الشرح:
الباء فى قوله: (بكلاكل العرب) زائده.
و الكلاكل: الصدور، الواحد كلكل، و المعنى انى اذللتهم و صرعتهم الى الارض.
و نواجم قرون ربيعه و مضر: من نجم منهم و ظهر، و علا قدره، و طار صيته.
فان قلت: اما قهره لمضر فمعلوم، فما حال ربيعه، و لم نعرف انه قتل منهم احدا؟ قلت: بلى قد قتل بيده و بجيشه كثيرا من روسائهم فى صفين و الجمل، فقد تقدم ذكر اسمائهم من قبل، و هذه الخطبه خطب بها بعد انقضاء امر النهروان.
و العرف بالفتح: الريح الطيبه، و مضغ الشى ء يمضغه بفتح الضاد.
و الخطله فى الفعل: الخطا فيه، و ايقاعه على غير وجهه.
و حراء: اسم جبل بمكه معروف.
و الرنه: الصوت.
ذكر ما كان من صله على برسول الله فى صغره و القرابه القريبه بينه و بين رسول الله (ص) دون غيره من الاعمام، كونه رباه فى حجره، ثم حامى عنه و نصره عند اظهار الدعوه دون غيره من بنى هاشم، ثم ما كان بينهما من المصاهره التى افضت الى النسل الاطهر دون غيره من الاصهار.
و نحن نذكر ما ذكره ارباب السير من معانى هذا الفصل.
روى الطبرى فى تاريخه، قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمه، قال: حدثنى محمد بن اسحاق قال: حدثنى عبدالله بن نجيح، عن مجاهد، قال: كان من ن
عمه الله عز و جل على على بن ابى طالب (ع)، و ما صنع الله له، و اراده به من الخير، ان قريشا اصابتهم ازمه شديده، و كان ابوطالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله (ص) للعباس- و كان من ايسر بنى هاشم: يا عباس، ان اخاك اباطالب كثير العيال، و قد ترى ما اصاب الناس من هذه الازمه، فانطلق بنا، فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بيته واحدا، و تاخذ واحدا، فنكفيهما عنه.
فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى اتيا اباطالب، فقالا له: انا نريد ان نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: ان تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما.
فاخذ رسول الله (ص) عليا فضمه اليه، و اخذ العباس جعفرا رضى الله عنه، فضمه اليه، فلم يزل على بن ابى طالب (ع) مع، رسول الله (ص) حتى بعثه الله نبيا، فاتبعه على (ع)، فاقر به و صدقه، و لم يزل جعفر عند العباس حتى اسلم و استغنى عنه.
قال الطبرى: و حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمه، قال: حدثنا محمد بن اسحاق، قال: كان رسول الله (ص) اذا حضرت الصلاه خرج الى شعاب مكه، و خرج معه على بن ابى طالب (ع) مستخفيا من عمه ابى طالب، و من جميع اعمامه و سائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فاذا امسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاءالله ان يمكثا.
ثم ان
اباطالب عثر عليهما و هما يصليان، فقال لرسول الله (ص): يابن اخى، ما هذا الذى اراك تدين به؟ قال: يا عم هذا دين الله و دين ملائكته و دين رسله و دين ابينا ابراهيم- او كما قال- بعثنى الله به رسولا الى العباد، و انت يا عم احق من بذلت له النصيحه، و دعوته الى الهدى، و احق من اجابنى اليه، و اعاننى عليه- او كما قال- فقال ابوطالب: يا بن اخى، انى لااستطيع ان افارق دينى و دين آبائى، و ما كانوا عليه، و لكن و الله لايخلص اليك شى ء تكرهه ما بقيت.
قال الطبرى: و قد روى هولاء المذكورون ان اباطالب قال لعلى (ع): يا بنى، ما هذا الذى انت عليه؟ فقال: يا ابت، انى آمنت بالله و برسوله، و صدقته بما جاء به، و صليت لله معه، قال: فزعموا انه قال له: اما انه لايدعو الا الى خير، فالزمه.
و روى الطبرى فى تاريخه ايضا، قال: حدثنا احمد بن الحسين الترمذى، قال: حدثنا عبدالله بن موسى، قال: اخبرنا العلاء، عن المنهال بن عمر، و عن عبدالله بن عبدالله، قال: سمعت عليا (ع)، يقول: انا عبدالله، و اخو رسوله، و انا الصديق الاكبر، لايقولها بعدى الا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين.
و فى غير روايه الطبرى: انا الصديق الاكبر و انا الفاروق الاول، اسلمت قبل اسلام
ابى بكر، و صليت قبل صلاته بسبع سنين.
كانه (ع) لم يرتض ان يذكر عمر و لا رآه اهلا للمقايسه بينه و بينه، و ذلك لان اسلام عمر كان متاخرا.
و روى الفضل بن عباس رحمه الله، قال: سالت ابى عن ولد رسول الله (ص) الذكور، ايهم كان رسول الله (ص) له اشد حبا؟ فقال: على بن ابى طالب (ع)، فقلت له: سالتك عن بنيه، فقال: انه كان احب اليه من بنيه جميعا و اراف، ما رايناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا، الا ان يكون فى سفر لخديجه، و ما راينا ابا ابر بابن منه لعلى، و لا ابنا اطوع لاب من على له.
و روى الحسين بن زيد بن على بن الحسين (ع)، قال: سمعت زيدا ابى (ع) يقول: كان رسول الله يمضغ اللحمه و التمره حتى تلين و يجعلهما فى فم على (ع) و هو صغير فى حجره، و كذلك كان ابى على بن الحسين (ع) يفعل بى، و لقد كان ياخذ الشى ء من الورك و هو شديد الحراره، فيبرده فى الهواء، او ينفخ عليه حتى يبرد، ثم يلقمنيه، افيشفق على من حراره لقمه و لايشفق على من النار! لو كان اخى اماما بالوصيه كما يزعم هولاء، لكان ابى افضى بذلك الى و وقانى من حر جهنم.
و روى جبير بن مطعم، قال: قال ابى مطعم بن عدى لنا و نحن صبيان بمكه: الا ترون حب هذا الغلام- يعنى عليا- لمحمد و اتبا
عه له دون ابيه! و اللات و العزى، لوددت ان ابنى بفتيان بنى نوفل جميعا! و روى سعيد بن جبير، قال: سالت انس بن مالك، فقلت: ارايت قول عمر عن السته: ان رسول الله (ص) مات و هو عنهم راض؟ الم يكن راضيا عن غيرهم من اصحابه؟ فقال: بلى، مات رسول الله (ص) و هو راض عن كثير من المسلمين، و لكن كان عن هولاء اكثر رضا، فقلت له: فاى الصحابه كان رسول الله (ص) له احمد؟ او كما قال- قال: ما فيهم احد الا و قد سخط منه فعلا، و انكر عليه امرا، الا اثنان: على بن ابى طالب و ابوبكر بن ابى قحافه، فانهما لم يقترفا منذ اتى الله بالاسلام امرا اسخطا فيه رسول الله (ص).
(ذكر حال رسول الله فى نشوئه) و ينبغى ان نذكر الان ما ورد فى شان رسول الله (ص) و عصمته بالملائكه، ليكون ذلك تقريرا و ايضاحا لقوله (ع): (و لقد قرن الله به من لدن كان فطيما اعظم ملك من ملائكته)، و ان نذكر حديث مجاورته (ع) بحراء، و كون على (ع) معه هناك، و ان نذكر ما ورد فى انه لم يجمع بيت واحد يومئذ فى الاسلام غير رسول الله (ص) و عليا و خديجه،، و ان نذكر ما ورد فى سماعه رنه الشيطان، و ان نذكر ما ورد فى كونه (ع) وزيرا للمصطفى (ص).
اما المقام الاول فروى محمد بن اسحاق بن يسار فى كتاب
"السيره النبويه"، و رواه ايضا محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه، قال: كانت حليمه بنت ابى ذويب السعديه ام رسول الله (ص) التى ارضعته تحدث انها خرجت من بلدها و معها زوجها و ابن لها ترضعه فى نسوه من بنى سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكه، فى سنه شهباء لم تبق شيئا، قالت: فخرجت على اتان لنا قمراء عجفاء، و معنا شارف لنا، ما تبض بقطره، و لا ننام ليلنا اجمع من بكاء صبينا الذى معنا من الجوع، ما فى ثديى ما يغنيه، و لا فى شارفنا ما يغذيه، و لكنا نرجو الغيث و الفرج.
فخرجت على اتانى تلك، و لقد اراثت بالركب ضعفا و عجفا، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكه نلتمس الرضاع فما منا امراه الا و قد عرض عليها محمد (ص) فتاباه اذا قيل لها انه يتيم، و ذلك انا انما كنا نرجو المعروف من ابى الصبى، فكنا نقول: يتيم، ما عسى ان تصنع امه و جده! فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امراه ذهبت معى الا اخذت رضيعا غيرى، فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبى: و الله انى لاكره ان ارجع من بين صواحبى لم آخذ رضيعا، و الله لاذهبن الى ذلك اليتيم فلاخذنه، قال: لا عليك ان تفعلى! و عسى الله ان يجعل لنا فيه بركه، فذهبت اليه فاخذته، و ما يحملنى على اخذه الا انى لم اجد غيره.
قالت: فلما ا
خذته رجعت الى رحلى، فلما وضعته فى حجرى اقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فرضع حتى روى و شرب معه اخوه حتى روى، و ما كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعا، فنام، و قام زوجى الى شارفنا تلك فنظر اليها فاذا انها حافل، فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهينا ريا و شبعا، فبتنا بخير ليله، قالت: يقول صاحبى حين اصبحنا: اتعلمين و الله يا حليمه لقد اخذت نسمه مباركه، فقلت: و الله انى لارجو ذلك، ثم خرجنا و ركبت اتانى تلك، و حملته معى عليها، فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شى ء من حميرهم حتى ان صواحبى ليقلن لى: ويحك يا بنت ابى ذويب اربعى علينا، اليس هذه اتانك التى كنت خرجت عليها! فاقول لهن: بلى و الله، انها لهى، فيقلن: و الله ان لها لشانا.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد- و ما اعلم ارضا من ارض العرب اجدب منها- فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به معنا شباعا ملاى لبنا، فكنا نحتلب و نشرب، و ما يحلب انسان قطره لبن، و لا يجدها فى ضرع، حتى ان الحاضر من قومنا ليقولون لرعاتهم: ويلكم؟ اسرحوا حيث يسرح راعى ابنه ابى ذويب! فيفعلون، فتروح اغنامهم جياعا ما تبض بقطره، و تروح غنمى شباعا لبنا، فلم نزل نعرف من الله الزياده و الخير به حتى مضت
سنتاه و فصلته، فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان (فلم يبلغ سنتيه)، حتى كان غلاما جفرا، فقدمنا به على امه آمنه بنت وهب، و نحن احرص شى ء على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا امه، و قلنا لها: لو تركته عندنا حتى يغلظ! فانا نخشى عليه وباء مكه، فلم نزل بها حتى ردته معنا.
فرجعنا به الى بلاد بنى سعد، فو الله انه لبعد ما قدمنا باشهر مع اخيه فى بهم لنا خلف بيوتنا، اذ اتانا اخوه يشتد، فقال لى و لابيه: ها هو ذاك اخى القرشى، قد جائه رجلان عليهما ثياب بياض، فاضجعاه و شقا بطنه، فهما يسوطانه.
قالت: فخرجت انا و ابوه نشتد نحوه، فوجدناه قائما ممتقعا وجهه، فالتزمته و التزمه ابوه، و قلنا: مالك يا بنى! قال: جائنى رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعانى ثم شقا بطنى، فالتمسا فيه شيئا لاادرى ما هو! قالت: فرجعنا به الى خبائنا، و قال لى ابوه: يا حليمه، لقد خشيت ان يكون هذا الغلام قد اصيب، فالحقيه باهله.
قالت: فاحتملته حتى قدمت به على امه، فقالت: ما اقدمك به يا ظئر و قد كنت حريصه عليه و على مكثه عندك؟ فقلت لها: قد بلغ الله بابنى، و قضيت الذى على، و تخوفت عليه الاحداث و اديته اليك كما تحبين.
قالت: اتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم، قالت: كلا و ا
لله ما للشيطان عليه من سبيل، و ان لابنى شانا، افلا اخبرك خبره؟ قلت: بلى، قالت: رايت حين حملت به انه خرج منى نور اضائت له قصور بصرى من الشام ثم حملت به، فو الله ما رايت حملا قط كان اخف و لا ايسر منه، ثم وقع حين ولدته و انه لواضع يديه بالارض، و رافع راسه الى السماء، دعيه عنك و انطلقى راشده.
قال: و روى الطبرى فى "تاريخه" عن شداد بن اوس، قال: سمعت رسول الله (ص) يحدث عن نفسه، و يذكر ما جرى له و هو طفل فى ارض بنى سعد بن بكر، قال: لما ولدت استرضعت فى بنى سعد، فبينا انا ذات يوم منتبذ من اهلى فى بطن واد مع اتراب لى من الصبيان، نتقاذف بالجله، اذا اتانى رهط ثلاثه، معهم طشت من ذهب مملوئه ثلجا، فاخذونى من بين اصحابى، فخرج اصحابى هرابا حتى انتهوا الى شفير الوادى، ثم عادوا الى الرهط، فقالوا: ما اربكم الى هذا الغلام، فانه ليس منا! هذا ابن سيد قريش، و هو مسترضع فينا: غلام يتيم ليس له اب، فما ذا يرد عليكم قتله، و ما ذا تصيبون من ذلك! و لكن ان كنتم لابد قاتليه، فاختاروا منا اينا شئتم فاقتلوه مكانه، و دعوا هذا الغلام، فانه يتيم.
فلما راى الصبيان ان القوم لايحيرون لهم جوابا، انطلقوا هرابا مسرعين الى الحى يوذنونهم و يستصرخونهم عل
ى القوم، فعمد احدهم، فاضجعنى اضجاعا لطيفا، ثم شق ما بين مفرق صدرى الى منتهى عانتى، و انا انظر اليه فلم اجد لذلك حسا، ثم اخرج بطنى فغسلها بذلك الثلج، فانعم غسلها، ثم اعادها مكانها، ثم قام الثانى منهم، فقال لصاحبه: تنح، فنحاه عنى، ثم ادخل يده فى جوفى، و اخرج قلبى، و انا انظر اليه، فصدعه ثم اخرج منه مضغه سوداء فرماها، ثم قال بيده: يمنه منه و كانه يتناول شيئا، فاذا فى يده خاتم من نور، تحار ابصار الناظرين دونه، فختم به قلبى، ثم اعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم فى قلبى دهرا، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح عنه، فامر يده ما بين مفرق صدرى الى منتهى عانتى، فالتام ذلك الشق، ثم اخذ بيدى فانهضنى من مكانى انهاضا لطيفا، و قال للاول الذى شق بطنى: زنه بعشره من امته، فوزننى بهم فرجحتهم، فقال: دعوه، فلو وزنتموه بامته كلها لرجحهم، ثم ضمونى الى صدرهم، و قبلوا راسى و ما بين عينى، و قالوا: يا حبيب الله، لاترع، انك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرت عيناك! فبينا انا كذلك اذا انا بالحى قد جائوا بحذافيرهم، و اذا امى- و هى ظئرى- امام الحى تهتف باعلى صوتها، و تقول: يا ضعيفاه! فانكب على اولئك الرهط فقبلوا راسى و ما بين عينى، و قالوا: حبذا انت
من ضعيف! ثم قالت ظئرى: يا وحيداه! فانكبوا على، و ضمونى الى صدورهم، و قبلوا راسى و ما بين عينى، ثم قالوا: حبذا انت من وحيد! و ما انت بوحيد! ان الله و ملائكته معك و المومنين من اهل الارض، ثم قالت ظئرى: يا يتيماه! استضعفت من بين اصحابك، فقتلت لضعفك، فانكبوا على و ضمونى الى صدورهم، و قبلوا راسى و ما بين عينى، و قالوا: حبذا انت من يتيم! ما اكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير! قال: فوصل الحى الى شفير الوادى، فلما بصرت بى امى- و هى ظئرى- نادت: يا بنى، ا لااراك حيا بعد! فجائت حتى انكبت على، و ضمتنى الى صدرها، فو الذى نفسى بيده، انى لفى حجرها قد ضمتنى اليها، و ان يدى لفى يد بعضهم، فجعلت التفت اليهم، و ظننت ان القوم يبصرونهم، فاذا هم لايبصرونهم، فيقول بعض القوم: ان هذا الغلام قد اصابه لمم، او طائف من الجن، فانطلقوا به الى كاهن بنى فلان، حتى ينظر اليه و يداويه، فقلت: ما بى شى ء مما يذكرون، نفسى سليمه، و ان فوادى صحيح، ليست بى قلبه.
فقال ابى- و هو زوج ظئرى: الا ترون كلامه صحيحا! انى لارجو الا يكون على ابنى باس.
فاتفق القوم على ان يذهبوا الى الكاهن بى، فاحتملونى حتى ذهبوا بى اليه، فقصوا عليه قصتى، فقال: اسكتوا حتى
اسمع من الغلام، فهو اعلم بامره منكم، فسالنى فقصصت عليه امرى، و انا يومئذ ابن خمس سنين، فلما سمع قولى وثب و قال: يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام فهو و اللات و العزى لئن عاش ليبدلن دينكم، و ليخالفن امركم، و لياتينكم بما لم تسمعوا به قط، فانتزعتنى ظئرى من حجره، و قالت: لو علمت ان هذا يكون من قولك ما اتيتك به، ثم احتملونى فاصبحت و قد صار فى جسدى اثر الشق، ما بين صدرى الى منتهى عانتى كانه الشراك.
و روى ان بعض اصحاب ابى جعفر محمد بن على الباقر (ع) ساله عن قول الله عز و جل: (الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا).
فقال (ع): يوكل الله تعالى بانبيائه ملائكه يحصون اعمالهم، و يودون اليه تبليغهم الرساله، و وكل بمحمد (ص) ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات و مكارم الاخلاق، و يصده عن الشر و مساوى ء الاخلاق، و هو الذى كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا رسول الله و هو شاب لم يبلغ درجه الرساله بعد، فيظن ان ذلك من الحجر و الارض، فيتامل فلا يرى شيئا.
و روى الطبرى فى "التاريخ" عن محمد بن الحنفيه، عن ابيه على (ع)، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: (ما هممت بشى ء مما كان اهل الجاهليه يعملون به غير مرتين، كل
ذلك يحول الله تعالى بينى و بين ما اريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء حتى اكرمنى الله برسالته، قلت ليله الغلام من قريش كان يرعى معى باعلى مكه: لو ابصرت لى غنمى حتى ادخل مكه، فاسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت اريد ذلك، حتى اذا جئت اول دار من دور مكه، سمعت عزفا بالدف و المزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا فلان تزوج ابنه فلان، فجلست انظر اليهم، فضرب الله على اذنى فنمت، فما ايقظنى الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبى، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئا، ثم اخبرته الخبر، ثم قلت له ليله اخرى مثل ذلك، فقال: افعل، فخرجت فسمعت حين دخلت مكه مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليله، فجلست انظر، فضرب الله على اذنى، فما ايقظنى الا مس الشمس، فرجعت الى صاحبى، فاخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء، حتى اكرمنى الله برسالته.
و روى محمد بن حبيب فى "اماليه" قال: قال رسول الله (ص): اذكر و انا غلام ابن سبع سنين، و قد بنى ابن جدعان دارا له بمكه، فجئت مع الغلمان ناخذ التراب و المدر فى حجورنا فننقله، فملات حجرى ترابا فانكشفت عورتى، فسمعت نداء من فوق راسى: يا محمد، ارخ ازارك، فجعلت ارفع راسى فلا ارى شيئا، الا انى اسمع الصوت، فتماسكت و لم ارخه، فكان انسانا ضرب
نى على ظهرى، فخررت لوجهى، و انحل ازارى فسترنى، و سقط التراب الى الارض، فقمت الى دار ابى طالب عمى و لم اعد.
و اما حديث مجاورته (ع) بحراء فمشهور، و قد ورد فى الكتب الصحاح انه كان يجاور فى حراء من كل سنه شهرا، و كان يطعم فى ذلك الشهر من جائه من المساكين، فاذا قضى جواره من حراء، كان اول ما يبدا به اذا انصرف ان ياتى باب الكعبه قبل ان يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، او ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع الى بيته، حتى جائت السنه التى اكرمه الله فيها بالرساله، فجاور فى حراء شهر رمضان، و معه اهله: خديجه و على بن ابى طالب و خادم لهم، فجائه جبريل بالرساله، و قال (ع): جائنى و انا نائم بنمط فيه كتاب، فقال: اقرا، قلت: ما اقرا، فغتنى حتى ظننت انه الموت، ثم ارسلنى فقال: (اقرا باسم ربك الذى خلق)، الى قوله: (علم الانسان ما لم يعلم).
فقراته، ثم انصرف عنى فانتبهت من نومى، و كانما كتب فى قلبى كتاب، و ذكر تمام الحديث.
و اما حديث ان الاسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ الا النبى و هو- (ع)- و خديجه، فخبر عفيف الكندى مشهور، و قد ذكرناه من قبل، و ان اباطالب قال له: اتدرى من هذا؟ قال: لاقال: هذا ابن اخى محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، و هذا ابنى عل
ى بن ابى طالب، و هذه المراه خلفهما خديجه بنت خويلد، زوجه محمد ابن اخى، و ايم الله ما اعلم على الارض كلها احدا على هذا الدين غير هولاء الثلاثه.
و اما رنه الشيطان، فروى ابوعبدالله احمد بن حنبل فى مسنده، عن على بن ابى طالب (ع)، قال: كنت مع رسول الله (ص) صبيحه الليله التى اسرى به فيها، و هو بالحجر يصلى، فلما قضى صلاته، و قضيت صلاتى، سمعت رنه شديده، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنه؟ قال: الا تعلم! هذه رنه الشيطان، علم انى اسرى بى الليله الى السماء، فايس من ان يعبد فى هذه الارض.
و قد روى عن النبى (ص) ما يشابه هذا، لما بايعه الانصار السبعون ليله العقبه سمع من العقبه صوت عال فى جوف الليل: يا اهل مكه، هذا مذمم و الصباه معه قد اجمعوا على حربكم، فقال رسول الله (ص) للانصار: الا تسمعون ما يقول! هذا ازب العقبه- يعنى شيطانها، و قد روى: (ازبب العقبه).
ثم التفت اليه، فقال: استمع يا عدو الله، اما و الله لافرغن لك.
و روى عن جعفر بن محمد الصادق (ع)، قال: كان على (ع) يرى مع رسول الله (ص) قبل الرساله الضوء و يسمع الصوت، و قال له (ص): (لولا انى خاتم الانبياء لكنت شريكا فى النبوه، فان لا تكن نبيا فانك وصى نبى و وارثه، بل انت سيد ال
اوصياء و امام الاتقياء).
و اما خبر الوزاره، فقد ذكره الطبرى فى تاريخه، عن عبدالله بن عباس عن على بن ابى طالب (ع)، قال لما انزلت هذه الايه: (و انذر عشيرتك الاقربين)، على رسول الله (ص) دعانى، فقال: يا على، ان الله امرنى ان انذر عشيرتك الاقربين، فضقت بذلك ذرعا، و علمت انى متى انادهم بهذا الامر ار منهم ما اكره، فصمت حتى جائنى جبريل (ع)، فقال: يا محمد، انك ان لم تفعل ما امرت به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعا من طعام، و اجعل عليه رجل شاه، و املا لنا عسا من لبن، ثم اجمع بنى عبدالمطلب حتى اكلمهم، و ابلغهم ما امرت به.
ففعلت ما امرنى به، ثم دعوتهم و هم يومئذ اربعون رجلا، يزيدون رجلا او ينقصونه، و فيهم اعمامه: ابوطالب، و حمزه، و العباس، و ابولهب، فلما اجتمعوا اليه دعا بالطعام الذى صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله (ص) بضعه من اللحم فشقها باسنانه، ثم القاها فى نواحى الصحفه، ثم قال: كلوا باسم الله، فاكلوا حتى ما لهم الى شى ء من حاجه، و ايم الله الذى نفس على بيده، ان كان الرجل الواحد منهم لياكل ما قدمته لجميعهم، ثم قال: اسق القوم يا على، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه، حتى رووا جميعا، و ايم الله ان كان الرجل منهم ليشرب
مثله، فلما اراد رسول الله (ص) ان يكلمهم بدره ابولهب الى الكلام، فقال: لشد ما سحركم صاحبكم! فتفرق القوم، و لم يكلمهم رسول الله (ص)، فقال من الغد: يا على، ان هذا الرجل قد سبقنى الى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل ان اكلمهم، فعد لنا اليوم الى مثل ما صنعت بالامس، ثم اجمعهم لى.
ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعانى بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما فعل بالامس، فاكلوا حتى مالهم بشى ء حاجه، ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه جميعا، حتى رووا، ثم تكلم رسول الله (ص)، فقال: يا بنى عبدالمطلب، انى و الله ما اعلم ان شابا فى العرب جاء قومه بافضل مما جئتكم به، انى قد جئتكم بخير الدنيا و الاخره، و قد امرنى الله ان ادعوكم اليه، فايكم يوازرنى على هذا الامر، على ان يكون اخى و وصيى و خليفتى فيكم؟ فاحجم القوم عنها جميعا، و قلت انا- و انى لاحدثهم سنا و ارمصهم عينا، و اعظمهم بطنا، و احمشهم ساقا: انا يا رسول الله اكون وزيرك عليه، فاعاد القول، فامسكوا و اعدت ما قلت، فاخذ برقبتى، ثم قال لهم: هذا اخى و وصيى و خليفتى فيكم، فاسمعوا له و اطيعوا.
فقام القوم يضحكون، و يقولون لابى طالب: قد امرك ان تسمع لابنك و تطيع.
و يدل على انه وزير رسول الله (
ص) من نص الكتاب و السنه قول الله تعالى: (و اجعل لى وزيرا من اهلى هارون اخى اشدد به ازرى و اشركه فى امرى).
و قال النبى (ص) فى الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الاسلام: (انت منى بمنزله هارون من موسى الا انه لا نبى بعدى)، فاثبت له جميع مراتب هارون عن موسى، فاذن هو وزير رسول الله (ص)، و شاد ازره، و لولا انه خاتم النبيين لكان شريكا فى امره.
و روى ابوجعفر الطبرى ايضا فى "التاريخ"، ان رجلا قال لعلى (ع): يا اميرالمومنين، بم ورثت ابن عمك؟ دون عمك؟ فقال على (ع): هاوم ثلاث مرات، حتى اشراب الناس، و نشروا آذانهم، ثم قال: جمع رسول الله (ص) بنى عبدالمطلب بمكه، و هم رهطه كلهم، ياكل الجذعه، و يشرب الفرق، فصنع مدا من طعام، حتى اكلوا و شبعوا و بقى الطعام كما هو، كانه لم يمس، ثم دعا بغمر، فشربوا و رووا، و بقى الشراب كانه لم يشرب، ثم قال: يا بنى عبدالمطلب، انى بعثت اليكم خاصه، و الى الناس عامه، فايكم يبايعنى على ان يكون اخى و صاحبى، و وارثى؟ فلم يقم اليه احد، فقمت اليه، و كنت من اصغر القوم، فقال: اجلس، ثم قال ذلك ثلاث مرات، كل ذلك اقوم اليه، فيقول: اجلس، حتى كان فى الثالثه، فضرب بيده على يدى، فعند ذلك ورثت ابن عمى دون عمى.
الشرح:
الملا الجماعه.
و لا تفيئون: لاترجعون.
و من يطرح فى القليب، كعتبه و شيبه ابنى ربيعه بن عبدشمس و عمرو بن هشام بن المغيره، المكنى اباجهل و غيرهم، طرحوا فى قليب بدر بعد انقضاء الحرب، و من يحزب الاحزاب، ابوسفيان صخر بن حرب بن اميه.
و القصف و القصيف: الصوت.
و سيماهم: علامتهم، و مثله (سيمياء).
و معنى قوله (ع): (قلوبهم فى الجنان، و اجسادهم فى العمل)، ان قلوبهم ملتذه بمعرفه الله تعالى و اجسادهم نصبه بالعباده.
و اما امر الشجره التى دعاها رسول الله (ص)، فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض، قد ذكره المحدثون فى كتبهم، و ذكره المتكلمون فى معجزات الرسول (ص)، و الاكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الذى جاء فى خطبه اميرالمومنين، و منهم من يروى ذلك مختصرا انه دعا شجره فاقبلت تخد اليه الارض خدا.
و قد ذكر البيهقى فى كتاب "دلائل النبوه" حديث الشجره، و رواه ايضا محمد بن اسحاق بن يسار فى كتاب السيره و المغازى على وجه آخر، قال محمد بن اسحاق: كان ركانه بن عبديزيد بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبدمناف اشد قريش كله، ا فخلا يوما برسول الله (ص) فى بعض شعاب مكه، فقال له رسول الله (ص): يا ركانه، الا تتقى الله، و تقبل ما ادعوك ال
يه؟ قال: لو اعلم ان الذى تقول حق لاتبعتك، قال: افرايت ان صرعتك، اتعلم ان ما اقول لك حق؟ قال: نعم، قال: فقم حتى اصارعك فقام ركانه، فلما بطش به رسول الله (ص) اضجعه لايملك من نفسه شيئا، فقال: عد يا محمد، فعاد فصرعه، فقال: يا محمد، ان هذا لعجب حين تصرعنى، فقال رسول الله (ص): و اعجب من ذلك ان شئت اريتكه، ان اتقيت الله، و اتبعت امرى، قال: ما هو؟ قال: ادعو لك هذه الشجره التى تراها، فتاتى، قال فادعها، فدعاها، فاقبلت حتى وقفت بين يدى رسول الله (ص)، ثم قال: ارجعى الى مكانك، فرجعت الى مكانها، فرجع ركانه الى قومه، و قال: يا بنى عبدمناف، ساحروا بصاحبكم اهل الارض! فما رايت اسحر منه قط، ثم اخبرهم بالذى راى، و الذى صنع.
(القول فى اسلام ابى بكر و على و خصائص كل منهما) و ينبغى ان نذكر فى هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ ابوعثمان الجاحظ فى كتابه المعروف بكتاب "العثمانيه" فى تفضيل اسلام ابى بكر على اسلام على (ع)، لان هذا الموضع يقتضيه، لقوله (ع) حكايه عن قريش لما صدق رسول الله (ص): و هل يصدقك فى امرك الا مثل هذا لانهم استصغروا سنه، فاستحقروا امر محمد رسول الله (ص) حيث لم يصدقه فى دعواه الا غلام صغير السن، و شبهه العثمانيه التى
قررها الجاحظ من هذه الشبهه نشات، و من هذه الكلمه تفرعت، لان خلاصتها ان ابابكر اسلم و هو ابن اربعين سنه، و على اسلم و لم يبلغ الحلم، فكان اسلام ابى بكر افضل.
ثم نذكر ما اعترض به شيخنا ابوجعفر الاسكافى على الجاحظ فى كتابه المعروف ب"نقض العثمانيه"، و يتشعب الكلام بينهما حتى يخرج عن البحث فى الاسلامين الى البحث فى افضليه الرجلين و خصائصهما، فان ذلك لا يخلو عن فائده جليله، و نكته لطيفه، لا يليق ان يخلو كتابنا هذا عنها، و لان كلامهما بالرسائل و الخطابه اشبه، و فى الكتابه اقصد و ادخل، و كتابنا هذا موضوع لذكر ذلك و امثاله.
قال ابوعثمان: قالت العثمانيه: افضل الامه و اولاها بالامامه ابوبكر بن ابى قحافه لاسلامه على الوجه الذى لم يسلم عليه احد فى عصره، و ذلك ان الناس اختلفوا فى اول الناس اسلاما، فقال قوم: ابوبكر، و قال قوم: زيد بن حارثه، و قال قوم: خباب بن الارت.
و اذا تفقدنا اخبارهم، و احصينا احاديثهم، و عددنا رجالهم، و نظرنا فى صحه اسانيدهم، كان الخبر فى تقدم اسلام ابى بكر اعم و رجاله اكثر، و اسانيده اصح، و هو بذاك اشهر، و اللفظ فيه اظهر، مع الاشعار الصحيحه، و الاخبار المستفيضه فى حياه رسول الله (ص) و بعد وفاته، و ليس
بين الاشعار و الاخبار فرق اذا امتنع فى مجيئها، و اصل مخرجها التباعد و الاتفاق و التواطو، و لكن ندع هذا المذهب جانبا، و نضرب عنه صفحا، اقتدارا على الحجه، و وثوقا بالفلج و القوه، و نقتصر على ادنى نازل فى ابى بكر، و ننزل على حكم الخصم، فنقول: انا وجدنا من يزعم انه اسلم قبل زيد و خباب، و وجدنا من يزعم انهما اسلما قبله، و اوسط الامور اعدلها، و اقربها من محبه الجميع، و رضا المخالف، ان نجعل اسلامهم كان معا، اذ الاخبار متكافئه، و الاثار متساويه على ما تزعمون، و ليست احدى القضيتين اولى فى صحه العقل من الاخرى، ثم نستدل على امامه ابى بكر بما ورد فيه من الحديث، و بما ابانه به الرسول (ص) من غيره.
قالوا: فمما روى من تقدم اسلامه ما حدث به ابوداود و ابن مهدى عن شعبه، و ابن عيينه: عن الجريرى، عن ابى هريره، قال: ابوبكر: انا احقكم بهذا الامر- يعنى الخلافه- الست اول من صلى! روى عباد بن صهيب، عن يحيى بن عمير، عن محمد بن المنكدر، ان رسول الله (ص) قال: (ان الله بعثنى بالهدى و دين الحق الى الناس كافه، فقالوا: كذبت، و قال ابو بكر: صدقت).
و روى يعلى بن عبيد، قال: جاء رجل الى ابن عباس، فساله: من كان اول الناس اسلاما؟ فقال: اما سمعت قو
ل حسان بن ثابت:! اذا تذكرت شجوا من اخى ثقه فاذكر اخاك ابابكر بما فعلا الثانى التالى المحمود مشهده و اول الناس منهم صدق الرسلا.
و قال ابومحجن: سبقت الى الاسلام و الله شاهد و كنت حبيبا بالعريش المشهر و قال كعب بن مالك سبقت اخا تيم الى دين احمد و كنت لدى الغيران فى الكهف صاحبا و روى ابن ابى شيبه، عن عبدالله بن ادريس و وكيع، عن شعبه، عن عمرو بن مره، قال: قال النخعى: ابوبكر اول من اسلم.
و روى هيثم عن يعلى بن عطاء، عن عمرو بن عنبسه، قال: اتيت النبى (ص) و هو بعكاظ، فقلت: من بايعك على هذا الامر؟ فقال: بايعنى حر و عبد، فلقد رايتنى يومئذ و انا رابع الاسلام.
قال بعض اصحاب الحديث: يعنى بالحر ابابكر و بالعبد بلالا.
و روى الليث بن سعد، عن معاويه بن صالح، عن سليم بن عامر، عن ابى امامه، قال: حدثنى عمرو بن عنبسه، انه سال النبى (ص) و هو بعكاظ، فقال له: من تبعك؟ قال: تبعنى حر و عبد: ابوبكر و بلال.
و روى عمرو بن ابراهيم الهاشمى، عن عبدالملك بن عمير، عن اسيد بن صفوان، صاحب النبى (ص) قال: لما قبض ابوبكر جاء على بن ابى طالب (ع)، فقال: رحمك الله ابابكر! كنت اول الناس اسلاما.
و روى عباد، عن الحسن بن دينار، عن بشر ب
ن ابى زينب، عن عكرمه مولى ابن عباس، قال: اذا لقيت الهاشميين قالوا: على بن ابى طالب اول من اسلم، و اذا لقيت الذين يعلمون، قالوا: ابوبكر اول من اسلم.
قال ابوعثمان الجاحظ: قالت العثمانيه: فان قال قائل: فما بالكم لم تذكروا على بن ابى طالب فى هذه الطبقه، و قد تعلمون كثره مقدميه و الروايه فيه! قلنا: قد علمنا الروايه الصحيحه، و الشهاده القائمه، انه اسلم و هو حدث غرير، و طفل صغير، فلم نكذب الناقلين، و لم نستطع ان نلحق اسلامه باسلام البالغين، لان المقلل زعم انه اسلم، و هو ابن خمس سنين، و المكثر زعم انه اسلم و هو ابن تسع سنين، فالقياس ان يوخذ بالاوسط بين الروايتين، و بالامر بين الامرين، و انما يعرف حق ذلك من باطله، بان نحصى سنيه التى ولى فيها الخلافه، و سنى عمر، و سنى عثمان، و سنى ابى بكر، و مقام النبى (ص) بالمدينه، و مقامه بمكه عند اظهار الدعوه، فاذا فعلنا ذلك صح انه اسلم و هو ابن سبع سنين، فالتاريخ المجمع عليه انه قتل (ع) فى شهر رمضان سنه اربعين.
قال شيخنا ابوجعفر الاسكافى: لولا ما غلب على الناس من الجهل و حب التقليد، لم نحتج الى نقض ما احتجت به العثمانيه، فقد علم الناس كافه، ان الدوله و السلطان لارباب مقالتهم، و عر
ف كل احد علو اقدار شيوخهم و علمائهم و امرائهم، و ظهور كلمتهم، و قهر سلطانهم و ارتفاع التقيه عنهم و الكرامه، و الجائزه لمن روى الاخبار و الاحاديث فى فضل ابى بكر، و ما كان من تاكيد بنى اميه لذلك، و ما ولده المحدثون من الاحاديث طلبا لما فى ايديهم، فكانوا لا يالون جهدا فى طول ما ملكوا ان يخملوا ذكر على (ع) و ولده، و يطفئوا نورهم، و يكتموا فضائلهم و مناقبهم و سوابقهم، و يحملوا على شتمهم و سبهم و لعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم، مع قله عددهم و كثره عدوهم، فكانوا بين قتيل و اسير، و شريد و هارب، و مستخف ذليل، و خائف مترقب، حتى ان الفقيه و المحدث و القاضى و المتكلم، ليتقدم اليه و يتوعد بغايه الايعاد و اشد العقوبه، الا يذكروا شيئا من فضائلهم، و لا يرخصوا لاحد ان يطيف بهم، و حتى بلغ من تقيه المحدث انه اذا ذكر حديثا عن على (ع) كنى عن ذكره، فقال: قال رجل من قريش، و فعل رجل من قريش، و لا يذكر عليا (ع)، و لا يتفوه باسمه.
ثم راينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، و وجهوا الحيل و التاويلات نحوها، من خارجى مارق، و ناصب حنق، و ثابت مستبهم، و ناشى ء معاند، و منافق مكذب، و عثمانى حسود، يعترض فيها و يطعن، و معت
زلى قد نقض فى الكلام، و ابصر علم الاختلاف، و عرف الشبه و مواضع الطعن و ضروب التاويل، قد التمس الحيل فى ابطال مناقبه و تاول مشهور فضائله، فمره يتاولها بما لا يحتمل، و مره يقصد ان يضع من قدرها بقياس منتقض، و لا يزداد مع ذلك الا قوه و رفعه، و وضوحا و استناره، و قد علمت ان معاويه و يزيد و من كان بعدهما من بنى مروان ايام ملكهم- و ذلك نحو ثمانين سنه- لم يدعوا جهدا فى حمل الناس على شتمه و لعنه و اخفاء فضائله، و ستر مناقبه و سوابقه.
روى خالد بن عبدالله الواسطى، عن حصين بن عبدالرحمن، عن هلال بن يساف، عن عبدالله بن ظالم، قال: لما بويع لمعاويه اقام المغيره بن شعبه خطباء يلعنون عليا (ع)، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: الا ترون الى هذا الرجل الظالم يامر بلعن رجل من اهل الجنه! روى سليمان بن داود، عن شعبه، عن الحر بن الصباح، قال: سمعت عبدالرحمن بن الاخنس، يقول: شهدت المغيره بن شعبه خطب فذكر عليا (ع)، فنال منه.
روى ابوكريب، قال: حدثنا ابواسامه، قال: حدثنا صدقه بن المثنى النخعى عن رياح بن الحارث، قال: بينما المغيره بن شعبه بالمسجد الاكبر، و عنده ناس اذ جائه رجل يقال له: قيس بن علقمه، فاستقبل المغيره، فسب عليا (ع).
روى محم
د بن سعيد الاصفهانى، عن شريك، عن محمد بن اسحاق، عن عمرو بن على بن الحسين، عن ابيه على بن الحسين (ع)، قال: قال لى مروان: ما كان فى القوم ادفع عن صاحبنا من صاحبكم.
قلت: فما بالكم تسبونه على المنابر؟ قال: انه لا يستقيم لنا الامر الا بذلك.
روى مالك بن اسماعيل ابوغسان النهدى، عن ابن ابى سيف، قال: خطب مروان و الحسن (ع) جالس فنال من على (ع)، فقال الحسن: ويلك يا مروان! اهذا الذى تشتم شر الناس! قال: لا، و لكنه خير الناس.
و روى ابوغسان ايضا، قال: قال عمر بن عبدالعزيز: كان ابى يخطب فلا يزال مستمرا فى خطبته، حتى اذا صار الى ذكر على و سبه تقطع لسانه، و اصفر وجهه، و تغيرت حاله، فقلت له فى ذلك، فقال: او قد فطنت لذلك؟ ان هولاء لو يعلمون من على ما يعلمه ابوك ما تبعنا منهم رجل.
و روى ابوعثمان، قال حدثنا ابواليقظان، قال: قام رجل من ولد عثمان الى هشام بن عبدالملك يوم عرفه، فقال: ان هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن ابى تراب.
و روى عمرو بن الفناد، عن محمد بن فضيل، عن اشعث بن سوار، قال: سب عدى بن اوطاه عليا (ع) على المنبر، فبكى الحسن البصرى و قال: لقد سب هذا اليوم رجل انه لاخو رسول الله (ص) فى الدنيا و الاخره.
و روى عدى بن ثابت
عن اسماعيل بن ابراهيم، قال: كنت انا و ابراهيم بن يزيد جالسين فى الجمعه مما يلى ابواب كنده فخرج المغيره فخطب، فحمد الله، ثم ذكر ما شاء ان يذكر، ثم وقع فى على (ع)، فضرب ابراهيم على فخذى او ركبتى، ثم قال: اقبل على، فحدثنى فانا لسنا فى جمعه، الا تسمع ما يقول هذا! و روى عبدالله بن عثمان الثقفى، قال: حدثنا ابن ابى سيف، قال: قال ابن لعامر بن عبدالله بن الزبير لولده: لا تذكر يا بنى عليا الا بخير، فان بنى اميه لعنوه على منابرهم ثمانين سنه، فلم يزده الله بذلك الا رفعه، ان الدنيا لم تبن شيئا قط الا رجعت على ما بنت فهدمته، و ان الدين لم يبن شيئا قط و هدمه.
و روى عثمان بن سعيد، قال: حدثنا مطلب بن زياد، عن ابى بكر بن عبدالله الاصبهانى، قال: كان دعى لبنى اميه يقال له خالد بن عبدالله، لا يزال يشتم عليا (ع)، فلما كان يوم جمعه، و هو يخطب الناس، قال: و الله ان كان رسول الله ليستعمله، و انه ليعلم ما هو! و لكنه كان ختنه، و قد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه، ثم قال: ويحكم! ما قال هذا الخبيث! رايت القبر انصدع و رسول الله (ص) يقول: كذبت يا عدو الله! و روى القناد، قال: حدثنا اسباط بن نصر الهمدانى، عن السدى، قال: بينما انا بالمدينه عن
د احجار الزيت، اذ اقبل راكب على بعير، فوقف فسب عليا (ع)، فخف به الناس ينظرون اليه، فبينما هو كذلك اذ اقبل سعد بن ابى وقاص، فقال: اللهم ان كان سب عبدا لك صالحا، فار المسلمين خزيه، فما لبث ان نفر به بعيره فسقط، فاندقت عنقه.
و روى عثمان بن ابى شيبه، عن عبدالله بن موسى، عن فطر بن خليفه، عن ابى عبدالله الجدلى، قال: دخلت على ام سلمه رحمها الله فقالت لى: ايسب رسول الله (ص) فيكم و انتم احياء! قلت: و انى يكون هذا؟ قالت: اليس يسب على (ع) و من يحبه! و روى العباس بن بكار الضبى، قال: حدثنى ابوبكر الهذلى، عن الزهرى، قال: قال ابن عباس لمعاويه، الا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لافعل حتى يربو عليه الصغير و يهرم فيه الكبير.
فلما ولى عمر بن عبدالعزيز كف عن شتمه، فقال الناس: ترك السنه.
قال: و قد روى عن ابن مسعود اما موقوفا عليه او مرفوعا، كيف انتم اذا شملتكم فتنه يربو عليها الصغير و يهرم فيها الكبير، يجرى عليها الناس فيتخذونها سنه، فاذا غير منها شى ء قيل: غيرت السنه! قال ابوجعفر: و قد تعلمون ان بعض الملوك ربما احدثوا قولا، او دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك، حتى لايعرفوا غيره، كنحو ما اخذ الناس الحجاج بن يوسف بقرائه عثمان،
و ترك قرائه ابن مسعود و ابى بن كعب، و توعد على ذلك بدون ما صنع هو و جبابره بنى اميه و طغاه مروان بولد على (ع) و شيعته، و انما كان سلطانه نحو عشرين سنه، فما مات الحجاج حتى اجتمع اهل العراق على قرائه عثمان، و نشا ابناوهم و لايعرفون غيرها، لامساك الاباء عنها، و كف المعلمين عن تعليمها، حتى لو قرات عليهم قرائه عبدالله و ابى ما عرفوها، و لظنوا بتاليفها الاستكراه و الاستهجان، لالف العاده و طول الجهاله، لانه اذا استولت على الرعيه الغلبه، و طالت عليهم ايام التسلط، و شاعت فيهم المخافه، و شملتهم التقيه، اتفقوا على التخاذل و التساكت، فلا تزال الايام تاخذ من بصائرهم، و تنقص من ضمائرهم، و تنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعه التى احدوثها غامره للسنه التى كانوا يعرفونها، و لقد كان الحجاج و من ولاه، كعبد الملك و الوليد و من كان قبلهما و بعدهما من فراعنه بنى اميه على اخفاء محاسن على (ع) و فضائله و فضائل و لده و شيعته، و اسقاط اقدارهم، احرص منهم على اسقاط قرائه عبدالله و ابى، لان تلك القرائات لا تكون سببا لزوال ملكهم، و فساد امرهم، و انكشاف حالهم، و فى اشتهار فضل على (ع) و ولده و اظهار محاسنهم بوارهم، و تسليط حكم الكتاب المنبوذ عل
يهم، فحرصوا و اجتهدوا فى اخفاء فضائله، و حملوا الناس على كتمانها و سترها، و ابى الله ان يزيد امره و امر ولده الا استناره و اشراقا، و حبهم الا شغفا و شده، و ذكرهم الا انتشارا و كثره، و حجتهم الا وضوحا و قوه، و فضلهم الا ظهورا، و شانهم الا علوا، و اقدارهم الا اعظاما، حتى اصبحوا باهانتهم اياهم اعزاء، و باماتتهم ذكرهم احياء، و ما ارادوا به و بهم من الشر تحول خيرا، فانتهى الينا من ذكر فضائله و خصائصه و مزاياه و سوابقه ما لم يتقدمه السابقون، و لا ساواه فيه القاصدون، و لا يلحقه الطالبون، و لولا انها كانت كالقبله المنصوبه فى الشهره، و كالسنن المحفوظه فى الكثره، لم يصل الينا منها فى دهرنا حرف واحد، اذا كان الامر كما وصفناه.
قال: فاما ما احتج به الجاحظ بامامه ابى بكر، بكونه اول الناس اسلاما، فلو كان هذا احتجاجا صحيحا، لاحتج به ابوبكر يوم السقيفه، و ما رايناه صنع ذلك لانه اخذ بيد عمر و يد ابى عبيده بن الجراح، و قال للناس: قد رضيت لكم احد هذين الرجلين، فبايعوا منهما من شئتم، و لو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر: كانت بيعه ابى بكر فلته وقى الله شرها، و لو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لابى بكر الامامه فى عصره ا
و بعد عصره، بكونه سبق الى الاسلام، و ما عرفنا احدا ادعى له ذلك، على ان جمهور المحدثين لم يذكروا ان ابابكر اسلم الا بعد عده من الرجال، منهم على بن ابى طالب، و جعفر اخوه، و زيد بن حارثه، و ابوذر الغفارى، و عمرو بن عنبسه السلمى، و خالد بن سعيد بن العاص، و خباب بن الارت، و اذا تاملنا الروايات الصحيحه، و الاسانيد القويه و الوثيقه، وجدناها كلها ناطقه بان عليا (ع) اول من اسلم.
فاما الروايه عن ابن عباس ان ابابكر اولهم اسلاما فقد روى عن ابن عباس خلاف ذلك، باكثر مما رووا و اشهر، فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد، عن ابى عوانه و سعيد بن عيسى، عن ابى داود الطيالسى، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، انه قال: اول من صلى من الرجال على (ع).
و روى الحسن البصرى، قال: حدثنا عيسى بن راشد، عن ابى بصير، عن عكرمه، عن ابن عباس، قال: فرض الله تعالى الاستغفار لعلى (ع) فى القرآن على كل مسلم، بقوله تعالى: (ربنا اغفر لنا و لاخواننا الذين سبقونا بالايمان)، فكل من اسلم بعد على فهو يستغفر لعلى (ع).
و روى سفيان بن عيينه، عن ابن ابى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: السباق ثلاثه: سبق يوشع بن نون الى موسى، و سبق صاحب (يس) الى عيسى، و سبق على بن ابى ط
الب الى محمد عليه و عليهم السلام.
فهذا قول ابن عباس فى سبق على (ع) الى الاسلام، و هو اثبت من حديث الشعبى و اشهر، على انه قد روى عن الشعبى خلاف ذلك من حديث ابى بكر الهذلى و داود بن ابى هند عن الشعبى، قال: قال رسول الله (ص) لعلى (ع): (هذا اول من آمن بى و صدقنى و صلى معى).
قال: فاما الاخبار الوارده بسبقه الى الاسلام المذكوره فى الكتب الصحاح و الاسانيد الموثوق بها، فمنها ما روى شريك بن عبدالله، عن سليمان بن المغيره، عن زيد بن وهب، عن عبدالله بن مسعود، انه قال: اول شى ء علمته من امر رسول الله (ص) انى قدمت مكه مع عمومه لى و ناس من قومى، و كان من انفسنا شراء عطر: فارشدنا الى العباس بن عبدالمطلب، فانتهينا اليه، و هو جالس الى زمزم، فبينا نحن عنده جلوسا، اذ اقبل رجل من باب الصفا، و عليه ثوبان ابيضان، و له وفره الى انصاف اذنيه جعده، اشم اقنى، ادعج العينين، كث اللحيه، براق الثنايا، ابيض تعلوه حمره، كانه القمر ليله البدر، و على يمينه غلام مراهق او محتلم، حسن الوجه، تقفوهم امراه، قد سترت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحجر، فاستلمه و استلمه الغلام، ثم استلمته المراه، ثم طاف بالبيت سبعا، و الغلام و المراه يطوفان معه، ثم استقبل الح
جر، فقام و رفع يديه و كبر، و قام الغلام الى جانبه، و قامت المراه خلفها، فرفعت يديها، و كبرت، فاطال القنوت، ثم ركع و ركع الغلام و المراه، ثم رفع راسه فاطال، و رفع الغلام و المراه معه يصنعان مثل ما يصنع، فلما راينا شيئا ننكره، لانعرفه بمكه اقبلنا على العباس، فقلنا: يا اباالفضل، ان هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم، قال: اجل و الله، قلنا: فمن هذا؟ قال: هذا ابن اخى، هذا محمد بن عبدالله، و هذا الغلام ابن اخى ايضا، هذا على بن ابى طالب، و هذه المراه زوجه محمد، و هذه خديجه بنت خويلد، و الله ما على وجه الارض احد يدين بهذا الدين، الا هولاء الثلاثه.
و من حديث موسى بن داود، عن خالد بن نافع، عن عفيف بن قيس الكندى، و قد رواه عن عفيف ايضا، مالك بن اسماعيل النهدى و الحسن بن عنبسه الوراق و ابراهيم بن محمد بن ميمونه، قالوا جميعا: حدثنا سعيد بن جشم، عن اسد بن عبدالله البجلى، عن يحيى بن عفيف بن قيس، عن ابيه، قال: كنت فى الجاهليه عطارا، فقدمت مكه، فنزلت على العباس بن عبدالمطلب، فبينا انا جالس عنده، انظر الى الكعبه، و قد تحلقت الشمس فى السماء، اقبل شاب كان فى وجهه القمر، حتى رمى ببصره الى السماء، فنظر الى الشمس ساعه، ثم اقبل حتى دنا من
الكعبه، فصف قدميه يصلى، فخرج على اثره فتى كان وجهه صفيحه يمانيه، فقام عن يمينه، فجائت امراه متلففه فى ثيابها، فقامت خلفهما، فاهوى الشاب راكعا، فركعا معه، ثم اهوى الى الارض ساجدا، فسجدا معه، فقلت للعباس: يا اباالفضل، امر عظيم! فقال: امر و الله عظيم! ا تدرى من هذا الشاب؟ قلت: لا، قال هذا ابن اخى، هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، اتدرى من هذا الفتى؟ قلت: لا، قال هذا ابن اخى، على بن ابى طالب بن عبدالمطلب، اتدرى من المراه؟ قلت: لا، قال: هذه ابنه خويلد بن اسد بن عبدالعزى، هذه خديجه زوج محمد هذا، و ان محمدا هذا يذكر ان الهه اله السماء و الارض، و امره بهذا الدين فهو عليه كما ترى، و يزعم انه نبى، و قد صدقه على قوله على ابن عمه هذا الفتى، و زوجته خديجه، هذه المراه، و الله ما اعلم على وجه الارض كلها احدا على هذا الدين غير هولاء الثلاثه: قال عفيف: فقلت له: فما تقولون انتم؟ قال: ننتظر الشيخ ما يصنع! يعنى اباطالب اخاه.
و روى عبدالله بن موسى، و الفضل بن دكين، و الحسن بن عطيه، قالوا: حدثنا خالد بن طهمان، عن نافع بن ابى نافع، عن معقل بن يسار، قال: كنت اوصى النبى (ص)، فقال لى: هل لك ان نعود فاطمه؟ قلت: نعم يا رسول الله، فقام
يمشى متوكئا على، و قال: اما انه سيحمل ثقلها غيرك، و يكون اجرها لك، قال: فو الله كانه لم يكن على من ثقل النبى (ص) شى ء، فدخلنا على فاطمه (ع) فقال لها (ص): كيف تجدينك؟ قالت: لقد طال اسفى، و اشتد حزنى، و قال لى النساء: زوجك ابوك فقيرا لا مال له! فقال لها: اما ترضين انى زوجتك اقدم امتى سلما، و اكثرهم علما، و افضلهم حلما! قالت: بلى رضيت يا رسول الله.
و قد روى هذا الخبر يحيى بن عبدالحميد و عبدالسلام بن صالح، عن قيس بن الربيع، عن ابى ايوب الانصارى، بالفاظه او نحوها.
و روى عبدالسلام بن صالح، عن اسحاق الازرق، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، ان رسول الله (ص) لما زوج فاطمه، دخل النساء عليها، فقلن: يا بنت رسول الله، خطبك فلان و فلان، فردهم عنك، و زوجك فقيرا لا مال له، فلما دخل عليها ابوها (ص) راى ذلك فى وجهها، فسالها فذكرت له ذلك، فقال: يا فاطمه، ان الله امرنى فانكحتك اقدمهم سلما، و اكثرهم علما، و اعظمهم حلما، و ما زوجتك الا بامر من السماء، اما علمت انه اخى فى الدنيا و الاخره! و روى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير، عن السدى، ان ابابكر و عمر خطبا فاطمه (ع)، فردهما رسول الله (ص)، و قال: لم اومر بذلك، فخطبها على (ع)، فزوجه اياها
، و قال لها: زوجتك اقدم الامه اسلاما.
و ذكر تمام الحديث.
قال و قد روى هذا الخبر جماعه من الصحابه، منهم اسماء بنت عميس، و ام ايمن، و ابن عباس و جابر بن عبدالله.
قال: و قد روى محمد بن عبدالله بن ابى رافع، عن ابيه، عن جده ابى رافع، قال: اتيت اباذر بالربذه اودعه، فلما اردت الانصراف، قال لى و لاناس معى: ستكون فتنه، فاتقوا الله، و عليكم بالشيخ على بن ابى طالب، فاتبعوه، فانى سمعت رسول الله (ص) يقول له: (انت اول من آمن بى، و اول من يصافحنى يوم القيامه، و انت الصديق الاكبر، و انت الفاروق الذى يفرق بين الحق و الباطل، و انت يعسوب المومنين، و المال يعسوب الكافرين، و انت اخى و وزيرى، و خير من اترك بعدى، تقضى دينى و تنجز موعدى).
قال: و قد روى ابن ابى شيبه، عن عبدالله بن نمير، عن العلاء بن صالح، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبدالله الاسدى، قال: سمعت على بن ابى طالب، يقول: انا عبدالله و اخو رسوله، و انا الصديق الاكبر، لايقولها غيرى الا كذاب، و لقد صليت قبل الناس سبع سنين.
و روت معاذه بنت عبدالله العدويه، قالت: سمعت عليا (ع)، يخطب على منبر البصره، و يقول: انا الصديق الاكبر، آمنت قبل ان يومن ابوبكر، و اسلمت قبل ان يسلم.
و ر
وى حبه بن جوين العرنى انه سمع عليا (ع)، يقول انا اول رجل اسلم مع رسول الله (ص).
رواه ابوداود الطيالسى، عن شعبه، عن سفيان الثورى، عن سلمه بن كهيل، عن حبه بن جوين.
و روى عثمان بن سعيد الخراز، عن على بن حرار، عن على بن عامر، عن ابى الحجاف، عن حكيم مولى زاذان، قال: سمعت عليا (ع)، يقول: صليت قبل الناس سبع سنين، و كنا نسجد و لا نركع، و اول صلاه ركعنا فيها صلاه العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: امرت به.
و روى اسماعيل بن عمرو، عن قيس بن الربيع، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبدالله، قال: صلى رسول الله (ص) يوم الاثنين، و صلى على يوم الثلاثاء بعده.
و فى الروايه الاخرى، عن انس بن مالك: استنبى ء النبى (ص) يوم الاثنين، و اسلم على يوم الثلاثاء بعده.
و روى ابورافع ان رسول الله (ص) صلى اول صلاه صلاها غداه الاثنين، و صلت خديجه آخر نهار يومها ذلك، و صلى على (ع) يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم.
قال: و قد روى بروايات مختلفه كثيره متعدده، عن زيد بن ارقم، و سلمان الفارسى، و جابر بن عبدالله، و انس بن مالك، ان عليا (ع): اول من اسلم، و ذكر الروايات و الرجال باسمائهم.
و روى سلمه بن كهيل، عن رجاله الذين ذكرهم ابوجعفر فى الكت
اب ان رسول الله (ص) قال: (اولكم ورودا على الحوض اولكم اسلاما، على بن ابى طالب).
و روى ياسين بن محمد بن ايمن، عن ابى حازم، مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: سمعت عمر بن الخطاب و هو يقول: كفوا عن على بن ابى طالب، فانى سمعت من رسول الله (ص) يقول فيه خصالا، لو ان خصله منها فى جميع آل الخطاب، كان احب لى مما طلعت عليه الشمس، كنت ذات يوم و ابوبكر و عثمان و عبدالرحمن بن عوف و ابوعبيده مع نفر من اصحاب رسول الله (ص) نطلبه، فانتهينا الى باب ام سلمه، فوجدنا عليا متكئا على نجاف الباب، فقلنا: اردنا رسول الله (ص)، فقال: هو فى البيت، رويدكم! فخرج رسول الله (ص) فسرنا حوله، فاتكا على على (ع)، و ضرب بيده على منكبه، فقال: ابشر يا على بن ابى طالب، انك مخاصم، و انك تخصم الناس بسبع لا يجاريك احد فى واحده منهن، انت اول الناس اسلاما، و اعلمهم بايام الله...) و ذكر الحديث.
قال: و قد روى ابوسعيد الخدرى، عن النبى (ص) مثل هذا الحديث.
قال: روى ابوايوب الانصارى، عن رسول الله (ص) انه قال: (لقد صلت الملائكه على و على على (ع)، سبع سنين)، و ذلك انه لم يصل معى رجل فيها غيره.
قال ابوجعفر: فاما ما رواه الجاحظ من قوله (ص): (انما تبعنى حر و عبد)، فا
نه لم يسم فى هذا الحديث ابابكر و بلالا، و كيف و ابوبكر لم يشتر بلالا الا بعد ظهور الاسلام بمكه، فلما اظهر بلال اسلامه عذبه اميه بن خلف! و لم يكن ذلك حال اخفاء رسول الله (ص) الدعوه، و لا فى ابتداء امر الاسلام، و قد قيل: انه (ع) انما عنى بالحر على بن ابى طالب، و بالعبد زيد بن حارثه.
و روى ذلك محمد بن اسحاق، قال: و قد روى اسماعيل بن نصر الصفار، عن محمد بن ذكوان، عن الشعبى، قال: قال الحجاج للحسن، و عنده جماعه من التابعين و ذكر على بن ابى طالب: ما تقول انت يا حسن؟ فقال: ما اقول! هو اول من صلى الى القبله، و اجاب دعوه رسول الله (ص)، و ان لعلى منزله من ربه، و قرابه من رسوله، و قد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها احد.
فغضب الحجاج غضبا شديدا، و قام عن سريره، فدخل بعض البيوت و امر بصرفنا.
قال الشعبى: و كنا جماعه ما منا الا من نال من على (ع) مقاربه للحجاج، غير الحسن بن ابى الحسن رحمه الله.
و روى محرز بن هشام، عن ابراهيم بن سلمه، عن محمد بن عبيدالله، قال: قال رجل للحسن: ما لنا لا نراك تثنى على على و تقرظه! قال: كيف و سيف الحجاج يقطر دما! انه لاول من اسلم، و حسبكم بذلك! قال: فهذه الاخبار.
و اما الاشعار المرويه فمعروفه كثيره م
نتشره، فمنها قول عبدالله بن ابى سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب مجيبا للوليد بن عقبه بن ابى معيط: و ان ولى الامر بعد محمد على و فى كل المواطن صاحبه وصى رسول الله حقا و صنوه واول من صلى و من لان جانبه و قال خزيمه بن ثابت فى هذا: وصى رسول الله من دون اهله و فارسه مذ كان فى سالف الزمن و اول من صلى من الناس كلهم سوى خيره النسوان و الله ذو منن و قال ابوسفيان بن حرب بن اميه بن عبدشمس، حين بويع ابوبكر: ما كنت احسب ان الامر منصرف عن هاشم ثم منها عن ابى حسن اليس اول من صلى لقبلتهم و اعلم الناس بالاحكام و السنن! و قال ابوالاسود الدولى يهدد طلحه و الزبير: و ان عليا لكم مصحر يماثله الاسد الاسود اما انه اول العابدين بمكه و الله لا يعبد! و قال سعيد بن قيس الهمدانى يرتجز بصفين: هذا على و ابن عم المصطفى اول من اجابه فيما روى هو الامام لا يبالى من غوى.
و قال زفر بن يزيد بن حذيفه الاسدى: فحوطوا عليا و انصروه فانه وصى و فى الاسلام اول اول و ان تخذلوه و الحوادث جمه فليس لكم عن ارضكم متحول قال: و الاشعار كالاخبار، اذا امتنع فى مجى ء القبيلين التواطو و الاتفاق، كان ورودهما حجه.
فاما قول
الجاحظ: فاوسط الامور ان نجعل اسلامهما معا، فقد ابطل بهذا ما احتج به لامامه ابى بكر، لانه احتج بالسبق، و قد عدل الان عنه.
قال ابوجعفر: و يقال لهم: لسنا نحتاج من ذكر سبق على (ع) الا مجامعتكم ايانا على انه اسلم قبل الناس، و دعواكم انه اسلم و هو طفل دعوى غير مقبوله لا بحجه.
فان قلتم: و دعوتكم انه اسلم و هو بالغ دعوى غير مقبوله الا بحجه! قلنا: قد ثبت اسلامه بحكم اقراركم، و لو كان طفلا لكان فى الحقيقه غير مسلم، لان اسم الايمان و الاسلام و الكفر و الطاعه و المعصيه انما يقع على البالغين دون الاطفال و المجانين، و اذا اطلقتم و اطلقنا اسم الاسلام، فالاصل فى الاطلاق الحقيقه، كيف و قد قال النبى (ص): (انت اول من آمن بى، و انت اول من صدقنى).
و قال لفاطمه: (زوجتك اقدمهم سلما- او قال: اسلاما-) فان قالوا: انما دعاه النبى (ص) الى الاسلام على جهه العرض لا التكليف.
قلنا: قد وافقتمونا على الدعاء، و حكم الدعاء حكم الامر و التكليف.
ثم ادعيتم ان ذلك كان على وجه العرض، و ليس لكم ان تقبلوا معنى الدعاء (عن وجهه) الا لحجه.
فان قالوا: لعله كان على وجه التاديب و التعليم، كما يعتمد مثل ذلك مع الاطفال! قلنا: ان ذلك انما يكون اذا تمكن الاسلا
م باهله، او عند النشوء عليه و الولاده فيه، فاما فى دار الشرك فلا يقع مثل ذلك، لا سيما اذا كان الاسلام غير معروف و لا معتاد بينهم، على انه ليس من سنه النبى (ص) دعاء اطفال المشركين الى الاسلام و التفريق بينهم و بين آبائهم، قبل ان يبلغوا الحلم.
و ايضا فمن شان الطفل اتباع اهله و تقليد ابيه، و المضى على منشئه و مولده، و قد كانت منزله النبى (ص) حينئذ منزله ضيق و شده و وحده، و هذه منازل لا ينتقل اليها الا من ثبت الاسلام عنده بحجه، و دخل اليقين قلبه بعلم و معرفه.
فان قالوا: ان عليا (ع) كان يالف النبى (ص)، فوافقه على طريق المساعده له.
قلنا: انه و ان كان يالفه اكثر من ابويه و اخوته و عمومته و اهل بيته، و لم يكن الالف ليخرجه عما نشا عليه، و لم يكن الاسلام مما غذى به و كرر على سمعه، لان الاسلام هو خلع الانداد و البرائه ممن اشرك بالله، و هذا لا يجتمع فى اعتقاد طفل.
و من العجب قول العباس لعفيف بن قيس: ننتظر الشيخ و ما يصنع! فاذا كان العباس و حمزه ينتظران اباطالب، و يصدران عن رايه، فكيف يخالفه ابنه، و يوثر القله على الكثره، و يفارق المحبوب الى المكروه، و العز الى الذل، و الامن الى الخوف، عن غير معرفه و لا علم بما فيه! فاما
قوله: ان المقلل يزعم انه اسلم و هو ابن خمس سنين، و المكثر يزعم انه اسلم و هو ابن تسع سنين، فاول ما يقال فى ذلك: ان الاخبار جائت فى سنه (ع) يوم اسلم على خمسه اقسام فجعلناه فى قسمين: القسم الاول: الذين قالوا: اسلم و هو ابن خمس عشره سنه، حدثنا بذلك احمد بن سعيد الاسدى، عن اسحاق بن بشر القرشى، عن الاوزاعى، عن حمزه بن حبيب، عن شداد بن اوس، قال: سالت خباب بن الارت عن اسلام على، فقال: اسلم و هو ابن خمس عشره سنه، و لقد رايته يصلى قبل الناس مع النبى (ص) و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ.
و روى عبدالرزاق، عن معمر، عن قتاده، عن الحسن، ان اول من اسلم على بن ابى طالب، و هو ابن خمس عشره سنه.
القسم الثانى: الذين قالوا انه اسلم و هو ابن اربع عشره سنه، رواه ابوقتاده الحرانى، عن ابى حازم الاعرج، عن حذيفه بن اليمان، قال: كنا نعبد الحجاره، و نشرب الخمر و على من ابناء اربع عشره سنه قائم يصلى مع النبى (ص) ليلا و نهارا، و قريش يومئذ تسافه رسول الله (ص)، ما يذب عنه الا على (ع) و روى ابن ابى شيبه عن جرير بن عبدالحميد، قال: اسلم على و هو ابن اربع عشره سنه.
القسم الثالث: الذين قالوا: اسلم و هو ابن احدى عشره سنه، رواه اسماعيل بن عبدالله ال
رقى، عن محمد بن عمر، عن عبدالله بن سمعان، عن جعفر بن محمد (ع)، عن ابيه عن محمد بن على (ع)، ان عليا حين اسلم كان ابن احدى عشره سنه.
و روى عبدالله بن زياد المدنى، عن محمد بن على الباقر (ع)، قال: اول من آمن بالله على بن ابى طالب، و هو ابن احدى عشره سنه، و هاجر الى المدينه و هو ابن اربعه و عشرين سنه.
القسم الرابع: الذين قالوا: انه اسلم و هو ابن عشر سنين.
رواه نوح بن دراج، عن محمد بن اسحاق، قال: اول ذكر آمن و صدق بالنبوه على بن ابى طالب (ع)، و هو ابن عشر سنين، ثم اسلم زيد بن حارثه، ثم اسلم ابوبكر و هو ابن ست و ثلاثين سنه فيما بلغنا.
القسم الخامس: الذين قالوا انه اسلم و هو ابن تسع سنين، رواه الحسن بن عنبسه الوراق، عن سليم مولى الشعبى، عن الشعبى، قال: اول من اسلم من الرجال على بن ابى طالب و هو ابن تسع سنين، و كان له يوم قبض رسول الله (ص) تسع و عشرون سنه.
قال شيخنا ابوجعفر: فهذه الاخبار كما تراها، فاما ان يكون الجاحظ جهلها، او قصد العناد.
فاما قوله: (فالقياس ان ناخذ باوسط الامرين من الروايتين)، فنقول: انه اسلم و هو ابن سبع سنين.
فان هذا تحكم منه، و يلزمه مثله فى رجل ادعى قبل رجل عشره دراهم، فانكر ذلك و قال: انما يست
حق قبلى اربعه دراهم، فينبغى ان ناخذ الامر المتوسط و يلزمه سبعه دراهم، و يلزمه فى ابى بكر حيث قال قوم: كان كافرا، و قال قوم: كان اماما عادلا ان نقول: اعدل الاقاويل اوسطها و هو منزله بين المنزلتين، فنقول: كان فاسقا ظالما، و كذلك فى جميع الامور المختلف فيها.
فاما قوله: و انما يعرف حق ذلك من باطله، بان نحصى سنى ولايه عثمان و عمر و ابى بكر و سنى الهجره، و مقام النبى (ص) بمكه بعد الرساله الى ان هاجر، فيقال له: لو كانت الروايات متفقه على هذه التاريخات، لكان لهذا القول مساغ، و لكن الناس قد اختلفوا فى ذلك، فقيل: ان رسول الله (ص) اقام بمكه بعد الرساله خمس عشره سنه رواه ابن عباس و قيل ثلاث عشره سنه، و روى عن ابن عباس، ايضا، و اكثر الناس يرونه.
و قيل عشر سنين، رواه عره بن الزبير، و هو قول الحسن البصرى و سعيد بن المسيب.
و اختلفوا فى سن رسول الله (ص)، فقال، قوم: كان ابن خمس و ستين، و قيل كان ابن ثلاث و ستين و قيل كان ابن ستين، و اختلفوا فى سن على (ع)، فقيل: كان ابن سبع و ستين، و قيل: كان ابن خمس و ستين.
و قيل ابن ثلاث و ستين، و قيل: ابن ستين، و قيل ابن تسع و خمسين.
فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال! و انما الواجب
ان يرجع الى اطلاق قولهم: اسلم على، فان هذا الاسم لا يكون مطلقا الا على البالغ، كما لا يطلق اسم الكافر الا على البالغ، على ان ابن احدى عشره سنه يكون بالغا، و يولد له الاولاد، فقد روت الرواه ان عمرو بن العاص لم يكن اسن من ابنه عبدالله الا باثنتى عشره سنه، و هذا يوجب انه احتلم و بلغ فى اقل من احدى عشره سنه.
و روى ايضا ان محمد بن عبدالله بن العباس، كان اصغر من ابيه على بن عبدالله بن العباس باحدى عشره سنه، فيلزم الجاحظ ان يكون عبدالله بن العباس حين مات رسول الله (ص) غير مسلم على الحقيقه، و لا مثاب و لا مطيع بالاسلام، لانه كان يومئذ ابن عشر سنين.
رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: توفى رسول الله (ص) و انا ابن عشر سنين.
قال الجاحظ: فان قالوا: فلعله و هو ابن سبع سنين او ثمانى سنين، قد بلغ من فطنته و ذكائه و صحه لبه و صدق حدسه و انكشاف العواقب له و ان لم يكن جرب الامور و لا فاتح الرجال، و لا نازع الخصوم، ما يعرف به جميع ما يجب على البالغ معرفته و الاقرار به! قيل لهم: انما نتكلم على ظواهر الاحوال، و ما شاهدنا عليه طبائع الاطفال، فانا وجدنا حكم ابن سبع سنين او ثمان- ما لم يعلم باطن امره و خاصه طبعه- حكم الاطفا
ل، و ليس لنا ان نزيل ظاهر حكمه و الذى نعرف من حال افناء جنسه بلعل و عسى، لانا و ان كنا لا ندرى، لعله قد كان ذا فضيله فى الفطنه فلعله قد كان ذا نقص فيها! هذا على تجويز ان يكون على (ع) فى الغيب قد اسلم و هو ابن سبع او ثمان اسلام البالغ، غير ان الحكم على مجرى امثاله و اشكاله الذين اسلموا و هم فى مثل سنه اذ كان اسلام هولاء عن تربيه الحاضن، و تلقين القيم، و رياضه السائس.
فاما عند التحقيق، فانه لا تجويز لمثل ذلك، لانه لو كان اسلم، و هو ابن سبع او ثمان و عرف فضل ما بين الانبياء و الكهنه، و فرق ما بين الرسل و السحره، و فرق ما بين خبر النبى و المنجم، و حتى عرف كيد الاريب، و موضع الحجه، و بعد غور المتنبى، كيف يلبس على العقلاء، و تستمال عقول الدهماء، و عرف الممكن فى الطبع من الممتنع، و ما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالاسباب، و عرف قدر القوى و غايه الحيله و منتهى التمويه و الخديعه، و ما لايحتمل ان يحدثه الا الخالق سبحانه، و ما يجوز على الله فى حكمته مما لا يجوز، و كيف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثه و قله التجارب و الممارسه خروجا من العاده.
و من المعروف مما عليه ترك
يب هذه الخلقه، و ليس يصل احد الى معرفه نبى و كذب متنبى ء، حتى يجتمع فيه هذه المعارف التى ذكرناها، و الاسباب التى وصفناها و فصلناها، و لو كان على (ع) على هذه الصفه و معه هذه الخاصيه لكان حجه على العامه، و آيه تدل على النبوه، و لم يكن الله عز و جل ليخصه بمثل هذه الاعجوبه الا و هو يريد ان يحتج بها، و يجعلها قاطعه لعذر الشاهد و حجه على الغائب.
و لولا ان الله اخبر عن يحيى بن زكريا انه اتاه الحكم صبيا، و انه انطق عيسى فى المهد ما كانا فى الحكم (و لا فى المغيب)، الا كسائر الرسل، و ما عليه جميع البشر.
فاذا لم ينطق لعلى (ع) بذلك قرآن، و لا جاء الخبر به مجى ء الحجه القاطعه و المشاهده القائمه، فالمعلوم عندنا فى الحكم ان طباعه كطباع عميه حمزه و العباس، و هما امس بمعدن جماع الخير منه، او كطباع جعفر و عقيل من رجال قومه، و ساده رهطه.
و لو ان انسانا ادعى مثل ذلك لاخيه جعفر او لعميه حمزه و العباس، ما كان عندنا فى امره الا مثل ما عندنا فيه.
اجاب شيخنا ابوجعفر رحمه الله، فقال: هذا كله مبنى على انه اسلم و هو ابن سبع او ثمان، و نحن قد بينا انه اسلم بالغا ابن خمس عشره سنه او ابن اربع عشره سنه، على انا لو نزلنا على حكم الخصوم، و ق
لنا ما هو الاشهر و الاكثر من الروايه، و هو انه اسلم و هو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ، لان ابن عشر قد يستجمع عقله، و يعلم من مبادى ء المعارف ما يستخرج به كثيرا من الامور المعقوله، و متى كان الصبى عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات، و ان كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر و غايه اخرى، فليس بمنكر ان يكون على (ع) و هو ابن عشر قد عقل المعجزه، فلزمه الاقرار بالنبوه، و اسلم اسلام عالم عارف، لا اسلام مقلد تابع، و ان كان ما نسقه الجاحظ و عدده من معرفه السحر و النجوم و الفصل بينهما و بين النبوه، و معرفه ما يجوز فى الحكمه مما لا يجوز، و ما لا يحدثه الا الخالق، و الفرق بينه و بين ما يقدر عليه القادرون بالقدره، و معرفه التمويه و الخديعه، و التلبيس و المماكره، شرطا فى صحه الاسلام لما صح اسلام ابى بكر و لا عمر و لا غيرهما من العرب، و انما التكليف لهولاء بالجمل و مبادى ء المعارف لا بدقائقها و الغامض منها، و ليس يفتقر الاسلام الى ان يكون المسلم قد فاتح الرجال و جرب الامور و نازع الخصوم، و انما يفتقر الى صحه الغريزه و كمال العقل و سلامه الفطره، الا ترى ان طفلا لو نشا فى دار لم يعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال، و لا نازع ال
خصوم، ثم كمل عقله، و حصلت العلوم البديهيه عنده، لكان مكلفا بالعقليات! فاما توهمه ان عليا (ع) اسلم عن تربيه الحاضن، و تلقين القيم، و رياضه السائس، فلعمرى ان محمدا (ص) كان حاضنه و قيمه و سائسه، و لكن لم يكن منقطعا عن ابيه ابى طالب، و لا عن اخوته طالب و عقيل و جعفر، و لا عن عمومته و اهل بيته، و ما زال مخالطا لهم، ممتزجا بهم، مع خدمته لمحمد (ص)، فما باله لم يمل الى الشرك و عباده الاصنام لمخالطته اخوته و اباه و عمومته و اهله، و هم كثير و محمد (ص) واحد! و انت تعلم ان الصبى اذا كان له اهل ذوو كثره، و فيهم واحد يذهب الى راى مفرد، لا يوافقه عليه غيره منهم، فانه الى ذوى الكثره اميل، و عن ذى الراى الشاذ المنفرد ابعد، و على ان عليا (ع) لم يولد فى دار الاسلام، و انما ولد فى دار الشرك و ربى بين المشركين، و شاهد الاصنام، و عاين بعينه اهله و رهطه يعبدونها، فلو كان فى دار الاسلام لكان فى القول مجال، و لقيل انه ولد بين المسلمين، فاسلامه عن تلقين الظئر و عن سماع كلمه الاسلام و مشاهده شعاره لانه لم يسمع غيره، و لا خطر بباله سواه، فلما لم يكن ولد كذلك، ثبت ان اسلامه اسلام المميز العارف بما دخل عليه.
و لولا انه كذلك لما مدحه رسول
الله (ص) بذلك، و لا ارضى ابنته فاطمه لما وجدت من تزويجه بقوله لها: زوجتك اقدمهم سلما، و لا قرن الى قوله: (و اكثرهم علما، و اعظمهم حلما)، و الحلم العقل، و هذان الامران غايه الفضل، فلولا انه اسلم اسلام عارف عالم مميز لما ضم اسلامه الى العلم و الحلم اللذين وصفه بهما! و كيف يجوز ان يمدحه بامر لم يكن مثابا عليه، و لا معاقبا به لو تركه، و لو كان اسلامه عن تلقين و تربيه لما افتخر هو (ع) (به) على رووس الاشهاد، و لا خطب على المنبر، و هو بين عدو و محارب، و خاذل منافق، فقال: انا عبدالله و اخو رسوله و انا الصديق الاكبر و الفاروق الاعظم، صليت قبل الناس سبع سنين، و اسلمت قبل اسلام ابى بكر، و آمنت قبل ايمانه! فهل بلغكم ان احدا من اهل ذلك العصر انكر ذلك او عابه او ادعاه لغيره، او قال له: انما كنت طفلا اسلمت على تربيه محمد (ص) ذلك، و تلقينه اياك، كما يعلم الطفل الفارسيه و التركيه منذ يكون رضيعا! فلا فخر له فى تعلم ذلك، و خصوصا فى عصر قد حارب فيه اهل البصره و الشام و النهروان، و قد اعتورته الاعداء و هجته الشعراء، فقال فيه النعمان بن بشير: لقد طلب الخلافه من بعيد و سارع فى الضلال ابوتراب معاويه الامام و انت منهما على و
تح بمنقطع السراب و قال فيه ايضا بعض الخوارج: دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم جزاء اذا ما جاء نفسا كتابها اباحسن خذها على الراس ضربه بكف كريم بعد موت ثوابها.
و قال عمران بن حطان يمدح قاتله: يا ضربه من تقى ما اراد بها الا ليبلغ من ذى العرش رضوانا انى لاذكره حينا فاحسبه اوفى البريه عند الله ميزانا فلو وجد هولاء سبيلا الى دحض حجه فيما كان يفخر به من تقدم اسلامه، لبداوا بذلك، و تركوا ما لا معنى له.
و قد اوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه الى الاسلام، فكيف لم يرد على هولاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من اهل حربه! و لقد قال فى امهات الاولاد قولا خالف فيه عمر، فذكروه بذلك و عابوه، فكيف تركوا ان يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم، و عابوه بقوله فى امهات الاولاد.
ثم يقال له: خبرنا عن عبدالله بن عمر، و قد اجازه النبى (ص) يوم الخندق، و لم يجزه يوم احد، هل كان يميز ما ذكرته؟ و هل كان يعلم فرق ما بين النبى و المتنبى، و يفصل بين السحر و المعجزه، الى غيره مما عددت و فصلت! فان قال: نعم، و تجاسر على ذلك، قيل له: فعلى (ع) بذلك اولى من ابن عمر، لانه اذكى و افطن بلا خلاف بين العقلاء، و انى يشك فى ذلك، و قد
رويتم انه لم يميز بين الميزان و العود بعد طول السن، و كثره التجارب، و لم يميز ايضا بين امام الرشد و امام الغى، فانه امتنع من بيعه على (ع).
و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبدالملك، كيلا يبيت تلك الليله بلا امام، زعم.
لانه روى عن النبى (ص) انه قال: (من مات و لا امام له مات ميته جاهليه)، و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله، ان اخرج رجله من الفراش، فقال: اصفق بيدك عليها، فذلك تمييزه بين الميزان و العود، و هذا اختياره فى الائمه، و حال على (ع) فى ذكائه و فطنته، و توقد حسه، و صدق حدسه، معلومه مشهوره، فاذا جاز ان يصح اسلام ابن عمر، و يقال عنه انه عرف تلك الامور التى سردها الجاحظ و نسقها، و اظهر فصاحته و تشدقه فيها، فعلى بمعرفه ذلك احق، و بصحه اسلامه اولى.
و ان قال: لم يكن ابن عمر يعلم و يعرف ذلك، فقد ابطل اسلامه، و طعن فى رسول الله (ص) حيث حكم بصحه اسلامه و اجازه يوم الخندق، لانه (ع) كان قال: لا اجيز الا البالغ العاقل، و لذلك لم يجزه يوم احد.
ثم يقال له: ان ما نقوله فى بلوغ على (ع) الحد الذى يحسن فيه التكليف العقلى بل يجب- و هو ابن عشر سنين- ليس باعجب من مجى ء الولد لسته اشهر، و قد صحح ذلك اهل العلم، و
استنبطوه من الكتاب، و ان كان خارجا من التعارف و التجارب و العاده.
و كذلك مجى ء الولد لسنتين خارج ايضا عن التعارف و العاده، و قد صححه الفقهاء و الناس.
و يروى ان معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه، فقال ابوه: ابنى و رب الكعبه! فثبت ذلك سنه يعمل بها الفقهاء، و قد وجدنا العاده تقضى بان الجاريه تحيض لاثنتى عشره سنه، و انه اقل سن تحيض فيه المرا، ه و قد يكون فى الاقل نساء يحضن لعشر و لتسع، و قد ذكر ذلك الفقهاء، و قد قال الشافعى فى اللعان: لو جائت المراه بحمل و زوجها صبى له دون عشر سنين، لم يكن ولدا له، لان من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له، و ان كان له عشر سنين جاز ان يكون الولد له، و كان بينهما لعان اذا لم يقر به.
و قال الفقهاء ايضا: ان نساء تهامه يحضن لتسع سنين، لشده الحر ببلادهن.
قال الجاحظ: و لو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى، و تحفظ من الهوى، الا بترك على (ع) ذكر ذلك لنفسه و الاحتجاج به على خصمه، و قد نازع الرجال و ناوى الاكفاء، و جامع اهل الشورى، لكان كافيا، و متى لم تصح لعلى (ع) هذه الدعوى فى ايامه، و لم يذكرها اهل عصره، فهى عن ولده اعجز، و منهم اضعف.
و لم ينقل
ان عليا (ع) احتج بذلك فى موقف، و لا ذكره فى مجلس، و لا قام به خطيبا، و لا ادلى به واثقا، لا سيما و قد رضيه الرسول (ص) عندكم مفزعا و معلما، و جعله للناس اماما.
و لا ادعى له احد ذلك فى عصره، كما لم يدعه لنفسه، حتى يقول انسان واحد: الدليل على امامته ان النبى (ص) دعاه الى الاسلام او كلفه التصديق قبل بلوغه، ليكون ذلك آيه للناس فى عصره، و حجه له و لولده من بعده، فهذا كان اشد على طلحه و الزبير و عائشه من كل ما ادعاه من فضائله و سوابقه و ذكر قرابته.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: ان مثل الجاحظ مع فضله و علمه، لايخفى عليه كذب هذه الدعوى و فسادها و لكنه يقول ما يقوله تعصبا و عنادا، و قد روى الناس كافه، افتخار على (ع) بالسبق الى الاسلام، و ان النبى (ص) استنبى ء يوم الاثنين، و اسلم على يوم الثلاثاء، و انه كان يقول: صليت قبل الناس سبع سنين، و انه ما زال يقول: انا اول من اسلم، و يفتخر بذلك، و يفتخر له به اولياوه و مادحوه و شيعته فى عصره و بعد وفاته.
و الامر فى ذلك اشهر من كل شهير، و قد قدمنا منه طرفا، و ما علمنا احدا من الناس فيما خلا استخف باسلام على (ع)، و لا تهاون به، و لا زعم انه اسلم اسلام حدث غرير، و طفل صغير.
و من ال
عجب ان يكون مثل العباس و حمزه ينتظران اباطالب و فعله، ليصدرا عن رايه، ثم يخالفه على ابنه لغير رغبه و لا رهبه، يوثر القله على الكثره، و الذل على العزه، من غير علم و لامعرفه بالعاقبه.
و كيف ينكر الجاحظ و العثمانيه ان رسول الله (ص) دعاه الى الاسلام و كلفه التصديق! و قد روى فى الخبر الصحيح انه كلفه فى مبدا الدعوه قبل ظهور كلمه الاسلام و انتشارها بمكه ان يصنع له طعاما، و ان يدعو له بنى عبدالمطلب، فصنع له الطعام، و دعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم، و لم ينذرهم (ص) لكلمه قالها عمه ابولهب، فكلفه فى اليوم الثانى ان يصنع مثل ذلك الطعام، و ان يدعوهم ثانيه، فصنعه، و دعاهم فاكلوا، ثم كلمهم (ص) فدعاهم الى الدين، و دعاه معهم لانه من بنى عبدالمطلب، ثم ضمن لمن يوازره منهم و ينصره على قوله، ان يجعله اخاه فى الدين، و وصيه بعد موته، و خليفته من بعده، فامسكوا كلهم و اجابه هو وحده، و قال: انا انصرك على ما جئت به، و اوازرك و ابايعك، فقال لهم لما راى منهم الخذلان، و منه النصر، و شاهد منهم المعصيه و منه الطاعه، و عاين منهم الاباء و منه الاجابه: هذا اخى و وصيى و خليفتى من بعدى، فقاموا يسخرون و يضحكون، و يقولون لابى طالب: اطع ابنك، فقد امره
عليك، فهل يكلف عمل الطعام و دعاء القوم صغير مميز و غر غير عاقل! و هل يوتمن على سر النبوه طفل ابن خمس سنين او ابن سبع! و هل يدعى فى جمله الشيوخ و الكهول الا عاقل لبيب! و هل يضع رسول الله (ص) يده فى يده، و يعطيه صفقه يمينه، بالاخوه و الوصيه و الخلافه الا و هو اهل لذلك، بالغ حد التكليف، محتمل لولايه الله و عداوه اعدائه! و ما بال هذا الطفل لم يانس باقرانه، و لم يلصق باشكاله، و لم ير مع الصبيان فى ملاعبهم بعد اسلامه، و هو كاحدهم فى طبقته، كبعضهم فى معرفته! و كيف لم ينزع اليهم فى ساعه من ساعاته، فيقال: دعاه داعى الصبا و خاطر من خواطر الدنيا، و حملته الغره و الحداثه على حضور لهوهم و الدخول فى حالهم، بل ما رايناه الا ماضيا على اسلامه، مصمما فى امره، محققا لقوله بفعله، قد صدق اسلامه بعفافه و زهده، و لصق برسول الله (ص) من بين جميع من بحضرته، فهو امينه و اليفه فى دنياه و آخرته، و قد قهر شهوته، و جاذب خواطره، صابرا على ذلك نفسه، لما يرجو من فوز العاقبه و ثواب الاخره، و قد ذكر هو (ع) فى كلامه و خطبه بدء حاله، و افتتاح امره، حيث اسلم لما دعا رسول الله (ص) الشجره، فاقبلت تخد الارض، فقالت قريش: ساحر خفيف السحر! فقال على (ع)
: يا رسول الله، انا اول من يومن بك، آمنت بالله و رسوله و صدقتك فيما جئت به، و انا اشهد ان الشجره فعلت ما فعلت بامر الله تصديقا لنبوتك، و برهانا على صحه دعوتك، فهل يكون ايمان قط اصح من هذا الايمان و اوثق عقده، و احكم مره! و لكن حنق العثمانيه و غيظهم، و عصبيه الجاحظ و انحرافه مما لا حيله فيه.
ثم لينظر المنصف و ليدع الهوى جانبا، ليعلم نعمه الله على على (ع) بالاسلام حيث اسلم على الوضع الذى اسلم عليه، فانه لولا الالطاف التى خص بها، و الهدايه التى منحها، لما كان الا كبعض اقارب محمد (ص) و اهله فقد كان ممازجا له كممازجته، و مخالطا له كمخالطه كثير من اهله و رهطه، و لم يستجب منهم احد له الا بعد حين.
و منهم من لم يستجب له اصلا، فان جعفرا (ع) كان ملتصقا به، و لم يسلم حينئذ، و كان عتبه بن ابى لهب ابن عمه و صهره زوج ابنته و لم يصدقه، بل كان شديدا عليه، و كان لخديجه بنون من غيره، و لم يسلموا حينئذ، و هم ربائبه و معه فى دار واحده.
و كان ابوطالب اباه فى الحقيقه و كافله و ناصره، و المحامى عنه، و من لولاه لم تقم له قائمه، و مع ذلك لم يسلم فى اغلب الروايات، و كان العباس عمه و صنو ابيه، و كالقرين له فى الولاده و المنشا و التربيه
، و لم يستجب له الا بعد حين طويل، و كان ابولهب عمه، و كدمه و لحمه، و لم يسلم، و كان شديدا عليه، فكيف ينسب اسلام على (ع) الى الالف و التربيه و القرابه و اللحمه و التلقين و الحضانه، و الدار الجامعه، و طول العشره و الانس و الخلوه! و قد كان كل ذلك حاصلا لهولاء او لكثير منهم، و لم يهتد احد منهم اذ ذاك، بل كانوا بين (من) جحد و كفر و مات على كفره، و من ابطا و تاخر، و سبق بالاسلام و جاء سكيتا، و قد فاز بالمنزله غيره.
و هل يدل تامل حال على (ع) مع الانصاف الا على انه اسلم، لانه شاهد الاعلام، و راى المعجزات، و شم ريح النبوه، و راى نور الرساله، و ثبت اليقين فى قلبه بمعرفه و علم و نظر صحيح، لا بتقليد و لا حميه، و لا رغبه و لا رهبه، الا فيما يتعلق بامور الاخره.
قال الجاحظ: فلو ان عليا (ع) كان بالغا حيث اسلم، لكان اسلام ابى بكر و زيد بن حارثه و خباب بن الارت افضل من اسلامه، لان اسلام المقتضب الذى لم يعتد به و لم يعوده، و لم يمرن عليه، افضل من اسلام الناشى ء الذى ربى فيه، و نشا و حبب اليه، و ذلك لان صاحب التربيه يبلغ حيث يبلغ و قد اسقط الفه عنه مونه الرويه و الخاطر، و كفاه علاج القلب و اضطراب النفس، و زيد و خباب و ابوبكر يع
انون من كلفه النظر و مونه التامل و مشقه الانتقال من الدين الذى قد طال الفهم له ما هو غير خاف.
و لو كان على حيث اسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا، كان اسلامهم افضل من اسلامه، لان من اسلم و هو يعلم ان له ظهرا كابى طالب، و ردئا كبنى هاشم، و موضعا فى بنى عبدالمطلب، ليس كالحليف و المولى، و التابع و العسيف، و كالرجل من عرض قريش.
او لست تعلم ان قريشا خاصه و اهل مكه عامه لم يقدروا على اذى النبى (ص)، ما كان ابوطالب حيا! و ايضا فان اولئك اجتمع عليهم مع فراق الالف مشقه الخواطر، و على (ع) كان بحضره رسول الله (ص)، يشاهد الاعلام فى كل وقت، و يحضر منزل الوحى، فالبراهين له اشد انكشافا، و الخواطر على قلبه اقل اعتلاجا، و على قدر الكلفه و المشقه يعظم الفضل و يكثر الاجر.
قال ابوجعفر رحمه الله: ينبغى ان ينظر اهل الانصاف هذا الفصل، و يقفوا على قول الجاحظ و الاصم فى نصره العثمانيه و اجتهادهم فى القصد الى فضائل هذا الرجل، و تهجينها، فمره يبطلان معناها، و مره يتوصلان الى حط قدرها، فلينظر فى كل باب اعترضا فيه اين بلغت حيلتهما و ما صنعا فى احتيالهما فى قصصهما و سجعهما! ا ليس اذا تاملتها علمت انها الفاظ ملفقه بلا معنى، و انها عليها شجى
و بلاء! و الا فما عسى ان تبلغ حيله الحاسد و يغنى كيد الكائد الشانى ء لمن قد جل قدره عن النقص، و اضائت فضائله اضائه الشمس! و اين قول الجاحظ، من دلائل السماء، و براهين الانبياء، و قد علم الصغير و الكبير، و العالم و الجاهل، ممن بلغه ذكر على (ع) و علم مبعث النبى (ص) ان عليا (ع) لم يولد فى دار الاسلام، و لا غذى فى حجر الايمان، و انما استضافه رسول الله (ص) الى نفسه سنه القحط و المجاعه، و عمره يومئذ ثمانى سنين، فمكث معه سبع سنين حتى اتاه جبرئيل بالرساله، فدعاه و هو بالغ كامل العقل الى الاسلام، فاسلم بعد مشاهده المعجزه، و بعد اعمال النظر و الفكره، و ان كان قد ورد فى كلامه انه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم، فانما يعنى ما بين الثمان و الخمس عشره، و لم يكن حينئذ دعوه و لا رساله، و لا ادعاء نبوه، و انما كان رسول الله (ص) يتعبد على مله ابراهيم و دين الحنيفيه، و يتحنث و يجانب الناس، و يعتزل و يطلب الخلوه، و ينقطع فى جبل حراء، و كان على (ع) معه كالتابع و التلميذ، فلما بلغ الحلم، و جائت النبى (ص) الملائكه، و بشرته بالرساله، دعاه فاجابه عن نظر و معرفه بالاعلام المعجزه، فكيف يقول الجاحظ ان اسلامه لم يكن مقتضبا! و ان كان اسلامه
ينقص عن اسلام غيره فى الفضيله لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله (ص) قبل الدعوه، لتكونن طاعه كثير من المكلفين افضل من طاعه رسول الله (ص) و امثاله من المعصومين، لان العصمه عند اهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح، فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعه عليه اسهل، فوجب ان يكون ثوابه انقص من ثواب من اطاع مع تلك الالطاف! و كيف يقول الجاحظ ان اسلامه ناقص عن اسلام غيره، و قد جاء فى الخبر انه اسلم يوم الثلاثاء، و استنبى ء النبى (ص) يوم الاثنين، فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرساله على سمعه، و لا تواترت اعلام النبوه على مشاهدته، و لا تطاول الوقت عليه لتخف محنته، و يسقط ثقل تكليفه، بل بان فضله، و ظهر حسن اختياره لنفسه، اذ اسلم فى حال بلوغه، و عانى نوازع طبعه، و لم يوخر ذلك بعد سماعه.
و قد غمر الجاحظ فى كتابه هذا ان ابابكر كان قبل اسلامه مذكورا، و رئيسا معروفا، يجتمع اليه كثير من اهل مكه فينشدون الاشعار، و يتذاكرون الاخبار، و يشربون الخمر، و قد كان سمع دلائل النبوه و حجج الرسل، و سافر الى البلدان، و وصلت اليه الاخبار، و عرف دعوى الكهنه و حيل السحره، و من كان كذلك كان انكشاف الامور له اظهر و الاسلام عليه اسهل، و ا
لخواطر على قلبه اقل اعتلاجا، و كل ذلك عون لابى بكر على الاسلام، و مسهل اليه سبيله، و لذلك لما قال النبى (ص) (اتيت بيت المقدس) ساله ابوبكر عن المسجد و مواضعه، فصدقه و بان له امره، و خفت مونته لما تقدم من معرفته بالبيت، فخرج اذا اسلام ابى بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب.
و فى ذلك رويتم عنه (ص) انه قال: ما دعوت احدا الى الاسلام الا و كان له تردد و نبوه، الا ما كان من ابى بكر، فانه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين الى المعرفه و الاسلام، فاين هذا و اسلام من خلى و عقله، و الجى ء الى نظره، مع صغر سنه، و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشاته، فى ضد ما دخل فيه، و الغالب على امثاله و اقرانه حب اللعب و اللهو، فلجا الى ما ظهر له من دلائل الدعوه، و لم يتاخر اسلامه فيلزمه التقصير بالمعصيه، فقهر شهوته، و غالب خواطره، و خرج من عادته و ما كان غذى به لصحه نظره، و لطافه فكره و غامض فهمه، فعظم استنباطه، و رجح فضله، و شرف قدر اسلامه، و لم ياخذ من الدنيا بنصيب، و لا تنعم فيها بنعيم حدثا و لا كبيرا، و حمى نفسه عن الهوى، و كسر شره حداثته بالتقوى، و اشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا، و اشغل هم الاخره قلبه، و وجه اليه رغبته، فاسلامه هو السبيل ال
ذى لم يسلم عليه احد غيره، و ما سبيله فى ذلك الا كسبيل الانبياء، ليعلم ان منزلته من النبى (ص) كمنزله هارون من موسى، و انه و ان لم يكن نبيا، فقد كان فى سبيل الانبياء سالكا، و لمنهاجهم متبعا، و كانت حاله كحال ابراهيم (ع)، فان اهل العلم ذكروا انه لما كان صغيرا جعلته امه فى سرب لم يطلع عليه احد، فلما نشا و درج و عقل قال لامه: من ربى؟ قالت: ابوك، قال: فمن رب ابى؟ فزبرته و نهرته، الى ان طلع من شق السرب، فراى كوكبا، فقال: هذا ربى، فلما افل قال: لا احب الافلين فلما راى القمر بازغا قال: هذا ربى، فلما افل قال: لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين، فلما راى الشمس بازغه قال: هذا ربى هذا اكبر، فلما افلت قال: يا قوم انى برى ء مما تشركون، انى وجهت وجهى للذى فطر السموات و الارض حنيفا، و ما انا من المشركين، و فى ذلك يقول الله جل ثناوه (و كذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات و الارض و ليكون من الموقنين)، و على هذا كان اسلام الصديق الاكبر (ع)، لسنا نقول انه كان مساويا له فى الفضيله، و لكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى: (ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه و هذا النبى و الذين آمنوا و الله ولى المومنين).
و اما اعتلال الجا
حظ بان له ظهرا كابى طالب و ردئا كبنى هاشم، فانه يوجب عليه ان تكون محنه ابى بكر و بلال و ثوابهما و فضل اسلامهما اعظم مما لرسول الله (ص)، لان اباطالب ظهره، و بنى هاشم ردوه، و حسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر على (ع) الا بحطه من قدر رسول الله (ص)! و لم يكن احد اشد على رسول الله (ص) من قراباته، الادنى منهم فالادنى، كابى لهب عمه و امراه ابى لهب، و هى ام جميل بنت حرب بن اميه و احدى اولاد عبدمناف، ثم ما كان من عقبه بن ابى معيط، و هو ابن عمه، و ما كان من النضر بن الحارث، و هو من بنى عبدالدار بن قصى، و هو ابن عمه ايضا، و غير هولاء ممن يطول تعداده، و كلهم كان يطرح الاذى فى طريقه، و ينقل اخباره، و يرميه بالحجاره، و يرمى الكرش و الفرث عليه، و كانوا يوذون عليا (ع) كاذاه، و يجتهدون فى غمه و يستهزئون به، و ما كان لابى بكر قرابه توذيه كقرابه على، و لما كان بين على و بين النبى (ص) من الاتحاد و الالف و الاتفاق، احجم المنافقون بالمدينه عن اذى رسول الله (ص) خوفا من سيفه، و لانه صاحب الدار و الجيش، و امره مطاع، و قوله نافذ، فخافوا على دمائهم منه، فاتقوه، و امسكوا عن اظهار بغضه، و اظهروا بغض على (ع) و شنانه، فقال رسول الله (ص)
فى حقه فى الخبر الذى روى فى جميع الصحاح: (لا يحبك الا مومن، و لا يبغضك الا منافق).
و قال كثير من اعلام الصحابه- كما روى فى الخبر المشهور بين المحدثين: (ما كنا نعرف المنافقين الا ببغض على بن ابى طالب).
و اين كان ظهر ابى طالب عن جعفر، و قد ازعجه الاذى عن وطنه، حتى هاجر الى بلاد الحبشه و ركب البحر، ايتوهم الجاحظ ان اباطالب نصر عليا، و خذل جعفرا! قال الجاحظ: و لابى بكر فضيله فى اسلامه انه كان قبل اسلامه كثير الصديق، عريض الجاه، ذا يسار و غنى، يعظم لماله، و يستفاد من رايه، فخرج من عز الغنى و كثره الصديق الى ذل الفاقه و عجز الوحده، و هذا غير اسلام من لا حراك به، و لا عز له، تابع غير متبوع، لان من اشد ما يبتلى الكريم به، السب بعد التحيه، و الضرب بعد الهيبه، و العسر بعد اليسر.
ثم كان ابوبكر دعيه من دعاه الرسول، و كان يتلوه فى جميع احواله، فكان الخوف اليه اشد، و المكروه نحوه اسرع، و كان ممن تحسن مطالبته، و لا يستحيى من ادراك الثار عنده، لنباهته، و بعد ذكره، و الحدث الصغير يزدرى و يحتقر لصغر سنه و خمول ذكره.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اما ما ذكر من كثره المال و الصديق، و استفاضه الذكر و بعد الصيت و كبر السن، فكله عل
يه لا له، و ذلك لانه قد علم ان من سيره العرب و اخلاقها حفظ الصديق و الوفاء بالذمام و التهيب لذى الثروه و احترام ذى السن العاليه، و فى كل هذا ظهر شديد، و سند و ثقه يعتمد عليها عند المحن، و لذلك كان المرء منهم اذا تمكن من صديقه ابقى عليه، و استحيا منه، و كان ذلك سببا لنجاته و العفو عنه، على ان على بن ابى طالب (ع) ان لم يكن شهره سنه، فقد شهره نسبه و موضعه من بنى هاشم، و ان لم يستفض ذكره بلقاء الرجال، و كثره الاسفار استفاض بابى طالب، فانتم تعلمون انه ليس تيم فى بعد الصيت كهاشم، و لا ابوقحافه كابى طالب، و على حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذى السن و يبعد صيت الحدث على الشيخ، و معلوم ايضا ان عليا على اعناق المشركين اثقل، اذ كان هاشميا، و ان كان ابوه حامى رسول الله (ص)، و المانع لحوزته، و على هو الذى فتح على العرب باب الخلاف، و استهان بهم، بما اظهر من الاسلام و الصلاه، و خالف رهطه و عشيرته، و اطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل، و لا عهد له نظير، كما قال تعالى: (لتنذر قوما ما انذر آباوهم فهم غافلون).
ثم كان بعد صاحب رسول الله (ص)، و مشتكى حزنه، و انيسه فى خلوته، و جليسه و اليفه فى ايامه كلها، و كل هذا يوجب التحريض عليه، و
معاداه العرب له، ثم انتم معاشر العثمانيه، تثبتون لابى بكر فضيله بصحبه الرسول (ص) من مكه الى يثرب، و دخوله معه فى الغار، فقلتم: مرتبه شريفه و حاله جليله، اذ كان شريكه فى الهجره، و انيسه فى الوحشه، فاين هذه من صحبه على (ع) له فى خلوته، و حيث لايجد انيسا غيره: ليله و نهاره، ايام مقامه بمكه يعبدالله معه سرا، و يتكلف له الحاجه جهرا، و يخدمه كالعبد يخدم مولاه، و يشفق عليه و يحوطه، و كالولد يبر والده، و يعطف عليه.
و لما سئلت عائشه من كان احب الناس الى رسول الله (ص)، قالت: اما من الرجال فعلى، و اما من النساء ففاطمه.
قال الجاحظ: و كان ابوبكر من المفتونين المعذبين بمكه قبل الهجره، فضربه نوفل ابن خويلد المعروف بابن العدويه مرتين، حتى ادماه و شده مع طلحه بن عبيدالله فى قرن، و جعلهما فى الهاجره عمير بن عثمان بن مره بن كعب بن سعد بن تيم بن مره، و لذلك كانا يدعيان القرينين، و لو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا، و بلوغ منزلته شديدا، و لو كان يوما واحدا لكان عظيما، و على بن ابى طالب رافه وادع، ليس بمطلوب و لا طالب، و ليس انه لم يكن فى طبعه الشهامه و النجده، و فى غريزته البساله فى الشجاعه، لكنه لم يكن قد تمت اداته، و لااست
كملت آلته، و رجال الطلب و اصحاب الثار يغمصون ذا الحداثه و يزدرون بذى الصبا و الغراره، الى ان يلحق بالرجال، و يخرج من طبع الاطفال.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اما القول فممكن و الدعوى سهله، سيما على مثل الجاحظ، فانه ليس على لسانه من دينه و عقله رقيب، و هو من دعوى الباطل غير بعيد، فمعناه نزر، و قوله لغو، و مطلبه سجع، و كلامه لعب و لهو، يقول الشى ء و خلافه، و يحسن القول و ضده، ليس له من نفسه واعظ و لالدعواه حد قائم، و الا فكيف تجاسر على القول بان عليا حينئذ لم يكن مطلوبا و لا طالبا، و قد بينا بالاخبار الصحيحه، و الحديث المرفوع المسند انه كان يوم اسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه و قلبه لمشركى قريش، ثقيلا على قلوبهم، و هو المخصوص دون ابى بكر بالحصار فى الشعب، و صاحب الخلوات برسول الله (ص) فى تلك الظلمات، المتجرع لغصص المرار من ابى لهب و ابى جهل و غيرهما، و المصطلى لكل مكروه و الشريك لنبيه فى كل اذى، قد نهض بالحمل الثقيل، و بان بالامر الجليل، و من الذى كان يخرج ليلا من الشعب على هيئه السارق، و يخفى نفسه، و يضائل شخصه، حتى ياتى الى من يبعثه اليه ابوطالب من كبراء قريش، كمطعم بن عدى و غيره، فيحمل لبنى هاشم على ظهره اع
دال الدقيق و القمح، و هو على اشد خوف من اعدائهم، كابى جهل و غيره، لو ظفروا به لاراقوا دمه.
اعلى كان يفعل ذلك ايام الحصار فى الشعب، ام ابوبكر؟ و قد ذكر هو (ع) حاله يومئذ، فقال فى خطبه له مشهوره: فتعاقدوا الا يعاملونا و لايناكحونا، و اوقدت الحرب علينا نيرانها، و اضطرونا الى جبل وعر، مومننا يرجو الثواب، و كافرنا يحامى عن الاصل، و لقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم، و قطعوا عنهم الماره و الميره، فكانوا يتوقعون الموت جوعا، صباحا و مساء، لايرون وجها و لا فرجا، قد اضمحل عزمهم، و انقطع رجاوهم، فمن الذى خلص اليه مكروه تلك المحن بعد محمد (ص) الا على (ع) وحده! و ما عسى ان يقول الواصف و المطنب فى هذه الفضيله، من تقصى معانيها، و بلوغ غايه كنهها، و فضيله الصابر عندها! و دامت هذه المحنه عليهم ثلاث سنين، حتى انفرجت عنهم بقصه الصحيفه، و القصه مشهوره.
و كيف يستحسن الجاحظ لنفسه ان يقول فى على (ع): انه قبل الهجره كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا و لا طالبا، و هو صاحب الفراش الذى فدى رسول الله (ص) بنفسه، و وقاه بمهجته، و احتمل السيوف و رضح الحجاره دونه.
و هل ينتهى الواصف و ان اطنب، و المادح و ان اسهب، الى الابانه عن مقدار هذه الفضيل
ه، و الايضاح بمزيه هذه الخصيصه! فاما قوله: ان ابابكر عذب بمكه، فانا لانعلم ان العذاب كان واقعا الا بعبد او عسيف، او لمن لا عشيره له تمنعه، فانتم فى ابى بكر بين امرين: تاره تجعلونه دخيلا ساقطا، و هجينا رذيلا مستضعفا ذليلا، و تاره تجعلونه رئيسا متبعا، و كبيرا مطاعا، فاعتمدوا على احد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لانفسكم.
و لو كان الفضل فى الفتنه و العذاب، لكان عمار و خباب و بلال و كل معذب بمكه افضل من ابى بكر، لانهم كانوا من العذاب فى اكثر مما كان فيه، و نزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه، كقوله تعالى: (و الذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا)، قالوا: نزلت فى خباب و بلال، و نزل فى عمار قوله: (الا من اكره و قلبه مطمئن بالايمان)، و كان رسول الله (ص) يمر على عمار و ابيه و امه، و هم يعذبون، يعذبهم بنو مخزوم لانهم كانوا حلفائهم، فيقول: (صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنه) و كان بلال يقلب على الرمضاء، و هو يقول: احد احد! و ما سمعنا لابى بكر فى شى ء من ذلك ذكرا، و لقد كان لعلى (ع) عنده يد غراء، ان صح ما رويتموه فى تعذيبه، لانه قتل نوفل بن خويلد و عمير بن عثمان يوم بدر، ضرب نوفلا فقطع ساقه، فقال: اذكرك الله و الرحم! فقال: قد قطع الله كل رحم و صهر الا من كان تابعا لمحمد، ثم ضربه اخرى ففاضت نفسه، و صمد لعمير بن عثمان التميمى، فوجده يروم الهرب، و قد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره، فصار نصفه الاعلى بين رجليه، و ليس ان ابابكر لم يطلب بثاره منهما، و يجتهد، لكنه لم يقدر على ان يفعل فعل على (ع)، فبان على (ع) بفعله دونه.
قال الجاحظ: و لابى بكر مراتب لا يشركه فيها على و لا غيره، و ذلك قبل الهجره فقد علم الناس ان عليا (ع) انما ظهر فضله، و انتشر صيته، و امتحن و لقى المشاق منذ يوم بدر، و انه انما قاتل فى الزمان الذى استوفى فيه اهل الاسلام، و اهل الشرك، و طمعوا فى ان يكون الحرب بينهم سجالا، و اعلمهم الله تعالى ان العاقبه للمتقين، و ابوبكر كان قبل الهجره معذبا و مطرودا مشردا، فى الزمان الذى ليس بالاسلام و اهله نهوض و لا حركه، و لذلك قال ابوبكر فى خلافته: طوبى لمن مات فى فافاه الاسلام! يقول: فى ضعفه.
قال ابوجعفر رحمه الله: لا اشك ان الباطل خان اباعثمان، و الخطا اقعده، و الخذلان اصاره الى الحيره، فما علم و عرف حتى قال ما قال، فزعم ان عليا (ع) قبل الهجره لم يمتحن و لم يكابد المشاق، و انه انما قاسى مشاق التكليف و محن الابتلاء منذ يوم ب
در، و نسى الحصار فى الشعب، و ما منى به منه، و ابوبكر وادع رافه، ياكل ما يريد، و يجلس مع من يحب، مخلى سربه، طيبه نفسه، ساكنا قلبه، و على يقاسى الغمرات، و يكابد الاهوال، و يجوع و يظما، و يتوقع القتل صباحا و مساء، لانه كان هو المتوصل المحتال فى احضار قوت زهيد من شيوخ قريش و عقلائها سرا، ليقيم به رمق رسول الله (ص) و بنى هاشم، و هم فى الحصار، و لا يامن فى كل وقت مفاجاه اعداء رسول الله (ص) له بالقتل، كابى جهل بن هشام و عقبه بن ابى معيط، و الوليد بن المغيره، و عتبه بن ربيعه و غيرهم من فراعنه قريش و جبابرتها، و لقد كان يجيع نفسه و يطعم رسول الله (ص) زاده، و يظمى ء نفسه و يسقيه مائه، و هو كان المعلل له اذا مرض، و المونس له اذا استوحش، و ابوبكر بنجوه عن ذلك لايمسه مما يمسهم الم، و لم يلحقه مما يلحقهم مشقه، و لايعلم بشى ء من اخبارهم و احوالهم، الا على سبيل الاجمال دون التفصيل، ثلاث سنين، محرمه معاملتهم و مناكحتهم و مجالستهم، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج و التصرف فى انفسهم، فكيف اهمل الجاحظ هذه الفضيله، و نسى هذه الخصيصه، و لا نظير لها! و لكن لايبالى الجاحظ بعد ان يسوغ له لفظه، و تنسق له خطابته، ما ضيع من المعنى، و
رجع عليه من الخطا! فاما قوله: و اعلموا ان العاقبه للمتقين، ففيه اشاره الى معنى غامض قصده الجاحظ يعنى ان لا فضيله لعلى (ع) فى الجهاد، لان الرسول كان اعلمه انه منصور، و ان العاقبه له- و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته، و ليس بحق ما قاله، لان رسول الله (ص) اعلم اصحابه جمله ان العاقبه لهم، و لم يعلم واحدا منهم بعينه انه لايقتل، لا عليا و لا غيره، و ان صح انه كان اعلمه انه لايقتل، فلم يعلمه انه لايقطع عضو من اعضائه، و لم يعلمه انه لايمسه الم جراح فى جسده، و لم يعلمه انه لايناله الضرب الشديد.
و على ان رسول الله (ص) قد اعلم اصحابه قبل يوم بدر- و هو يومئذ بمكه- ان العاقبه لهم، كما اعلم اصحابه بعد الهجره ذلك، فان لم يكن لعلى و المجاهدين فضيله فى الجهاد بعد الهجره لاعلامه اياهم ذلك، فلا فضيله لابى بكر و غيره فى احتمال المشاق قبل الهجره لاعلامه اياهم بذلك، فقد جاء فى الخبر انه وعد ابابكر قبل الهجره بالنصر، و انه قال له: ارسلت الى هولاء بالذبح، و ان الله تعالى سيغنمنا اموالهم، و يملكنا ديارهم، فالقول فى الموضعين متساو و متفق.
قال الجاحظ: و ان بين المحنه فى الدهر الذى صار فيه اصحاب النبى (ص) مقرنين لاهل مكه و مشركى
قريش، و معهم اهل يثرب اصحاب النخيل و الاطام و الشجاعه و الصبر و المواساه، و الايثار و المحاماه و العدد الدثر، و الفعل الجزل، و بين الدهر الذى كانوا فيه بمكه يفتنون و يشتمون، و يضربون و يشردون، و يجوعون و يعطشون، مقهورين لا حراك بهم، و اذلاء لا عز لهم، و فقراء لا مال عندهم، و مستخفين لا يمكنهم اظهار دعوتهم، لفرقا واضحا، و لقد كانوا فى حال احوجت لوطا و هو نبى الى ان قال: (لو ان لى بكم قوه او آوى الى ركن شديد)، و قال النبى (ص): (عجبت من اخى لوط، كيف قال: او آوى الى ركن شديد، و هو ياوى الى الله تعالى!) ثم لم يكن ذلك يوما و لا يومين و لا شهرا و لا شهرين، و لا عاما و لا عامين، و لكن السنين بعد السنين.
و كان اغلظ القوم و اشدهم محنه بعد رسول الله (ص) ابوبكر، لانه اقام بمكه ما اقام رسول الله (ص) ثلاث عشره سنه، و هو اوسط ما قالوا فى مقام النبى (ص).
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: ما نرى الجاحظ احتج لكون ابى بكر اغلظهم و اشدهم محنه، الا بقوله: لانه اقام بمكه مده مقام الرسول (ص) بها، و هذه الحجه لا تخص ابابكر وحده، لان عليا (ع) اقام معه هذه المده، و كذلك طلحه و زيد و عبدالرحمن و بلال و خباب و غيرهم، و قد كان الواجب عليه ان
يخص ابابكر وحده بحجه تدل على انه كان اغلظ الجماعه، و اشدهم محنه بعد رسول الله (ص)، فالاحتجاج فى نفسه فاسد.
ثم يقال له: ما بالك اهملت امر مبيت على (ع) على الفراش بمكه ليله الهجره! هل نسيته ام تناسيته! فانها المحنه العظيمه و الفضيله الشريفه التى متى امتحنها الناظر، و اجال فكره فيها، راى تحتها فضائل متفرقه و مناقب متغايره، و ذلك انه لما استقر الخبر عند المشركين ان رسول الله (ص) مجمع على الخروج من بينهم للهجره الى غيرهم قصدوا الى معاجلته، و تعاقدوا على ان يبيتوه فى فراشه، و ان يضربوه باسياف كثيره، بيد كل صاحب قبيله من قريش سيف منها، ليضيع دمه بين الشعوب، و يتفرق بين القبائل، و لا يطلب بنوهاشم بدمه قبيله واحده بعينها من بطون قريش، و تحالفوا على تلك الليله، و اجتمعوا عليها، فلما علم رسول الله (ص) ذلك من امرهم، دعا اوثق الناس عنده، امثلهم فى نفسه، و ابذلهم فى ذات الاله لمهجته، و اسرعهم اجابه الى طاعته، فقال له: ان قريشا قد تحالفت على ان تبيتنى هذه الليله، فامض الى فراشى، و نم فى مضجعى، و التف فى بردى الحضرمى ليروا انى لم اخرج و انى خارج ان شاء الله.
فمنعه اولا من التحرز و اعمال الحيله، و صده عن الاستظهار لنفسه بنوع
من انواع المكايد و الجهات التى يحتاط بها الناس لنفوسهم، و الجاه الى ان يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذه من ايدى ارباب الحنق و الغيظه، فاجاب الى ذلك سامعا مطيعا طيبه بها نفسه، و نام على فراشه صابرا محتسبا، واقيا له بمهجته، ينتظر القتل، و لا نعلم فوق بذل النفس درجه يلتمسها صابر، و لا يبلغها طالب، (و الجود بالنفس اقصى غايه الجود)، و لولا ان رسول الله (ص) علم انه اهل لذلك، لما اهله، و لو كان عنده نقص فى صبره او فى شجاعته او فى مناصحته لابن عمه، و اختير لذلك، لكان من اختاره (ص) منقوضا فى رايه، مضرا فى اختياره، و لايجوز ان يقول هذا احد من اهل الاسلام، و كلهم مجمعون على ان الرسول (ص) عمل الصواب، و احسن فى الاختيار.
ثم فى ذلك- اذا تامله المتامل- وجوه من الفضل: منها انه و ان كان عنده فى موضع الثقه، فانه غير مامون عليه الا يضبط السر فيفسد التدبير بافشائه تلك الليله الى من يلقيه الى الاعداء.
و منها انه و ان كان ضابطا للسر و ثقه عند من اختاره، فغير مامون عليه الجبن عند مفاجاه المكروه، و مباشره الاهوال، فيفر من الفراش، فيفطن لموضع الحيله، و يطلب رسول الله (ص) فيظفر به.
و منها انه ضابطا للسر، شجاعا نجدا، فلعله غير محتمل للم
بيت على الفراش، لان هذا امر خارج عن الشجاعه ان كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع، بل هو اشد مشقه من المكتوف الممنوع، لان المكتوف الممنوع يعلم من نفسه انه لاسبيل له الى الهرب و هذا يجد السبيل الى الهرب، و الى الدفع عن نفسه، و لايهرب و لايدافع.
و منها انه و ان كان ثقه عنده، ضابطا للسر، شجاعا محتملا للمبيت على الفراش فانه غير مامون ان يذهب صبره عند العقوبه الواقعه، و العذاب النازل بساحته، حتى يبوح بما عنده، و يصير الى الاقرار بما يعلمه، و هو انه اخذ طريق كذا فيطلب فيوخذ، فلهذا قال علماء المسلمين: ان فضيله على (ع) تلك الليله لا نعلم احدا من البشر نال مثلها، الا ما كان من اسحاق و ابراهيم عند استسلامه للذبح، و لولا ان الانبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا: ان محنه على اعظم، لانه قد روى ان اسحاق تلكا لما امره ان يضطجع، و بكى على نفسه، و قد كان ابوه يعلم ان عنده فى ذلك وقفه، و لذلك قال له: (فانظر ماذا ترى)، و حال على (ع) بخلاف ذلك، لانه ما تلكا و لا تتعتع، و لا تغير لونه و لا اضطربت اعضاوه، و لقد كان اصحاب النبى (ص) يشيرون عليه بالراى المخالف لما كان امر به، و تقدم فيه، فيتركه و يعمل بما اشاروا به، كما جرى يوم الخندق فى مصان
عه الاحزاب بثلث تمر المدينه، فانهم اشاروا عليه بترك ذلك فتركه، و هذه كانت قاعدته معهم، و عادته بينهم، و قد كان لعلى (ع) ان يعتل بعله، و ان يقف و يقول: يا رسول الله، اكون معك احميك من العدو، و اذب بسيفى عنك، فلست مستغنيا فى خروجك عن مثلى، و نجعل عبدا من عبيدنا فى فراشك، قائما مقامك، يتوهم القوم- برويته نائما فى بردك- انك لم تخرج، و لم تفارق مركزك، فلم يقل ذلك، و لا تحبس و لا توقف، و لا تلعثم، و ذلك لعلم كل واحد منهما (ص) ان احدا لايصبر على ثقل هذه المحنه، و لا يتورط هذه الهلكه، الا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها، و الفوز بفضيلتها، و له من جنس ذلك افعال كثيره، كيوم دعا عمرو بن عبدود المسلمين الى المبارزه، فاحجم الناس كلهم عنه، لما علموا من باسه و شدته، ثم كرر النداء، فقام على (ع)، فقال: انا ابرز اليه، فقال له رسول الله (ص): انه عمرو! قال: نعم، و انا على! فامره بالخروج اليه، فلما خرج قال (ص): (برز الايمان كله الى الشرك كله)، و كيوم احد حيث حمى رسول الله (ص) من ابطال قريش و هم يقصدون قتله، فقتلهم دونه، حتى قال جبرئيل (ع): (يا محمد ان هذه هى المواساه)، فقال: (انه منى و انا منه)، فقال جبريل: (و انا منكما).
و
لو عددنا ايامه و مقاماته التى شرى فيها نفسه لله تعالى لاطلنا و اسهبنا.
قال الجاحظ: فان احتج محتج لعلى (ع) بالمبيت على الفراش، فبين الغار و الفراش فرق واضح، لان الغار و صحبه ابى بكر للنبى (ص) قد نطق به القرآن، فصار كالصلاه و الزكاه و غيرهما مما نطق به الكتاب، و امر على (ع) و نومه على الفراش، و ان كان ثابتا صحيحا، الا انه لم يذكر فى القرآن، و انما جاء مجى ء الروايات و السير، و هذا لا يوازن هذا و لا يكايله.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: هذا فرق غير موثر، لانه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش، فلا فرق بينه و بين ما ذكر فى نص الكتاب، و لا يجحده الا مجنون او غير مخالط لاهل المله، ارايت كون الصلوات خمسا، و كون زكاه الذهب ربع العشر، و كون خروج الريح ناقضا للطهاره، و امثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه؟ هل هو مخالف لما نص فى الكتاب عليه من الاحكام! هذا مما لايقوله رشيد و لا عاقل، على ان الله تعالى لم يذكر اسم ابى بكر فى الكتاب، و انما قال: (اذ يقول لصاحبه)، و انما علمنا انه ابوبكر بالخبر و ما ورد فى السيره، و قد قال اهل التفسير: ان قوله تعالى: (و يمكر الله و الله خير الماكرين) كنايه عن على (ع) لانه مكر بهم، و اول الايه: (
و اذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين)، انزلت فى ليله الهجره، و مكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش، و مكر الله تعالى هو منام على (ع) على الفراش، فلا فرق بين الموضعين فى انهما مذكوران كنايه لا تصريحا.
و قد روى المفسرون كلهم ان قول الله تعالى: (و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله)، انزلت فى على (ع) ليله المبيت على الفراش، فهذه مثل قوله تعالى: (اذ يقول لصاحبه)، لا فرق بينهما.
قال الجاحظ: و فرق آخر، و هو انه لو كان مبيت على (ع) على الفراش، جاء مجى ء كون ابى بكر فى الغار، لم يكن له فى ذلك كبير طاعه، لان الناقلين نقلوا انه (ص) قال له: (نم فلن يخلص اليك شى ء تكرهه)، و لم ينقل ناقل انه قال لابى بكر فى صحبته اياه و كونه معه فى الغار مثل ذلك، و لا قال له: انفق و اعتق، فانك لن تفتقر، و لن يصل اليك مكروه.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: هذا هو الكذب الصراح، و التحريف و الادخال فى الروايه ما ليس منها، و المعروف المنقول انه (ص) قال له: اذهب فاضطجع فى مضجعى، و تغش ببردى الحضرمى، فان القوم سيفقدوننى، و لا يشهدون مضجعى، فلعلهم اذا راوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا، فاذا ا
صبحت فاغد فى اداء امانتى، و لم ينقل ما ذكره الجاحظ، و انما ولده ابوبكر الاصم، و اخذه الجاحظ، و لا اصل له، و لو كان هذا صحيحا لم يصل اليه منهم مكروه، و قد وقع الاتفاق على انه ضرب و رمى بالحجاره قبل ان يعلموا من هو حتى تضور، و انهم قالوا له: راينا تضورك، فانا كنا نرمى محمدا و لا يتضور، و لان لفظه المكروه ان كان قالها انما يراد بها القتل، فهب انه امن القتل، كيف يامن من الضرب و الهوان، و من ان ينقطع بعض اعضائه، و بان سلمت نفسه! اليس الله تعالى قال لنبيه: (بلغ ما انزل اليك من ربك و ان لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس) و مع ذلك فقد كسرت رباعيته و شج وجهه، و ادميت ساقه، و ذلك لانها عصمه من القتل خاصه، و كذلك المكروه الذى اومن على (ع) منه- و ان كان صح ذلك فى الحديث- انما هو مكروه القتل.
ثم يقال له: و ابوبكر لا فضيله له ايضا فى كونه فى الغار، لان النبى (ص) قال له: (لا تحزن ان الله معنا)، و من يكن الله معه فهو آمن لا محاله من كل سوء، فكيف قلت: و لم ينقل ناقل انه قال لابى بكر فى الغار مثل ذلك! فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما اورده، فنقول له: هذا ينقلب عليك فى النبى (ص) لان الله تعالى وعده بظهور دينه،
و عاقبه امره، فيجب على قولك الا يكون مثابا عندالله تعالى على ما يحتمله من المكروه، و لا ما يصيبه من الاذى اذ كان قد ايقن بالسلامه و الفتح فى عدته.
قال الجاحظ: و من جحد كون ابى بكر صاحب رسول الله (ص) فقد كفر، لانه جحد نص الكتاب، ثم انظر الى قوله تعالى: (ان الله معنا) من الفضيله لابى بكر، لانه شريك رسول الله (ص) فى كون الله تعالى معه و انزال السكينه، قال كثير من الناس: انه فى الايه مخصوص بابى بكر، لانه كان محتاجا الى السكينه لما تداخله من رقه الطبع البشرى، و النبى (ص) كان غير محتاج اليها، لانه يعلم انه محروس من الله تعالى، فلا معنى لنزول السكينه عليه، و هذه فضيله ثالثه لابى بكر.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: ان اباعثمان يجر على نفسه ما لا طاقه له به من مطاعن الشيعه، و لقد كان فى غنيه عن التعلق بما تعلق به، لان الشيعه تزعم ان هذه الايه، بان تكون طعنا و عيبا على ابى بكر، اولى من ان تكون فضيله و منقبه له، لانه لما قال له: (لا تحزن) دل على انه قد كان حزن و قنط و اشفق على نفسه، و ليس هذا من صفات المومنين الصابرين، و لا يجوز ان يكون حزنه طاعه لان الله تعالى لا ينهى عن الطاعه، فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه، و قوله: (ان ال
له معنا) اى ان الله عالم بحالنا و ما نضمره من اليقين او الشك، كما يقول الرجل لصاحبه: لا تضمرن سوئا و لا تنوين قبيحا، فان الله تعالى يعلم ما نسره و ما نعلنه، و هذا مثل قوله تعالى: (و لا ادنى من ذلك و لا اكثر الا هو معهم اينما كانوا)، اى هو عالم بهم، و اما السكينه فكيف يقول: انها ليست راجعه الى النبى (ص) و بعدها قوله: (و ايده بجنود لم تروها)، اترى المويد بالجنود كان ابابكر ام رسول الله (ص)! و قوله: انه مستغن عنها، ليس بصحيح و لا يستغنى احد عن الطاف الله و توفيقه و تاييده و تثبيت قلبه، و قد قال الله تعالى فى قصه حنين: (و ضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم انزل الله سكينته على رسوله) (ص).
و اما الصحبه فلا تدل الا على المرافقه و الاصطحاب لا غير، و قد يكون حيث لا ايمان، كما قال تعالى: (قال له صاحبه و هو يحاوره اكفرت بالذى خلقك)، و نحن و ان كنا نعتقد اخلاص ابى بكر و ايمانه الصحيح السليم و فضيلته التامه، الا انا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهيه، و لا نتعلق بما يجر علينا دواهى الشيعه و مطاعنها.
قال الجاحظ: و ان كان المبيت على الفراش فضيله، فاين هى من فضائل ابى بكر ايام مكه، من عتق المعذبي
ن و انفاق المال و كثره المستجيبين، مع فرق ما بين الطاعتين، لان طاعه الشاب الغرير و الحدث الصغير الذى فى عز صاحبه عزه، ليست كطاعه الحليم الكبير الذى لا يرجع تسويد صاحبه الى رهطه و عشيرته.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اما كثره المستجيبين، فالفضل فيها راجع الى المجيب لا الى المجاب، على انا قد علمنا ان من استجاب لموسى (ع) اكثر ممن استجاب لنوح (ع)، و ثواب نوح اكثر، لصبره على الاعداء، و مقاساه خلافهم و عنتهم.
و اما انفاق المال، فاين محنه الغنى من محنه الفقير! و اين يعتدل اسلام من اسلم و هو غنى، ان جاع اكل، و ان اعيا ركب، و ان عرى لبس، قد وثق بيساره و استغنى بماله، و استعان على نوائب الدنيا بثروته، ممن لا يجد قوت يومه، و ان وجد لم يستاثر، به فكان الفقر شعاره، و فى ذلك قيل: الفقر شعار المومن.
و قال الله تعالى لموسى: (يا موسى اذا رايت الفقر مقبلا، فقل: مرحبا بشعار الصالحين)، و فى الحديث: (ان الفقراء يدخلون الجنه قبل الاغنياء بخمسمائه عام)، و كان النبى (ص) يقول: (اللهم احشرنى فى زمره الفقراء)، و لذلك ارسل الله محمدا (ص) فقيرا، و كان بالفقر سعيدا، فقاسى محنه الفقر و مكابده الجوع، حتى شد الحجر على بطنه، و حسبك بالفقر فض
يله فى دين الله لمن صبر عليه، فانك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه، لانه مناف لحال الدنيا و اهلها، و انما هو شعار اهل الاخره.
و اما طاعه على (ع)، و كون الجاحظ زعم انها كانت لان فى عز محمد عزه و عز رهطه، بخلاف طاعه ابى بكر، فهذا يفتح عليه ان يكون جهاد حمزه كذلك، و جهاد عبيده بن الحارث، و هجره جعفر الى الحبشه، بل لعل محاماه المهاجرين من قريش على رسول الله (ص) كانت لان فى دولته دولتهم، و فى نصرته استجداد ملك لهم، و هذا يجر الى الالحاد، و يفتح باب الزندقه، و يفضى الى الطعن فى الاسلام و النبوه.
قال الجاحظ: و على انا لو نزلنا الى ما يريدونه، جعلنا الفراش كالغار، و خلصت فضائل ابى بكر فى غير ذلك عن معارض.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: قد بينا فضيله المبيت على الفراش على فضيله الصحبه فى الغار، بما هو واضح لمن انصف، و نزيد هاهنا تاكيدا بما لم نذكره فيما تقدم، فنقول ان فضيله المبيت على الفراش على الصحبه فى الغار لوجهين: احدهما: ان عليا (ع) قد كان انس بالنبى (ص) و حصل له بمصاحبته قديما انس عظيم، و الف شديد، فلما فارقه عدم ذلك الانس، و حصل به ابوبكر، فكان ما يجده على (ع) من الوحشه و الم الفرقه موجبا زياده ثوابه، لان الثواب على
قدر المشقه.
و ثانيهما: ان ابابكر كان يوثر الخروج من مكه، و قد كان خرج من قبل فردا، فازداد كراهيه للمقام، فلما خرج مع رسول الله (ص) وافق ذلك هوى قلبه، و محبوب نفسه، فلم يكن له من الفضيله ما يوازى فضيله من احتمل المشقه العظيمه، و عرض نفسه لوقع السيوف، و راسه لرضخ الحجاره، لانه على قدر سهوله العباده يكون نقصان الثواب.
قال الجاحظ: ثم الذى لقى ابوبكر فى مسجده الذى بناه على بابه فى بنى جمح، فقد كان بنى مسجدا يصلى فيه، و يدعو الناس الى الاسلام، و كان له صوت رقيق، و وجه عتيق، و كان اذا قرا بكى، فيقف عليه الماره من الرجال و النساء و الصبيان و العبيد، فلما اوذى فى الله، و منع من ذلك المسجد، استاذن رسول الله (ص) فى الهجره فاذن له، فاقبل يريد المدينه، فتلقاه الكنانى، فعقد له جوارا، و قال: و الله لا ادع مثلك يخرج من مكه، فرجع اليها و عاد لصنيعه فى المسجد، فمشت قريش الى جاره الكنانى، و اجلبوا عليه، فقال له: دع المسجد و ادخل بيتك، و اصنع فيه ما بدا لك.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: كيف كانت بنو جمح توذى عثمان بن مظعون و نضربه، و هو فيهم ذو سطوه و قدر، و تترك ابابكر يبنى مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم، و انتم الذين رويتم عن ابن مسع
ود انه قال: (ما صلينا ظاهرين حتى اسلم عمر بن الخطاب)، و الذى تذكرونه من بناء المسجد كان قبل اسلام عمر، فكيف هذا! و اما ما ذكرتم من رقه صوته و عتاق وجهه، فكيف يكون ذلك و قد روى الواقدى و غيره ان عائشه رات رجلا من العرب خفيف العارضين، معروق الخدين، غائر العينين اجنا لا يمسك ازاره، فقالت: ما رايت اشبه بابى بكر من هذا؟ فلا نراها دلت على شى ء من الجمال فى صفته! قال الجاحظ: و حيث رد ابوبكر جوار الكنانى، و قال لااريد جارا سوى الله، لقى من الاذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغكم، و هذا موجود فى جميع السير، و كان آخر ما لقى هو و اهله فى امر الغار، و قد طلبته قريش و جعلت فيه مائه بعير، كما جعلت فى النبى (ص)، فلقى ابوجهل اسماء بنت بكر، فسالها فكتمته فلطمها حتى رمت قرطا كان فى اذنها.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: هذا الكلام و هجر السكران سواء، فى تقارب المخرج، و اضطراب المعنى، و ذلك ان قريشا لم تقدر على اذى النبى (ص)، و ابوطالب حى يمنعه: فلما مات طلبته لتقتله، فخرج تاره الى بنى عامر، و تاره الى ثقيف، و تاره الى بنى شيبان، و لم يكن يتجاسر على المقام بمكه الا مستترا، حتى اجاره مطعم بن عدى، ثم خرج الى المدينه، فبذلت فيه ما
ئه بعير لشده حنقها عليه حين فاتها، فلم تقدر عليه، فما بالها بذلت فى ابى بكر مائه بعير اخرى، و قد كان رد الجوار، و بقى بينهم فردا لا ناصر له و لا دافع عنده، يصنعون به ما يريدون! اما ان يكونوا اجهل البريه كلها او يكون العثمانيه اكذب جيل فى الارض و اوقحه وجها! فهذا مما لم يذكر فى سيره و لا روى فى اثر، و لا سمع به بشر، و لا سبق الجاحظ به احد! قال الجاحظ: ثم الذى كان من دعائه الى الاسلام و حسن احتجاجه، حتى اسلم على يديه طلحه و الزبير و سعد و عثمان و عبدالرحمن، لانه ساعه اسلم دعا الى الله و الى رسوله.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: ما اعجب هذا القول، اذ تدعى العثمانيه لابى بكر الرفق فى الدعاء و حسن الاحتجاج، و قد اسلم و معه فى منزله ابنه عبدالرحمن، فما قدر ان يدخله فى الاسلام طوعا برفقه و لطف احتجاجه، و لا كرها بقطع النفقه عنه و ادخال المكروه، عليه، و لا كان لابى بكر عند ابنه عبدالرحمن من القدر ما يطيعه فيما يامره به، و يدعوه اليه، كما روى ان اباطالب فقد النبى (ص) يوما، و كان يخاف عليه من قريش ان يغتالوه، فخرج و معه ابنه جعفر يطلبان النبى (ص)، فوجده قائما فى بعض شعاب مكه يصلى، و على (ع) معه عن يمينه، فلما رآهما ابوط
الب، قال لجعفر: تقدم و صل جناح ابن عمك، فقام جعفر عن يسار محمد (ص)، فلما صاروا ثلاثه تقدم رسول الله (ص) و تاخر الاخوان، فبكى ابوطالب، و قال: ان عليا و جعفرا ثقتى عند ملم الخطوب و النوب لا تخذلا و انصرا ابن عمكما خى لامى من بينهم و ابى و الله لا اخذل النبى و لا يخذله من بنى ذو حسب فتذكر الرواه ان جعفرا اسلم منذ ذلك اليوم، لان اباه امره بذلك و اطاع امره، و ابوبكر لم يقدر على ادخال ابنه عبدالرحمن فى الاسلام حتى اقام بمكه على كفره ثلاث عشره سنه، و خرج يوم احد فى عسكر المشركين ينادى: انا عبدالرحمن بن عتيق، هل من مبارز؟ ثم مكث بعد ذلك على كفره، حتى اسلم عام الفتح، و هو اليوم الذى دخلت فيه قريش فى الاسلام طوعا و كرها، و لم يجد احد منها الى ترك ذلك سبيلا! و اين كان رفق ابى بكر و حسن احتجاجه عند ابيه ابى قحافه و هما فى دار واحده! هلا رفق به و دعاه الى الاسلام فاسلم! و قد علمتم انه بقى على الكفر الى يوم الفتح، فاحضره ابنه عند النبى (ص) و هو شيخ كبير راسه كالثغامه، فنفر رسول الله (ص) منه، و قال: غيروا هذا، فخضبوه، ثم جائوا به مره اخرى، فاسلم.
و كان ابوقحافه فقيرا مدقعا سيى ء الحال، و ابوبكر عندهم كان مثريا
فائض المال، فلم يمكنه استمالته الى الاسلام بالنفقه و الاحسان، و قد كانت امراه ابى بكر ام عبدالله ابنه- و اسمها نمله بنت عبدالعزى بن اسعد بن عبد بن ود العامريه- لم تسلم، و اقامت على شركها بمكه، و هاجر ابوبكر و هى كافره، فلما نزل قوله تعالى: (و لا تمسكوا بعصم الكوافر)، فطلقها ابوبكر، فمن عجز عن ابنه و ابيه و امراته فهو عن غيرهم من الغرماء اعجز، و من لم يقبل منه ابوه و ابنه و امراته لا برفق و احتجاج، و لا خوفا من قطع النفقه عنهم، و ادخال المكروه عليهم فغيرهم اقل قبولا منه، و اكثر خلافا عليه! قال الجاحظ: و قالت اسماء بنت ابى بكر: ما عرفت ابى الا و هو يدين بالدين، و لقد رجع الينا يوم اسلم، فدعانا الى الاسلام، فما رمنا حتى اسلمنا، و اسلم اكثر جلسائه، و لذلك قالوا: من اسلم بدعاء ابى بكر اكثر ممن اسلم بالسيف، و لم يذهبوا فى ذلك الى العدد، بل عنوا الكثره فى القدر، لانه اسلم على يديه خمسه من اهل الشورى، كلهم يصلح للخلافه، و هم اكفاء على (ع)، و منازعوه الرياسه و الامامه، فهولاء اكثر من جميع الناس: قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اخبرونا من هذا الذى اسلم ذلك اليوم من اهل بيت ابى بكر؟ اذا كانت امراته لم تسلم و ابنه عبدالرحم
ن لم يسلم، و ابوقحافه لم يسلم، و اخته ام فروه لم تسلم، و عائشه لم تكن قد ولدت فى ذلك الوقت، لانها ولدت بعد مبعث النبى (ص) بخمس سنين، و محمد بن ابى بكر ولد بعد مبعث رسول الله (ص) بثلاث و عشرين سنه، لانه ولد فى حجه الوداع، و اسماء بنت ابى بكر التى قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم بعث رسول الله (ص) بنت اربع سنين- و فى روايه من يقول: بنت سنتين- فمن الذى اسلم من اهل بيته يوم اسلم! نعوذ بالله من الجهل و الكذب و المكابره! و كيف اسلم سعد و الزبير و عبدالرحمن بدعاء ابى بكر و ليسوا من رهطه و لا من اترابه و لا من جلسائه، و لا كانت بينهم قبل ذلك صداقه متقدمه، و لا انس وكيد! و كيف ترك ابوبكر عتبه بن ربيعه، و شيبه بن ربيعه، لم يدخلهما فى الاسلام برفقه و حسن دعائه، و قد زعمتم انهما كانا يجلسان اليه لعلمه و طريف حديثه! و ما باله لم يدخل جبير بن مطعم فى الاسلام، و قد ذكرتم انه ادبه و خرجه، و منه اخذ جبير العلم بانساب قريش و ماثرها! فكيف عجز عن هولاء الذين عددناهم، و هم منه بالحال التى وصفنا، و دعا من لم يكن بينه و بينه انس و لا معرفه، الا معرفه عيان! و كيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب، و قد كان شكله، اقرب الناس شبها به فى ا
غلب اخلاقه! و لئن رجعتم الى الانصاف لتعلمن ان هولاء لم يكن اسلامهم الا بدعاء الرسول (ص) لهم، و على يديه اسلموا، و لو فكرتم فى حسن التاتى فى الدعاء، ليصحن لابى طالب فى ذلك على شركه اضعاف ما ذكرتموه لابى بكر، لانكم رويتم ان اباطالب قال لعلى (ع)، يا بنى الزمه، فانه لن يدعوك الا الى خير، و قال لجعفر: صل جناح ابن عمك، فاسلم بقوله، و لاجله اصفق بنو عبدمناف على نصره رسول الله (ص) بمكه من بنى مخزوم، و بنى سهم، و بنى جمح، و لاجله صبر بنوهاشم على الحصار فى الشعب، و بدعائه و اقباله على محمد (ص) اسلمت امراته فاطمه بنت اسد، فهو احسن رفقا، و ايمن نقيبه من ابى بكر و غيره، و انما منعه عن الاسلام ان ثبت انه لم يسلم الا تقيه، و ابوبكر لم يكن له الا ابن واحد، و هو عبدالرحمن، فلم يمكنه ان يدخله فى الاسلام، و لا امكنه اذ لم يقبل منه الاسلام ان يجعله كبعض مشركى قريش فى قله الاذى لرسول الله (ص)، و فيه انزل: (و الذى قال لوالديه اف لكما اتعداننى ان اخرج و قد خلت القرون من قبلى و هما يستغيثان الله ويلك آمن ان وعد الله حق فيقول ما هذا الا اساطير الاولين)، و انما يعرف حسن رفق الرجل و تاتيه بان يصلح اولا امر بيته و اهله، ثم يدعو الاقرب
فالاقرب، فان رسول الله (ص) لما بعث كان اول من دعا زوجته خديجه، ثم مكفوله و ابن عمه عليا (ع)، ثم مولاه زيدا، ثم ام ايمن خادمته، فهل رايتم احدا ممن كان ياوى الى رسول الله (ص) لم يسارع! و هل التاث عليه احد من هولاء! فهكذا يكون حسن التاتى و الرفق فى الدعاء! هذا و رسول الله مقل، و هو من جمله عيال خديجه حين بعثه الله تعالى، و ابوبكر عندكم كان موسرا، و كان ابوه مقترا، و كذلك ابنه و امراته ام عبدالله، و الموسر فى فطره العقول اولى ان يتبع من المقتر، و انما حسن التاتى و الرفق فى الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه، و ما صنع سعد بن معاذ ببنى عبدالاشهل لما دعاهم و ما صنع بريده بن الحصيب باسلم لما دعاهم، قالوا: اسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه، و اسلم بنو عبدالاشهل بدعاء سعد فى يوم واحد، و اما من لم يسلم ابنه و لا امراته، و لا ابوه و لا اخته بدعائه فهيهات ان يوصف و يذكر بالرفق فى الدعاء و حسن التاتى و الاناه! قال الجاحظ: ثم اعتق ابوبكر بعد ذلك جماعه من المعذبين فى الله، و هم ست رقاب، منهم بلال، و عامر بن فهيره، و زنيره النهديه، و ابنتها.
و مر بجاريه يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه، و اعتقها، و اعتق اباعيسى
فانزل الله فيه: (فاما من اعطى و اتقى، و صدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى...) الى آخر السوره.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اما بلال و عامر بن فهيره، فانما اعتقهما رسول الله (ص)، روى ذلك الواقدى و ابن اسحاق و غيرهما، و اما باقى مواليهم الاربعه، فان سامحناكم فى دعواكم لم يبلغ ثمنهم فى تلك الحال لشده بغض مواليهم لهم الا مائه درهم او نحوها، فاى فخر فى هذا! و اما الايه فان ابن عباس قال فى تفسيرها: (فاما من اعطى و اتقى، و صدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى)، اى لان يعود.
و قال غيره: نزلت فى مصعب بن عمير.
قال الجاحظ: و قد علمتم ابوبكر فى ماله، و كان ماله اربعين الف درهم، فانفقه فى نوائب الاسلام و حقوقه، و لم يكن خفيف الظهر، قليل العيال و النسل، فيكون فاقد جميع اليسارين، بل كان ذا بنين و بنات و زوجه و خدم و حشم، و يعول والديه و ما ولدا، و لم يكن للنبى (ص) قبل ذلك عنده مشهورا، فيخاف العار فى ترك مواساته، فكان انفاقه على الوجه الذى لانجد فى غايه الفضل مثله، و لقد قال النبى (ص): (ما نفعنى مال كما نفعنى مال ابى بكر).
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله، اخبرونا على اى نوائب الاسلام انفق هذا المال، و فى اى وجه وضعه؟ فانه ليس بجائز ان يخفى ذل
ك و يدرس حتى يفوت حفظه، و ينسى ذكره، و انتم فلم تقفوا على شى ء اكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها فى ذلك العصر مائه درهم.
و كيف يدعى له الانفاق الجليل، و قد باع من رسول الله (ص) بعيرين عند خروجه الى يثرب، و اخذ منه الثمن فى مثل تلك الحال، و روى ذلك جميع المحدثين، و قد رويتم ايضا انه كان حيث كان بالمدينه غنيا موسرا، و رويتم عن عائشه انها قالت: هاجر ابوبكر و عنده عشره آلاف درهم، و قلتم ان الله تعالى انزل فيه: (و لا ياتل اولوا الفضل منكم و السعه ان يوتوا اولى القربى...) قلتم: هى فى ابى بكر و مسطح بن اثاثه، فاين الفقر الذى زعمتم انه انفق حتى تخلل بالعبائه! و رويتم ان لله تعالى فى سمائه ملائكه قد تخللوا بالعبائه.
و ان النبى (ص) رآهم ليله الاسراء، فسال جبرائيل عنهم فقال: هولاء ملائكه تاسوا بابى بكر بن ابى قحافه صديقك فى الارض، فانه سينفق عليك ماله، حتى يخلل عبائه فى عنقه، و انتم ايضا رويتم ان الله تعالى لما انزل آيه النجوى، فقال: (يا ايها الذين آمنوا اذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقه ذلك خير لكم...) الايه لم يعمل بها الا على بن ابى طالب وحده، مع اقراركم بفقره و قله ذات يده، و ابوبكر فى الحال
التى ذكرنا من السعه امسك عن مناجاته، فعاتب الله المومنين فى ذلك، فقال: (ااشفقتم ان تقدموا بين يدى نجواكم صدقات فاذ لم تفعلوا و تاب الله عليكم...)، فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه، و هو امساكهم عن تقديم الصدقه، فكيف سخت نفسه بانفاق اربعين الفا، و امسك عن مناجاه الرسول، و انما كان يحتاج فيها الى اخراج درهمين! و اما ما ذكر من كثره عياله و نفقته عليهم، فليس فى ذلك دليل على تفضيله، لان نفقته على عياله واجبه، مع ان ارباب السيره ذكروا انه لم يكن ينفق على ابيه شيئا، و انه كان اجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان.
قال الجاحظ: و قد تعلمون ما كان يلقى اصحاب النبى (ص) ببطن مكه من المشركين، و حسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزه حين ضرب اباجهل بقوسه ففلق هامته، و ابوجهل يومئذ سيد البطحاء و رئيس الكفر، و امنع اهل مكه، و قد عرفتم ان الزبير سل سيفه، و استقبل به المشركين، لما ارجف ان محمدا (ص) قد قتل، و ان عمر بن الخطاب قال حين اسلم: لا يعبد الله سرا بعد اليوم، و ان سعدا ضرب بعض المشركين بلحى جمل، فاراق دمه، فكل هذه الفضائل لم يكن لعلى بن ابى طالب فيها ناقه و لا جمل، و قد قال الله تعالى: (لايستوى منكم من انفق من قبل الفتح
و قاتل اولئك اعظم درجه من الذين انفقوا من بعد و قاتلوا)، فاذا كان الله تعالى قد فضل من انفق قبل الفتح، لانه لا هجره بعد الفتح، على من انفق بعد الفتح، فما ظنكم بمن انفق من قبل الهجره، و من لدن مبعث النبى (ص) الى الهجره و الى بعد الهجره.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اننا لا ننكر فضل الصحابه و سوابقهم، و لسنا كالاماميه الذين يحملهم الهوى على جحد الامور المعلومه، و لكننا ننكر تفضيل احد من الصحابه على على بن ابى طالب، و لسنا ننكر غير ذلك، و ننكر تعصب الجاحظ للعثمانيه، و قصده الى فضائل هذا الرجل و مناقبه بالرد و الابطال.
و اما حمزه فهو عندنا ذو فضل عظيم، و مقام جليل، و هو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله (ص)، و اما فضل عمر فغير منكر، و كذلك الزبير و سعد، و ليس فيما ذكر ما يقتضى كون على (ع) مفضولا لهم او لغيرهم، الا قوله: (و كل هذه الفضائل لم يكن لعلى (ع) فيها ناقه و لا جمل)، فان هذا من التعصب البارد، و الحيف الفاحش، و قد قدمنا من آثار على (ع) قبل الهجره و ما له اذ ذاك من المناقب و الخصائص، ما هو افضل و اعظم و اشرف من جميع ما ذكر لهولاء، على ان ارباب السيره يقولون: ان الشجه التى شجها سعد، و ان السيف الذ
ى سله الزبير، هو الذى جلب الحصار فى الشعب على النبى (ص) و بنى هاشم، و هو الذى سير جعفرا و اصحابه الى الحبشه، و سل السيف فى الوقت الذى لم يومر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز، قال تعالى: (الم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم و اقيموا الصلاه و آتوا الزكاه فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشيه الله)، فتبين ان التكليف له اوقات، فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف، و منها وقت يصلح فيه و يجب، فاما قوله تعالى: (لايستوى منكم من انفق)، فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لابى بكر انفاق المال.
و ايضا فان الله تعالى لم يذكر انفاق المال مفردا، و انما قرن به القتال، و لم يكن ابوبكر صاحب قتال و حرب، فلا تشمله الايه، و كان على (ع) صاحب قتال و انفاق قبل الفتح، اما قتاله فمعلوم بالضروره، و اما انفاقه فقد كان على حسب حاله و فقره، و هو الذى اطعم الطعام على حبه مسكينا و يتيما و اسيرا، و انزلت فيه و فى زوجته و ابنيه سوره كامله من القرآن، و هو الذى ملك اربعه دراهم فاخرج منها درهما سرا و درهما علانيه ليلا، ثم اخرج منها فى النهار درهما سرا و درهما علانيه، فانزل فيه قوله تعالى: (الذين ينفقون اموالهم بالليل و النهار سرا و علانيه)،
و هو الذى قدم بين يدى نجواه صدقه دون المسلمين كافه، و هو الذى تصدق بخاتمه و هو راكع، فانزل الله فيه: (انما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاه و يوتون الزكاه و هم راكعون.
قال الجاحظ: و الحجه العظمى للقائلين بتفضيل على (ع) قتله الاقران، و خوضه الحرب، و ليس له فى ذلك كبير فضيله، لان كثره القتل و المشى بالسيف الى الاقران، لو كان من اشد المحن و اعظم الفضائل، و كان دليلا على الرياسه و التقدم، لوجب ان يكون للزبير و ابى دجانه و محمد بن مسلمه، و ابن عفراء، و البراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله (ص)، لانه لم يقتل بيده الا رجلا واحدا و لم يحضر الحرب يوم بدر، و لا خالط الصفوف.
و انما كان معتزلا عنهم فى العريش و معه ابوبكر، و انت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الافران، و يجندل الابطال، و فوقه من العسكر من لا يقتل و لا يبارز، و هو الرئيس او ذو الراى، و المستشير فى الحرب، لان للروساء من الاكتراث و الاهتمام و شغل البال و العنايه و التفقد ما ليس لغيرهم، و لان الرئيس هو المخصوص بالمطالبه، و عليه مدار الامور، و به يستبصر المقاتل، و يستنصر، و باسمه ينهزم العدو، و لو لم يكن له الا ان الجيش لو ثبت و فر هو لم يغن
ثبوت الجيش كله، و كانت الدبره عليه، و لو ضيع القوم جميعا و حفظ هو لانتصر و كانت الدوله له، و لهذا لا يضاف النصر و الهزيمه الا اليه، ففضل ابى بكر بمقامه فى العريش مع رسول الله يوم بدر اعظم من جهاد على (ع) ذلك اليوم، و قتله ابطال قريش.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: لقد اعطى ابوعثمان مقولا، و حرم معقولا، ان كان يقول هذا على اعتقاد و جد، و لم يذهب به مذهب اللعب و الهزل، او على طريق التفاصح و التشادق و اظهار القوه، و السلاطه و ذلاقه اللسان و حده الخاطر و القوه على جدال الخصوم، الم يعلم ابوعثمان ان رسول الله (ص) كان اشجع البشر، و انه خاض الحروب، و ثبت فى المواقف التى طاشت فيها الالباب، و بلغت القلوب الحناجر، فمنها يوم احد، و وقوفه بعد ان فر المسلمون باجمعهم، و لم يبق معه الا اربعه: على، و الزبير، و طلحه، و ابودجانه، فقاتل و رمى بالنبل حتى فنيت نبله، و انكسرت سيه قوسه، و انقطع وتره، فامر عكاشه بن محصن ان يوترها، فقال: يا رسول الله: لا يبلغ الوتر، فقال: اوتر ما بلغ.
قال عكاشه: فو الذى بعثه بالحق لقد اوترت حتى بلغ، و طويت منه شبرا على سيه القوس، ثم اخذها فما زال يرميهم، حتى نظرت الى قوسه قد تحطمت.
و بارز ابى بن خلف، ف
قال له اصحابه: ان شئت عطف عليه بعضنا! فابى، و تناول الحربه من الحارث بن الصمه ثم انتقض باصحابه، كما ينتقض البعير، قالوا: فتطايرنا عنه تطاير الشعارير، فطعنه بالحربه، فجعل يخور كما يخور الثور، و لو لم يدل على ثباته حين انهزم اصحابه و تركوه الا قوله تعالى: (اذ تصعدون و لا تلوون على احد و الرسول يدعوكم فى اخراكم)، فكونه (ع) فى اخراهم و هم يصعدون و لا يلوون، هاربين، دليل على انه ثبت و لم يفر، و ثبت يوم حنين فى تسعه من اهله و رهطه الادنين، و قد فر المسلمون كلهم و النفر التسعه محدقون به: و العباس آخذ بحكمه بغلته، و على بين يديه مصلت سيفه، و الباقون حول بغله رسول الله (ص) يمنه و يسره، و قد انهزم المهاجرون و الانصار، و كلما فروا اقدم هو (ص) و صمم مستقدما، يلقى السيوف و النبال بنحره و صدره، ثم اخذ كفا من البطحاء، و حصب المشركين، و قال: شاهت الوجوه! و الخبر المشهور عن على (ع)، و هو اشجع البشر: (كنا اذا اشتد الباس، و حمى الوطيس اتقينا برسول الله (ص) و لذنا به)، فكيف يقول الجاحظ: انه ما خاض الحرب، و لا خالط الصفوف! و اى فريه اعظم من فريه من نسب رسول الله (ص) الى الاحجام و اعتزال الحرب! ثم اى مناسبه بين ابى بكر و رسول الل
ه (ص) فى هذا المعنى ليقيسه و ينسبه الى رسول الله (ص) صاحب الجيش و الدعوه، و رئيس الاسلام و المله، و الملحوظ بين اصحابه و اعدائه بالسياده، و اليه الايماء و الاشاره، و هو الذى احنق قريشا و العرب، و روى اكبادهم بالبرائه من الهتهم، و عيب دينهم و تضليل اسلافهم، ثم وترهم فيما بعد بقتل روسائهم و اكابرهم! و حق لمثله اذا تنحى عن الحرب و اعتزلها ان يتنحى و يعتزل، لان ذلك شان الملوك و الروساء، اذا كان الجيش منوطا بهم و ببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش، و متى سلم الملك امكن ان يبقى عليه ملكه، و ان عطب جيشه فانه يستجد جيشا آخر، و لذلك نهى الحكماء ان يباشر الملك الحرب بنفسه، و خطئوا الاسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند، و نسبوه الى مجانبه الحكمه و مفارقه الصواب و الحزم، فليقل لنا الجاحظ: اى مدخل لابى بكر فى هذا المعنى؟ و من الذى كان يعرفه من اعداء الاسلام ليقصده بالقتل؟ و هل هو الا واحد من عرض المهاجرين، حكمه حكم عبدالرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و غيرهما! بل كان عثمان اكثر منه صيتا، و اشرف منه مركبا، و العيون اليه اطمح، و العدو اليه احنق و اكلب، و لو قتل ابوبكر فى بعض تلك المعارك، هل كان يوثر قتله فى الاسلام ضعفا، او يحدث في
ه وهنا! او يخاف على المله لو قتل ابوبكر فى بعض تلك الحروب ان تندرس و تعفى آثارها، و ينطمس منارها! ليقول الجاحظ ان ابابكر كان حكمه حكم رسول الله (ص) فى مجانبه الحروب و اعتزالها، نعوذ بالله من الخذلان! و قد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفه، و بالاثار و الاخبار ممارسه، حال حروب رسول الله (ص) كيف كانت، و حاله (ع) فيها كيف كان، و وقوفه حيث وقف، و حربه حيث حارب، و جلوسه فى العريش يوم جلس، و ان وقوفه (ص) وقوف رياسه و تدبير، و وقوف ظهر و سند، يتعرف امور اصحابه، و يحرس صغيرهم و كبيرهم بوقوفه من ورائهم، و تخلفه عن التقدم فى اوائلهم، لانهم متى علموا انه فى اخراهم اطمانت قلوبهم، و لم تتعلق بامره نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، و لا يكون لهم فئه يلجئون اليها، و ظهر يرجعون اليه، و يعلمون انه متى كان خلفهم تفقد امورهم، و علم مواقفهم، و آوى كل انسان مكانه فى الحمايه و النكايه و عند المنازله فى الكر و الحمله، فكان وقوفه حيث وقف اصلح لامرهم، و احمى و احرس لبيضتهم، و لانه المطلوب من بينهم، اذ هو مدبر امورهم، و والى جماعتهم، الا ترون ان موقف صاحب اللواء موقف شريف، و ان صلاح الحرب فى وقوفه، و ان فضيلته فى ترك التقدم
فى اكثر حالاته، فللرئيس حالات: الاولى: حاله يتخلف و يقف آخرا ليكون سندا و قوه: و ردئا و عده: و ليتولى تدبير الحرب، و يعرف مواضع الخلل.
و الحاله الثانيه: يتقدم فيها فى وسط الصف ليقوى الضعيف، و يشجع الناكص.
و حاله ثالثه: و هى اذا اصطدم الفيلقان، و تكافح السيفان، اعتمد ما تقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح، او من مباشره الحرب بنفسه، فانها آخر المنازل، و فيها تظهر شجاعه الشجاع النجد، و فساله الجبان المموه.
فاين مقام الرئاسه العظمى لرسول الله (ص)! و اين منزله ابى بكر ليسوى بين المنزلتين، و يناسب بين الحالتين! و لو كان ابوبكر شريكا لرسول الله (ص) فى الرساله، و ممنوحا من الله بفضيله النبوه، و كانت قريش و العرب تطلبه كما تطلب محمدا (ص)، و كان يدبر من امر الاسلام و تسريب العساكر و تجهيز السرايا، و قتل الاعداء، ما يدبره محمد (ص)، لكان للجاحظ ان يقول ذلك، فاما و حاله حاله، و هو اضعف المسلمين جنانا، و اقلهم عند العرب تره، لم يرم قط بسهم، و لا سل سيفا، و لا اراق دما، و هو احد الاتباع، غير مشهور و لا معروف، و لا طالب و لا مطلوب، فكيف يجوز ان يجعل مقامه و منزلته مقام رسول الله (ص) و منزلته! و لقد خرج ابنه عبدالرحمن مع المشر
كين يوم احد فرآه ابوبكر، فقام مغيظا عليه، فسل من السيف مقدار اصبع، يريد البروز اليه، فقال له رسول الله (ص): (يا ابابكر، شم سيفك و امتعنا بنفسك)، و لم يقل له: (و امتعنا بنفسك) الا لعلمه بانه ليس اهلا للحرب و ملاقاه الرجال، و انه لو بارز لقتل.
و كيف يقول الجاحظ: لا فضيله لمباشره الحرب، و لقاء الاقران، و قتل ابطال الشرك! و هل قامت عمد الاسلام الا على ذلك! و هل ثبت الدين و استقر الا بذلك! اتراه لم يسمع قول الله تعالى: (ان الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كانهم بنيان مرصوص)! و المحبه من الله تعالى هى اراده الثواب، فكل من كان اشد ثبوتا فى هذا الصف، و اعظم قتالا، كان احب الى الله، و معنى الافضل هو الاكثر ثوابا، فعلى (ع) اذا هو احب المسلمين الى الله، لانه اثبتهم قدما فى الصف المرصوص، لم يفر قط باجماع الامه، و لا بارزه قرن الا قتله.
اتراه لم يسمع قول الله تعالى: (و فضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا عظيما)، و قوله: (ان الله اشترى من المومنين انفسهم و اموالهم بان لهم الجنه يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا فى التوراه و الانجيل و القرآن) ثم قال سبحانه موكدا لهذا البيع و الشراء: (و من اوفى بعهده م
ن الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم)، و قال الله تعالى: (ذلك بانهم لا يصيبهم ظما و لا نصب و لا مخمصه فى سبيل الله و لا يطوون موطئا يغيظ الكفار و لا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح).
فمواقف الناس فى الجهاد على احوال، و بعضهم فى ذلك افضل من بعض، فمن دلف الى الاقران، و استقبل السيوف و الاسنه، كان اثقل على اكتاف الاعداء، لشده نكايته فيهم، ممن وقف فى المعركه، و اعان و لم يقدم، و كذلك من وقف فى المعركه، و اعان و لم يقدم، الا انه بحيث تناله السهام و النبل اعظم غناء، و افضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك، و لو كان الضعيف و الجبان يستحقان الرياسه بقله بسط الكف و ترك الحرب، و ان ذلك يشاكل فعل النبى (ص)، لكان اوفر الناس حظا فى الرياسه، و اشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت، و ان بطل فضل على (ع) فى الجهاد، لان النبى (ص) كان اقلهم قتالا، كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل ابى بكر فى الانفاق، لان رسول الله (ص) كان اقلهم مالا! و انت اذا تاملت امر العرب و قريش، و نظرت السير، و قرات الاخبار، عرفت انها كانت تطلب محمدا (ص) و تقصد قصده، و تروم قتله، فان اعجزها و فاتها طلبت عليا (ع)، و ارادت قتله،
لانه كان اشبههم بالرسول حالا، و اقربهم منه قربا، و اشدهم عنه دفعا، و انهم متى قصدوا عليا فقتلوه اضعفوا امر محمد (ص) و كسروا شوكته، اذ كان اعلى من ينصره فى الباس و القوه و الشجاعه و النجده و الاقدام و البساله.
الا ترى الى قول عتبه بن ربيعه يوم بدر، و قد خرج هو و اخوه شيبه و ابنه الوليد بن عتبه، فاخرج اليه الرسول نفرا من الانصار، فاستنسبوهم فانتسبوا لهم، فقالوا: ارجعوا الى قومكم ثم نادوا: يا محمد اخرج الينا اكفائنا من قومنا، فقال النبى (ص) لاهله الادنين: قوموا يا بنى هاشم، فانصروا حقكم الذى آتاكم الله على باطل هولاء، قم يا على، قم يا حمزه، قم يا عبيده، الا ترى ما جعلت هند بنت عتبه لمن قتله يوم احد، لانه اشترك هو و حمزه فى قتل ابيها يوم بدر، الم تسمع قول هند ترثى اهلها: ما كان عن عتبه لى من صبر ابى و عمى و شقيق صدرى اخى الذى كان كضوء البدر بهم كسرت يا على ظهرى و ذلك لانه قتل اخاها الوليد بن عتبه، و شرك فى قتل ابيها عتبه، و اما عمها شيبه، فان حمزه تفرد بقتله.
و قال جبير بن مطعم لوحشى مولاه يوم احد: ان قتلت محمدا فانت حر، و ان قتلت عليا فانت حر و ان قتلت حمزه فانت حر، فقال: اما محمد فسيمنعه اصحابه، و اما
على فرجل حذر كثير الالتفات فى الحرب، و لكنى ساقتل حمزه، فقعد له و زرقه بالحربه فقتله.
و لما قلنا من مقاربه حال على (ع) فى هذا الباب لحال رسول الله (ص) و مناسبتها اياها ما وجدناه فى السير و الاخبار، من اشفاق رسول الله (ص) و حذره عليه، و دعائه له بالحفظ و السلامه، قال (ص) يوم الخندق، و قد برز على الى عمرو، و رفع يديه الى السماء بمحضر من اصحابه: (اللهم انك اخذت منى حمزه يوم احد، و عبيده يوم بدر، فاحفظ اليوم على عليا: (رب لا تذرنى فردا و انت خير الوارثين)، و لذلك ضن به عن مبارزه عمرو حين دعا عمرو الناس الى نفسه مرارا، فى كلها يحجمون و يقدم على، فيسال الاذن له فى البراز حتى قال له رسول الله (ص): (انه عمرو!)، فقال: (و انا على)، فادناه و قبله و عممه بعمامته، و خرج معه خطوات كالمودع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه، ثم لم يزل (ص) رافعا يديه الى السماء مستقبلا لها بوجهه، و المسلمون صموت حوله، كانما على رئوسهم الطير، حتى ثارت الغبره، و سمعوا التكبير من تحتها، فعلموا ان عليا قتل عمرا، فكبر رسول الله (ص) و كبر المسلمون تكبيره سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين، و لذلك قال حذيفه بن اليمان: لو قسمت فضيله على (ع)
بقتل عمر و يوم الخندق بين المسلمين باجمعهم لوسعتهم.
و قال ابن عباس فى قوله تعالى: (و كفى الله المومنين القتال)، قال: بعلى بن ابى طالب.
قال الجاحظ: على ان مشى الشجاع بالسيف الى الاقران، ليس على ما توهمه من لايعلم باطن الامر، لان معه فى حال مشيه الى الاقران بالسيف امورا اخرى لايبصرها الناس، و انما يقضون على ظاهر ما يرون من اقدامه و شجاعته، فربما كان سبب ذلك الهوج، و ربما كان الغراره و الحداثه، و ربما كان الاحراج و الحميه، و ربما كان لمحبه النفخ و الاحدوثه، و ربما كان طباعا كطباع القاسى و الرحيم و السخى و البخيل.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: فيقال للجاحظ: فعلى ايها كان مشى على بن ابى طالب الى الاقران بالسيف؟ فايما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى و لرسوله، و ان كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت، و انما كان على وجه النصره و القصد الى المسابقه الى ثواب الاخره، و الجهاد فى سبيل الله، و اعزاز الدين، كنت بجميع ما قلت معاندا، و عن سبيل الانصاف خارجا، و فى امام المسلمين طاعنا، و ان تطرق مثل هذا الوهم على على (ع) ليتطرقن مثله على اعيان المهاجرين و الانصار ارباب الجهاد و القتال، الذين نصروا رسول الله (ص) بانفسهم و وقوه بمهج
هم، و فدوه بابنائهم و آبائهم، فلعل ذلك كان لعله من العلل المذكوره، و فى ذلك الطعن فى الدين، و فى جماعه المسلمين.
و لو جاز ان يتوهم هذا فى على (ع) و فى غيره، لما قال رسول الله (ص) حكايه عن الله تعالى لاهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، و لا قال لعلى (ع): (برز الايمان كله الى الشرك كله)، و لا قال: (اوجب طلحه).
و قد علمنا ضروره من دين الرسول (ص) تعظيمه لعلى (ع) تعظيما دينيا، لاجل جهاده و نصرته، فالطاعن فيه طاعن فى رسول الله (ص)، اذ زعم انه قد يمكن ان يكون جهاده لا لوجه الله تعالى، بل لامر آخر من الامور التى عددها، و بعثه على التفوه بها اغواء الشيطان و كيده، و الافراط فى عداوه من امر الله بمحبته، و نهى عن بغضه و عداوته.
اترى رسول الله (ص) خفى عليه من امر على (ع) ما لاح للجاحظ و العثمانيه، فمدحه و هو غير مستحق للمدح! قال الجاحظ: فصاحب النفس المختاره المعتدله يكون قتاله طاعه، و فراره معصيه، لان نفسه معتدله، كالميزان فى استقامه لسانه و كفتيه، فاذا لم يكن كذلك كان اقدامه طباعا، و فراره طباعا.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: فيقال له: فلعل انفاق ابى بكر على ما تزعم اربعين الف درهم لا ثواب له، لان نفسه ربما تكون غير
معتدله، لانه يكون مطبوعا على الجود و السخاء، و لعل خروجه مع النبى (ص) يوم الهجره الى الغار لا ثواب له فيه، لان اسبابه كانت له مهيجه، و دواعيه غالبه، محبه الخروج، و بغض المقام، و لعل رسول الله (ص) فى دعائه الى الاسلام و اكبابه على الصلوات الخمس فى جوف الليل، و تدبيره امر الامه لا ثواب له فيه، لانه قد تكون نفسه غير معتدله، بل يكون فى طباعه الرياسه و حبها، و العباده و الالتذاذ بها، و لقد كنا نعجب من مذهب ابى عثمان ان المعارف ضروره، و انها تقع طباعا، و فى قوله بالتولد و حركه الحجر بالطبع! حتى راينا من قوله ما هو اعجب منه، فزعم انه ربما يكون جهاد على (ع) و قتله المشركين لا ثواب له فيه، لانه فعله طبعا، و هذا اطرف من قوله فى المعرفه و فى التولد.
قال الجاحظ: و وجه آخر ان عليا لو كان كما يزعم شيعته، ما كان له بقتل الاقران كبير فضيله، و لا عظيم طاعه، لانه قد روى عن النبى (ص) انه قال له: (ستقاتل بعدى الناكثين و القاسطين و المارقين)، فاذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامه من الاقران، و علم انه منصور عليهم و قاتلهم، فعلى هذا يكون جهاد طلحه و الزبير اعظم طاعه منه.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: هذا راجع على الجاحظ ف
ى النبى (ص)، لان الله تعالى قال له: (و الله يعصمك من الناس)، فلم يكن له فى جهاده كبير طاعه، و كثير طاعه، و كثير من الناس يروى عنه (ص): (اقتدوا باللذين من بعدى ابى بكر و عمر) فوجب ان يبطل جهادهما، و قد قال للزبير: (ستقاتل عليا، و انت ظالم له)، فاشعره بذلك انه لايموت فى حياه رسول الله (ص)، و قال فى الكتاب العزيز لطلحه: (و ما كان لكم ان توذوا رسول الله و لا ان تنكحوا ازواجه من بعده) قالوا: نزلت فى طلحه، فاعلمه بذلك انه يبقى بعده، فوجب الا يكون لهما كبير ثواب فى الجهاد، و الذى صح عندنا من الخبر و هو قوله: (ستقاتل بعدى الناكثين) انه قال لما وضعت الحرب اوزارها، و دخل الناس فى دين الله افواجا، و وضعت الجزيه، و دانت العرب قاطبه.
قال الجاحظ: ثم قصد الناصرون لعلى، و القائلون بتفضيله الى الاقران الذين قتلهم فاطروهم و غلوا فيهم، و ليسوا هناك! فمنهم عمرو بن عبدود تركتموه اشجع من عامر بن الطفيل و عتبه بن الحارث و بسطام بن قيس، و قد سمعنا باحاديث حروب الفجار و ما كان بين قريش و دوس و حلف الفضول، فما سمعت لعمرو بن عبدود ذكرا فى ذلك.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: امر عمرو بن عبدود اشهر و اكثر من ان يحتج له، فلنتلمح كتب المغاز
ى و السير، و لينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل، فمن ذلك ما ذكره محمد بن اسحاق فى مغازيه، قال: و قال مسافع بن عبدمناف بن زهره بن حذافه بن جمح يبكى عمرو بن عبدالله بن عبدود حين قتله على بن ابى طالب (ع) مبارزه لما جزع المذاد اى قطع الخندق.
عمرو بن عبد كان اول فارس جزع المذاد و كان فارس مليل سمح الخلائق ماجد ذو مره يبغى القتال بشكه لم ينكل و لقد علمتم حين و لوا عنكم ان ابن عبد منهم لم يعجل حتى تكفنه الكماه و كلهم يبغى القتال له و ليس بموتل و لقد تكنفت الفوارس فارسا بجنوب سلع غير نكس اميل سال النزال هناك فارس غالب بجنوب سلع ليته لم ينزل فاذهب على ما ظفرت بمثلها فخرا و لو لاقيت مثل المعضل نفسى الفداء لفارس من غالب لاقى حمام الموت لم يتحلحل اعنى الذى جزع المذاد و لم يكن فشلا و ليس لدى الحروب بزمل و قال هبيره بن ابى وهب المخزومى، يعتذر من فراره عن على بن ابى طالب، و تركه عمرا يوم الخندق و يبكيه: لعمرك ما وليت ظهرى محمدا و اصحابه جبنا و لا خيفه القتل و لكننى قلبت امرى فلم اجد لسيفى غناء ان وقفت و لا نبلى وقفت فلما لم اجد لى مقدما صدرت كضرغام هزبر الى شبل ثنى عطفه عن
قرنه حين لم يجد مجالا و كان الحزم و الراى من فعلى فلا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل و لا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا فقد كنت فى حرب العدا مرهف النصل فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا و للبذل يوما عند قرقره البزل هنالك لو كان ابن عمرو لزارها و فرجها عنهم فتى غير ما وغل كفتك على لن ترى مثل موقف وقفت على شلو المقدم كالفحل فما ظفرت كفاك يوما بمثلها امنت بها ما عشت من زله النمل و قال هبيره بن ابى وهب ايضا، يرثى عمرا و يبكيه: لقد علمت عليا لوى بن غالب لفارسها عمرو اذا ناب نائب و فارسها عمرو اذا ما يسوقه على و ان الموت لا شك طالب عشيه يدعوه على و انه لفارسها اذ خام عنه الكتائب فيا لهف نفسى، ان عمرا لكائن بيثرب، لا زالت هناك المصائب لقد احرز العليا على بقتله و للخير يوما لا محاله جالب و قال حسان بن ثابت الانصارى يذكر عمرا: امسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا كيف العبور و ليته لم ينظر و لقد وجدت سيوفنا مشهوره و لقد وجدت جيادنا لم تقصر و لقد لقيت غداه بدر عصبه ضربوك ضربا غير ضرب الحسر اصبحت لا تدعى ليوم عظيمه يا عمرو او لجسيم امر منكر و قال حسان
ايضا: لقد شقيت بنو جمح بن عمرو و مخزوم و تيم ما نقيل و عمرو كالحسام فتى قريش كان جبينه سيف صقيل فتى من نسل عامر اريحى تطاوله الاسنه و النصول دعاه الفارس المقدام لما تكشفت المقانب و الخيول ابوحسن فقنعه حساما جرازا لا افل و لا نكول فغادره مكبا مسلحبا على عفراء لا بعد القتيل فهذه الاشعار فيه بل بعض ما قيل فيه.
و اما الاثار و الاخبار، فموجوده فى كتب السير و ايام الفرسان و وقائعهم، و ليس احد من ارباب هذا العلم يذكر عمرا الا قال: كان فارس قريش و شجاعها، و انما قال له حسان: و لقد لقيت غداه بدر عصبه لانه شهد مع المشركين بدرا، و قتل قوما من المسلمين.
ثم فر مع من فر، و لحق بمكه، و هو الذى كان قال و عاهد الله عند الكعبه الا يدعوه احد الى واحده من ثلاث الا اجابه.
و آثاره فى ايام الفجار مشهوره تنطق بها كتب الايام و الوقائع، و لكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثه و هم: عتبه و بسطام و عامر، لانهم كانوا اصحاب غارات و نهب، و اهل باديه، و قريش اهل مدينه و ساكنوا مدر و حجر، لايرون الغارات، و لا ينهبون غيرهم من العرب، و هم مقتصرون على المقام ببلدتهم و حمايه حرمهم، فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هولاء.
و يقال ل
ه: اذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك، فما باله لما جزع الخندق فى سته فرسان هو احدهم، فصار مع اصحاب النبى (ص) على ارض واحده، و هم ثلاثه آلاف، و دعاهم الى البراز مرارا لم ينتدب احد منهم للخروج اليه، و لا سمح منهم احد بنفسه، حتى وبخهم و قرعهم، و ناداهم: الستم تزعمون انه من قتل منا فالى النار، و من قتل منكم فالى الجنه! افلا يشتاق احدكم الى ان يذهب الى الجنه، او يقدم عدوه الى النار! فجبنوا كلهم و نكلوا، و ملكهم الرعب و الوهل، فاما ان يكون هذا اشجع الناس كما قيل عنه، او يكون المسلمون كلهم اجبن العرب و اذلهم و افشلهم، و قد روى الناس كلهم الشعر الذى انشده لما نكل القوم بجمعهم عنه، و انه جال بفرسه و استدار و ذهب يمنه، ثم ذهب يسره، ثم وقف تجاه القوم، فقال: و لقد بححت من الندا ء بجمعهم: هل من مبارز! و وقفت اذ جبن المشي ع وقفه القرن المناجز و كذاك انى لم ازل متسرعا نحو الهزاهز ان الشجاعه فى الفتى و الجود من خير الغرائز فلما برز اليه على اجابه، فقال له: لا تعجلن فقد اتا ك مجيب صوتك غير عاجز ذو نيه و بصيره يرجو الغداه نجاه فائز انى لارجو ان اق يم عليك نائحه الجنائز من ضربه تفنى و يب قى ذكرها عن
د الهزاهز و لعمرى لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الانصارى، لما رجع رسول الله من بدر، و قال فتى من الانصار شهد معه بدرا: ان قتلنا الا عجائز صلعا! فقال له النبى (ص): (لاتقل ذلك يابن اخ، اولئك الملا)!.
قال الجاحظ: و قد اكثروا فى الوليد بن عتبه بن ربيعه قتيله يوم بدر، و ما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها، و لا ذكر فيها.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: كل من دون اخبار قريش و آثار رجالها، وصف الوليد بالشجاعه و البساله، و كان مع شجاعته انه يصارع الفتيان فيصرعهم، و ليس لانه لم يشهد حربا قبلها ما يجب ان يكون بطلا شجاعا، فان عليا (ع) لم يشهد قبل بدر حربا، و قد راى الناس آثاره فيها.
قال الجاحظ: و قد ثبت ابوبكر مع النبى (ص) يوم احد، كما ثبت على، فلا فخر لاحدهما على صاحبه فى ذلك اليوم.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اما ثباته يوم احد: فاكثر المورخين و ارباب السير ينكرونه، و جمهورهم يروى انه لم يبق مع النبى (ص) الا على و طلحه و الزبير، و ابودجانه، و قد روى عن ابن عباس انه قال: و لهم خامس و هو عبدالله بن مسعود، و منهم من اثبت سادسا، و هو المقداد بن عمرو، و روى يحيى بن سلمه بن كهيل قال: قلت لابى: كم ثبت مع رسول الله (ص) يوم اح
د؟ فقال: اثنان، قلت: من هما؟ قال: على و ابودجانه.
و هب ان ابابكر ثبت يوم احد كما يدعيه الجاحظ، ايجوز له ان يقول: ثبت كما ثبت على، فلا فخر لاحدهما على الاخر، و هو يعلم آثار على (ع) ذلك اليوم، و انه قتل اصحاب الالويه من بنى عبدالدار، منهم طلحه بن ابى طلحه، الذى راى رسول الله (ص) فى منامه انه مردف كبشا، فاوله و قال: كبش الكتيبه نقتله.
فلما قتله على (ع) مبارزه- و هو اول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم- كبر رسول الله (ص)، و قال: (هذا كبش الكتيبه).
و ما كان منه من المحاماه عن رسول الله (ص)، و قد فر الناس و اسلموه، فتصمد له كتيبه من قريش، فيقول: (يا على، اكفنى هذه) فيحمل عليها فيهزمها، و يقتل عميدها، حتى سمع المسلمون و المشركون صوتا من قبل السماء.
لا سيف الا ذوالفقا ر و لا فتى الا على و حتى قال النبى (ص) عن جبرائيل ما قال.
اتكون هذه آثاره و افعاله، ثم يقول الجاحظ: لا فخر لاحدهما على صاحبه! (ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و انت خير الفاتحين).
قال الجاحظ: و لابى بكر فى ذلك اليوم مقام مشهور، خرج ابنه عبدالرحمن فارسا مكفرا فى الحديد، يسال المبارزه، و يقول: انا عبدالرحمن بن عتيق! فنهض اليه ابوبكر يسعى بسيفه، فقال
له النبى (ص): (شم سيفك و ارجع الى مكانك، و متعنا بنفسك).
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: ما كان اغناك يا اباعثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لابى بكر، فانه لو تسمعه الاماميه لاضافته الى ما عندها من المثالب، لان قول النبى (ص): (ارجع) دليل على انه لايحتمل مبارزه احد، لانه اذا لم يحتمل مبارزه ابنه، و انت تعلم حنو الابن على الاب و تبجيله له، و اشفاقه عليه و كفه عنه، لم يحتمل مبارزه الغريب الاجنبى.
و قوله له: (و متعنا بنفسك)، ايذان له بانه كان يقتل لو خرج، و رسول الله كان اعرف به من الجاحظ، فاين حال هذا الرجل من حال الرجل الذى صلى بالحرب، و مشى الى السيف بالسيف، فقتل الساده و القاده و الفرسان و الرجاله! قال الجاحظ: على ان ابابكر- و ان لم تكن آثاره فى الحرب كاثار غيره- فقد بذل الجهد، و فعل ما يستطيعه و تبلغه قوته، و اذا بذل المجهود فلا حال اشرف من حاله.
قال شيخنا ابوجعفر رحمه الله: اما قوله انه بذل الجهد، فقد صدق، و اما قوله (لا حال اشرف من حاله)، فخطا، لان حال من بلغت قوته فاعملها فى قتل المشركين اشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغايه، الا ترى ان حال الرجل اشرف فى الجهاد من حال المراه، و حال البالغ الايد اشرف من حال
الصبى الضعيف! فهذه جمله ما ذكره الشيخ ابوجعفر محمد بن عبدالله الاسكافى رحمه الله فى نقض العثمانيه، اقتصرنا عليها هاهنا، و سنعود فيما بعد الى ذكر جمله اخرى من كلامه، اذا اقتضت الحال ذكره.