الشرح:
اما قوله: (كل امرى ء لاق ما يفر منه فى فراره)، اى اذا كان مقدورا، و الا فقد راينا من يفر من الشى ء و يسلم، لانه لم يقدر، و هذا من قوله تعالى: (و لو كنتم فى بروج مشيده)، و قوله: (لبرز الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم) و من قوله تعالى: (قل ان الموت الذى تفرون منه فانه ملاقيكم)، و فى القرآن العزيز مثل هذا كثير.قوله: (و الاجل مساق النفس) اى الامر الذى تساق اليه، و تنتهى عنده، و تقف اذا بلغته فلا يبقى له حينئذ اكله فى الدنيا.قوله: (و الهرب منه موافاته)، هذا كلام خارج مخرج المبالغه فى عدم النجاه، و كون الفرار غير مغن و لا عاصم من الموت، يقول: الهرب بعينه من الموت موافاه للموت، اى اتيان اليه، كانه لم يرتض بان يقول: الهارب لابد ان ينتهى الى الموت، بل جعل نفس الهرب هو ملاقاه الموت.قوله: (ابحثها) اى اكشفها، و اكثر ما يستعمل (بحث) معدى بحرف الجر، و قد عداه هاهنا الى (الايام) بنفسه و الى (مكنون الامر) بحرف الجر، و قد جاء بحثت الدجاجه التراب، اى نبشته.قوله: (فابى الله الا اخفائه، هيهات علم مخزون)! تقديره: هيهات ذلك! مبتدا و خبره، هيهات اسم للفعل، معناها بعد، اى علم هذا العيب علم مخزون مصون، لم اطلع عليه.فان قلت: ما
معنى قوله: (كم اطردت الايام ابحثها)؟ و هل علم الانسان بموته كيف يكون و فى اى وقت يكون، و فى اى ارض يكون، مما يمكن استدراكه بالنظر و الفكر و البحث؟ قلت: مراده (ع) انى كنت فى ايام رسول الله (ص) اساله كثيرا عن هذا الغيب، فما انبانى منه الا بامور اجماليه غير مفصله، و لم ياذن الله تعالى فى اطلاعى على تفاصيل ذلك.قوله: (فالله لاتشركوا به شيئا) الروايه المشهوره (فالله) بالنصب، و كذلك (محمدا) بتقدير فعل، لان الوصيه تستدعى الفعل بعدها، اى وحدوا الله، و قد روى بالرفع، و هو جائز على المبتدا و الخبر.قوله: (اقيموا هذين العمودين، و اوقدوا هذين المصباحين، و خلاكم ذم ما لم تشردوا)، كلام داخل فى باب الاستعاره، شبه الكتاب و السنه يعمودى الخيمه، و بمصباحين يستضاء بهما.و خلاكم ذم: كلمه جاريه مجرى المثل، معناها: و لا ذم عليكم، فقد اعذرتم.و ذم، مرفوع بالفاعليه، معناه: عداكم و سقط عنكم.فان قلت: اذا لم يشركوا بالله و لم يضيعوا سنه محمد (ص) فقد قاموا بكل ما يجب، و انتهوا عن كل ما يقبح، فاى حاجه له الى ان يستثنى و يقول: (ما لم تشردوا)، و انما كان يحتاج الى هذه اللفظه لو قال: وصيتى اليكم ان توحدوا الله، و تومنوا بنبوه محمد (ص)، كا
ن حينئذ يحتاج الى قوله: (ما لم تشردوا) و يكون مراده بها فعل الواجبات، و تجنب المقبحات، لانه ليس فى الاقرار بالوحدانيه و الرساله العمل، بل العمل خارج عن ذلك، فوجب اذا اوصى ان يوصى بالاعتقاد و العمل، كما قال عمر لابى بكر فى واقعه اهل الرده: كيف تقاتلهم و هم مقرون بالشهادتين، و قد قال رسول الله (ص) (امرت بان اقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله محمد رسول الله)، فقال ابوبكر: انه قال تتمه هذا: (فاذا هم قالوها عصموا منى دمائهم و اموالهم الا بحقها) و اداء الزكاه من حقها! قلت: مراده بقوله: (ما لم تشردوا) ما لم ترجعوا عن ذلك فكانه قال: خلاكم ذم ان وحدتم الله و اتبعتم سنه رسوله، و دمتم على ذلك.و لا شبهه ان هذا الكلام منتظم، و ان اللفظتين الاوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظه الثالثه و بتقدير ان يغينا عنه، فان فى ذكره مزيد تاكيد و ايضاح غير موجودين لو لم يذكر، و هذا كقوله تعالى: (و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتقه فاولئك هم الفائزون)، و ليس لقائل ان يقول: من لايخشى الله لا يكون مطيعا لله و الرسول، و اى حاجه به الى ذكر ما قد اغنى اللفظ الاول عنه! قوله: (حمل كل امرى ء مجهوده، و خفف عن الجهله)، هذا كلام متصل بما قبله،
لانه لما قال: (ما لم تشردوا) انبا عن تكليفهم كل ما وردت به السنه النبويه: و ان يدوموا عليه، و هذا فى الظاهر تكليف امور شاقه، فاستدرك بكلام يدل على التخفيف، فقال: ان التكاليف على قدر المكلفين، فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامه، و ارباب الجهل و المبادى ء كالنساء و اهل الباديه و طوائف من الناس، الغالب عليهم البلاده و قله الفهم، كاقاصى الحبشه و الترك و نحوهم، و هولاء عند المكلفين غير مكلفين، الا بحمل التوحيد و العدل، بخلاف العلماء الذين تكليفهم الامور المفصله و حل المشكلات الغامضه.و قد روى (حمل) على صيغه الماضى، و (مجهوده) بالنصب، و (خفف) على صيغه الماضى ايضا، و يكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره، و الروايه الاولى اكثر و اليق.ثم قال: (رب رحيم) اى ربكم رب رحيم و دين قويم، اى مستقيم.و امام عليم، يعنى رسول الله (ص)، و من الناس من يجعل (رب رحيم) فاعل (خفف) على روايه من رواها فعلا ماضيا و ليس بمستحسن لان عطف (الدين) عليه يقتضى ان يكون الدين ايضا مخففا، و هذا لايصح.ثم دعا لنفسه و لهم بالغفران.ثم قسم الايام الماضيه و الحاضره و المستقبله قسمه حسنه، فقال: (انا بالامس صاحبكم، و انا اليوم عبره لكم، و غدا مفارقكم) ان
ما كان عبره لهم لانهم يرونه بين ايديهم ملقى صريعا بعد ان صرع الابطال، و قتل الاقران، فهو كما قال الشاعر: اكال اشلاء الفوارس بالقنا اضحى بهن و شلوه ماكول و يقال: دحضت قدم فلان، اى زلت و زلقت.ثم شبهه وجوده فى الدنيا بافياء الاغصان و مهاب الرياح و ظلال الغمام، لان ذلك كله سريع الانقضاء لاثبات له.قوله: (اضمحل فى الجو متلفقها، و عفا فى الارض مخطها)، اضمحل ذهب، و الميم زائده، و منه الضحل و هو الماء القليل، و اضمحل السحاب: تقشع و ذهب، و فى لغه الكلابيين امضحل الشى ء بتقديم الميم.و متلفقها: مجتمعها، اى ما اجتمع من الغيوم فى الجو، و التلفيق: الجمع: و عفا: درس، و مخطها: اثرها، كالخطه.قوله: (و انما كنت جارا جاوركم بدنى اياما)، فى هذا الكلام اشعار بما يذهب اليه اكثر العقلاء من امر النفس، و ان هويه الانسان شى ء غير هذا البدن.و قوله: (ستعقبون منى) اى انما تجدون عقيب فقدى جثه، يعنى بدنا خلاء، اى لا روح فيه، بل قد اقفر من تلك المعانى التى كنتم تعرفونها و هى العقل و النطق و القوه و غير ذلك.ثم وصف تلك الجثه فقال: (ساكنه بعد حراك) بالفتح، اى بعد حركه (و صامته بعد نطق).و هذا الكلام ايضا يشعر بما قلناه من امر النفس، ب
ل يصرح بذلك، الا تراه قال: (ستعقبون منى جثه)، اى تستبدلون بى جثه صفتها كذا، و تلك الجثه جثته (ع)، و محال ان يكون العوض و المعوض عنه واحدا، فدل على ان هويته (ع) التى اعقبنا منها الجنه غير الجثه.قوله: (ليعظكم هدوى)، اى سكونى، و خفوت اطراقى، مثله خفت خفوتا سكن، و خفت خفاتا مات فجاه.و اطراقه: ارخاوه عينيه ينظر الى الارض، لضعفه عن رفع جفنه، و سكون اطرافه: يداه و رجلاه و راسه (ع).قال: (فانه اوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ، و القول المسموع)، و صدق (ع)! فان خطبا اخرس ذلك اللسان، و هد تلك القوى لخطب جليل، و يجب ان يتعظ العقلاء به.و ما عسى يبلغ قول الواعظين بالاضافه الى من شاهد تلك الحال، بل بالاضافه الى من سمعها، و افكر فيها، فضلا عن مشاهدتها عيانا! و فى هذا الكلام شبه من كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الاسكندر فقال احدهم: حركنا بسكونه.و قال الاخر: قد كان سيفك لايجف، و كانت مراقيك لاترام، و كانت نقماتك لاتومن، و كانت عطاياك يفرح بها، و كان ضياوك لاينكشف، فاصبح ضوئك قد خمد، و اصبحت نقماتك لاتخشى، و عطاياك لاترجى، و مراقيك لاتمنع، و سيفك لايقطع.و قال الاخر: انظروا الى حلم المنام كيف انجلى، و الى ظل الغمام كي
ف انسلى! و قال آخر: ما كان احوجه الى هذا الحلم، و الى هذا الصبر و السكون ايام حياته! و قال آخر: القدره العظيمه التى ملات الدنيا العريضه الطويله، طويت فى ذراعين.و قال الاخر: اصبح آسر الاسراء اسيرا، و قاهر الملوك مقهورا.كان بالامس مالكا، فصار اليوم هالكا.ثم قال (ع): (ودعتكم وداع امرى ء مرصدا للتلاقى)، ارصدته لكذا، اى اعددته له، و فى الحديث: (الا ان ارصده لدين على).و التلاقى هاهنا: لقاء الله.و يروى: (وداعيكم) اى وداعى اياكم، و الوداع مفتوح الواو.ثم قال: (غدا ترون ايامى، و يكشف لكم عن سرائرى، و تعرفوننى بعد خلو مكانى، و قيام غيرى مقامى)، هذا معنى قد تداوله الناس قديما و حديثا، قال ابوتمام: راحت وفود الارض عن قبره فارغه الايدى ملا القلوب قد علمت ما رزئت انما يعرف قدر الشمس بعد الغروب و قال ابوالطيب: و نذمهم و بهم عرفنا فضله و بضدها تتبين الاشياء و من امثالهم: الضد يظهر حسنه الضد و منها ايضا: لو لا مراره المرض لم تعرف حلاوه العافيه.و انما قال (ع): (و يكشف لكم عن سرائرى)، لانهم بعد فقده و موته يظهر لهم و يثبت عندهم اذا راوا و شاهدوا امره من بعده، انه انما كان يريد بتلك الحروب العظيمه وجه الله ت
عالى، و الا يظهر المنكر فى الارض، و ان ظن قوم فى حياته انه كان يريد الملك و الدنيا.