خطبه 120-درحكميت
الشرح:
هذه شبهه من شبهات الخوارج، و معناها انك نهيت عن الحكومه اولا ثم امرت بها ثانيا، فان كانت قبيحه كنت بنهيك عنها مصيبا، و بامرك بها مخطئا، و ان كانت حسنه كنت بنهيك عنها مخطئا و بامرك بها مصيبا، فلا بد من خطئك على كل حال.و جوابها ان للامام ان يعمل بموجب ما يغلب على ظنه من المصلحه، فهو (ع) لما نهاهم عنها كان نهيه عنها مصلحه حينئذ، و لما امرهم بها كانت المصلحه فى ظنه قد تغيرت، فامرهم على حسب ما تبدل و تغير فى ظنه، كالطبيب الذى ينهى المريض اليوم عن امر و يامره بمثله غدا.و قوله: (هذا جزاء من ترك العقده)، يعنى الراى الوثيق، و فى هذا الكلام اعتراف بانه بان له و ظهر فيما بعد ان الراى الاصلح كان الاصرار و الثبات على الحرب، و ان ذلك و ان كان مكروها، فان الله تعالى كان يجعل الخيره فيه، كما قال سبحانه: (فعسى ان تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا) ثم قال: كنت احملكم على الحرب و ترك الالتفات الى مكيده معاويه و عمرو، من رفع المصاحف، فان استقمتم لى اهتديتم بى، و ان لم تستقيموا فذلك ينقسم الى قسمين: احدهما ان تعوجوا، اى يقع منكم بعض الالتواء و يسير من العصيان كفتور الهمه و قله الجد فى الحرب و الثانىالتانى و الامتناع المطلق من الحرب، فان كان الاول قومتكم بالتاديب و الارشاد و ارهاق الهمم و العزائم بالتبصير و الوعظ و التحريض و التشجيع، و ان كان الثانى تداركت الامر معكم: اما بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب و اهل خراسان و الحجاز، فكلهم كانوا شيعته و قائلين بامامته، او بما اراه فى ذلك الوقت من المصلحه التى تحكم بها الحال الحاضره.قال: لو فعلت ذلك لكانت هى العقده الوثقى، اى الراى الاصوب الاحزم.فان قلت: افتقولون انه اخطا فى العدول عن هذا الراى؟ قلت: لانقول انه اخطا بمعنى الاثم، لانه انما فعل ما تغلب على ظنه انه المصلحه، و ليس الواجب عليه الا ذلك، و لكنه ترك الراى الاصوب، كما قال الحسن: (هلا مضيت قدما لا ابالك!)، و لايلحق الاثم من غلب على ظنه فى حكم السياسه امر فاعتمده، ثم بان له ان الاصوب كان خلافه، و قد قيل ان قوله: لقد عثرت عثره لاتنجبر سوف اكيس بعدها و استمر و اجمع الراى الشتيت المنتشر اشاره الى هذا المعنى، و قيل: فيه غير ذلك مما قدمناه ذكره قبل.و قال شيخنا ابوعثمان الجاحظ رضى الله عنه: من عرفه عرف انه غير ملوم فى الانقياد معهم الى التحكيم، فانه مل من القتل و تجريد السيف ليلا و نهارا، حتى ملت الدما
ء من اراقته لها، و ملت الخيل من تقحمه الاهوال بها، و ضجر من دوام تلك الخطوب الجليله، و الارزاء العظيمه، و استلاب الانفس، و تطاير الايدى و الارجل بين يديه، و اكلت الحرب اصحابه و اعداءه، و عطلت السواعد، و خدرت الايدى التى سلمت من وقائع السيوف به، ا و لو ان اهل الشام لم يستعفوا من الحرب و يستقيلوا من المقارعه و المصادمه، لادت الحال الى قعود الفيلقين معا، و لزومهم الارض و القائهم السلاح، فان الحال افضت بعظمها و هو لها الى ما يعجز اللسان عن وصفه.و اعلم انه (ع) قال هذا القول، و استدرك بكلام آخر حذرا ان يثبت على نفسه الخطا فى الراى، فقال: لقد كان هذا رايا لو كان لى من يطيعنى فيه، و يعمل بموجبه، و استعين به على فعله، و لكن بمن كنت اعمل ذلك، و الى من اخلد فى فعله! اما الحاضرون لنصرى فانتم و حالكم معلومه فى الخلاف و الشقاق و العصيان، و اما الغائبون من شيعتى كاهل البلاد النائيه فالى ان يصلوا يكون قد بلغ العدو غرضه منى، و لم يبق من اخلد اليه فى اصلاح الامر و ابرام هذا الراى الذى كان صوابا لو اعتمد، الا ان استعين ببعضكم على بعض، فاكون كناقش الشوكه بالشوكه، و هذا مثل مشهور: (لاتنقش الشوكه بالشوكه).فان ضلعها لها، و الضلع
الميل، يقول: لاتستخرج الشوكه الناشبه فى رجلك بشوكه مثلها، فان احداهما فى القوه و الضعف كالاخرى، فكما ان الاولى انكسرت لما وطئتها فدخلت فى لحمك، فالثانيه اذا حاولت استخراج الاولى بها تنكسر، و تلج فى لحمك.ثم قال: (اللهم ان هذا الداء الدوى، قد ملت اطباوه)، و الدوى: الشديد، كما تقول: ليل اليل.و كلت النزعه، جمع نازع، و هو الذى يستقى الماء، و الاشطان: جمع شطن، و هو الحبل.و الركى: الابار، جمع ركيه، و تجمع ايضا على ركايا.ثم قال: اين القوم! هذا كلام متاسف على اولئك، متحسر على فقدهم.و الوله: شده الحب حتى يذهب العقل، وله الرجل.و اللقاح، بكسر اللام: الابل، و الواحده لقوح، و هى الحلوب، مثل قلاص و قلوص.قوله: (و اخذوا باطراف الارض)، اى اخذوا على الناس باطراف الارض، اى حصروهم، يقال لمن استولى على غيره و ضيق عليه: قد اخذ عليه باطراف الارض، قال الفرزدق: اخذنا باطراف السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع و زحفا زحفا، منصوب على المصدر المحذوف الفعل، اى يزحفون زحفا، و الكلمه الثانيه تاكيد للاولى.و كذلك قوله: (و صفا صفا).ثم ذكر ان بعض هولاء المتاسف عليهم هلك، و بعض نجا، و هذا ينجى قوله تعالى: (فمنهم من قضى نحبه و
منهم من ينتظر).ثم ذكر ان هولاء قوم و قذتهم العباده، و انقطعوا عن الناس، و تجردوا عن العلائق الدنيويه، فاذا ولد لاحدهم مولود لم يبشر به، و اذا مات له ميت لم يعز عنه.و مرهت عين فلان، بكسر الراء، اذا فسدت لترك الكحل، لكن اميرالمومنين (ع) جعل مره عيون هولاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه.و ذكر ان بطونهم من خماص الصوم، و شفاههم ذابله من الدعاء، و وجوههم مصفره من السهر، لانهم يقومون الليل و على وجوههم غبره الخشوع.ثم قال: (اولئك اخوانى الذاهبون).فان قلت: من هولاء الذين يشير- (ع)- اليهم؟ قلت: هم قوم كانوا فى ناناه الاسلام و فى زمان ضعفه و خموله ارباب زهد و عباده و جهاد شديد فى سبيل الله، كمصعب بن عمير من بنى عبد الدار، و كسعد بن معاذ من الاوس، و كجعفر بن ابى طالب، و عبدالله بن رواحه، و غيرهم، ممن استشهد من الصالحين ارباب الدين و العباده و الشجاعه فى يوم احد، و فى غيره من الايام فى حياه رسول الله (ص)، و كعمار، و ابى ذر، و المقداد، و سلمان، و خباب، و جماعه من اصحاب الصفه و فقراء المسلمين ارباب العباده الذين قد جمعوا بين الزهد و الشجاعه.و قد جاء فى الاخبار الصحيحه ان رسول الله (ص) قال: (ان الجنه لتشتاق الى اربعه: على، و عمار، و ابى ذر، و المقداد)، و جاء فى الاخبار الصحيحه ايضا، ان جماعه من اصحاب الصفه مر بهم ابوسفيان بن حرب بعد اسلامه فعضوا ايديهم عليه، و قالوا: وا اسفاه كيف لم تاخذ السيوف ماخذها من عنق عدو الله! و كان معه ابوبكر، فقال لهم: اتقولون هذا لسيد البطحاء؟ فرفع قوله الى رسول الله (ص) فانكره، و قال لابى بكر: (انظر لاتكون اغضبتهم، فتكون قد اغضبت ربك) فجاء ابوبكر اليهم و ترضاهم و سالهم ان يستغفروا له، فقالوا: غفر الله لك.قوله: (فحق لنا)، يقال: حق له ان يفعل كذا، و هو حقيق به، و هو محقوق به، اى خليق له، و الجمع احقاء و محقوقون.و يسنى: يسهل.و صدف عن الامر، يصدف، اى انصرف عنه.و نزغات الشيطان: ما ينزغ به، بالفتح، اى يفسد و يغرى.و نفثاته: ما ينفث به و ينفث، بالضم و الكسر، اى يخيل و يسحر.و اعقلوها على انفسكم، اى اربطوها و الزموها.