حکمت 375
الشرح:
من علم يقينا ان الله تعالى يراه عند معصيته، كان اجدر الناس ان يجتنبها، كما اذا علمنا يقينا ان الملك يرى الواحد منا و هو يراود جاريته عن نفسها، او يحادث ولده ليفجر به، و لكن اليقين فى البشر ضعيف جدا، او انهم احمق الحيوان و اجهله، و بحق اقول: انهم ان اعتقدوا ذلك اعتقادا لا يخالطه الشك، ثم واقعوا المعصيه، و عندهم عقيده اخرى ثابته ان العقاب لاحق بمن عصى، فان الابل و البقر اقرب الى الرشاد منهم.و اقول: ان الذى جرا الناس على المعصيه الطمع فى المغفره، و العفو العام.و قولهم: الحلم و الكرم و الصفح من اخلاق ذوى النباهه و الفضل من الناس، فكيف لايكون من البارى سبحانه عفو عن الذنوب! و ما احسن قول شيخنا ابى على رحمه الله: لو لا القول بالارجاء، لما عصى الله فى الارض.حکمت 376
الشرح:
قد تقدم الكلام فى الدنيا و حمق من يركن اليها مع معاينه غدرها، و قله وفائها و نقضها عهودها، و قتلها عشاقها.و لاريب ان الغبن و اعظم الغبن هو التقصير فى الطاعه مع يقين الثواب عليها، و اما الطمانينه الى من لم يعرف و لم يختبر فانها عجز كما قال (ع) يعنى عجزا فى العقل و الراى، فان الوثوق مع التجربه فيه ما فيه، فكيف قبل التجربه! و قال الشاعر: و كنت ارى ان التجارب عده فخانت ثقات الناس حين التجارب حکمت 377
الشرح:
هذا الكلام نسبه الغزالى فى كتاب "احياء علوم الدين" الى ابى الدرداء، و الصحيح انه من كلام على (ع)، ذكره شيخنا ابوعثمان الجاحظ فى غير موضع من كتبه، و هو اعرف بكلام الرجال.نبذ مما قيل فى حال الدنيا و هوانها و اغترار الناس بها و قد تقدم من كلامنا فى حال الدنيا و هوانها على الله و اغترار الناس بها و غدرها بهم، و ذم العقلاء لها، و تحذيرهم منها ما فيه كفايه.و نحن نذكر هاهنا زياده على ذلك.يقال: ان فى بعض كتب الله القديمه: الدنيا غنيمه الاكياس، و غفله الجهال، لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسالوا الرجعه فلم يرجعوا.و قال بعض العارفين: من سال الله (تعالى) الدنيا فانما ساله طول الوقوف بين يديه.و قال الحسن: لاتخرج نفس ابن آدم من الدنيا الا بحسرات ثلاث: انه لم يشبع مما جمع، و لم يدرك ما امل، و لم يحسن الزاد لما يقدم عليه.و من كلامه: اهينوا الدنيا، فو الله ما هى لاحد باهنا منها لمن اهانها.و قال محمد بن المنكدر: ارايت لو ان رجلا صام الدهر لا يفطر، و قام الليل لا يفتر، و تصدق بماله، و جاهد فى سبيل الله، و اجتنب محارم الله تعالى، غير انه يوتى به يوم القيامه فيقال: ان هذا مع ما قد عمل كان يعظم فى عينه ما صغر الله، و يصغر فى عينه ما عظم الله، كيف ترى يكون حاله! فمن منا ليس هكذا، الدنيا عظيمه عنده مع ما اقترفنا من الذنوب و الخطايا.و قد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا، قالوا: مثل الدنيا و اهلها كقوم ركبوا سفينه فانتهت بهم الى جزيره، فامرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجه و حذرهم المقام، و خوفهم مرور السفينه، و استعجالها، فتفرقوا فى نواحى الجزيره، فقضى بعضهم حاجته و بادر الى السفينه، فصادف المكان خاليا، فاخذ اوسع المواضع و الينها و اوفقها لمراده.و بعضهم توقف فى الجزيره ينظر الى ازهارها و انوارها العجيبه، و غياضها الملتفه، و نغمات طيورها الطيبه، و الحانها الموزونه الغريبه، و لحظ فى تزيينها احجارها و جواهرها و معادنها المختلفه الالوان ذوات الاشكال الحسنه المنظر، العجيبه النقش، السالبه اعين الناظرين بحسن زبرجها، و عجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينه، فرجع اليها فلم يصادف الا مكانا ضيقا حرجا، فاستقر فيه.و بعضهم اكب فيها على تلك الاصداف و الاحجار، و قد اعجبه حسنها، و لم تسمح نفسه باهمالها و تركها، فاستصحب منها جمله، فجاء الى السفينه فلم يجد الا مكانا ضيقا، و زاده ما حمله ضيقا، و صار ثقلا عليه و وبالا
، فندم على اخذه، و لم تطعه نفسه على رميه، و لم يجد موضعا له، فحمله على عنقه و راسه و جلس فى المكان الضيق فى السفينه، و هو متاسف على اخذه و نادم، و ليس ينفعه ذلك.و بعضهم تولج بتلك الانوار و الغياض، و نسى السفينه و ابعد فى متفرجه و متنزهه، حتى ان نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله باكل تلك الثمار، و اشتمامه تلك الانوار، و التفرج بين تلك الاشجار، و هو مع ذلك خائف على نفسه من السباع، و السقطات و النكبات، و نهش الحيات، و ليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه، و غصن يجرح جسمه، و مروه تدمى رجله، و صوت هائل يفزع منه، و عوسج يملا طريقه، و يمنعه عن الانصراف لو اراده، و كان فى جماعه ممن كان معه فى السفينه حالهم حاله، فلما بلغهم نداء السفينه راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد فى السفينه موضعا واسعا و لا ضيقا، فبقى على الشط حتى مات جوعا.و بعضهم بلغه النداء، فلم يعرج عليه، و استغرقته اللذه، و سارت السفينه فمنهم من افترسته السباع، و منهم من تاه و هام على وجهه حتى هلك، و منهم من ارتطم فى الاوحال، و منهم من نهشته الحيات، فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنه.فاما من وصل الى السفينه مثقلا بما اخذه من الازهار و الفاكهه اللذيذه، و الاحجار المعجبه، فان
ها استرقته و شغله الحزن بحفظها و الخوف من ذهابها عن جميع اموره، و ضاق عليه بطريقها مكانه، فلم تلبث ان ذبلت تلك الازهار، و فسدت تلك الفاكهه الغضه، و كمدت الوان الاحجار و حالت، فظهر له نتن رائحتها، فصارت مع كونها مضيقه عليه موذيه له بنتنها و وحشتها، فلم يجد حيله الا ان القاها فى البحر هربا منها و قد اثر فى مزاجه ما اكله منها، فلم ينته الى بلده الا بعد ان ظهرت عليه الاسقام بما اكل و ما شم من تلك الروائح، فبلغ سقيما وقيذا مدبرا، و اما من كان رجع عن قريب و ما فاته الا سعه المحل، فانه تاذى بضيق المكان مده، و لكن لما وصل الى الوطن استراح، و اما من رجع اولا فانه وجد المكان الاوسع، و وصل الى الوطن سالما طيب القلب مسرورا.فهذا مثال اهل الدنيا فى اشتغالهم بحظوظهم العاجله، و نسيانهم موردهم و مصدرهم، و غفلتهم عن عاقبه امرهم، و ما اقبح حال من يزعم انه بصير عاقل و تغره حجاره الارض، و هى الذهب و الفضه، و هشيم النبت و هو زينه الدنيا، و هو يعلم يقينا ان شيئا من ذلك لايصحبه عند الموت، بل يصير كله وبالا عليه، و هو فى الحال الحاضره شاغل له بالخوف عليه، و الحزن و الهم لحفظه، و هذه حال الخلق كلهم الا من عصمه الله.و قد ضرب ايضا له
ا مثال آخر فى عبور الانسان عليها، قالوا: الاحوال ثلاثه: حال لم يكن الانسان فيها شيئا، و هى ما قبل وجوده الى الازل، و حال لايكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا، و هى بعد موته الى الابد، و حاله متوسطه بين الازل و الابد، و هى ايام حياته فى الدنيا، فلينظر العاقل الى الطرفين الطويلين، و لينظر الى الحاله المتوسطه، هل يجد لها نسبه اليها، و اذا راى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن اليها، و لم يبال كيف تقضت ايامه فيها، فى ضر و ضيق، او فى سعه و رفاهه، بل لايبنى لبنه على لبنه، توفى رسول الله (ص) و ما وضع لبنه على لبنه، و لاقصبه على قصبه.و راى بعض الصحابه بنى بيتا من جص فقال: ارى الامر اعجل من هذا، و انكر ذلك، و لهذا قال النبى (ص): ما لى و للدنيا، انما مثلى و مثلها كراكب سار فى يوم صائف، فرفعت له شجره فقام تحت ظلها ساعه ثم راح و تركها، و الى هذا اشار عيسى بن مريم حيث قال: الدنيا قنطره، فاعبروها و لاتعمروها، و هو مثل صحيح، فان الحياه الدنيا قنطره الى الاخره، و المهد هو احد جانبى القنطره، و اللحد الجانب الاخر، و بينهما مسافه محدوده، فمن الناس من قطع نصف القنطره، و منهم من قطع ثلثيها، و منهم من لم يبق له الا خطوه واحده و هو غاف
ل عنها، و كيفما كان فلا بد من العبور و الانتهاء، و لاريب ان عماره هذه القنطره، و تزيينها باصناف الزينه لمن هو محمول قسرا و قهرا على عبورها، يسوقه سائق عنيف، غايه الجهل و الخذلان.و فى الحديث المرفوع: (ان رسول الله (ص) مر على شاه ميته، فقال: اترون ان هذه الشاه هينه على اهلها: قالوا: نعم، و من هوانها القوها، فقال: و الذى نفسى بيده للدنيا اهون على الله من هذه الشاه على اهلها، و لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضه لما سقى كافرا منها شربه ماء).و قال (ص): (الدنيا سجن المومن، و جنه الكافر).و قال ايضا: (الدنيا ملعونه، ملعون ما فيها، الا ما كان لله منها).و قال ايضا: (من احب دنياه اضر باخرته، و من احب آخرته اضر بدنياه، فاثروا ما يبقى على ما يفنى).و قال ايضا: (حب الدنيا راس كل خطيئه).و روى زيد بن ارقم قال: كنا مع ابى بكر، فدعا بشراب، فاتى بماء و عسل، فلما ادناه من فيه بكى حتى ابكى اصحابه، فسكتوا و ما سكت، ثم عاد ليشرب، فبكى حتى ظنوا انهم لايقدرون على مسالته، ثم مسح عينيه، فقالوا: يا خليفه رسول الله، ما ابكاك؟ قال: كنت مع رسول الله (ص) فرايته يدفع بيده عن نفسه شيئا، و لم ار معه احدا، فقلت: يا رسول الله، ما الذى
تدفع عن نفسك؟ قال: هذه الدنيا مثلت لى، فقلت لها: اليك عنى، فرجعت و قالت: انك ان افلت منى لم يفلت منى من بعدك.و قال (ص): (يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور!).و من الكلام الماثور عن عيسى (ع): لاتتخذو الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا، فاكنزوا كنزكم عند من لايضيعه، فان صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الافه، و صاحب كنز الاخره لايخاف عليه.
حکمت 378
الشرح:
قد تقدم مثل هذا، و قد ذكرنا ما عندنا فيه، و قال الشاعر: لئن فخرت باباء ذوى حسب لقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا و كان يقال: اجهل الناس من افتخر بالعظام الباليه، و تبجح بالقرون الماضيه، و اتكل على الايام الخاليه.و كان يقال: من طريف الامور حى يتكل على ميت.و كان يقال: ضعه الدنى ء فى نفسه و الرفيع فى اصله، اقبح من ضعه الوضيع فى نفسه و اصله، لان هذا تشبه بابائه و سلفه، و ذاك قصر عن اصله و سلفه، فهو الى الملامه اقرب، و عن العذر ابعد.افتخر شريف بابيه، فقال خصمه: لو وفقت، لما ذكرت اباك، لانه حجه عليك تنادى بنقصك، و تقر بتخلفك.كان جعفر بن يحيى يقول: ليس من الكرام من افتخر بالعظام.و قال الفضل بن الربيع: كفى بالمرء عارا ان يفتخر بغيره.و قال الرشيد: من افتخر بابائه فقد نادى على نفسه بالعجز، و اقر على همته بالدنائه.و قال ابن الرومى: و ما الحسب الموروث لا در دره بمحتسب الا باخر مكتسب اذا العود لم يثمر و ان كان شعبه من الثمرات اعتده الناس فى الحطب و قال عبدالله بن جعفر: لسنا و ان احسابنا كرمت يوما على الاباء نتكل نبنى كما كانت اوائلنا تبنى و نفعل مثل ما فعلوا و قال آخر: و ما فخرى بمجد قام غيرى اليه اذا رقدت الليل عنه الى حسب الفتى فى نفسه انظر و لاتنظر هديت الى ابن من هو و قال آخر: اذا فخرت بابائى و اجدادى فقد حكمت على نفسى لاضدادى هل نافعى ان سعى جدى لمكرمه و نمت عن اختها فى جانب الوادى! و قال آخر: ايقنعنى كونى بمن كونى ابنه ابا لى ان ارضى لفخرى بمجده اذا المرء لم يحو العلاء بنفسه فليس بحاو للعلاء بجده و هل يقطع السيف الحسام باصله اذا هو لم يقطع بصارم حده! و قيل لرجل يدل بشرف آبائه: لعمرى لك اول، و لكن ليس لاولك آخر.و مثله ان شريفا بابائه فاخر شريفا بنفسه، فقال الشريف بنفسه: انتهى اليك شرف اهلك، و منى ابتدا شرف اهلى، و شتان بين الابتداء و الانتهاء! و قيل لشريف ناقص الادب: ان شرفك بابيك لغيرك، و شرفك بنفسك لك، فافرق بين ما لك و ما لغيرك، و لاتفرح بشرف النسب، فانه دون شرف الادب.
حکمت 379
الشرح:
هذا مثل قولهم: من طلب و جد وجد.و قال بعض الحكماء: ما لازم احد باب الملك فاحتمل الذل و كظم الغيظ و رفق بالبواب و خالط الحاشيه الا وصل الى حاجته من الملك.حکمت 380
الشرح:
موضع (بعده النار) رفع لانه صفه (خير) الذى بعد (ما)، و خير يرفع لانه اسم ما، و موضع الجار و المجرور نصب لانه خبر ما، و الباء زائده، مثلها فى قولك: ما انت بزيد، كما تزاد فى خبر ليس، و التقدير ما خير تتعقبه النار بخير، كما تقول: ما لذه تتلوها نغصه بلذه، و لاينقدح فى ما: الوجهان اللذان ذكرهما ارباب الصناعه النحويه فى (لا) فى قولهم: لا خير بخير بعده النار، احدهما ما ذكرناه فى ما، و الاخر ان يكون موضع (بعده النار) جرا لانه صفه خير المجرور، و يكون معنى الباء معنى فى كقولك: زيد بالدار و فى الدار، و يصير تقدير الكلام: لا خير فى خير تعقبه النار، و ذلك ان ما تستدعى خبرا موجودا فى الكلام، بخلاف لا، فان خبرها محذوف فى مثل قولك لا اله الا الله، و نحوه، اى فى الوجود او لنا او ما اشبه ذلك، و اذا جعلت بعده صفه خير المجرور لم يبق معك ما تجعله خبر ما.و ايضا فان معنى الكلام يفسد فى ما بخلاف لا، لان لا لنفى الجنس، فكانه نفى جنس الخير عن خير تتعقبه النار، و هذا معنى صحيح، و كلام منتظم، و ما هاهنا ان كانت نافيه احتاجت الى خبر ينتظم به الكلام، و ان كانت استفهاما فسد المعنى، لان (ما) لفظ يطلب به معنى الاسم، كقوله: ما العنقاء: او يطلب به حقيقه الذات، كقولك: ما الملك؟ و لست تطيق ان تدعى ان ما للاستفهام هاهنا عن احد القسمين مدخلا لانك تكون كانك قد قلت: اى شى ء هو خير فى خير تتعقبه النار؟ و هذا كلام لا معنى له.