شرح نهج البلاغه نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
قلت له مره: ما سبب حب الناس لعلى بن ابى طالب (ع)، و عشقهم له، و تهالكهم فى هواه؟ و دعنى فى الجواب من حديث الشجاعه و العلم و الفصاحه، و غير ذلك من الخصائص التى رزقه الله سبحانه الكثير الطيب منها! فضحك و قال لى: كم تجمع جراميزك على! ثم قال: هاهنا مقدمه ينبغى ان تعلم، و هى ان اكثر الناس موتورون من الدنيا، اما المستحقون فلا ريب فى ان اكثرهم محرومون، نحو عالم يرى انه لا حظ له فى الدنيا، و يرى جاهلا غيره مرزوقا و موسعا عليه.و شجاع قد ابلى فى الحرب، و انتفع بموضعه، ليس له عطاء يكفيه، و يقوم بضروراته، و يرى غيره و هو جبان فشل، يفرق من ظله، مالكا لقطر عظيم من الدنيا، و قطعه وافره من المال و الرزق.و عاقل سديد التدبير، صحيح العقل، قد قدر عليه رزقه، و هو يرى غيره احمق مائقا تدر عليه الخيرات، و تتحلب عليه اخلاف الرزق.و ذى دين قويم، و عباده حسنه، و اخلاص و توحيد، و هو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهوديا او نصرانيا او زنديقا، كثير المال حسن الحال، حتى ان هذه الطبقات المستحقه يحتاجون فى اكثر الوقت الى الطبقات التى لا استحقاق لها، و تدعوهم الضروره الى الذل لهم، و الخضوع بين ايديهم.اما لدفع ضرر، او لاستجلاب نفع، و دون هذ
ه الطبقات من ذوى الاستحقاق ايضا، ما نشاهده عيانا من نجار حاذق او بناء عالم، او نقاش بارع، او مصور لطيف، على غايه ما يكون من ضيق رزقهم، و قعود الوقت بهم، و قله الحيله لهم، و يرى غيرهم ممن ليس يجرى مجراهم، و لا يلحق طبقتهم، مرزوقا مرغوبا فيه، كثير المكسب طيب العيش، واسع الرزق.فهذا حال ذوى الاستحقاق و الاستعداد.و اما الذين ليسوا من اهل الفضائل، كحشو العامه، فانهم ايضا لايخلون من الحقد على الدنيا و الذم لها، و الحنق و الغيظ منها لما يلحقهم من حسد امثالهم و جيرانهم، و لايرى احد منهم قانعا بعيشه، و لا راضيا بحاله، بل يستزيد و يطلب حالا فوق حاله.قال: فاذا عرفت هذه المقدمه، فمعلوم ان عليا (ع) كان مستحقا محروما، بل هو امير المستحقين المحرومين، و سيدهم و كبيرهم، و معلوم ان الذين ينالهم الضيم، و تلحقهم المذله و الهضيمه، يتعصب بعضهم لبعض، و يكونون البا و يدا واحده على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا، و نالوا ماربهم منها، لاشتراكهم فى الامر الذى آلمهم و سائهم، و عضهم و مضهم، و اشتراكهم فى الانفه و الحميه و الغضب و المنافسه لمن علا عليهم، و قهرهم، و بلغ من الدنيا ما لم يبلغوه، فاذا كان هولاء- اعنى المحرومين- متساوين فى ال
منزله و المرتبه، و تعصب بعضهم لبعض، فما ظنك بما اذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف، جامع للفضائل محتو على الخصائص و المناقب، و هو مع ذلك محروم محدود، و قد جرعته الدنيا علاقمها، و علته عللا بعد نهل من صابها و صبرها، و لقى منها برحا بارحا، و جهدا جهيدا، و علا عليه من هو دونه، و حكم فيه و فى بنيه و اهله و رهطه من لم يكن ما ناله من الامره و السلطان فى حسابه، و لا دائرا فى خلده، و لا خاطرا بباله، و لا كان احد من الناس يرتقب ذلك له و لا يراه له.ثم كان فى آخر الامر ان قتل هذا الرجل الجليل فى محرابه، و قتل بنوه بعده، و سبى حريمه و نساوه، و تتبع اهله و بنو عمه بالقتل و الطرد و التشريد و السجون، مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم، و انتفاع الخلق بهم فهل يمكن الا يتعصب البشر كلهم مع هذا الشخص! و هل تستطيع القلوب الا تحبه و تهواه، و تذوب فيه و تفنى فى عشقه، انتصارا له، و حميه من اجله، و انفه مما ناله، و امتعاضا مما جرى عليه! و هذا امر مركوز فى الطبائع، و مخلوق فى الغرائز، كما يشاهد الناس على الجرف انسانا قد وقع فى الماء العميق، و هو لايحسن السباحه، فانهم بالطبع البشرى يرقون عليه رقه شديده، و قد يلقى قوم
منهم انفسهم فى الماء نحوه، يطلبون تخليصه، لايتوقعون على ذلك مجازاه منه بمال او شكر، و لا ثوابا فى الاخره، فقد يكون منهم من لايعتقد امر الاخره، و لكنها رقه بشريه، و كان الواحد منهم يتخيل فى نفسه انه ذلك الغريق، فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق، كذلك يطلب تخليص من هو فى تلك الحال الصعبه للمشاركه الجنسيه.و كذلك لو ان ملكا ظلم اهل بلد من بلاده ظلما عنيفا، لكان اهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض فى الانتصار من ذلك الملك، و الاستعداء عليه فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر، جليل الشان، قد ظلمه الملك اكثر من ظلمه اياهم، و اخذ امواله و ضياعه و قتل اولاده و اهله كان لياذهم به و انضواوهم اليه، و اجتماعهم و التفافهم به اعظم و اعظم، لان الطبيعه البشريه تدعو الى ذلك على سبيل الايجاب الاضطرارى، و لايستطيع الانسان منه امتناعا.و هذا محصول قول النقيب ابى جعفر رحمه الله، قد حكيته و الالفاظ لى و المعنى له لانى لا احفظ الان الفاظه بعينها، الا ان هذا هو كان معنى قوله و فحواه، رحمه الله.و كان لايعتقد فى الصحابه ما يعتقده اكثر الاماميه فيهم، و يسفه راى من يذهب فيهم الى النفاق و التكفير.و كان يقول: حكمهم حكم مسلم مومن، عصى فى بعض
الافعال و خالف الامر فحكمه الى الله، ان شاء آخذه، و ان شاء غفر له.قلت له مره: افتقول انهما من اهل الجنه؟ فقال: اى و الله! اعتقد ذلك، لانهما اما ان يعفو الله تعالى عنهما ابتداء او بشفاعه الرسول (ص)، او بشفاعه على (ع)، او يواخذهما بعقاب او عتاب، ثم ينقلهما الى الجنه، لااستريب فى ذلك اصلا و لااشك فى ايمانهما برسول الله (ص) و صحه عقيدتهما.فقلت: له فعثمان؟ قال: و كذلك عثمان.ثم قال: رحم الله عثمان! و هل كان الا واحدا منا، و غصنا من شجره عبدمناف! و لكن اهله كدروه علينا، و اوقعوا العداوه و البغضاء بينه و بيننا.