شرح نهج البلاغه نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
و من الالفاظ التى جاءت عن رسول الله (ص) من باب الكنايات قوله (ص):(بعثت الى الاسود و الاحمر)، يريد الى العرب و العجم، فكنى عن العرب بالسود و عن العجم بالحمر، و العرب تسمى العجمى احمر، لان الشقره تغلب عليه.قال ابن قتيبه:خطب الى عقيل بن علفه المرى ابنته هشام بن اسمعيل المخزومى- و كان والى المدينه، و خال هشام بن عبدالملك- فرده، لانه كان ابيض شديد البياض- و كان عقيل اعرابيا جافيا غيورا مفرط الغيره- و قال:رددت صحيفه القرشى لما ابت اعراقه الا احمرارا فرده، لانه توسم فيه ان بعض اعراقه ينزع الى العجم، لما راى من بياض لونه و شقرته.و منه قول جرير يذكر العجم:يسموننا الاعراب و العرب اسمنا و اسماوهم فينا رقاب المزاود و انما يسمونهم رقاب المزاود، لانها حمراء.و من كناياتهم تعبيرهم عن المفاخره بالمساجله، و اصلها م
ن السجل، و هى الدلو الملى ء، كان الرجلان يستقيان، فايهما غلب صاحبه كان الفوز و الفخر له، قال الفضل بن العباس بن عتبه بن ابى لهب بن عبدالمطلب:و انا الاخضر من يعرفنى اخضر الجلده من بيت العرب من يساجلنى يساجل ماجدا يملا الدلو الى عقد الكرب برسول الله و ابنى عمه و بعباس بن عبدالمطلب و يقال:ان الفرزدق مر بالفضل و هو ينشد:(من يساجلنى)، فقال:انا اساجلك.و نزع ثيابه، فقال الفضل:(برسول الله و ابن عمه)، فلبس الفرزدق ثيابه، و قال:اعض الله من يساجلك بما نفت المواسى من بظر امه، و رواها ابوبكر بن دريد:(بما ابقت المواسى).و قد نزل القرآن العزيز على مخرج كلام العرب فى المساجله، فقال تبارك و تعالى:(فان للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب اصحابهم)، الذنوب:الدلو، و المراد ما ذكرناه.و قال المبرد:المراد بقوله:(و انا الاخضر)، اى الاسمر و الاسود، و العرب كانت تفتخر بالسمره و السواد، و كانت تكره الحمره و الشقره، و تقول:انهما من الوان العجم.و قال ابن دريد:مراده ان بيتى ربيع ابدا مخصب، كثير الخير، لان الخصب مع الخضره، و قال الشاعر:قوم اذا اخضرت نعالهم يتناهقون تناهق الحمر اى اذا اعشبت الارض اخضرت نعالهم من وطئه
م اياها، فاغار بعضهم على بعض، و التناهق هاهنا:اصواتهم حين ينادون للغاره، و يدعو بعضهم بعضا، و نظير هذا البيت قول الاخر:قوم اذا نبت الربيع لهم نبتت عداوتهم مع البقل اى اذا اخصبوا و شبعوا غزا بعضهم بعضا.و مثله قول الاخر:يابن هشام اهلك الناس اللبن فكلهم يغدو بسيف و قرن اى تسفهوا لما راوا من كثره اللبن و الخصب، فافسدوا فى الارض، و اغار بعضهم على بعض.و القرن:الجعبه.و قيل لبعضهم:متى يخاف من شر بنى فلان؟ فقال:اذا البنوا.و من الكنايات الداخله فى باب الايماء قول الشاعر:فتى لايرى قد القميص بخصره و لكنما يوهى القميص عواتقه لما كان سلامه القميص من الخرق فى موضع الخصر تابعا لدقه الخصر، و وهنه فى الكاهل تابعا لعظم الكاهل، ذكر ما دل بهما على دقه خصر هذا الممدوح و عظم كاهله:و منه قول مسلم بن الوليد:فرعاء فى فرعها ليل على قمر على قضيب على حقف النقا الدهس كان قلبى وشاحاها اذا خطرت و قلبها قلبها فى الصمت و الخرس تجرى محبتها فى قلب عاشقها مجرى السلامه فى اعضاء منتكس فلما كان قلق الوشاح تابعا لدقه الخصر ذكره دالا به عليه.و من هذا الباب قول القائل:اذا غرد المكاء فى غير روضه فويل لاهل الشا
ء و الحمرات اوما بذلك الى الجدب، لان المكاء يالف الرياض، فاذا اجدبت الارض سقط فى غير روضه و غرد، فالويل حينئذ لاهل الشاء و الحمر.و منه قول القائل:لعمرى لنعم الحى حى بنى كعب اذا جعل الخلخال فى موضع القلب القلب:السوار، يقول:نعم الحى هولاء اذا ريع الناس و خافوا، حتى ان المراه لشده خوفها تلبس الخلخال مكان السوار، فاختصر الكلام اختصارا شديدا.و منه قول الافوه الاودى:ان بنى اود هم ما هم للحرب او للجدب عام الشموس اشار الى الجدب و قله السحب و المطر، اى الايام التى كلها ايام شمس و صحو، لاغيم فيها و لا مطر.فقد ذكرنا من الكنايات و التعريضات و ما يدخل فى ذلك و يجرى مجراه من باب الايماء و الرمز قطعه صالحه، و سنذكر شيئا آخر من ذلك فيما بعد ان شاءالله تعالى، اذا مررنا فى شرح كلامه (ع) بما يقتضيه و يستدعيه.(حقيقه الكنايه و التعريض و الفرق بينهما) و قد كنا و عدنا ان نذكر كلاما كليا فى حقيقه الكنايه و التعريض، و الفرق بينهما، فنقول:الكنايه قسم من اقسام المجاز، و هو ابدال لفظه عرض فى النطق بها مانع بلفظه لامانع عن النطق بها، كقوله (ع):(قرارات النساء)، لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظه (ارحام النساء)
.و اما التعريض فقد يكون بغير اللفظ كدفع اسماء بن خارجه الفص الفيروز الازرق من يده الى ابن معكبر الضبى ادكارا له، بقول الشاعر:كذا كل ضبى من اللوم ازرق فالتعريض اذا هو التنبيه بفعل او لفظ على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به.و انا احكى هاهنا كلام نصرالله بن محمد بن الاثير الجزرى فى كتابه المسمى "بالمثل السائر" فى الكنايه و التعريض، و اذكر ما عندى فيه، قال:خلط ارباب هذه الصناعه الكنايه بالتعريض، و لم يفصلوا بينهما، فقال ابن سنان:ان قول امرى ء القيس:فصرنا الى الحسنى و رق كلامنا و رضت فذلت صعبه اى اذلال من باب الكنايه، و الصحيح انه من باب التعريض.قال:و قد قال الغانمى و العسكرى و ابن حمدون و غيرهم نحو ذلك، و مزجوا احد القسمين بالاخر.قال:و قد حد قوم الكنايه، فقالوا:هى اللفظ الدال على الشى ء بغير الوضع الحقيقى، بوصف جامع بين الكنايه و المكنى عنه، كاللمس و الجماع، فان الجماع اسم لموضوع حقيقى، و اللمس كنايه عنه، و بينهما وصف جامع، اذ الجماع لمس و زياده، فكان دالا عليه بالوضع المجازى.قال:و هذا الحد فاسد، لانه يجوز ان يكون حدا للتشبيه و المشبه، فان التشبيه هو اللفظ الدال على الوضع الحقيقى الجامع
بين المشبه و المشبه به فى صفه من الاوصاف، الا ترى اذا قلنا:زيد اسد، كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقى، بوصف جامع بين زيد و الاسد، و ذلك الوصف هو الشجاعه.قال:و اما اصحاب اصول الفقه، فقالوا فى حد الكنايه:انها اللفظ المحتمل، و معناه انها اللفظ الذى يحتمل الدلاله على المعنى، و على خلافه.و هذا منقوض بالالفاظ المفرده المشتركه، و بكثير من الاقوال المركبه المحتمله للشى ء و خلافه، و ليست بكنايات.قال:و عندى ان الكنايات لابد ان يتجاذبها جانبا حقيقه و مجاز، و متى افردت جاز حملها على الجانبين معا، الا ترى ان اللمس فى قوله سبحانه:(او لامستم النساء) يجوز حمله على الحقيقه و المجاز، و كل منهما يصح به المعنى و لايختل! و لهذا قال الشافعى:ان ملامسه المراه تنقض الوضوء و الطهاره.و ذهب غيره الى ان المراد باللمس فى الايه الجماع، و هو الكنايه المجازيه، فكل موضع يرد فيه الكنايه، فسبيله هذا السبيل، و ليس التشبيه بهذه الصوره و لا غيره من اقسام المجاز، لانه لايجوز حمله الا على جانب المجاز خاصه، و لو حمل على جانب الحقيقه لاستحال المعنى، الا ترى انا اذا قلنا:زيد اسد لم يصح ان يحمل الا على الجهه المجازيه، و هى التشبيه بالا
سد فى شجاعته، و لايجوز حمله على الجهه الحقيقيه، لان (زيدا) لايكون سبعا ذا انياب و مخالب، فقد صار اذن حد الكنايه انها اللفظ الدال على معنى يجوز حمله على جانبى الحقيقه و المجاز، بوصف جامع بين الحقيقه و المجاز.قال:و الدليل على ذلك ان الكنايه فى اصل الوضع ان تتكلم بشى ء و تريد غيره، يقال:كنيت بكذا عن كذا، فهى تدل على ما تكلمت به، و على ما اردته من غيره فلا يخلو اما ان يكون فى لفظ تجاذبه جانبا حقيقه و حقيقه، او فى لفظ تجاذبه جانبا مجاز و مجاز، او فى لفظ لايتجاذبه امر.و ليس لنا قسم رابع.و الثانى باطل، لان ذاك هو اللفظ المشترك، فان اطلق من غير قرينه مخصصه كان مبهما غير مفهوم، و ان كان معه قرينه صار مخصصا لشى ء بعينه، و الكنايه ان تتكلم بشى ء و تريد غيره، و ذلك مخالف للفظ المشترك اذا اضيف اليه القرينه، لانه يختص بشى ء واحد بعينه، و لايتعداه الى غيره، و الثالث باطل ايضا، لان المجاز لابد له من حقيقه ينقل عنها لانه فرع عليها.و ذلك اللفظ الدال على المجاز، اما ان يكون للحقيقه شركه فى الدلاله عليه او لايكون لها شركه فى الدلاله عليه، كان اللفظ الواحد قد دل على ثلاثه اشياء:احدها الحقيقه، و الاخران المجازان.