الذى نحن و انتم فيه، ل
يس باول امر قاده البلاء، و قد بلغ الامر منا و منكم ما ترى، و ما ابقت لنا هذه الحرب حياه و لا صبرا، و لسنا نقول: ليت الحرب عادت، و لكنا نقول: ليتها لم تكن كانت! فافعل فيما بقى بغير ما مضى، فانك راس هذا الامر بعد على، و انما هو آمر مطاع، و مامور مطيع، و مبارز مامون، و انت هو.

و لما نصب معاويه قميص عثمان على المنبر، و بكى اهل الشام حوله، قال: قد هممت ان ادعه على المنبر، فقال له عمرو: انه ليس بقميص يوسف، انه ان طال نظرهم اليه، و بحثوا عن السبب وقفوا على ما لاتحب ان يقفوا عليه، و لكن لذعهم بالنظر اليه فى الاوقات.

و قال: ما وضعت سرى عند احد فافشاه فلمته، لانى احق باللوم منه اذ كنت اضيق به صدرا منه.

و قال: ليس العاقل الذى يعرف الخير من الشر، لكن العاقل من يعرف خير الشرين.

و قال عمر بن الخطاب لجلسائه يوما و عمرو فيهم: ما احسن الاشياء، فقال كل منهم ما عنده! فقال: ما تقول انت يا عمرو؟ فقال: الغمرات ثم ينجلينا.

و قال لعائشه: لوددت انك قتلت يوم الجمل، قالت: و لم لا ابا لك\! قال: كنت تموتين باجلك، و تدخلين الجنه، و نجعلك اكبر التشنيع على على بن ابى طالب (ع).

و قال لبنيه، يا بنى، اطلبوا العلم، فان استغنيتم كان جمالا، و ان
افتقرتم كان مالا.

و من كلامه: امير عادل خير من مطر وابل، و اسد حطوم خير من سلطان ظلوم، و سلطان ظلوم خير من فتنه تدوم، و زله الرجل عظم يجبر، و زله اللسان لاتبقى و لاتذر.

و استراح من لا عقل له.

و كتب اليه عمر يساله عن البحر، فكتب اليه: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف.

دود على عود، بين غرق و نزق.

و قال لعثمان و هو يخطب على المنبر: يا عثمان، انك قد ركبت بهذه الامه نهايه من الامر، و زغت فزاغوا، فاعتدل او اعتزل.

و من كلامه: استوحش من الكريم الجائع، و من اللئيم الشبعان، فان الكريم يصول اذا جاع، و اللئيم يصول اذا شبع.

و قال: جمع العجز الى التوانى فنتج بينهما الندامه، و جمع الجبن الى الكسل فنتج بينهما الحرمان.

و روى عبدالله بن عباس، قال: دخلت على عمرو بن العاص و قد احتضر، فقلت: يا اباعبدالله، كنت تقول: اشتهى انى ارى عاقلا يموت حتى اساله كيف تجد، فماذا تجد؟ قال: اجد السماء كانها مطبقه على الارض و انا بينهما، و ارانى كانما اتنفس من خرق ابره، ثم قال: اللهم خذ منى حتى ترضى، ثم رفع يده، فقال: اللهم امرت فعصينا، و نهيت فركبنا، فلا برى ء فاعتذر، و لا قوى فانتصر، و لكن لا اله الا الله، فجعل يرددها حتى فاض.

و قد روى ابوعمر بن عبدالبر
هذا الخبر فى كتاب "الاستيعاب"، قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاه، قال: اللهم امرتنى فلم ائتمر، و زجرتنى فلم انزجر.

و وضع يده فى موضع الغل، ثم قال: اللهم لا قوى فانتصر، و لابرى ء فاعتذر، و لا مستكبر بل مستغفر، لا اله الا انت، فلم يزل يرددها حتى مات.

قال ابوعمر: و حدثنى خلف بن قاسم، قال: حدثنى الحسن بن رشيق، قال: حدثنا الطحاوى، قال: حدثنا المزنى، قال: سمعت الشافعى يقول: دخل ابن عباس على عمرو بن العاص فى مرضه، فسلم عليه، فقال: كيف اصبحت يا اباعبدالله؟ قال: اصبحت و قد اصلحت من دنياى قليلا، و افسدت من دينى كثيرا، فلو كان الذى اصلحت هو الذى افسدت، و الذى افسدت هو الذى اصلحت، لفزت.

و لو كان ينفعنى ان اطلب طلبت، و لو كان ينجينى ان اهرب، هربت فقد صرت كالمنخنق بين السماء و الارض، لاارقى بيدين، و لااهبط برجلين، فعظنى بعظه انتفع بها يا بن اخى، فقال ابن عباس: هيهات اباعبدالله، صار ابن اخيك اخاك، و لاتشاء ان تبلى الا بليت، كيف يومر برحيل من هو مقيم! فقال عمرو على حينها: من حين ابن بضع و ثمانين تقنطنى من رحمه ربى! اللهم ان ابن عباس يقنطنى من رحمتك، فخذ منى حتى ترضى، فقال ابن عباس: هيهات اباعبدالله! اخذت جديدا و تعطى خلقا،
قال عمرو: ما لى و لك يا بن عباس! ما ارسل كلمه الا ارسلت نقيضها.

و روى ابوعمر فى كتاب "الاستيعاب" ايضا عن رجال قد ذكرهم و عددهم ان عمرا لما حضرته الوفاه، قال له ابنه عبدالله و قد رآه يبكى، لم تبكى؟ اجزعا من الموت؟ قال: لا و الله، و لكن لما بعده.

فقال له: لقد كنت على خير، فجعل يذكره صحبه رسول الله (ص) و فتوحه بالشام، فقال له عمرو: تركت افضل من ذلك شهاده ان لا اله الا الله، انى كنت على ثلاثه اطباق، ليس منها طبق الا عرفت نفسى فيه، كنت اول امرى كافرا، فكنت اشد الناس على رسول الله (ص)، فلو مت حينئذ وجبت لى النار، فلما بايعت رسول الله (ص)، كنت اشد الناس حياء منه، فما ملات منه عينى قط، فلو مت يومئذ قال الناس: هنيئا لعمرو! اسلم و كان على خير، و مات على خير احواله، فسرحوا له بالجنه، ثم تلبثت بعد ذلك بالسلطان و باشياء، فلا ادرى اعلى ام لى؟ فاذا مت فلا تبكين على باكيه، و لايتبعنى نائح، و لاتقربوا من قبرى نارا، و شدوا على ازارى، فانى مخاصم، و شنوا على التراب شنا، فان جنبى الايمن ليس باحق من جنبى الايسر، و لاتجعلوا فى قبرى خشبه و لاحجرا، و اذا واريتمونى فاقعدوا عندى قدر نحر جزور و تقطيعها، استانس بكم.

فان قلت: فما الذى يق
وله اصحابك المعتزله فى عمرو بن العاص؟ قلت: انهم يحكمون على كل من شهد صفين، بما يحكم به على الباغى الخارج على الامام العادل، و مذهبهم فى صاحب الكبيره اذا لم يتب معلوم.

فان قلت: اليس فى هذه الاخبار ما يدل على توبته، نحو قوله: (و لا مستكبر بل مستغفر) و قوله: (اللهم خذ منى حتى ترضى)، و (قوله): (امرت فعصيت، و نهيت فركبت).

و هذا اعتراف و ندم، و هو معنى التوبه؟ قلت: ان قوله تعالى: (و ليست التوبه للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر احدهم الموت قال انى تبت الان) يمنع من كون هذا توبه، و شروط التوبه و اركانها معلومه، و ليس هذا الاعتراف و التاسف منها فى شى ء.

و قال شيخنا ابوعبدالله: اول من قال بالارجاء المحض معاويه و عمرو بن العاص، كانا يزعمان انه لايضر مع الايمان معصيه، و لذلك قال معاويه لمن قال له: حاربت من تعلم، و ارتكبت ما تعلم، فقال: وثقت بقوله تعالى: (ان الله يغفر الذنوب جميعا).

و الى هذا المعنى اشار عمرو بقوله لابنه: تركت افضل من ذلك، شهاده ان لا اله الا الله.

(فصل فى شرح ما نسب الى على من الدعابه) فاما ما كان يقوله عمرو بن العاص فى على (ع) لاهل الشام: (ان فيه دعابه)، يروم ان يعيبه بذلك عندهم، فاصل ذلك كلمه قاله
ا عمر فتلقفها، حتى جعلها اعداوه عيبا له و طعنا عليه.

قال ابوالعباس احمد بن يحيى ثعلب فى كتاب "الامالى": كان عبدالله بن عباس عند عمر، فتنفس عمر نفسا عاليا، قال ابن عباس: حتى ظننت ان اضلاعه قد انفرجت، فقلت له: ما اخرج هذا النفس منك يا اميرالمومنين الا هم شديد.

قال: اى و الله يا بن عباس، انى فكرت فلم ادر فيمن اجعل هذا الامر بعدى.

ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها اهلا؟ قلت: و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه! قال: صدقت، و لكنه امرو فيه دعابه، قلت: فاين انت من طلحه؟ قال: هو ذو الباو باصبعه المقطوعه.

قلت: فعبد الرحمن؟ قال: رجل ضعيف لو صار الامر اليه لوضع خاتمه فى يد امراته.

قلت: فالزبير؟ قال شكس لقس، يلاطم فى البقيع فى صاع من بر.

قلت: فسعد بن ابى وقاص؟ قال: صاحب مقنب و سلاح، قلت: فعثمان، قال: اوه اوه، مرارا.

ثم قال: و الله لئن وليها ليحملن بنى ابى معيط على رقاب الناس، ثم لتنهضن اليه العرب فتقتله.

ثم قال: يا بن عباس، انه لايصلح لهذا الامر الا حصيف العقده، قليل الغره، لاتاخذه فى الله لومه لائم، يكون شديدا من غير عنف، لينا من غير ضعف، جوادا من غير سرف، ممسكا من غير و كف.

قال ابن عباس: و كانت هذه صفات عمر،
ثم اقبل على فقال: ان احراهم ان يحملهم على كتاب ربهم و سنه نبيهم لصاحبك، و الله لئن وليها ليحملنهم على المحجه البيضاء و الصراط المستقيم.

و اعلم ان الرجل ذا الخلق المخصوص لايرى الفضيله الا فى ذلك الخلق، الا ترى ان الرجل يبخل فيعتقد ان الفضيله فى الامساك و البخيل يعيب اهل السماح و الجود، و ينسبهم الى التبذير و اضاعه الحزم، و كذلك الرجل الجواد يعيب البخلاء و ينسبهم الى ضيق النفس و سوء الظن و حب المال، و الجبان يعتقد ان الفضيله فى الجبن و يعيب الشجاعه و يعتقد كونها خرقا و تغريرا بالنفس، كما قال المتبنى: يرى الجبناء ان الجبن حزم و الشجاع يعيب الجبان و ينسبه الى الضعف، و يعتقد ان الجبن ذل و مهانه! و هكذا القول فى جميع الاخلاق و السجايا المقتسمه بين نوع الانسان.

و لما كان عمر شديد الغلظه وعر الجانب، خشن الملمس دائم العبوس، كان يعتقد ان ذلك هو الفضيله و ان خلافه نقص، و لو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشه و سماحه الخلق، لكان يعتقد ان ذاك هو الفضيله و ان خلافه نقص، حتى لو قدرنا ان خلقه حاصل لعلى (ع)، و خلق على حاصل له، لقال فى على: (لولا شراسه فيه).

فهو غير ملوم عندى فيما قاله، و لا منسوب الى انه اراد الغض من على، و ا
لقدح فيه، و لكنه اخبر عن خلقه، ظانا ان الخلافه لاتصلح الا لشديد الشكيمه، العظيم الوعوره.

و بمقتضى ما كان يظنه من هذا المعنى، تمم خلافه ابى بكر بمشاركته اياه فى جميع تدابيراته و سياسته و سائر احواله، لرفق و سهوله كانت فى اخلاق ابى بكر، و بمقتضى هذا الخلق المتمكن عنده، كان يشير على رسول الله (ص) فى مقامات كثيره، و خطوب متعده، بقتل قوم كان يرى قتلهم، و كان النبى (ص) يرى استبقاءهم و استصلاحهم، فلم يقبل (ع) مشورته على هذا الخلق.

و اما اشارته عليه يوم بدر بقتل الاسرى حيث اشار ابوبكر بالفداء، فكان الصواب مع عمر و نزل القرآن بموافقته، فلما كان فى اليوم الثانى و هو يوم الحديبيه اشار بالحرب، و كره الصلح، فنزل القرآن بضد ذلك، فليس كل وقت يصلح تجريد السيف، و لا كل وقت يصلح اغماده، و السياسه لا تجرى على منهاج واحد و لاتلزم نظاما واحدا.

و جمله الامر انه رضى الله عنه لم يقصد عيب على (ع)، و لاكان عنده معيبا، و لامنقوصا، الا ترى انه قال فى آخر الخبر: (ان احراهم ان وليها ان يحملهم على كتاب الله و سنه رسوله لصاحبك)، ثم اكد ذلك بان قال: (ان وليهم ليحملنهم على المحجه البيضاء و الصراط المستقيم)، فلو كان اطلق تلك اللفظه، و عنى بها
ما حملها عليه الخصوم، لم يقل فى خاتمه كلامه ما قاله.

و انت اذا تاملت حال على (ع) فى ايام رسول الله (ص)، وجدته بعيدا عن ان ينسب الى الدعابه و المزاح، لانه لم ينقل عنه شى ء من ذلك اصلا، لا فى كتب الشيعه و لا فى كتب المحدثين، و كذلك اذا تاملت حاله فى ايام الخليفتين ابى بكر و عمر، لم تجد فى كتب السيره حديثا واحدا يمكن ان يتعلق به متعلق فى دعابته و مزاحه، فكيف يظن بعمر انه نسبه الى امر لم ينقله عنه ناقل، و لاندد به صديق و عدو، و انما اراد سهوله خلقه لا غير، و ظن ان ذلك مما يفضى به الى ضعف ان ولى امر الامه، لاعتقاده ان قوام هذا الامر انما هو بالوعوره، بناء على ما قد الفته نفسه، و طبعت عليه سجيته، و الحال فى ايام عثمان، و ايام ولايته (ع) الامر كالحال فيما تقدم، فى انه لم يظهر منه دعابه، و لا مزاح يسمى الانسان لاجله ذا دعابه و لعب.

و من تامل كتب السير عرف صدق هذا القول، و عرف ان عمرو بن العاص اخذ كلمه عمر اذ لم يقصد بها العيب فجعلها عيبا، و زاد عليها انه كثير اللعب، يعافس النساء و يمارسهن، و انه صاحب هزل.

و لعمر الله لقد كان ابعد الناس من ذلك، و اى وقت كان يتسع لعلى (ع) حتى يكون فيه على هذه الصفات؟ فان ازمانه كلها ف
ى العباده و الصلاه، و الذكر و الفتاوى و العلم، و اختلاف الناس اليه فى الاحكام و تفسير القرآن، و نهاره كله او معظمه مشغول بالصوم، و ليله كله او معظمه مشغول بالصلاه.

هذا فى ايام سلمه، فاما ايام حربه فبالسيف الشهير، و السنان الطرير، و ركوب الخيل، و قود الجيش، و مباشره الحروب.

و لقد صدق (ع) فى قوله: (اننى ليمنعنى من اللعب ذكر الموت)، و لكن الرجل الشريف النبيل، الذى لايستطيع اعداوه ان يذكروا له عيبا او يعدوا عليه وصمه، لابد ان يحتالوا و يبذلوا جهدهم فى تحصيل امر ما و ان ضعف، يجعلونه عذرا لانفسهم فى ذمه، و يتوسلون به الى اتباعهم فى تحسينهم لهم مفارقته، و الانحراف عنه، و ما زال المشركون و المنافقون يصنعون لرسول الله (ص) الموضوعات، ينسبون اليه ما قد براه الله عنه من العيوب و المطاعن، فى حياته و بعد وفاته الى زماننا هذا، و ما يزيده الله سبحانه الا رفعه و علوا، فغير منكر ان يعيب عليا (ع) عمرو بن العاص و امثاله من اعدائه، بما اذا تامله المتامل، علم انهم باعتمادهم عليه و تعلقهم به، قد اجتهدوا فى مدحه و الثناء عليه، لانهم لو وجدوا عيبا غير ذلك لذكروه، و لو بالغ اميرالمومنين و بذل جهده فى ان يثنى اعداوه و شانئوه عليه من ح
يث لايعلمون، لم يستطع الى ان يجد الى ذلك طريقا الطف من هذه الطريق التى اسلكهم الله تعالى فيها، و هداهم الى منهاجها، فظنوا انهم يغضون منه، و انما اعلوا شانه و يضعون من قدره و انما رفعوا منزلته و مكانه.

(اقوال و حكايات فى المزاح) و نحن نذكر من بعد، ما جاء فى الاحاديث الصحاح و الاثار المستفيضه، المتفق على نقلها مزاح رسول الله (ص)، و مزاح الاشراف و الافاضل و الاكابر من اصحابه و التابعين له، ليعلم ان المزاح اذا لم يخرج عن القاعده الشرعيه لم يكن قبيحا.

فاول ذلك ما رواه الناس قاطبه ان رسول الله (ص): (قال انى امزح، و لااقول الا حقا).

و قيل لسفيان الثورى، المزاح هجنه؟ فقال: بل هو سنه، لقول رسول الله (ص): (انى امزح و لااقول الا الحق).

و جاء فى الخبر ان رسول الله (ص) قال لامراه من الانصار: (الحقى زوجك فان فى عينه بياضا)، فسعت نحوه مرعوبه، فقال لها: ما دهاك؟ فاخبرته، فقال: نعم ان فى عينى بياضا لا لسوء، فخفضى عليك.

فهذا من مزاح رسول الله (ص).

و اتت عجوز من الانصار اليه (ع)، فسالته ان يدعو الله تعالى لها بالجنه، فقال: (ان الجنه لاتدخلها العجز) فصاحت، فتبسم (ع)، فقال: (انا انشاناهن انشاء فجعلناهن ابكارا).

و فى الخبر اي
ضا: ان امراه استحملته، فقال: (انا حاملوك ان شاءالله تعالى على ولد الناقه)، فجعلت تقول: يا رسول الله: و ما اصنع بولد الناقه؟ و هل يستطيع ان يحملنى! و هو يبتسم و يقول: (لااحملك الا عليه)، حتى قال لها اخيرا: (و هل يلد الابل الا النوق)! و فى الخبر انه (ع) مر ببلال و هو نائم فضربه برجله، و قال: انائمه ام عمرو؟ فقام بلال مرعوبا، فضرب بيده الى مذاكيره، فقال له: ما بالك؟ قال: ظننت انى تحولت امراه.

قيل: فلم يمزح رسول الله بعد هذه.

و فى الخبر ايضا ان نغرا كان لصبى من صبيان الانصار، فطار من يده، فبكى الغلام، فكان رسول الله (ص) يمر به فيقول: (يا اباعمير، ما فعل النغير)؟ و الغلام يبكى.

و كان يمازح ابنى بنته مزاحا مشهورا، و كان ياخذ الحسين (ع)، فيجعله على بطنه، و هو (ع) نائم على ظهره و يقول له: حزقه حزقه، ترق عين بقه.

و فى الحديث الصحيح المتفق عليه: انه مر على اصحاب الدركله و هم يلعبون و يرقصون، فقال: جدوا يا بنى ارفده، حتى يعلم اليهود و النصارى ان فى ديننا فسحه.

قال اهل اللغه: الدركله، بكسر الدال و الكاف: لعبه للحبش فيها ترقص.

و بنو ارفده: جنس من الحبش يرقصون.

و جاء فى الخبر انه سابق عائشه فسبقته، ثم سابقها فسبقها فقال: ه
ذه بتلك.

و فى الخبر ايضا ان اصحاب الزفافه و هم الراقصون، كانوا يقمعون باب حجره عائشه، فتخرج اليهم مستمعه و مبصره، فيخرج هو (ع) من ورائها مستترا بها.

و كان نعيمان، و هو من اهل بدر، اولع الناس بالمزاح عند رسول الله (ص) و كان يكثر الضحك، فقال رسول الله (ص): (يدخل الجنه و هو يضحك).

و خرج نعيمان هو و سويبط بن عبدالعزى و ابوبكر الصديق، فى تجاره قبل وفاه رسول الله (ص) بعامين، و كان سويبط على الزاد، فكان نعيمان يستطعمه فيقول: حتى يجى ء ابوبكر، فمر بركب من نجران، فباعه نعيمان منهم على انه عبد له بعشر قلائص، و قال لهم: انه ذو لسان و لهجه، و عساه يقول لكم: انا حر، فقالوا: لا عليك.

و جاءوا اليه فوضعوا عمامته فى عنقه، و ذهبوا به، فلما جاء ابوبكر اخبر بذلك، فرده و اعاد القلائص اليهم.

فضحك رسول الله (ص) و اصحابه من ذلك سنه.

و روى ان اعرابيا با (ع) نعيمان عكه عسل، فاشتراها منه، فجاء بها الى بيت عائشه فى يومها و قال: خذوها، فظن رسول الله (ص) انه اهداها اليه، و مضى نعيمان، فنزل الاعرابى على الباب، فلما طال قعوده نادى: يا هولاء، اما ان تعطونا ثمن العسل او تردوه علينا، فعلم رسول الله (ص) بالقصه، و اعطى الاعرابى الثمن، و قال لنع
يمان: ما حملك على ما فعلت؟ قال: رايتك يا رسول الله، تحب العسل، و رايت العكه مع الاعرابى.

فضحك رسول الله (ص) و لم ينكر عليه.

و سئل النخعى: هل كان اصحاب رسول الله يضحكون و يمزحون؟ فقال: نعم و الايمان فى قلوبهم مثل الجبال الرواسى.

و جاء فى الخبر ان يحيى (ع) لقى عيسى (ع)، و عيسى متبسم، فقال يحيى (ع): ما لى اراك لاهيا كانك آمن! فقال (ع): ما لى اراك عابسا كانك آيس! فقالا: لانبرح حتى ينزل علينا الوحى، فاوحى الله اليهما: احبكما الى الطلق البسام، احسنكما ظنا بى.

و روى عن كبراء الصحابه رضى الله تعالى عنهم انهم كانوا يتمازحون و يتناشدون الاشعار، فاذا خاضوا فى الدين، انقلبت حماليقهم، و صاروا فى صور اخرى.

و روى ان عبدالله بن عمر قال لجاريته: خلقنى خالق الخير، و خلقك خالق الشر.

فبكت، فقال: لا عليك، فان الله تعالى هو خالق الخير و هو خالق الشر.

قلت: يعنى بالشر المرض و الغلاء و نحوهما.

و كان ابن سيرين ينشد: نبئت ان فتاه كنت اخطبها عرقوبها مثل شهر الصوم فى الطول ثم يضحك حتى يسيل لعابه.

و جاء عبدالرحمن بن عوف الى باب عمر بن الخطاب، فوجده مستلقيا على مرفقه له، رافعا احدى رجليه على الاخرى، منشدا بصوت عال: و كيف ثوائى بالمدي
نه بعد ما قضى وطرا منها جميل بن معمر فلما دخل عبدالرحمن و جلس، قال: يا ابامحمد، انا اذا خلونا قلنا كما يقول الناس.

و كان سعيد بن المسيب ينشد: لقد اصبحت عرس الفرزدق جامحا و لو رضيت رمح استه لاستقرت و يضحك حتى يستغرق.

و كان يقال: لاباس بقليل المزاح يخرج منه الرجل عن حد العبوس.

و من كلام بعض الادباء: و نحن نحمد الله اليك، فان عقده الاسلام فى قلوبنا صحيحه، و او اخيه عندنا ثابته، و قد اجتهد قوم ان يدخلوا قلوبنا من مرض قلوبهم، و ان يشوبوا يقيننا بشكهم، فعصم الله منهم، و حال توفيقه دونهم، و لنا بعد مذهب فى الدعابه جميل، لايشوبه اذى و لاقذى، يخرج بنا الى الانس من العبوس، و الى الاسترسال من القطوب، و يلحقنا باحرار الناس الذين ارتفعوا عن لبسه الرياء، و انفوا من التشوف بالتصنع.

و قال ابن جريج: سالت عطاء عن القراءه على الحان الغناء و الحداء، فقال لى: لا باس بذلك، حدثنى عبيدالله بن عمر الليثى، انه كان لداود النبى (ع) معزفه، قد يضرب بها اذا قرا الزبور، فتجمع اليه الطير و الوحش، فيبكى و يبكى من حوله.

و قال جابر بن عبدالله الجعفى: رايت الشعبى يقول لخياط يمازحه: عندنا حب مكسور و احب ان تخيطه، فقال الخياط: احضر لى خيوط
ا من ريح لاخيطه لك.

و سئل الشعبى: هل يجوز ان يوكل الجنى لو ظفر به؟ فقال: ليتنا نخرج منه كفافا لا لنا و لا علينا.

و سال انسان محمد بن سيرين عن هشام بن حسان، فقال: توفى البارحه، اما شعرت؟ فخرج يسترجع، فلما راى ابن سيرين جزعه، قرا: (الله يتوفى الانفس حين موتها).

و كان زيد بن ثابت من افكه الناس فى بيته و ارفثهم، و قد اباح الله تعالى الرفث الى النساء، فقال: (احل لكم ليله الصيام الرفث الى نسائكم هن لباس لكم و انتم لباس لهن).

و قال اهل اللغه: الرفث: القول الفاحش تخاطب به المراه حال الجماع.

و مر بالشعبى حمال على ظهره دن خل، فوضع الدن و قال له: ما كان اسم امراه ابليس؟ فقال الشعبى: ذلك نكاح ما شهدناه.

و قال عكرمه: ختن ابن عباس بنيه فارسلنى، فدعوت اللعابين فلعبوا، فاعطاهم اربعه دراهم.

و تقدم رجلان الى شريح فى خصومه، فاقر احدهما بما ادعى عليه و هو لايدرى، فقضى شريح عليه، فقال: اصلحك الله! اتقضى على بغير بينه؟ قال: بلى، شهد عندى ثقه.

قال: و من هو؟ قال: ابن اخت خالتك.

و جاء فى الخبر ان النبى (ص) مر بصهيب و هو ارمد ياكل تمرا، فنهاه، فقال: انما آكله عن جانب العين الصحيحه يا رسول الله، فضحك منه و لم ينكر عليه.

و فى الخبر انه
(ص) مر بحسان بن ثابت، و قد رش اطماره، و عنده جاريه تغنيه: هل على و يحكما ان لغوت من حرج فقال (ص): (لاحرج ان شاءالله).

و قيل: ان عبدالله بن جعفر قال لحسان بن ثابت فى ايام معاويه: لو غنتك فلانه جاريتى صوت كذا لم تدرك ركابك، فقال: يا اباجعفر، (فكلوا منها و اطعموا البائس الفقير).

و قال اسلم مولى عمر بن الخطاب: مر بى عمر و انا و عاصم نغنى غناء النصب، فوقف و قال: اعيدا على، فاعدنا عليه، و قلنا: اينا احسن صنعه يا اميرالمومنين؟ فقال: مثلكما كحمارى العبادى، قيل له: اى حماريك شر؟ فقال: هذا ثم هذا.

فقلت: يا اميرالمومنين، انا الاول من الحمارين، فقال: انت الثانى منهما.

و مر نعيمان و هو بدرى بمخرمه بن نوفل فى خلافه عثمان، و قد كف بصره، فقال: الا يقودنى رجل حتى ابول؟ فاخذ نعيمان بيده حتى صار به الى موخر المسجد، و قال: هاهنا فبل، فبال، فصاح به الناس، فقال: من قادنى؟ قيل: نعيمان، قال: لله على ان اضربه بعصاى هذه.

فبلغ نعيمان فاتاه، فقال: بلغنى انك اقسمت لتضربن نعيمان فهل لك فيه! قال: نعم.

قال: قم، فقام معه حتى وافى به عثمان بن عفان و هو يصلى، فقال: دونك الرجل، فجمع محرمه يديه فى العصا و ضربه بها، فصاح الناس: ويلك، اميرالم
ومنين! قال: من قادنى! قالوا: نعيمان، قال: و ما لى و لنعيمان! لااعرض له ابدا! و كان طويس يتغنى فى عرس، فدخل النعمان بن بشير الانصارى العرس و طويس يغنيهم: اجد بعمره هجرانها و تسخط ام شاننا شانها فاشاروا اليه بالسكوت، فقال النعمان: دعوه انه لم يقل باسا، انما قال: و عمره من سروات النسا ء تنفح بالمسك اردانها و عمره هذه ام النعمان، و فيها قيل هذا النسيب.

و قد روى عن جماعه من الصحابه و التابعين اللعب بالنرد و الشطرنج، و منهم من روى عنهم شرب النبيذ و سماع الغناء المطرب.

فاما اميرالمومنين على (ع)، فاذا نظرت الى كتب الحديث و السير، لم تجد احدا من خلق الله عدوا و لاصديقا، روى عنه شيئا من هذا الفن، لاقولا و لافعلا، و لم يكن جد اعظم من جده، و لا وقار اتم من وقاره، و ما هزل قط و لا لعب، و لا فارق الحق و الناموس الدينى سرا و لاجهرا، و كيف يكون هازلا و من كلامه المشهور عنه: (ما مزح امرو مزحه الا و مج معها من عقله مجه)! و لكنه خلق على سجيه لطيفه، و اخلاق سهله و وجه طلق، و قول حسن، و بشر ظاهر، و ذلك من فضائله (ع)، و خصائصه التى منحه الله بشرفها، و اختصه بمزيتها، و انما كانت غلظته و فظاظته فعلا لاقولا، و ضربا بالسيف لا
جبها بالقول، و طعنا بالسنان لا عضها باللسان، كما قال الشاعر: و تسفه ايدينا و يحلم راينا و نشتم بالافعال، لا بالتكلم (نبذ و اقول فى حسن الخلق و مدحه) فاما سوء الخلق فلم يكن من سجاياه، فقد قال النبى (ص): (خصلتان لايجتمعان فى مومن: البخل و سوء الخلق).

و قال الله تعالى لنبيه (ص): (و انك لعلى خلق عظيم)، و قال ايضا (و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).

و قيل لرسول الله (ص): ما الشوم! فقال: سوء الخلق.

و صحب جابر رجلا فى طريق مكه، فاذاه سوء خلقه، فقال جابر: انى لارحمه، نحن نفارقه و يبقى معه سوء خلقه! و قيل لعبد الله بن جعفر: كيف تجاور بنى زهره و فى اخلاقهم زعاره؟ قال: لايكون لى قبلهم شى ء الا تركته، و لايطلبون منى شيئا الا اعطيتهم.

و فى الحديث المرفوع انه (ص) قال: (الا انبئكم بشر الناس)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (من نزل وحده، و منع رفده، و ضرب عبده)، ثم قال: (الا انبئكم بشر من ذلك)؟ قالوا: بلى، قال: (من لم يقل عثره، و لايقبل معذره).

و قال ابراهيم بن عباس الصولى: لو وزنت كلمه رسول الله (ص) بمحاسن الخلق كلها لرجحت، قوله: (انكم لن تسعوا الناس باموالكم فسعوهم باخلاقكم).

و فى الخبر المرفوع: (حسن الخلق ز
مام من رحمه الله فى انف صاحبه، و الزمام بيد الملك، و الملك يجره الى الخير، و الخير يجره الى الجنه، و سوء الخلق زمام من عذاب الله فى انف صاحبه، و الزمام بيد الشيطان، و الشيطان يجره الى الشر، و الشر يجره الى النار).

و روى الحسن بن على (ع) عن النبى (ص): (ان الرجل يدرك بحسن خلقه درجه الصائم القائم، و انه ليكتب جبارا و لايملك الا اهله).

و روى ابوموسى الاشعرى، قال: بينا رسول الله (ص) يمشى و امراه بين يديه، فقلت: الطريق لرسول الله (ص) عليه! فقالت: (الطريق معرض، ان شاء اخذ يمينا و ان شاء اخذ شمالا.

فقال (ص): (دعوها فانها جباره).

و قال بعض السلف: الحسن الخلق ذو قرابه عند الاجانب، و السيى ء الخلق اجنبى عند اهله.

و من كلام الاحنف: الا اخبركم بالمحمده بلا مذمه؟ الخلق السجيح، و الكف عن القبيح.

الا اخبركم بادوا الداء! الخلق الدنى ء و اللسان البذى ء).

و فى الحديث المرفوع: (اول ما يوضع فى الميزان الخلق الحسن).

و جاء مرفوعا ايضا: (المومن هين لين كالجمل الانف، ان قيد انقاد، و ان انيخ على صخره استناخ).

و جاء مرفوعا ايضا: (الا اخبركم باحبكم الى و اقربكم منى مجالس يوم القيامه! احاسنكم اخلاقا، الموطئون اكنافا، الذين يالفون و يولف
ون.

الا اخبركم بابغضكم الى و ابعدكم منى مجالس يوم القيامه: الثرثارون المتفيهقون).

ابورجاء العطاردى: من سره ان يكون مومنا حقا، فليكن اذل من قعود، كل من مر به ادعاه.

فضيل بن عياض: لان يصحبنى فاجر حسن الخلق، احب الى من ان يصحبنى عابد سيى ء الخلق، لان الفاسق اذا حسن خلقه خف على الناس و احبوه، و العابد اذا ساء خلقه، ثقل على الناس و مقتوه.

دخل فرقد و محمد بن واسع على رجل يعودانه، فجرى ذكر العنف و الرفق، فروى فرقد عن رسول الله (ص) انه قيل له: على من حرمت النار يا رسول الله! قال: (على الهين اللين السهل القريب)، فلم يجد محمد بن واسع بياضا يكتب ذلك فيه، فكتبه على ساقه.

عبدالله بن الدارانى: ما ضرب عبد بعقوبه اعظم من قسوه القلب.

عائشه: قال رسول الله (ص): (اذا اراد الله باهل بيت خيرا ادخل عليهم باب رفق).

و عنها، عنه (ص): (من اعطى حظه من الرفق اعطى حظه من خير الدنيا و الاخره).

جرير بن عبدالله البحلى رفعه (ان الله ليعطى على الرفق ما لايعطى على الخرق، فاذا احب الله عبدا اعطاه الرفق).

و كان يقال: (ما دخل الرفق فى شى ء الا زانه).

ابوعون الانصارى: ما تكلم الانسان بكلمه عنيفه الا و الى جانبها كلمه الين منها تجرى مجراها.

سئلت عا
ئشه عن خلق رسول الله (ص)، فقالت: كان خلقه القرآن: (خذ العفو و امر بالعرف و اعرض عن الجاهلين).

و سئل ابن المبارك عن حسن الخلق، فقال: بسط الوجه، و كف الاذى، و بذل الندى.

ابن عباس: ان الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، و ان الخلق السيى ء يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل.

على (ع): ما من شى ء فى الميزان اثقل من خلق حسن.

و عنه (ع): عنوان صحيفه المومن حسن خلقه.

و عنه (ع) مرفوعا: عليكم بحسن الخلق، فانه فى الجنه، و اياكم و سوء الخلق فانه فى النار.

قال المنصور لاخيه ابى العباس فى بنى حسن لما ازمعوا الخروج عليه: آنسهم يا اميرالمومنين بالاحسان، فان استوحشوا فالشر يصلح ما يعجز عنه الخير، و لاتدع محمدا يمرح فى اعنه العقوق.

فقال ابوالعباس: يا اباجعفر؟ انه من شدد نفر، و من لان الف، و التغافل من سجايا الكرام.

(فصل فى ذكر اسباب الغلظه و الفظاظه) و نحن نذكر بعد كلاما كليا فى سبب الغلظه و الفظاظه، و هو الخلق المنافى للخلق الذى كان عليه اميرالمومنين، فنقول: انه قد يكون لامر عائد الى المزاج الجسمانى، و قد يكون لامر راجع الى النفس: فاما الاول، فانما يكون من غلبه الاخلاط السوداويه و ترمدها، و عدم صفاء الدم و كثره كد
رته و عكره، فاذا غلظ الدم و ثخن غلظ الروح النفسانى و ثخن ايضا، لانه متولد من الدم، فيحدث منه نوع مما يحدث لاصحاب الفطره، من الاستيحاش و النبوه عن الناس و عدم الاستئناس و البشاشه، و صار صاحبه ذا جفاء و اخلاق غليظه، و يشبه ان يكون هذا سببا ماديا، فان الذى يقوى فى نفسى ان النفوس ان صحت و ثبتت مختلفه بالذات.

و اما الراجع الى النفس فان يجتمع عندها اسقاط و انصباء من قوى مختلفه مذمومه، نحو ان تكون القوه الغضبيه عندها متوافره، و ينضاف اليها تصور الكمال فى ذاتها و توهم النقصان فى غيرها، فيعتقد ان حركات غيره واقعه على غير الصواب، و ان الصواب ما توهمه.

و ينضاف الى ذلك قله ادب النفس و عدم الضبط لها و استحقارها للغير، و يقل التوقير له، و ينضاف الى ذلك لجاج، و ضيق فى النفس، و حده و استشاطه و قله صبر عليه، فيتولد من مجموع هذه الامور خلق دنى، و هو الغلظه و الفظاظه، و الوعوره و البادره المكروهه، و عدم حبه الناس، و لقاوهم بالاذى، و قله المراقبه لهم، و استعمال القهر فى جميع الامور، و تناول الامر من السماء، و هو قادر على ان يتناوله من الارض.

و هذا الخلق خارج عن الاعتدال، و داخل فى حيز الجور، و لاينبغى ان يسمى باسماء المدح، و اعن
ى بذلك ان قوما يسمون هذا النوع من العنف و الخلق الوعر رجوليه، و شده و شكيمه، و يذهبون به مذهب قوه النفس و شجاعتها، الذى هو بالحقيقه مدح و شتان بين الخلقين، فان صاحب هذا الخلق الذى ذممناه تصدر عنه افعال كثيره يجور فيها على نفسه ثم على اخوانه، على الاقرب فالاقرب من معامليه، حتى ينتهى الى عبيده و حرمه، فيكون عليهم سوط، عذاب لايقيلهم عثره، و لايرحم لهم عبره، و ان كانوا برآء الذنوب، غير مجرمين و لامكتسبى سوء، بل يتجرم عليهم، و يهيج من ادنى سبب يجد به طريقا اليهم، حتى يبسط يده و لسانه، و هم لايمتنعون منه، و لايتجاسرون على رده عن انفسهم، بل يذعنون له و يقرون بذنوب لم يقترفوها، استكفافا لعاديته و تسكينا لغضبه، و هو فى ذلك يستمر على طريقته لايكف يدا و لالسانا.

و اصل هذا الخلق الذى ذكرناه انه مركب من قوى مختلفه من شده القوه الغضبيه، فهى الحامله لصاحب هذا الخلق على ما يصدر عنه من البادره المكروهه و الجبه و القحه، و قد راينا و شاهدنا من تشتد القوه الغضبيه فيه، فيتجاوز الغضب على نوع الانسان الى البهائم التى لاتعقل، و الى الاوانى التى لاتحس، و ربما قام الى الحمار و الى البرذون فضربهما و لكمهما و ربما كسر الانيه لشده غضبه،
و ربما عض القفل اذا تعسر عليه، و ربما كسر القلم اذا تعلقت به شعره من الدواه و اجتهد فى ازالتها فلم تزل.

و يحكى عن بعض ملوك اليونان المتقدمين، انه كان يغضب على البحر اذا هاج و اضطرب، و تاخرت سفنه عن النفوذ فيه، فيقسم بمعبوده ليطمنه و ليطرحن الجبال فيه حتى يصير ارضا، و يقف بنفسه على البحر، و يهدده بذلك، و يزجره زجرا عنيفا، حتى تدر اوداجه و يشتد احمرار وجهه، و منهم من لايسكن غضبه حتى يصب عليه ماء بارد او حتى يبول، و لهذا ورد فى الشريعه الامر لمن اشتد غضبه ان يتوضا للصلاه و يصلى.

و كان عمر بن الخطاب اذا غضب على واحد من اهله لايسكن غضبه، حتى يعض يده عضا شديدا حتى يدميها.

و ذكر الزبير بن بكار فى "الموفقيات" ان سريه جاءت لعبد الرحمن او لعبيدالله ابن عمر بن الخطاب اليه تشكوه فقالت: يا اميرالمومنين، الا تعذرنى من ابى عيسى، قال: و من ابو عيسى؟ قالت: ابنك عبيدالله، قال: ويحك! و قد تكنى بابى عيسى! ثم دعاه فقال: ايها اكتنيت بابى عيسى! فحذر و فزع، و اخذ يده فعضها، ثم ضربه، و قال: ويلك! و هل لعيسى اب؟ اتدرى ما كنى العرب! ابوسلمه، ابوحنظله، ابوعرفطه ابومره... قال الزبير: و كان عمر اذا غضب على بعض اهله لم يسكن غضبه حتى يعض ي
ده عضا شديدا.

و كان عبدالله بن الزبير كذلك، و لقوه هذا الخلق عنده اضمر عبدالله بن عباس فى خلافته ابطال القول بالعول و اظهره بعده، فقيل له: هلا قلت هذا فى ايام عمر! فقال: هبته، و كان اميرا مهيبا.

و لذلك قال ايضا ابوسفيان فى استلحاق زياد: اخاف من هذا العير الجالس ان يخرق على اهابى، فاذا هابه ابوسفيان و هو من بنى عبد مناف فى المنزله التى تعلم، و حوله بنو عبد شمس، و هم جمره قريش، فما ظنك بمن هو دونه! و قد علمت حال جبله بن الايهم و ارتداده عن الاسلام لتهدده له و وعيده اياه ان يضربه بالدره، و فساد الحال بينه و بين خالد بن الوليد بعد ان كان وليا مصافيا، و منحرفا عن غيره قاليا، و الشان الذى كان بينه و بين طلحه حتى هم ان يوقع به، و حتى هم طلحه ان يجاهره، و طلحه هو الذى قال لابى بكر عند موته: ماذا تقول لربك و قد وليت فينا فظا غليظا! و هو القائل له: يا خليفه رسول الله، انا كنا لانحتمل شراسته و انت حى تاخذ على يديه، فكيف يكون حالنا معه و انت ميت و هو الخليفه! و اعلم انا لانريد بهذا القول ذمه رضى الله عنه، و كيف نذمه و هو اولى الناس بالمدح و التعظيم، ليمن نقيبته و بركه خلافته، و كثره الفتوح فى ايامه، و انتظام امور الاسلا
م على يده! و لكنا اردنا ان نشرح حال العنف و الرفق، و حال سعه الخلق و ضيقه، و حال البشاشه و العبوس، و حال الطلاقه و الوعوره، فنذكر كل واحد منها ذكرا كليا، لانخص به انسانا بعينه.

فاما عمر فانه و ان كان وعرا شديدا خشنا، فقد رزق من التوفيق و العنايه الالهيه و نجح المساعى، و طاعه الرعيه و نفوذ الحكم، و قوه الدين و حسن النيه و صحه الراى، ما يربى محاسنه و محامده على ما فى ذلك الخلق من نقص، و ليس الكامل المطلق الا الله تعالى وحده.

فاما حديث الرضيخه و ما جعل معاويه لعمرو بن العاص من جعاله على مبايعته و نصرته، فقد تقدم ذكره فى اخبار صفين المشروحه فى هذا الكتاب من قبل.

/ 614