الشرح:
رجعوا على الاعقاب: تركوا ما كانوا عليه، قال سبحانه: (و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا).و غالتهم السبل: اهلكهم اختلاف الاراء و الاهواء، غاله كذا، اى اهلكه، و السبل: الطرق.و الولائج: جمع وليجه، و هى البطانه يتخذها الانسان لنفسه، قال سبحانه: (و لم يتخذوا من دون الله و لا رسوله و لا المومنين وليجه).و وصلوا غير الرحم، اى غير رحم رسول الله (ص)، فذكرها (ع) ذكرا مطلقا غير مضاف للعلم بها، كما يقول القائل: (اهل البيت)، فيعلم السامع انه اراد اهل بيت الرسول.و هجروا السبب، يعنى اهل البيت ايضا، و هذه اشاره الى قول النبى (ص): (خلفت فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتى اهل بيتى، حبلان ممدودان من السماء الى الارض، لايفترقان حتى يردا على الحوض)، فعبر اميرالمومنين عن اهل البيت بلفظ (السبب) لما كان النبى (ص) قال: (حبلان)، و السبب فى اللغه: الحبل.عنى بقوله: (امروا بمودته) قول الله تعالى: (قل لااسالكم عليه اجرا الا الموده فى القربى).قوله: (و نقلوا البناء عن رص اساسه،)، الرص مصدر رصصت الشى ء ارصه، اى الصقت بعضه ببعض، و منه قوله تعالى: (كانهم بنيان مرصوص)، و تراص القوم فى الصف، اى تلاصقوا.فبنوه فى غير موضعه! و نقلوا الامر عن اهله الى غير اهله.ثم ذمهم (ع)، و قال: (انهم معادن كل خطيئه و ابواب كل ضارب فى غمره)، الغمره: الضلال و الجهل.و الضارب فيها: الداخل المعتقد لها.قد ماروا فى الحيره، مار يمور اذا ذهب و جاء، فكانهم يسبحون فى الحيره كما يسبح الانسان فى الماء.و ذهل فلان، بالفتح، يذهل.على سنه من آل فرعون، اى على طريقه، و آل فرعون: اتباعه، قال تعالى: (ادخلوا آل فرعون اشد العذاب).من منقطع الى الدنيا: لا هم له غيرها.راكن: مخلد اليها، قال الله تعالى: (و لاتركنوا الى الذين ظلموا).او مفارق للدين مباين: مزايل.فان قلت: اى فرق بين الرجلين؟ و هل يكون المنقطع الى الدنيا الا مفارقا للدين؟ قلت: قد يكون فى اهل الضلال من هو مفارق للدين مباين، و ليس براكن الى الدنيا و لامنقطع اليها، كما نرى كثيرا من احبار النصارى و رهبانهم.فان قلت: اليس هذا الفصل صريحا فى تحقيق مذهب الاماميه؟ قلت: ل
ا، بل نحمله على انه عنى (ع) اعدائه الذين حاربوه من قريش و غيرهم من افناء العرب، فى ايام صفين، و هم الذين نقلوا البناء، و هجروا السبب، و وصلوا غير الرحم، و اتكلوا على الولائج، و غالتهم السبل، و رجعوا على الاعقاب، كعمرو بن العاص، و المغيره بن شعبه، و مروان بن الحكم، و الوليد بن عقبه، و حبيب بن مسلمه، و بسر بن ارطاه، و عبدالله بن الزبير، و سعيد بن العاص، و حوشب، و ذى الكلاع، و شرحبيل بن السمط، و ابى الاعور السلمى، و غيرهم ممن تقدم ذكرنا له فى الفصول المتعلقه بصفين و اخبارها، فان هولاء نقلوا الامامه عنه (ع) الى معاويه، فنقلوا البناء عن رص اصله الى غير موضعه.فان قلت.لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تاولته، لانه قال (ع): حتى اذا قبض الله رسوله رجع قوم على الاعقاب، فجعل رجوعهم على الاعقاب عقيب قبض الرسول (ص)، و ما ذكرته انت كان بعد قبض الرسول بنيف و عشرين سنه! قلت: ليس يمتنع ان يكون هولاء المذكورون رجعوا على الاعقاب، لما مات رسول الله (ص)، و اضمروا فى انفسهم مشاقه اميرالمومنين و اذاه، و قد كان فيهم من يتحكك به فى ايام ابى بكر و عمر و عثمان، و يتعرض له، و لم يكن احد منهم و لا من غيرهم يقدم على ذلك فى حياه رسول الله.و لايم
تنع ايضا ان يريد برجوعهم على الاعقاب ارتدادهم عن الاسلام بالكليه، فان كثيرا من اصحابنا يطعنون فى ايمان بعض من ذكرناه و يعدونهم من المنافقين، و قد كان سيف رسول الله (ص) يقمعهم و يردعهم عن اظهار ما فى انفسهم من النفاق، فاظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك، خصوصا فيما يتعلق باميرالمومنين، الذى ورد فى حقه: (ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله الا ببغض على بن ابى طالب)، و هو خبر محقق مذكور فى الصحاح.فان قلت: يمنعك من هذا التاويل قوله: (و نقلوا البناء عن رص اساسه، فجعلوه فى غير موضعه)، و ذلك لان (اذا) ظرف، و العامل فيها قوله: (رجع قوم على الاعقاب) و قد عطف عليه قوله: (و نقلوا البناء)، فاذا كان الرجوع على الاعقاب واقعا فى الظرف المذكور، و هو وقت قبض الرسول، وجب ان يكون نقل البناء الى غير موضعه واقعا فى ذلك الوقت ايضا، لان احد الفعلين معطوف على الاخر، و لم ينقل احد وقت قبض الرسول (ص) البناء الى معاويه عن اميرالمومنين (ع)، و انما نقل عنه الى شخص آخر، و فى اعطاء العطف حقه اثبات مذهب الاماميه صريحا! قلت: اذا كان الرجوع على الاعقاب واقعا وقت قبض النبى (ص) فقد قمنا بما يجب من وجود عامل فى الظرف، و لايجب ان يكو
ن نقل البناء الى غير موضعه واقعا فى تلك الحال ايضا، بل يجوز ان يكون واقعا فى زمان آخر، اما بان تكون الواو للاستئناف لاللعطف، او بان تكون للعطف فى مطلق الحدث لا فى وقوع الحدث فى عين ذلك الزمان المخصوص، كقوله تعالى: (حتى اذا اتيا اهل قريه استطعما اهلها فابوا ان يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد ان ينقض فاقامه)، فالعامل فى الظرف (استطعما) و يجب ان يكون استطعامهما وقت اتيانهما اهلها لامحاله.و لايجب ان تكون جميع الافعال المذكوره المعطوفه واقعه حال الاتيان ايضا، الا ترى ان من جملتها (فاقامه) و لم يكن اقامه الجدار حال اتيانهما القريه بل متراخيا عنه بزمان ما، اللهم الا ان يقول قائل: اشار بيده الى الجدار فقام، او قال له: قم، فقام، لانه لايمكن ان يجعل اقامه الجدار مقارنا للاتيان الا على هذا الوجه، و هذا لم يكن، و لاقاله مفسر.و لو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له: (لو شئت لاتخذت عليه اجرا)، لان الاجر انما يكون على اعتمال عمل فيه مشقه، و انما يكون فيه مشقه اذا بناه بيده، و باشره بجوارحه و اعضائه.و اعلم انا نحمل كلام اميرالمومنين (ع) على ما يقتضيه سودده الجليل، و منصبه العظيم، و دينه القويم، من الاغضاء عما سلف ممن سلف
، فقد كان صاحبهم بالمعروف برهه من الدهر، فاما ان يكون ما كانوا فيه حقهم او حقه، فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعه، او لما رآه من المصلحه، و على كلا التقديرين فالواجب علينا ان نطبق بين آخر افعاله و اقواله بالنسبه اليهم و بين اولها، فان بعد تاويل ما يتاوله من كلامه، ليس بابعد من تاويل اهل التوحيد و العدل الايات المتشابهه فى القرآن، و لم يمنع بعدها من الخوض فى تاويلها محافظه على الاصول المقرره، فكذلك هاهنا.