خطبه 218-دعائى از آن حضرت - شرح نهج البلاغه نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شرح نهج البلاغه - نسخه متنی

ابن ابی الحدید معتزلی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

خطبه 218-دعائى از آن حضرت

الشرح:

انست: ضد وحشت، و الايناس: ضد الايحاش، و كان القياس ان يقول: انك آنس المونسين، لان الماضى (افعل) و انما الانسون جمع آنس، و هو الفاعل من انست بكذا، لامن (آنست)، فالروايه الصحيحه، اذن (باوليائك) اى انت اكثرهم انسا باوليائك و عطفا و تحننا عليهم.

و احضرهم بالكفايه، اى ابلغهم احضارا لكفايه المتوكلين عليهم، و اقومهم بذلك تشاهدهم فى سرائرهم، اى تطلع على غيبهم، و البصائر: العزائم، نفذت بصيرته فى كذا، اى حق عزمه.

و قلوبهم اليك ملهوفه، اى صارخه مستغيثه.

و فههت عن مسالتى، بالكسر: عييت، و الفهه و الفهاهه: العى، رجل افه، و رجل فه ايضا، و امراه فههه، قال الشاعر: فلم تلفنى فها و لم تلف حاجتى ملجلجه ابغى لها من يقيمها و قد فههت يا رجل فهها، اى عييت، و يقال سفيه فهيه، و فههه الله، و خرجت لحاجه فافهنى عنها فلان، اى انسانيها.

و يروى: (او عمهت) بالهاء و الميم المكسوره، و العمه: التحير و التردد، عمه الرجل، فهو عمه و عامه و الجمع عمه، و ارض عمهاء: لا اعلام بها.

و النكر.

العجب و البدع المبتدع، و منه قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل)، اى لم آت بما لم اسبق اليه.

و مثل قوله (ع).

(اللهم احملنى على عفوك،
و لاتحملنى على عدلك) قول المروانيه للهاشميه لما قتل مروان فى خبر قد اقتصصناه قديما.

ليسعنا عدلكم، قالت الهاشميه.

اذن لانبقى منكم احدا، لانكم حاربتم عليا (ع)، و سممتم الحسن (ع)، و قتلتم الحسين و زيدا و ابنه، و ضربتم على بن عبدالله، و خنقتم ابراهيم الامام فى جراب النوره.

قالت: قد يسعنا عفوكم، قالت: اما هذا فنعم.

(ادعيه فصيحه من كلام ابى حيان التوحيدى) و من الدعوات الفصيحه المستحسنه فصول من كلام ابى حيان التوحيدى نقلتها.

فمنها: اللهم انى ابرا من الثقه الا بك، و من الامل الا فيك، و من التسليم الا لك، و من التفويض الا اليك، و من التوكل الا عليك، و من الطلب الا منك، و من الرضا الا عنك، و من الذل الا فى طاعتك، و من الصبر الا على بلائك، و اسالك ان تجعل الاخلاص قرين عقيدتى، و الشكر على نعمك شعارى و دثارى، و النظر الى ملكوتك دابى و ديدنى، و الانقياد لك شانى و شغلى، و الخوف منك امنى و ايمانى، و اللياذ بذكرك بهجتى و سرورى.

اللهم تتابع برك، و اتصل خيرك، و عظم رفدك، و تناهى احسانك، و صدق وعدك، و بر قسمك، و عمت فواضلك، و تمت نوافلك، و لم تبق حاجه الا و قد قضيتها، او تكلفت بقضائها، فاختم ذلك كله بالرضا و المغفره، انك اه
ل ذلك، و القادر عليه، و الملى به.

و منها: اللهم انى اسالك خفايا لطفك، و فواتح توفيقك، و مالوف برك، و عوائد احسانك، و جاه المقدسين من ملائكتك، و منزله المصطفين من رسلك، و مكاثره لاولياء من خلقك، و عاقبه المتقين من عبادك.

و اسالك القناعه برزقك، و الرضا بحكمك، و النزاهه عن محظورك، و الورع فى شبهاتك و القيام بحجتك، و الاعتبار بما ابديت، و التسليم لما اخفيت، و الاقبال على ما امرت، و الوقوف عما زجرت، حتى اتخذ الحق حجه عند ما خف و ثقل، و الصدق سنه فيما عسر و سهل، و حتى ارى ان شعار الزهد اعز شعار، و منظر الباطل اشوه منظر، فاتبختر فى ملكوتك بفضفاض الرداء بالدعاء اليك، و ابلغ الغايه القصوى بين خلقك بالثناء عليك.

و منها: اللهم اليك ارفع عجرى و بجرى، و بك استعين فى عسرى و يسرى، و اياك ادعو رغبا و رهبا، فانك العالم بتسويل النفس، و فتنه الشيطان، و زينه الهوى، و صرف الدهر، و تلون الصديق، و بائقه الثقه، و قنوط القلب، و ضعف المنه، و سوء الجزع.

فقنى اللهم ذلك كله، و اجمع من امرى شمله، و انظم من شانى شتيته، و احرسنى عند الغنى من البطر، و عند الفقر من الضجر، و عند الكفايه من الغفله، و عند الحاجه من الحسره، و عند الراحه من الفسو
له، و عند الطلب من الخيبه، و عند المنازله من الطغيان، و عند البحث من الاعتراض عليك، و عند التسليم من التهمه لك.

و اسالك ان تجعل صدرى خزانه توحيدك، و لسانى مفتاح تمجيدك، و جوارحى خدم طاعتك، فانه لا عز الا فى الذل لك، و لا غنى الا فى الفقر اليك، و لا امن الا فى الخوف منك، و لاقرار الى فى القلق نحوك، و لا روح الا فى الكرب لوجهك، و لا ثقه الا فى تهمه خلقك، و لا راحه الا فى الرضا بقسمك، و لا عيش الا فى جوار المقربين عندك.

و منها: اللهم ببرهانك الصادع، و بنور وجهك الساطع، صل على محمد نبيك نبى الرحمه، و قائد الامه، و امام الائمه، و احرس على ايمانى بك بالتسليم لك، و خفف عنى مونه الصبر على امتحانك، و واصل لى اسباب المزيد عند الشكر على نعمتك، و اجعل بقيه عمرى فى غنى عن خلقك، و رضا بالمقدم من رزقك.

اللهم انك ان آخذتنا بذنوبنا خسفت الارض بنا، و ان جازيتنا على ظلمنا قطعت دوابرنا، فانك قلت: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين).

اللهم اليك نشكو قسوه قلوبنا، و غل صدورنا، و فتنه انفسنا، و طموح ابصارنا، و رفث السنتنا، و سخف احلامنا، و سوء اعمالنا، و فحش لجاجنا، و قبح دعوانا، و نتن اشرارنا، و خبث اخيارنا، و تل
زق ظاهرنا، و تمزق باطننا.

اللهم فارحمنا، و اراف بنا، و اعطف علينا، و احسن الينا، و تجاوز عنا، و اقبل الميسور منا، فاننا اهل عقوبه، و انت اهل مغفره، و انت بما وصفت به نفسك احق منا بما وسمنا، به انفسنا، فان فى ذلك ما اقترن بكرمك، و اذى الى عفوك.

و من قبل ذلك و بعده، فالب عيشنا بنعمتك، و ارح ارواحنا من كد الامل فى خلقك، و خذ بازمتنا الى بابك، و اله قلوبنا عن هذه الدار الفانيه، و ازرع فيها محبه الدار الباقيه، و قلبنا على بساط لطفك، و حثنا بالاحسان الى كنفك، و رفهنا عن التماس ما عند غيرك، و اغضض عيوننا عن ملاحظه ما حجب من غيرك، وصل بيننا و بين الرضا عنك، و ارفع عنامونه العرض عليك، و خفف علينا كل ما اوصلنا اليك، و اذقنا حلاوه قربك، و اكشف عن سرائرنا سواتر حجبك، و وكل بنا الحفظه، و ارزقنا اليقظه، حتى لانقترف سيئه، و لانفارق حسنه، انك قائم على كل نفس بما كسبت، و انت بما نخفى و ما نعلن خبير بصير.

و منها: اللهم انت الحى القيوم، و الاول الدائم، و الاله القديم، و البارى ء المصور، و الخالق المقدس، و الجبار الرفيع، و القهار المنيع، و الملك الصفوح، و الوهاب المنوح، و الرحمن الرئوف، و الحنان العطوف، و المنان اللطيف، مالك ال
ذوائب و النواصى، و حافظ الادانى و الاقاصى، و مصرف المطيع و العاصى.

اللهم انت الظاهر الذى لا يجحدك جاحد الا زايلته الطمانينه، و اسلمه الياس، و اوحشه القنوط، و رحلت عنه العصمه، و تردد بين رجاء قد ناى عنه التوفيق، و امل قد حفت به الخيبه، و طمع يحوم على ارجاء التكذيب، و سر قد اطاف به الشقاء، و علانيه قد اناف عليها البلاء، موهون المنه، منسوخ العقده، مسلوب العده، تشنوه العين، و تقليه النفس، عقله عقل طائر، و لبه لب حائر و حكمه حكم جائر، لا يروم قرارا الا ازعج عنه، و لايستفتح بابا الا ارتج دونه، و لايقتبس ضرما الا اجج عليه، عثرته موصوله بالعثره، و حسرته مقرونه الى حسره، ان سمع زيف، و ان قال حرف، و ان قضى خرف، و ان احتج زخرف، و لو فاء الى الحق لوجد ظله ظليلا، و اصاب تحته مثوى و مقيلا، و انت الباطن الذى لايرومك رائم، و لايحوم على حقيقتك حائم، الا غشيه من نور الهيتك، و عز سلطانك، و عجيب قدرتك، و باهر برهانك، و غرائب غيوبك، و خفى شانك، و مخوف سطوتك، و مرجو احسانك، ما يرده خاسئا من مزحزحه عن الغايه، خجلا مبهورا، و يرده الى عجزه، ملتحفا بالندم، مرتديا بالاستكانه، راجعا الى الصغار، موقوفا مع الذله.

فظاهرك يدعو اليك بلسان ال
اضطرار، و باطنك يحير فيك لسعه قضاء الاعتبار، و فعلك يدل عليك الاسماع و الابصار، و حكمتك تعجب منك الالباب و الاسرار.

لك السلطان و الملكه، و بيدك النجاه و الهلكه، فاليك المفر، و معك المقر، و منك صنوف الاحسان و البر، اسالك باصح سر، و اكرم لفظ، و افصح لغه، و اتم اخلاص، و اشرف همه، و افضل نيه، و اطهر عقيده، و اثبت يقين، ان تصد عنى كل ما يصد عنك، و تصلنى بكل ما يصل بك، و تحبب الى كل ما يحبب اليك، فانك الاول و الثانى، و المشار اليه فى جميع المعانى، لا اله الا انت.

و منها: اللهم انى اسالك جدا مقرونا بالتوفيق، و علما بريئا من الجهل، و عملا عريا من الرياء، و قولا موشحا بالصواب، و حالا دائره مع الحق، و فطنه عقل مضروبه فى سلامه صدور، و راحه جسم راجعه الى روح بال، و سكون نفس موصولا بثبات يقين، و صحه حجه بعيده من مرض شبهه، حتى تكون غايتى فى هذه الدنيا موصوله بالامثل فالامثل، و عاقبتى عندك محموده بالافضل فالافضل، من حياه طيبه انت الواعد بها، و نعيم دائم انت المبلغ اليه.

اللهم لاتخيب رجاء هو منوط بك، و لاتصفر كفا هى ممدوده اليك، و لانعذب عينا فتحتها بنعمتك، و لاتذل نفسا هى عزيزه بمعرفتك، و لاتسلب عقلا هو مستضى ء بنور هدايتك
، و لاتخرس لسانا عودته الثناء عليك، فكما كنت اولا بالتفضل، فكن آخرا بالاحسان.

الناصيه بيدك، و الوجه عان لك، و الخير متوقع منك، و المصير على كل حال اليك.

البسنى فى هذه الحياه البائده ثوب العصمه، و حلنى فى تلك الدار الباقيه بزينه الامن، و افطم نفسى عن طلب العاجله الزائده، و اجرنى على العاده الفاضله، و لاتجعلنى ممن سها عن باطن مالك عليه، بظاهر مالك عنده، فالشقى من لم تاخذ بيده، و لم تومنه من غده، و السعيد من آويته الى كنفه نعمتك، و نقلته حميدا الى منازل رحمتك، غير مناقش فى الحساب، و لا سائق له الى العذاب، فانك على ذلك قدير.

و منها: اللهم اجعل غدونا اليك مقرونا بالتوكل عليك، و رواحنا عنك موصولا بالنجاح منك، و اجابتنا لك راجعه الى التهالك فيك، و ذكرنا اياك منوطا بالسكون معك، و ثقتنا بك هاديه الى التفويض اليك، و لاتخلنا من يد تستوعب الشكر، و من شكر يمترى خلف المزيد، و من مزيد يسبق اقتراح المقترحين، و صنع يفوق ذرع الطالبين، حتى نلقاك مبشرين بالرضا، محكمين فى المنى، غير مناقشين و لا مطرودين.

اللهم اعذنا من جشع الفقير، و ريبه المنافق، و تجليح المعاند، و طيشه العجول، و فتره الكسلان، و حيله المستبد و فتور العقل، و حيره
المخرج، و حسره المحوج، و فلته الذهول، و حرقه النكول، و رقه الخائف، و طمانينه المغرور، و غفله الغرور.

و اكفنا مونه اخ يرصد مسكونا اليه، و يمكر موثوقا به، و يخيس معتمدا عليه.

وصل الكفايه بالسلوه عن هذه الدنيا، و اجعل التهافنا عليها حنينا الى دار السلام، و محل القرار، و غلب ايماننا بالغيب على يقيننا بالعيان، و احسرنا من انفسنا، فانها ينابيع الشهوه، و مفاتيح البلوى.

و ارنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك، و اوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا فى ملكوتك، و اسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عونا على طاعتك، و اشع فى صدورنا من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك.

و اجعل ديدننا ذكرك، و عادتنا الشوق اليك، و علمنا النصح لخلقك، و اجعل غايتنا الاتصال بك، و احجبنا عن قول يبرى ء من رضاك، و عمل يعمى صاحبه عن هداك، و الف بيننا و بين الحق، و قربنا من معادن الصدق، و اعصمنا من بوائق الخلق، و انقلنا من مضايق الرق، و اهدنا الى فوائد العتق.

اللهم انك بدات بالصنع و انت اهله، فعد بالتوفيق فانك اهله.

اللهم انا نتضائل لك عند مشاهده عظمتك، و ندل عليك عند تواتر برك، و نذل لك عند ظهور آياتك، و نلح عليك عند علمنا بجودك.

و نسالك من فضلك ما لا يرزوك و لا ينكو
ك، و نتوسل اليك بتوحيد لا ينتمى اليه خلق، و لا يفارقه حق.

و منها: اللهم عليك اتوكل، و بك استعين، و فيك اوالى، و بك انتسب، و منك افرق، و معك استانس، و لك امجد، و اياك اسال: لسانا سمحا بالصدق، و صدر اقد ملى ء من الحق، و املا منقطعا عن الخلق، و حالا مكنونها يبوى ء الجنه، و ظاهرها يحقق المنه، و عاقبه تنسى ما سلف، و تتصل بما يتمنى و يتوكف.

و اسالك اللهم كبدا رجوفا خئوفا، و دمعا نطوفا شوقا اليك، و نفسا عزوفا اذعانا لك، و سرا ناقعا ببرد لايمان بك، و نهارا مشتملا على ما كسب من مرضاتك، و ليلا مالئا بما ازلف لديك.

اشكو اليك اللهم تلهفى على ما يفوتنى من الدنيا، و اننى فى طاعه الهوى، جاهلا بحقك، ساهيا عن واجبك، ناسيا ما تكرره من وعظك و ارشادك، و بيانك و تنبيهك حتى كان حلاوه وعدك لم تلج اذنى، و لم تباشر فوادى، و حتى كان مراره عتابك و لائمتك لم تهتك حجابى، و لم تعرض على اوصابى.

اللهم اليك المفر من دار منهومها لايشبع، و حائمها لاينقع، و طالبها لايربع، و واجدها لايقنع، و العيش عنك رقيق، و للامل فيك تحقيق.

اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفيه التى اشكلت على العقول، و حارت معها البصائر، فعاف برحمتك اللطيفه التى تطاولت اليها الاعناق،
و تشوفت نحوها السرائر، و خذ معنا بالفضل الذى اليك هو منسوب، و عنك هو مطلوب، و افطم نفوسنا من رضاع الدنيا، و الطف بما انت له اهل، انك على كل شى ء قدير.

اللهم قدنا بازمه التوحيد الى محاضر طاعتك، و اخلطنا فى زمره المخلصين لذكرك، و اجعل اجابتك من قبيل ما يتصل بكرم عفوك، و لاتجعل خيبتنا من قبل جهلنا بقدرك، و اضرابنا عن امرك، فلا سائل احوج منا، و لا مسئول اجود منك.

اللهم احجر بيننا و بين كل ما دل على غيرك ببيانك، و دعا الى سواك ببرهانك، و انقلنا عن مواطن العجز، مرتقيا بنا الى شرفات العز، فقد استحوذ الشيطان، و خبثت النفس، و سائت العاده، و كثر الصادون عنك، و قل الداعون اليك، و ذهب المراعون لامرك، و فقد الواقفون عند حدودك، و خلت ديار الحق من سكانها، و بيع دينك بيع الخلق، و استهزى ء بناشر مجدك، و اقصى المتوسل بك.

اللهم فاعد نضاره دينك، و افض بين خلقك بركات احسانك، و امدد عليهم ظل توفيقك، و اقمع ذوى الاعتراض عليك، و اخسف بالمقتحمين فى دقائق غيبك، و اهتك استار الهاتكين لستر دينك، و القارعين ابواب سرك، القائسين بينك و بين خلقك.

اللهم انى اسالك ان تخصنى بالهام اقتبس الحق منه، و توفيق يصحبنى و اصحبه، و لطف لايغيب عنى و لاا
غيب عنه، حتى اقول اذا قلت لوجهك، و اسكت اذا سكت باذنك، و اسال اذا سالت بامرك، و ابين اذا ابنت بحجتك، و ابعد اذا بعدت باجلالك، و اقرب اذا قربت برحمتك، و اعبد اذا عبدت مخلصا لك، و اموت اذا مت منتقلا اليك.

اللهم فلا تكلنى الى غيرك، و لاتويسنى من خيرك.

و منها: اللهم انا بك نعز كما انا بغيرك نذل، و اياك نرجو كما انا من غيرك نياس، و اليك نفوض، كما انا من غيرك نعرض، اذنت لنا فى دعائك، و ادنيتنا الى فنائك، و هياتنا لعطائك، و خصصتنا بحبائك، و وسمتنا بولائك، و عممتنا بالائك، و غمستنا فى نعمائك، و ناغيتنا بالسن ملكوتك عن دفائن ما فى عالمك، و لاطفتنا بظاهر قولك و توليتنا بباطن فعلك، فسمت نحوك ابصارنا، و شامت بروق جودك بصائرنا، فلما استقر ما بيننا و بينك، ارسلت علينا سماء فضلك مدرارا، و فتحت لنا منا اسماعا و ابصارا، فراينا ما طاح معه تحصيلنا، و سمعنا ما فارقنا عنده تفضيلنا، فلما سرنا الى خلقك من ذلك ذروا، اتخذونا من اجله لعبا و هزوا فبقدرتك على بلوانا بهم، ارنا بك الغنى عنهم.

اللهم قيض لنا فرجا من عندك، و انح لنا مخلصا اليك، فانا قد تعبنا بخلقك، و عجزنا عن تقويمهم لك، و نحن الى مقاربتهم فى مخالفتك اقرب منا الى منابذتهم ف
ى موافقتك، لانه لا طاقه لنا بدهمائهم، و لا صبر لنا على بلوائهم، و لا حيله لنا فى شفائهم، فنسالك بالضراعه التامه و بالاخلاص المرفود، الا اخذت بايدينا، و ارسلت رحمتك علينا، فما اقدرك على الاجابه، و ما اجودك بكل مصون، يا ذا الجلال و الاكرام! و منها: اللهم انا قربنا بك فلا تنئنا عنك، و ظهرنا لك فلا تبطنا دونك، و وجدناك بما القيت الينا من غيب ملكوتك، و عزفنا عن كل ما لوانا عن بابك، و وثقنا بكل ما وعدتنا فى كتابك، و توكلنا بالسر و العلن على لطيف صنعك.

اللهم اليك نظرت العيون فعادت خاسئه عبرى، و فيك تقسمت الظنون فانقلبت يائسه حسرى، و فى قدرتك حارت الابصار، و فى حكمتك طاحت البصائر، و فى آلائك غرقت الارواح، و على ما كان منك تقطعت الانفاس، و من اجل اعراضك التهبت الصدور، و لذكر ما مضى منك هملت الدموع.

اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك، و امنا مما حوفتنا حتى نقر معك، و اوسعنا رحمتك، حتى نطمئن الى ما وعدتنا فى كتابك، و فرق بيننا و بين الغل حتى لا نعامل به خلقك، و اغننا بك حتى لانفتقر الى عبادك، فانك اذا يسرت امر اتيسر، و مهما بلوتنا فلاتبلنا بهجرك، و لاتجرعنا مراره سخطك.

قد اعترفنا بربوبيتك عبوديه لك، فعرفنا حقيقته
ا بالعفو عنا، و الاقبال علينا، و الرفق بنا، يا رحيم! و منها: اللهم ان الرغبات بك منوطه، و الوسائل اليك متداركه، و الحاجات ببابك مرفوعه، و الثقه بك مستحصفه (اى مستحكمه)، و الاخبار بجودك شائعه، و الامال نحوك نازعه، و الامانى ورائك منقطعه، و الثناء عليك متصل، و وصفك بالكرم معروف، و الخلائق الى لطفك محتاجه، و الرجاء فيك قوى، و الظنون بك جميله، و الاعناق لعزك خاضعه، و النفوس الى مواصلتك مشتاقه، و الارواح لعظمتك مبهوته، لانك للاله العظيم، و الرب الرحيم، و الجواد الكريم، و السميع العليم، تملك العالم كله، و ما بعده و ما قبله، و لك فيه تصاريف القدره، و خفيات الحكمه، و نوافذ الاراده، و لك فيه ما لا ندريه مما تخفيه و لا تبديه، جللت عن الاجلال، و عظمت عن التعظيم، و قد ازف ورودنا عليك، و وقوفنا بين يديك، و ظننا ما قد علمت، و رجاونا ما قد عرفت، فكن عند ظننا بك، و حقق رجائنا فيك، فما خالفناك جراه عليك، و لا عصيناك تقحما فى سخطك، و لا اتبعنا هوانا استهزاء بامرك و نهيك، و لكن غلبت علينا جواذب الطينه التى عجنتنا بها، و بذور الفطره التى انبتنا منها، فاسترخت قيودنا عن ضبط انفسنا، و عزبت البابنا عن تحصيل حظوظنا، و لسنا ندعى حجه،
و لكن نسالك رافه، فبسترك السابغ الذيال، و فضلك الذى يستوعب كل مقال، الا تممت ما سلف منك الينا، و عطفت بجودك الفياض علينا، و جذبت باضباعنا، و اقررت عيوننا، و حققت آمالنا، انك اهل ذلك، و انت على كل شى ء قدير!

خطبه 219-درباره يكى از حاكمان

الشرح:

العرب تقول: لله بلاد فلان، و لله در فلان، و لله نادى فلان، و لله نائح فلان! و المراد بالاول: لله البلاد التى انشاته و انبتته، و بالثانى: لله الثدى الذى ارضعه و بالثالث: لله المجلس الذى ربى فيه، و بالرابع: لله النائحه التى تنوح عليه و تندبه! ما ذا تعهد من محاسنه.

و يروى: (لله بلاء فلان)، اى لله ما صنع! و فلان المكنى عنه عمر بن الخطاب، و قد وجدت النسخه التى بخط الرضى ابى الحسن جامع "نهج البلاغه" و تحت (فلان) (عمر)، حدثنى بذلك فخار بن معد الموسوى الاودى الشاعر، و سالت عنه النقيب اباجعفر يحيى بن ابى زيد العلوى، فقال لى: هو عمر، فقلت له ايثنى عليه اميرالمومنين (ع) هذا الثنائ؟ فقال: نعم، اما الاماميه فيقولون: ان ذلك من التقيه و استصلاح اصحابه.

و اما الصالحيون من الزيديه فيقولون: انه اثنى عليه حق الثناء، و لم يضع المدح الا فى موضعه و نصابه.

و اما الجاروديه من الزيديه فيقولون: انه كلام قاله فى امر عثمان.

اخرجه مخرج الذم له، و التنقص لاعماله، كما يمدح الان الامير الميت فى ايام الامير الحى بعده، فيكو و ذلك تعريضا به.

فقلت له: الا انه لايجوز التعريض و الاستزاده للحاضر بمدح الماضى، الا اذا كان ذلك
المدح صدقا لا يخالطه ريب و لا شبهه.

فاذا اعترف اميرالمومنين بانه اقام السنه، و ذهب نقى الثوب، قليل العيب، و انه ادى الى الله طاعته، و اتقاه بحقه، فهذا غايه ما يكون من المدح.

و فيه ابطال قول من طعن على عثمان بن عفان.

فلم يجبنى بشى ء، و قال: هو ما قلت لك! فاما الراوندى، فانه قال فى

الشرح:

انه (ع) مدح بعض اصحابه بحسن السيره، و ان الفتنه هى التى وقعت بعد رسول الله (ص) من الاختيار و الاثره.

و هذا بعيد، لان لفظ اميرالمومنين يشعر اشعارا ظاهرا بانه يمدح واليا ذا رعيه و سيره، الا تراه كيف يقول: فلقد قوم الاود، و داوى العمد، و اقام السنه، و خلف الفتنه!.

و كيف يقول: (اصاب خيرها و سبق شرها)! و كيف يقول: (ادى الى الله طاعته)! و كيف يقول: (رحل و تركهم فى طرق متشعبه)! و هذا الضمير، و هو الهاء و الميم فى قوله (ع): (و تركهم)، هل يصح ان يعود الا الى الرعايا! و هل يسوغ ان يقال هذا الكلام لسوقه من عرض الناس! و كل من مات قبل وفاه النبى (ص) كان سوقه لا سلطان له، فلا يصح ان يحمل هذا الكلام على اراده احد من الذين قتلوا او ماتوا قبل وفاه النبى (ص)، كعثمان بن مظعون، او مصعب بن عمير، او حمزه بن عبدالمطلب، او عبيده بن الحارث، و غيرهم م
ن الناس.

و التاويلات البارده الغثه لاتعجبنى، على ان اباجعفر محمد بن جرير الطبرى قد صرح او كاد يصرح بان المعنى بهذا الكلام عمر، قال الطبرى: لما مات عمر بكته النساء، فقالت احدى نوادبه: وا حزناه على عمر! حزنا انتشر، حتى ملا البشر.

و قالت ابنه ابى حثمه: وا عمراه! اقام الاود، و ابرا العمد، و امات الفتن، و احيا السنن.

خرج نقى الثوب، بريئا من العيب.

قال الطبرى: فروى صالح بن كيسان، عن المغيره بن شعبه، قال: لما دفن عمر اتيت عليا (ع)، و انا احب ان اسمع منه فى عمر شيئا، فخرج ينفض راسه و لحيته، و قد اغتسل، و هو ملتحف بثوب لا يشك ان الامر يصير اليه، فقال: رحم الله ابن الخطاب! لقد صدقت ابنه ابى حثمه: (ذهب بخيرها، و نجا من شرها)، اما و الله ما قالت، و لكن قولت!).

و هذا كما ترى يقوى الظن، ان المراد و المعنى بالكلام انما هو عمر بن الخطاب.

قوله: (فلقد قوم الاود)، اى العوج، اود الشى ء بالكسر ياود اودا، اى اعوج، و تاود العود، يتاود.

و العمد: انفضاخ سنام البعير، و منه يقال للعاشق: عميد القلب و معموده.

قوله: (اصاب خيرها) اى خير الولايه، و جاء بضميرها و لم يجر ذكرها لعاده العرب فى امثال ذلك، كقوله تعالى: (حتى توارت بالحجاب).

و سبق
شرها، اى مات او قتل قبل الاحداث و الاختلاط الذى جرى بين المسلمين.

قوله: (و اتقاه بحقه)، اى باداء حقه و القيام به.

فان قلت: و اى معنى فى قوله: (و اتقاه باداء حقه) ؟ و هل يتقى الانسان الله باداء الحق! انما قد تكون التقوى عله فى اداء الحق، فاما ان يتقى بادائه فهو غير معقول.

قلت: اراد (ع) انه اتقى الله، و دلنا على انه اتقى الله بادائه حقه، فاداء الحق عله فى علمنا بانه قد اتقى الله سبحانه.

ثم ذكر انه رحل و ترك الناس فى طرق متشعبه متفرقه، فالضال لا يهتدى فيها، و المهتدى لايعلم انه على المنهج القويم، و هذه الصفات اذا تاملها المنصف، و اماط عن نفسه الهوى، علم ان اميرالمومنين (ع) لم يعن بها الا عمر، لو لم يكن قد روى لنا توقيفا و نقلا ان المعنى بها عمر، فكيف و قد رويناه عمن لا يتهم فى هذا الباب! (نكت من كلام عمر و سيرته و اخلاقه) و نحن نذكر فى هذا الموضع نكتا من كلام عمر و سيرته و اخلاقه.

اتى عمر بمال، فقال له عبدالرحمن بن عوف: يا اميرالمومنين، لو حبست من هذا المال فى بيت المال لنائبه تكون، او امر يحدث! فقال: كلمه ما عرض بها الا شيطان كفانى حجتها، و وقانى فتنتها.

اعصى الله العام مخافه قابل! اعد لهم تقوى الله، قال ا
لله سبحانه: (و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لايحتسب).

استكتب ابوموسى الاشعرى نصرانيا، فكتب اليه عمر: اعزله و استعمل بدله حنيفيا، فكتب له ابوموسى: ان من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت.

فكتب له عمر: ليس لنا ان ناتمنهم، و قد خونهم الله، و لا ان نرفعهم و قد وضعهم الله، و لا ان نستنصحهم فى الدين و قد وترهم الاسلام، و لا ان نعزهم و قد امرنا بان يعطوا الجزيه عن يد و هم صاغرون.

فكتب ابوموسى: ان البلد لايصلح الا به.

فكتب اليه عمر: مات النصرانى و السلام.

و كتب الى معاويه: اياك و الاحتجاب دون الناس، و ائذن للضعيف، و ادنه حتى ينبسط لسانه، و يجترى ء قلبه، و تعهد الغريب، فانه اذا طال حبسه و دام اذنه، ضعف قلبه، و ترك حقه.

عزل عمر زيادا عن كتابه ابى موسى الاشعرى فى بعض قدماته عليه، فقال له: عن عجز ام عن خيانه؟ فقال: لا عن واحده منهما، و لكنى اكره ان احمل على العامه فضل عقلك.

و قال: انى و الله لاادع حقا لله لشكايه تظهر، و لا لضب يحتمل، و لا محاباه لبشر.

و انك و الله ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل ان تطيع الله فيه.

و كتب الى سعد بن ابى وقاص: يا سعد سعد بنى اهيب! ان الله اذا احب عبدا حببه الى خلقه، فاعتبر منزلتك من
الله بمنزلتك من الناس.

و اعلم ان ما لك عند الله مثل ما لله عندك.

و سال رجلا عن شى ء، فقال: الله اعلم، فقال: قد شقينا ان كنا لانعلم ان الله اعلم! اذا سئل احدكم عما لايعلم، فليقل: لا ادرى.

و قال عبدالملك (على المنبر): انصفونا يا معشر الرعيه، تريدون منا سيره ابى بكر و عمر، و لم تسيروا فى انفسكم و لا فينا سيره ابى بكر و عمر! نسال الله ان يعين كلا على كل.

و دخل عمر على ابنه عبدالله، فوجد عنده لحما عبيطا معلقا، فقال: ما هذا اللحم؟ قال: اشتهيت فاشتريت، فقال: او كلما اشتهيت شيئا اكلته! كفى بالمرء سرفا ان اكل كل ما اشتهاه.

مر عمر على مزبله، فتاذى بريحها اصحابه، فقال: هذه دنياكم التى تحرصون عليها.

و من كلامه للاحنف: يا احنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، و من مزح استخف به، و من اكثر من شى ء عرف به، و من كثر كلامه كثر سقطه، و من كثر سقطه قل حياوه، و من قل حياوه قل ورعه، و من قل ورعه مات قلبه.

و قال لابنه عبدالله: يا بنى اتق الله يقك، و اقرض الله يجزك، و اشكره يزدك.

و اعلم انه لا مال لمن لا رفق له، و لا جديد لمن لا خلق له، و لا عمل لمن لانيه له.

و خطب يوم استخلف، فقال: ايها الناس، انه ليس فيكم احد اقوى عندى من الضعيف حتى آخذ ا
لحق له، و لااضعف من القوى حتى آخذ الحق منه.

و قال لابن عباس: يا عبدالله، انتم اهل رسول الله و آله و بنو عمه، فما تقول منع قومكم منكم؟ قال: لا ادرى علتها، و الله ما اضمرنا لهم الا خيرا.

قال اللهم غفرا، ان قومكم كرهوا ان يجتمع لكم النبوه و الخلافه فتذهبوا فى السماء شمخا و بذخا، و لعلكم تقولون: ان ابابكر اول من اخركم، اما انه لم يقصد ذلك، و لكن حضر امر لم يكن بحضرته احزم مما فعل، و لو لا راى ابى بكر فى لجعل لكم من الامر نصيبا، و لو فعل ما هناكم مع قومكم.

انهم ينظرون اليكم نظر الثور الى جازره.

و كان يقول: ليت شعرى متى اشفى من غيظى! احين اقدر فيقال لى: لو عفوت، ام حين اعجل فيقال: لو صبرت! و راى اعرابيا يصلى صلاه خفيفه، فلما قضاها قال: اللهم زوجنى الحور العين.

فقال له: لقد اسات النقد، و اعظمت الخطبه! و قيل له: كان الناس فى الجاهليه يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم، و لسنا نرى ذلك الان.

قال: لان ذلك كان الحاجز بينهم و بين الظلم، و اما الان فالساعه موعدهم و الساعه ادهى و امر.

و من كلامه: من عرض نفسه للتهمه فلا يلومن من اساء به الظن، و من كتم سره كانت الخيره بيده.

ضع امر اخيك على احسنه، حتى ياتيك منه ما يغلبك، و لا تظن
بكلمه خرجت من اخيك المسلم شرا و انت تجد لها فى الخير محملا.

و عليك باخوان الصدق و كيس اكياسهم، فانهم زينه فى الرخاء، و عده عند البلاء، و لا تتهاونن بالخلق فيهينك الله، و لاتعترض بما لايعنيك، و اعتزل عدوك، و تحفظ من خليلك الا الامين، فان الامين من الناس لايعادله شى ء، و لاتصحب الفاجر فيعلمك من فجوره، و لا تفش اليه سرك، و استشر فى امرك اهل التقوى، و كفى بك عيبا ان يبدو لك من اخيك ما يخفى عليك من نفسك، و ان توذى جليسك بما تاتى مثله.

و قال: ثلاث يصفين لك الود فى قلب اخيك: ان تبداه بالسلام اذا لقيته، و ان تدعوه باحب اسمائه اليه، و ان توسع له فى المجلس.

و قال: احب ان يكون الرجل فى اهله كالصبى، و اذا اصيخ اليه كان رجلا.

بينا عمر ذات يوم اذا راى شابا يخطر بيديه، فيقول: انا ابن بطحاء مكه كديها و كداها.

فناداه عمر، فجاء فقال: ان يكن لك دين فلك كرم، و ان يكن لك عقل فلك مروئه، و ان يكن لك مال فلك شرف، و الا فانت و الحمار سواء.

و قال: يا معشر المهاجرين، لاتكثروا الدخول على اهل الدنيا و ارباب الامره و الولايه، فانه مسخطه للرب، و اياكم و البطنه، فانها مكسله عن الصلاه، و مفسده للجسد، مورثه للسقم، و ان الله يبغض الحبر السمين
، و لكن عليكم بالقصد فى قوتكم، فانه ادنى من الاصلاح، و ابعد من السرف، و اقوى على عباده الله، و لن يهلك عبد حتى يوثر شهوته على دينه.

و قال: تعلموا ان الطمع فقر، و ان الياس غنى، و من يئس من شى ء استغنى عنه، و التوده فى كل شى ء خير الا ما كان من امر الاخره.

و قال: من اتقى الله لم يشف الله غيظه، و من خاف الله لم يفعل ما يريد، و لو لا يوم القيامه لكان غير ما ترون.

و قال: انى لاعلم اجود الناس، و احلم الناس، اجودهم من اعطى من حرمه، و احلمهم من عفا عمن ظلمه.

و كتب الى ساكنى الامصار: اما بعد، فعلموا اولادكم العوم و الفروسيه، رووهم ما سار من المثل و حسن من الشعر.

و قال: لاتزال العرب اعزه ما نزعت فى القوس، و نزت فى ظهور الخيل.

و قال و هو يذكر النساء: اكثروا لهن من قول: (لا) فان (نعم) مفسده تغريهن على المساله.

و قال: ما بال احدكم يثنى الوساده عند امراه معزبه، ان المراه لحم على وضم الا ما ذب عنه.

و كتب الى ابى موسى: اما بعد، فان للناس نفره عن سلطانهم، فاعوذ بالله ان يدركنى و اياك عمياء مجهوله، و ضغائن محموله، و اهواء متبعه، و دنيا موثره.

اقم الحدود، و اجلس للمظالم و لو ساعه من نهار، و اذا عرض لك امران: احدهما لله، و الاخ
ر للدنيا، فابدا بعمل الاخره، فان الدنيا تفنى، و الاخره تبقى.

و كن من مال الله عز و جل على حذر، و اجف الفساق، و اجعلهم يدا و يدا، و رجلا و رجلا، و اذا كانت بين القبائل نائره يا لفلان يا لفلان فانما! تلك نجوى الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا الى امر الله، و تكون دعواهم الى الله، و الى الاسلام.

و قد بلغنى ان ضبه تدعو: يا لضبه! و انى و الله اعلم ان ضبه ما ساق الله بها خيرا قط، و لا منع بها من سوء قط.

فاذا جائك كتابى هذا فانهكهم ضربا و عقوبه، حتى يفرقوا ان لم يفقهوا، و الصق بغيلان بن خرشه من بينهم.

و عد مرضى المسلمين، و اشهد جنائزهم، و افتح لهم بابك، و باشر امورهم بنفسك، فانما انت رجل منهم، غير ان الله قد جعلك اثقلهم حملا.

و قد بلغنى انه فشا لك و لاهل بيتك هيئه فى لباسك و مطعمك، و مركبك، ليس للمسلمين مثلها، فاياك يا عبدالله بن قيس ان تكون بمنزله البهيمه التى مرت بواد خصيب، فلم يكن لها همه الا السمن، و انما حظها من السمن لغيرها.

و اعلم ان للعامل مردا الى الله فاذا زاغ العامل زاغت رعيته، و ان اشقى الناس من شقيت به نفسه و رعيته.

و السلام.

و خطب عمر، فقال: اما بعد فانى اوصيكم بتقوى الله الذى يبقى و يفنى ما سواه، و ا
لذى بطاعته ينفع اوليائه، و بمعصيته يضر اعدائه.

انه ليس لهالك هلك عذر فى تعمد ضلاله حسبها هدى، و لاترك حق حسبه ضلاله.

قد ثبتت الحجه، و وضحت الطرق، و انقطع العذر، و لا حجه لاحد على الله عز و جل.

الا ان احق ما تعاهد به الراعى رعيته ان يتعاهدهم بالذى لله تعالى عليهم فى وظائف دينهم الذى هداهم به، و انما علينا ان نامركم بالذى امركم الله به من طاعته، و ننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته، و ان نقيم امر الله فى قريب الناس و بعيدهم، و لا نبالى على من قال الحق، ليتعلم الجاهل، و يتعظ المفرط، و يقتدى المقتدى.

و قد علمت ان اقواما يتمنون فى انفسهم، و يقولون: نحن نصلى مع المصلين، و نجاهد مع المجاهدين.

الا ان الايمان ليس بالتمنى و لكنه بالحقائق.

الا من قام على الفرائض، و سدد نيته، و اتقى الله، فذلكم الناجى.

و من زاد اجتهادا وجد عند الله مزيدا.

و انما المجاهدون الذين جاهدوا اهوائهم، و الجهاد اجتناب المحارم.

الا ان الامر جد، و قد يقاتل اقوام لايريدون الا الذكر، و قد يقاتل اقوام لايريدون الا الاجر، و ان الله يرضى منكم باليسير، و اثابكم على اليسير الكثير.

الوظائف الوظائف! ادوها تودكم الى الجنه.

و السنه السنه! الزموها تنجكم من ا
لبدعه.

تعلموا و لاتعجزوا، فان من عجز تكلف، و ان شرار الامور محدثاتها.

و ان الاقتصاد فى السنه خير من الاجتهاد فى الضلاله، فافهموا ما توعظون به، فان الحريب من حرب دينه، و ان السعيد من وعظ بغيره.

و قال: و عليكم بالسمع و الطاعه، فان الله قضى لهما بالعره، و اياكم و التفرق و المعصيه، فان الله قضى لهما بالذله.

اقول قولى هذا و استغفر الله العظيم لى و لكم.

بعث سعد بن ابى وقاص ايام القادسيه الى عمر قباء كسرى و سيفه، و منطقته، و سراويله، و تاجه، و قميصه، و خفيه، فنظر عمر فى وجوه القوم عنده، فكان اجسمهم و امدهم قامه سراقه بن مالك بن جعشم المدلجى.

فقال: يا سراق، قم فالبس، قال سراقه: طمعت فيه فقمت فلبست، فقال: ادبر فادبرت، و قال: اقبل، فاقبلت، فقال: بخ بخ! اعرابى من بنى مدلج، عليه قباء كسرى و سراويله و سيفه و منطقته و تاجه و خفاه! رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا من متاع كسرى و آل كسرى لكان شرفا لك و لقومك.

انزع! فنزعت، فقال: اللهم انك منعت هذا نبيك و رسولك، و كان احب اليك منى و اكرم، و منعته ابابكر و كان احب اليك منى و اكرم، ثم اعطيتنيه، فاعوذ بك ان تكون اعطيتنيه لتمكر بى.

ثم بكى حتى رحمه من كان عنده.

و قال لعبد الرحمن
بن عوف: اقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل ان تمسى، فما ادركه المساء الا و قد بيع و قسم ثمنه على المسلمين.

جى ء بتاج كسرى الى عمر، فاستعظم الناس قيمته، للجواهر التى كانت عليه، فقال: ان قوما ادوا هذا لامناء! فقال على (ع): انك عففت فعفوا، و لو رتعت لرتعوا: كان عمر يعس ليلا، فنزلت رفقه من التجار بالمصلى، فقال لعبد الرحمن بن عوف: هل لك ان تحرسهم الليله من السرق؟ فباتا يحرسانهم، و يصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبى، فاصغى نحوه، فطال بكاوه، فتوجه اليه، فقال لامه: اتقى الله و احسنى الى صبيك.

ثم عاد الى مكانه، فسمع بكائه، فعاد الى امه، فقال لها مثل ذلك، ثم عاد الى مكانه، فسمع بكائه، فاتى امه، فقال: ويحك! انى لاراك ام سوء! لاارى ابنك يقر منذ الليله! فقالت: يا عبدالله، لقد آذيتنى منذ الليله، انى اريغه على الفطام فيابى، قال: و لم؟ قالت لان عمر لا يفرض لرضيع، و انما يفرض للفطيم، قال: و كم له؟ قالت اثنا عشر شهرا، قال: ويحك لاتعجليه! فصلى الفجر و ما يستبين الناس قرائته من غلبه البكاء عليه، فلما سلم قال: يا بوسا لعمركم! كم قتل من اولاد المسلمين، فطلب مناديا فنادى: الا لاتعجلوا صبيانكم عن الرضاع، و لاتفطموا قبل اوان ا
لفطام، فانا نفرض لكل مولود فى الاسلام.

و كتب بذلك الى سائر الافاق.

مر عمر بشاب من الانصار و هو ظمان، فاستسقاه، فخاض له عسلا، فرده و لم يشرب و قال: انى سمعت الله سبحانه، يقول: (اذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا و استمتعتم بها) فقال الفتى: انها و الله ليست لك، فاقرا يا اميرالمومنين ما قبلها: (و يوم يعرض الذين كفروا على النار اذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا)، افنحن منهم! فشرب، و قال: كل الناس افقه من عمر! و اوصى عمر حين طعنه ابولولوه من يستخلفه المسلمون بعده من اهل الشورى، فقال: اوصيك بتقوى الله لا شريك له، و اوصيك بالمهاجرين الاولين خيرا، ان تعرف لهم سابقتهم، و اوصيك بالانصار خيرا، اقبل من محسنهم، و تجاوز عن مسيئهم.

و اوصيك باهل الامصار خيرا، فانهم ردء العدو، و جباه الفى ء، لاتحمل فيئهم الى غيرهم الا عن فضل منهم، و اوصيك باهل الباديه خيرا، فانهم اصل العرب، و ماده الاسلام، ان يوخذ من حواشى اموالهم، فيرد على فقرائهم، و اوصيك باهل الذمه خيرا، ان تقاتل من ورائهم، و لا تكلفهم فوق طاقتهم اذا ادوا ما عليهم للمسلمين طوعا او عن يد و هم صاغرون.

و اوصيك بتقوى الله، و شده الحذر منه و مخافه مقته، ان يطلع منك على ريبه.

و اوصي
ك ان تخشى الله فى الناس، و لاتخشى الناس فى الله، و اوصيك بالعدل فى الرعيه، و التفرغ لحوائجهم و ثغورهم، و الا تعين غنيهم على فقيرهم، فان فى ذلك باذن الله سلامه لقلبك، و حطا لذنوبك، و خيرا فى عاقبه امرك.

و اوصيك ان تشتد فى امر الله و فى حدوده، و الزجر عن معاصيه، على قريب الناس و بعيدهم، و لاتاخذك الرافه و الرحمه فى احد منهم، حتى تنتهك منه مثل جرمه، و اجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، لاتاخذك فى الله لومه لائم.

و اياك و الاثره و المحاباه فيما ولاك الله مما افاء الله على المسلمين، فتجور و تظلم، و تحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، فانك فى منزله من منازل الدنيا، و انت الى الاخره جد قريب، فان صدقت فى دنياك عفه و عدلا فيما بسط لك، اقترفت رضوانا و ايمانا، و ان غلبك الهوى، اقترفت فيه سخط الله و مقته.

و اوصيك الا ترخص لنفسك و لا لغيرك فى ظلم اهل الذمه.

و اعلم انى قد اوصيتك و خصصتك و نصحت لك، ابتغى بذلك وجه الله و الدار الاخره، و دللتك على ما كنت دالا عليه نفسى، فان عملت بالذى وعظتك، و انتهيت الى الذى امرتك، اخذت منه نصيبا وافرا، و حظا وافيا و ان لم تقبل ذلك، و لم تعمل و لم تترك معاظم الامور عند الذى ير
ضى الله به سبحانه عنك، يكن ذاك بك انتقاصا، و يكن رايك فيه مدخولا، فالاهواء مشتركه، و راس الخطيئه ابليس الداعى الى كل هلكه، قد اضل القرون السالفه قبلك، و اوردهم النار، و لبئس الثمن ان يكون حظ امرى ء من دنياه موالاه عدو الله، الداعى الى معاصيه! اركب الحق، و خض اليه الغمرات، و كن واعظا لنفسك.

و انشدك لما ترحمت الى جماعه المسلمين، و اجللت كبيرهم، و رحمت صغيرهم، و قربت عالمهم.

لاتضربهم فيذلوا، و لا تستاثر عليهم بالفى ء فتغضبهم، و لا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم، و لا تجمرهم فى البعوث فتقطع نسلهم، و لاتجعل الاموال دوله بين الاغنياء منهم، و لاتغلق بابك دونهم، فياكل قويهم ضعيفهم.

هذه وصيتى اياك، و اشهد الله عليك.

و اقرا عليك السلام، و الله على كل شى ء شهيد.

و خطب عمر فقال: لايبلغنى ان امراه تجاوز صداقها صداق زوجات رسول الله (ص) الا ارتجعت ذلك منها.

فقامت اليه امراه، فقالت: و الله ما جعل الله ذلك لك، انه تعالى يقول: (و آتيتم احداهن قنطارا فلا تاخذوا منه شيئا).

فقال: عمر: الا تعجبون من امام اخطا، و امراه اصابت! ناضلت امامكم فنضلته! و كان يعس ليله، فمر بدار سمع فيها صوتا، فارتاب و تسور، فراى رجلا عند امراه و زق خمر
، فقال: يا عدو الله، اظننت ان الله يسترك و انت على معصيته! فقال: لاتعجل يا اميرالمومنين، ان كنت اخطات فى واحده فقد اخطات فى ثلاث: قال الله تعالى: (و لاتجسسوا) و قد تجسست، و قال: (و اتوا البيوت من ابوابها).

و قد تسورت، و قال: (فاذا دخلتم بيوتا فسلموا) و ما سلمت.

فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك؟ قال: نعم، و الله لااعود، فقال: اذهب فقد عفوت عنك.

و خطب يوما، فقال: ايها الناس، ما الجزع مما لا بد منه! و ما الطمع فيما لايرجى! و ما الحيله فيما سيزول! و انما الشى ء من اصله، و قد مضت قبلكم الاصول و نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب اصله! انما الناس فى هذه الدنيا اغراض تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب، فى كل جرعه شرق، و فى كل اكله غصص، لاتنالون نعمه الا بفراق اخرى، و لايستقبل معمر من عمره يوما الا بهدم آخر من اجله، و هم اعوان الحتوف على انفسهم، فاين المهرب مما هو كائن! ما اصغر المصيبه اليوم، مع عظم الفائده غدا! و ما اعظم خيبه الخائب، و خسران الخاسر، (يوم لاينفع مال و لا بنون الا من اتى الله بقلب سليم)! و اكثر الناس روى هذا الكلام لعلى (ع)، و قد ذكره صاحب "نهج البلاغه" و شرحناه فيما سبق.

حمل من العراق الى عمر مال فخرج
هو و مولى له، فنظر الى الابل فاستكثرها، فجعل يقول: الحمد لله، يكررها و يرددها، و جعل مولاه يقول: هذا من فضل الله و رحمته.

و يكررها و يرددها.

فقال عمر: كذبت لا ام لك! اظنك ذهبت الى ان هذا هو ما عناه سبحانه، بقوله: (قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا)، و انما ذلك الهدى، اما تسمعه يقول: (هو خير مما يجمعون)! و هذا مما يجمعون.

و روى الاحنف بن قيس، قال: قدمنا على عمر بفتح عظيم نبشره به، فقال: اين نزلتم؟ قلنا: فى مكان كذا، فقام معنا حتى انتهينا الى مناخ ركابنا، و قد اضعفها الكلال، و جهدها السير، فقال: هلا اتقيتم الله فى ركابكم هذه؟ اما علمتم ان لها عليكم حقا! هلا ارحتموها؟ هلا حللتم بها فاكلت من نبات الارض! فقلنا: يا اميرالمومنين، انا قدمنا بفتح عظيم، فاحببنا التسرع اليك و الى المسلمين بما يسرهم.

فانصرف راجعا و نحن معه، فاتى رجل فقال: يا اميرالمومنين ان فلانا ظلمنى، فاعدنى عليه، فرفع فى السماء درته، و ضرب بها راسه، و قال: تدعون عمر و هو معرض لكم، حتى اذا شغل فى امر المسلمين اتيتموه: اعدنى اعدنى! فانصرف الرجل يتذمر، فقال عمر على بالرجل، فجى ء به فالقى اليه المخفقه، فقال: اقتص، قال: بل ادعه لله و لك، قال: ليس كذلك،
بل تدعه اما لله و اراده ما عنده، و اما تدعه لى، قال: ادعه لله، قال: انصرف.

ثم جاء حتى دخل منزله، و نحن معه، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس فقال: يا بن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، و كنت ضالا فهداك الله، و كنت ذليلا فاعزك الله، ثم حملك على رقاب الناس، فجاء رجل يستعديك على من ظلمه.

فضربته، ما ذا تقول لربك غدا! فجعل يعاتب نفسه معاتبه ظننت انه من خير اهل الارض.

و ذكر ابوعبيد القاسم بن سلام فى "غريب الحديث" ان رجلا اتى عمر يساله، و يشكو اليه الفقر، فقال: هلكت يا اميرالمومنين، فقال: اهلكت و انت تنث نثيث الحميت! اعطوه.

فاعطوه ربعه من مال الصدقه، تبعها ظئراها.

ثم انشا يحدث عن نفسه، فقال لقد رايتنى و اختا لى نرعى على ابوينا ناضحا لنا، قد البستنا امنا نقبتها، و زودتنا يمنتيها هبيدا فنخرج بناضحنا، فاذا طلعت الشمس، القيت النقبه الى اختى، و خرجت اسعى عريان، فنرجع الى امنا، و قد جعلت لنا لفيته من ذلك الهبيد، فيا خصباه! و روى ابن عباس رضى الله عنه، قال: دخلت على عمر فى اول خلافته، و قد القى له صاع من تمر على خصفه، فدعانى الى الاكل، فاكلت تمره واحده، و اقبل ياكل حتى اتى عليه، ثم شرب من جر كان عنده، و استلقى على مرفقه له، و طف
ق يحمد الله يكرر ذلك، ثم قال: من اين جئت يا عبدالله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعنى عبدالله بن جعفر، قلت: خلفته يلعب مع اترابه، قال: لم اعن ذلك، انما عنيت عظيمكم اهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان، و هو يقرا القرآن، قال: يا عبدالله، عليك دماء البدن ان كتمتنيها! هل بقى فى نفسه شى ء من امر الخلافه؟ قلت: نعم، قال: ايزعم ان رسول الله (ص) نص عليه؟ قلت: نعم و ازيدك سالت، ابى عما يدعيه، فقال: صدق، فقال عمر: لقد كان من رسول الله (ص) فى امره ذرو من قول لايثبت حجه، و لايقطع عذرا، و لقد كان يربع فى امره وقتا ما، و لقد اراد فى مرضه ان يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقا و حيطه على الاسلام، لا و رب هذه البنيه لاتجتمع عليه قريش ابدا! و لو وليها لانتقضت عليه العرب من اقطارها، فعلم رسول الله (ص) انى علمت ما فى نفسه، فامسك، و ابى الله الا امضاء ما حتم.

ذكر هذا الخبر احمد بن ابى طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد فى كتابه، مسندا.

ابتنى ابوسفيان دارا بمكه فاتى اهلها عمر، فقالوا: انه قد ضيق علينا الوادى، و اسال علينا الماء، فاتاه عمر فقال: خذ هذا الحجر فضعه هناك، و ارفع هذا و اخفض هذا، ففعل، فقال: الحمد
لله الذى اذل اباسفيان بابطح مكه.

و قال عمر: و الله لقد لان قلبى فى الله حتى لهو الين من الزبد، و لقد اشتد قلبى فى الله حتى لهو اشد من الحجر.

كان عمر اذا اتاه الخصمان برك على ركبتيه و قال: اللهم اعنى عليهما.

فان كلا منهما يريدنى عن دينى.

و خطب عمر، فقال: ايها الناس، انما كنا نعرفكم و النبى (ص) بين اظهرنا، اذ ينزل الوحى، و اذ ينبئنا الله من اخباركم، الا و ان النبى (ص) قد انطلق، و الوحى قد انقطع، و انما نعرفكم بما يبدو منكم.

من اظهر خيرا ظننا به خيرا، و احببناه عليه، و من اظهر شرا ظننا به شرا، و ابغضناه عليه.

سرائركم بينكم و بين ربكم.

الا انه قد اتى على حين، و انا احسب انه لايقرا القرآن احد الا يريد به وجه الله و ما عندالله، و قد خيل الى باخره، ان رجالا قد قرئوه يريدون به ما عند الناس، فاريدوا الله بقرائتكم، و اريدوا الله باعمالكم.

الا و انى لاارسل عمالى اليكم ايها الناس ليضربوا ابشاركم، و لا لياخذوا اموالكم، و لكن ارسلهم اليكم ليعلموكم دينكم و سنتكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه الى لاقتص له، فقد رايت رسول الله (ص) يقتص من نفسه.

الا لاتضربوا المسلمين فتذلوهم، و لاتمنعوهم حقوقهم فتفقروهم، و لاتنزلوهم الغياض فتضيع
وهم.

و قال مره: قد اعيانى اهل الكوفه، ان استعملت عليهم لينا استضعفوه، و ان استعملت عليهم شديدا شكوه! و لوددت انى وجدت رجلا قويا امينا استعمله عليهم.

فقال له رجل: انا ادلك يا اميرالمومنين على الرجل القوى الامين، قال: من هو؟ قال: عبدالله بن عمر، قال: قاتلك الله! و الله ما اردت الله بها، لاها الله! لااستعمله عليها و لا على غيرها، و انت فقم فاخرج، فمذ الان لااسميك الا المنافق.

فقام الرجل و خرج.

و كتب الى سعد بن ابى وقاص ان شاور طليحه بن خويلد و عمرو بن معديكرب فان كل صانع اعلم بصنعته، و لا تولهما من امر المسلمين شيئا.

و غضب عمر على بعض عماله، فكلم امراه من نساء عمر فى ان تسترضيه له، فكلمته فيه، فغضب، و قال: و فيم انت من هذا يا عدوه الله؟ انما انت لعبه نلعب بك و تفركين.

و من كلامه: اشكو الى الله جلد الخائن، و عجز الثقه.

قال عمرو بن ميمون: لقد رايت عمر بن الخطاب قبل ان يصاب بايام واقفا على حذيفه بن اليمان، و عثمان بن حنيف، و هو يقول لهما: اتخافان ان تكونا حملتما الارض ما لاتطيقه؟ فقالا: لا: انما حملناها امرا هى له مطيقه، فاعاد عليهما القول: انظرا ان تكونا حملتما الارض ما لاتطيقه! فقالا: لا، فقال عمر: ان عشت لادعن
ارامل العراق لايحتجن بعدى الى رجل ابدا، فما اتت عليه رابعه حتى اصيب.

كان عمر اذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا، و اشهد عليه رهطا من المسلمين الا يركب برذونا، و لا ياكل نقيا، و لايلبس رقيقا، و لا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللهم اشهد.

و استعمل عمر النعمان بن عدى بن نضله على ميسان: فبلغه عنه الشعر الذى قاله، و هو: من مبلغ الحسناء ان حليلها بميسان يسقى من زجاج و حنتم! اذا شئت غنتنى دهاقين قريه و صناجه تحدو على كل منسم فان كنت ندمانى فبالاكبر اسقنى و لاتسقنى بالاصغر المتثلم لعل اميرالمومنين يسوئه تنادمنا بالجوسق المتهدم فكتب اليه: بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا اله الا هو اليه المصير) اما بعد، فقد بلغنى قولك: لعل اميرالمومنين يسوئه و ايم الله انه ليسوئنى، فاقدم فقد عزلتك.

فلما قدم عليه، قال: يا اميرالمومنين، و الله ما شربتها قط، و انما هو شعر طفح على لسانى و انى لشاعر.

فقال عمر: اظن ذاك، و لكن لاتعمل لى على عمل ابدا.

استعمل عمر رجلا من قريش على عمل، فبلغه عنه انه قال: اسقنى شربه تروى عظامى و اسق بالله مث
لها ابن هشام فاشخصه اليه، و فطن القرشى، فضم اليه بيتا آخر، فلما مثل بين يديه، قال له انت القائل: اسقنى شربه تروى عظامى قال: نعم يا اميرالمومنين، فهلا ابلغك الواشى ما بعده؟ قال: ما الذى بعده؟ قال: عسلا باردا بماء غمام اننى لااحب شرب المدام قال: آلله آلله! ثم قال: ارجع الى عملك.

قال عمر: ايما عامل من عمالى ظلم احدا: ثم بلغتنى مظلمته، فلم اغيرها، فانا الذى ظلمته.

و قال للاحنف بن قيس، و قد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا: يا احنف، انى قد خبرتك و بلوتك، فرايت علانيتك حسنه، و انا ارجو ان تكون سريرتك مثل علانيتك، و ان كنا لنحدث انه انما يهلك هذه الامه كل منافق عليم.

و كتب عمر الى سعد بن ابى وقاص: ان "مترس" بالفارسيه هو الامان، فمن قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد امنتموه.

و قال لامير من امراء الشام: كيف سيرتك؟ كيف تصنع فى القرآن و الاحكام؟ فاخبره، فقال: احسنت، اذهب، فقد اقررتك على عملك.

فلما ولى رجع فقال: يا اميرالمومنين، انى رايت البارحه رويا اقصها عليك، رايت الشمس و القمر يقتتلان، و مع كل واحد منهما جنود من الكواكب، فقال: فمع ايهما كنت؟ قال: مع القمر، فقال: قد عزلتك، قال الله تعالى: (و جعلنا الليل و النهار آي
تين فمحونا آيه الليل و جعلنا آيه النهار مبصره) كان عمر جالسا فى المسجد، فمر به رجل، فقال: ويل لك يا عمر من النار! فقال: قربوه الى، فدنا منه، فقال: لم قلت لى ما قلت؟ قال: تستعمل عمالك، و تشترط عليهم ثم لاتنظر هل وفوا لك بشروط ام لا؟ قال: و ما ذاك؟ قال عاملك على مصر اشترطت عليه، فترك ما امرته به، و ارتكب ما نهيته عنه، ثم شرح له كثيرا من امره.

فارسل عمر رجلين من الانصار، فقال لهما: انتهيا اليه، فاسالا عنه، فان كان كذب عليه فاعلمانى، و ان رايتما ما يسوء كما فلا تملكاه من امره شيئا حتى تاتيا به، فذهبا فسالا عنه، فوجداه قد صدق عليه، فجائا الى بابه، فاستاذنا عليه، فقال حاجبه: انه ليس عليه اليوم اذن، قالا: ليخرجن الينا او لنحرقن عليه بابه.

و جاء احدهما بشعله من نار، فدخل الاذن، فاخبره فخرج اليهما، قالا: انا رسولا عمر اليك لتاتيه، قال: ان لنا حاجه، تمهلاننى لاتزود، قالا: انه عزم علينا الا نمهلك، فاحتملاه، فاتيا به عمر.

فلما اتاه سلم عليه فلم يعرفه، و قال: من انت؟- و كان رجلا اسمر، فلما اصاب من ريف مصر ابيض و سمن- فقال: انا عاملك على مصر، انا فلان، قال: ويحك! ركبت ما نهيت عنه، و تركت ما امرت به! و الله لاعاقبنك عقوبه
ابلغ اليك فيها، آتونى بكساء من صوف، و عصا و ثلاثمائه شاه من غنم الصدقه، فقال: البس هذه الدراعه، فقد رايت اباك و هذه خير من دراعته، و خذ هذه العصا فهى خير من عصا ابيك، و اذهب بهذه الشياه فارعها فى مكان كذا- و ذلك فى يوم صائف- و لا تمنع السابله من البانها شيئا الا آل عمر، فانى لااعلم احدا من آل عمر اصاب من البان غنم الصدقه و لحومها شيئا.

فلما ذهب رده، و قال: افهمت ما قلت! فضرب بنفسه الارض، و قال يا اميرالمومنين، لااستطيع هذا، فان شئت فاضرب عنقى، قال: فان رددتك فاى رجل تكون؟ قال: و الله لايبلغك بعدها الا ما تحب.

فرده، فكان نعم الرجل.

و قال عمر: و الله لا انزعن فلانا من القضاء حتى استعمل عوضه رجلا اذا رآه الفاجر فرق.

و روى عبدالله بن بريده، قال: بينا عمر يعس ذات ليله انتهى الى باب متجاف، و امراه تغنى نسوه: هل من سبيل الى خمر فاشربها ام هل سبيل الى نصر بن حجاج فقال عمر: اما ما عشت فلا.

فلما اصبح دعا نصر بن حجاج- و هو نصر بن الحجاج بن علابط البهزى السلمى- فابصره و هو من احسن الناس وجها، و اصبحهم و املحهم حسنا، فامر ان يطم شعره، فخرجت جبهته فازداد حسنا، فقال له عمر: اذهب فاعتم، فاعتم فبدت وفرته، فامر بحلقها فاز
داد حسنا، فقال له: فتنت نساء المدينه يا بن حجاج! لا تجاورنى فى بلده انا مقيم بها، ثم سيره الى البصره.

فروى الاصمعى، قال: ابرد عمر بريدا الى عتبه بن ابى سفيان بالبصره، فاقام بها اياما، ثم نادى منادى عتبه: من اراد ان يكتب الى اهله بالمدينه او الى اميرالمومنين شيئا، فليكتب، فان بريد المسلمين خارج.

فكتب الناس، و دس نصر بن حجاج كتابا فيه: لعبد الله عمر اميرالمومنين من نصر بن حجاج، سلام عليك، اما بعد، يا اميرالمومنين: لعمرى لئن سيرتنى او حرمتنى لما نلت من عرضى عليك حرام ائن غنت الذلفاء يوما بمنيه و بعض امانى النساء غرام ظننت بى الظن الذى ليس بعده بقاء فما لى فى الندى كلام و اصبحت منفيا على غير ريبه و قد كان لى بالمكتين مقام سيمنعنى مما تظن تكرمى و آباء صدق سالفون كرام و يمنعها مما تمنت صلاتها و حال لها فى دينها و صيام فهاتان حالانا فهل انت راجع فقد جب منى كاهل و سنام فقال عمر: اما ولى ولايه فلا.

و اقطعه ارضا بالبصره و دارا.

فلما قتل عمر ركب راحلته و لحق بالمدينه.

و ذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالى، قال: كان عمر اصلع، فلما حلق وفره نصر ابن حجاج، قال نصر، و كان شاعرا: تضن ابن خطاب على بجم
ه اذا رجلت تهتز هز السلاسل فصلع راسا لم يصلعه ربه يرف رفيفا بعد اسود جائل لقد حسد الفرعان اصلع لم يكن اذا ما مشى بالفرع بالمتخايل محمد بن سعيد، قال: بينا يطوف عمر فى بعض سكك المدينه، اذ سمع امراه تهتف من خدرها: هل من سبيل الى خمر فاشربها ام هل سبيل الى نصر بن حجاج الى فتى ماجد الاعراق مقتبل سهل المحيا كريم غير ملجاج تنميه اعراق صدق حين تنسبه اخى قداح عن المكروب فراج سامى النواظر من بهز له قدم تضى ء صورته فى الحالك الداجى فقال عمر: الا لاادرى معى رجلا يهتف به العواتق فى خدورهن! على بنصر ابن حجاج، فاتى به، فاذا هو احسن الناس وجها و عينا و شعرا، فامر بشعره فجز، فخرجت له وجنتان كانه قمر، فامره ان يعتم فاعتم، ففتن النساء بعينيه، فقال عمر: لا و الله لا تساكننى بارض انا بها، قال: و لم يا اميرالمومنين؟ قال: هو ما اقول لك، فسيره الى البصره.

و خافت المراه التى سمع عمر منها ما سمع ان يبدر اليها منه شى ء، فدست اليه ابياتا: قل للامير الذى تخشى بوادره ما لى و للخمر او نصر بن حجاج انى بليت اباحفص بغيرهما شرب الحليب و طرف فاتر ساج لاتجعل الظن حقا او تبينه ان السبيل سبيل الخائف الراجى
ما منيه قلتها عرضا بضائره و الناس من هالك قدما و من ناج ان الهوى رعيه التقوى تقيده حتى اقر بالجام و اسراج فبكى عمر، و قال: الحمد لله الذى قيد الهوى بالتقوى.

و اتته يوما ام نصر حين اشتدت عليها غيبه ابنها، فتعرضت لعمر بين الاذان و الاقامه، فقعدت له على الطريق، فلما خرج يريد الصلاه هتفت به، و قالت: يا اميرالمومنين لاجاثينك غدا بين يدى الله عز و جل، و لاخاصمنك اليه، يبيت عاصم و عبدالله الى جانبيك و بينى و بين ابنى الفيافى و القفار، و المفاوز و الجبال! قال: من هذه؟ قيل: ام نصر بن حجاج، فقال: يا ام نصر، ان عاصما و عبدالله لم تهتف بهما العواتق من وراء الخدور.

و يروى ان نصر بن الحجاج لما سيره عمر الى البصره نزل بها على مجاشع بن مسعود السلمى، و كان خليفه ابى موسى عليها، و كانت له امراه شابه جميله فهويت نصرا، و هويها فبينا الشيخ جالس و نصر عنده اذ كتب فى الارض شيئا، فقراته المراه، فقالت: "انا و الله"، فقال مجاشع: ما قال لك؟ قالت: انه قال: ما اصفى لقحتكم هذه؟ فقال مجاشع: ان الكلمه التى قلت ليست اختا لهذا الكلام، عزمت عليك لما اخبرتنى! قالت: انه قال: ما احسن سوار ابنتكم هذه؟ قال: و لا هذه فانه، كتب فى الارض، فراى
الخط فدعا باناء فوضعه عليه، ثم احضر غلاما من غلمانه، فقال: اقرا، فقراه و اذا هو: انا و الله احبك، فقال: هذه لهذه، اعتدى ايتها المراه، و تزوجها يا بن اخى ان اردت.

ثم غدا على ابى موسى، فاخبره، فقال ابوموسى: اقسم ما اخرجه عمر عن المدينه من خير، ثم طرده الى فارس و عليها عثمان بن ابى العاص الثقفى، فنزل على دهقانه، فاعجبها فارسلت اليه، فبلغ خبرها عثمان، فبعث اليه ان اخرج عن ارض فارس، فانك لم تخرج عن المدينه و البصره من خير، فقال: و الله لئن اخرجتمونى لالحقن ببلاد الشرك، فكتب بذلك الى عمر، فكتب ان جزوا شعره و شمروا قميصه، و الزموه المساجد.

و روى عبدالله بن بريده ان عمر خرج ليلا يعس، فاذا نسوه يتحدثن، و اذا هن يقلن: اى فتيان المدينه اصبح؟ فقالت امراه منهن: ابوذويب و الله.

فلما اصبح عمر سال عنه، فاذا هو من بنى سليم، و اذا هو ابن عم نصر بن حجاج، فارسل اليه، فحضر، فاذا هو اجمل الناس و املحهم، فلما نظر اليه قال: انت و الله ذئبها! يكررها و يرددها، لا و الذى نفسى بيده لاتجامعنى بارض ابدا.

فقال: يا اميرالمومنين ان كنت لا بد مسيرى فسيرنى حيث سيرت ابن عمى نصر ابن حجاج، فامر بتسييره الى البصره، فاشخص اليها.

خطب عمر فى الليله
التى دفن فيها ابوبكر، فقال: ان الله تعالى نهج سبيله، و كفانا برسوله، فلم يبق الا الدعاء و الاقتداء.

الحمد لله الذى ابتلانى بكم و ابتلاكم بى، و ابقانى فيكم بعد صاحبى، و اعوذ بالله ان ازل او اضل، فاعادى له وليا، او اوالى له عدوا.

الا انى و صاحبى كنفر ثلاثه قفلوا من طيبه، فاخذ احدهم مهله الى داره و قراره فسلك ارضا مضيئه متشابهه الاعلام، فلم يزل عن الطريق، و لم يحرم السبيل، حتى اسلمه الى اهله، ثم تلاه الاخر فسلك سبيله، و اتبع اثره، فافضى اليه و لقى صاحبه، ثم تلاهما الثالث، فان سلك سبيلهما و اتبع اثرهما افضى اليهما و لاقاهما، و ان زل يمينا او شمالا لم يجامعهما ابدا.

الا و ان العرب جمل انف قد اعطيت خطامه، الا و انى حامله على المحجه و مستعين بالله عليه.

الا و انى داع فامنوا، اللهم انى شحيح فسخنى.

اللهم انى غليظ فلينى.

اللهم انى ضعيف فقونى.

اللهم اوجب لى بموالاتك و موالاه اوليائك ولايتك و معونتك، و ابرئنى من الافات بمعاداه اعدائك، و توفنى مع الابرار، و لاتحشرنى فى زمره الاشقياء.

اللهم لاتكثر لى من الدنيا فاطغى، و لا تقلل لى فاشقى، فان ما قل و كفى خير مما كثر و الهى.

وفد على عمر قوم من اهل العراق، منهم جرير بن عبدالل
ه، فاتاهم بجفنه قد صبغت بخل و زيت، و قال: خذوا، فاخذوا اخذا ضفيفا، فقال: ما بالكم تقرمون قرم الشاه الكسيره! اظنكم تريدون حلوا و حامضا، و حارا و باردا، ثم قذفا البطون، لو شئت ان ادهمق لكم لفعلت، و لكنا نستبقى من دنيانا ما نجده فى آخرتنا، و لو شئنا ان نامر بصغار الضان فتسمط، و لبات الخبز فيخبز، و نامر بالزبيب فينبذ لنا فى الاسعان حتى اذا صار مثل عين اليعقوب، اكلنا هذا و شربنا هذا لفعلت! و الله انى ما اعجز عن كراكر و اسنمه و صلائق و صناب، لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم امرا فعلوه (اذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا).

و انى نظرت فى هذا الامر، فجعلت ان اردت الدنيا اضررت بالاخره، و ان اردت الاخره اضررت بالدنيا، و اذا كان الامر هكذا، فاضروا بالفانيه.

خرج عمر يوما الى المسجد، و عليه قميص فى ظهره اربع رقاع، فقرا حتى انتهى الى قوله: (و فاكهه و ابا)، فقال: ما الاب؟ ثم قال: ان هذا لهو التكلف! و ما عليك يا بن الخطاب الا تدرى ما الاب! و جاء قوم من الصحابه الى حفصه فقالوا: لو كلمت اباك فى ان يلين من عيشه، لعله اقوى له على النظر فى امور المسلمين! فجائته فقالت: ان ناسا من قومك كلمونى فى ان اكلمك فى ان تلين من عيشك.

فقال: يا بنيه
، غششت اباك، و نصحت لقومك.

و روى سالم بن عبدالله بن عمر، قال: لما ولى عمر قعد على رزق ابى بكر الذى كان فرضه لنفسه، فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين، منهم على و عثمان و طلحه و الزبير، و قالوا: لو قلنا لعمر يزيد فى رزقه! فقال عثمان: انه عمر، فهلموا فلنستبن ما عنده من وراء وراء، ناتى حفصه فنكلمها و نستكتمها اسمائنا.

فدخلوا عليها، و سالوها ان تكلمه و لا تخبره باسماء من اتاها الا ان يقبل.

فلقيت عمر فى ذلك، فرات الغضب فى وجهه، و قال: من اتاك؟ قالت: لا سبيل الى ذلك، فقال: لو علمت من هم لسوت اوجههم، انت بينى و بينهم! نشدتك الله ما افضل ما اقتنى رسول الله (ص) فى بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبان ممشقان.

كان يلبسهما للوفد، و يخطب فيهما فى الجمع، قال: فاى طعام ناله عندك ارفع؟ قالت: خبزنا مره خبزه شعير، فصببت عليها- و هى حاره اسفلها- عكه لنا كان فيها سمن و عسل، فجعلتها هشه حلوه دسمه، فاكل منها فاستطابها، قال: فاى مبسط كان يبسط عندك اوطا؟ قالت: كساء ثخين كنا نرقعه فى الصيف فنجعله ثخينا، فاذا كان الشتاء بسطنا نصفه، و تدثرنا بنصفه، قال: فابلغيهم ان رسول الله (ص) قدر فوضع الفضول مواضعها، و تبلغ ما ابر، و انى قدرت فو الله لاض
عن الفضول مواضعها، و لاتبلغن ما ابر حبه.

وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الافاق، فوضع لهم بسطا من عباء، و قدم اليهم طعاما غليظا، فقالت له ابنته حفصه ام المومنين: انهم وجوه الناس و كرام العرب، فاحسن كرامتهم.

فقال: يا حفصه، اخبرينى بالين فراش فرشته لرسول الله (ص) و اطيب طعام اكله عندك قالت اصبنا كساء ملبدا عام خيبر فكنت افرشه له فينام عليه، و انى رفعته ليله، فلما اصبح قال: ما كان فراشى الليله؟ قلت: فراشك كل ليله، الا انى الليله رفعته لك ليكون اوطا، فقال: اعيديه لحالته الاولى، فان وطائته منعتنى الليله من الصلاه.

و كان لنا صاع من دقيق سلت، فنخلته يوما و طبخته له، و كان لنا قعب من سمن فصببته عليه، فبينا هو (ع) ياكل اذ دخل ابوالدرداء، فقال: ارى سمنكم قليلا، و ان لنا لقعبا من سمن، قال (ع): فارسل فات به، فجاء به فصبه عليه فاكل، فهذا اطيب طعام اكله عندى رسول الله (ص).

فارسل عمر عينيه بالبكاء، و قال لها: و الله لا ازيدهم على ذلك العباء و ذلك الطعام شيئا و هذا فراش رسول الله (ص)، و هذا طعامه.

لما قدم عتبه بن مرثد اذربيجان اتى بالخبيص، فلما اكله وجد شيئا حلوا طيبا، فقال: لو صنعت من هذا لاميرالمومنين! فجعل له خبيصا فى
منقلين عظيمين، و حملهما على بعيرين الى المدينه، فقال عمر: ما هذا قالوا الخبيص، فذاقه فوجده حلوا، فقال: للرسول: ويحك! اكل المسلمين عندكم يشبع من هذا؟ قال: لا، قال: فارددهما.

ثم كتب الى عتبه، اما بعد، فان خبيصك الذى بعثته ليس من كد ابيك و لا من كد امك، اشبع المسلمين مما تشبع منه فى رحلك و لا تستاثر، فان الاثره شر و السلام.

و روى عتبه بن مرثد ايضا، قال: قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس، فى سلال عظام، فقال: ما هذه؟ قلت: طعام طيب، اتيتك به، قال: ويحك! و لم خصصتنى به؟ قلت: انت رجل تقضى حاجات الناس اول النهار، فاحببت اذا رجعت الى منزلك ان ترجع الى طعام طيب، فتصيب منه فتقوى على القيام بامرك.

فكشف عن سله منها فذاق فاستطاب، فقال: عزمت عليك يا عتبه اذا رجعت الا رزقت كل رجل من المسلمين مثله! قلت: و الذى يصلحك يا اميرالمومنين لو انفقت عليه اموال قيس كلها لما وسع ذلك، قال: فلا حاجه لى فيه اذا.

ثم دعا بقصعه من ثريد، و لحم غليظ، و خبز خشن، فقال: كل، ثم جعل ياكل اكلا شهيا، و جعلت اهوى الى البضعه البيضاء احسبها سناما، و اذا هى عصبه، و اهوى الى البضعه من اللحم امضغها، فلا اسيغها، و اذا هى من علباء العنق، فاذا غفل عنى جعلتها بي
ن الخوان و القصعه، فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلا، فقال: اشرب، فلم استطعه و لم اسغه ان اشرب، فشرب، ثم نظر الى و قال: ويحك انه ليس بدرمك العراق و ودكه، و لكن ما تاكله انت و اصحابك.

ثم قال: اسمع انا ننحر كل يوم جزورا، فاما اوراكها و ودكها و اطايبها فلمن حضرنا من المهاجرين و الانصار، و اما عنقها فلال عمر، و اما عظامها و اضلاعها فلفقراء المدينه، ناكل من هذا اللحم الغث، و نشرب من هذا النبيذ الخاثر، و ندع لين الطعام ليوم تذهل كل مرضعه عما ارضعت، و تضع كل ذات حمل حملها.

حضر عند عمر قوم من الصحابه، فاثنوا عليه، و قالوا: و الله ما راينا يا اميرالمومنين رجلا اقضى منك بالقسط، و لااقول بالحق، و لااشد على المنافقين منك! انك لخير الناس بعد رسول الله (ص).

فقال عوف بن مالك: كذبتم و الله، ابوبكر بعد رسول الله، خير امته راينا ابابكر.

فقال عمر: صدق عوف و الله و كذبتم! لقد كان ابوبكر و الله اطيب من ريح المسك، و انا اضل من بعير اهلى.

لما اتى عمر الخبر بنزول رستم القادسيه، كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن اهل القادسيه من حين يصبح الى انتصاف النهار، ثم يرجع الى اهله، فلما جاء البشير بالفتح، لقيه كما يلقى الركبان من قبل، فساله فاخ
بره، فجعل يقول: يا عبدالله، ايه! حدثنى! فيقول له: هزم الله العدو، و عمر يحث معه، و يساله و هو راجل، و البشير يسير على ناقته و لايعرفه، فلما دخل المدينه اذا الناس يسلمون عليه باسمه بامره المومنين و يهنئونه، فنزل الرجل، و قال هلا اخبرتنى يا اميرالمومنين رحمك الله! و جعل عمر يقول: لا عليك يا بن اخى، لا عليك يا بن اخى! و روى ابوالعاليه الشامى، قال: قدم عمر الجابيه، على جمل اورق، تلوح صلعته، ليس عليه قلنسوه، تصل رجلاه بين شعبتى رحله، بغير ركاب، وطاوه كساء انبجانى كثير الصوف، و هو وطاوه اذا ركب، و فراشه اذا نزل، و حقيبته نمره محشوه ليفا، هى حقيبته اذا ركب، و وسادته اذا نزل، و عليه قميص من كرابيس قد دسم و تخرق جيبه، فقال: ادعوا الى راس القريه.

فدعوه له، فقال: اغسلوا قميصى هذا و خيطوه، و اعيرونى قميصا ريثما يجف قميصى، فاتوه بقميص كتان، فعجب منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: كتان.

قال و ما الكتان؟ فاخبروه، فلبسه ثم غسل قميصه، و اتى به فنزع قميصهم و لبس قميصه، فقال له راس القريه: انت ملك العرب، و هذه بلاد لايصلح بها ركوب الابل، فاتى ببرذون، فطرحت عليه قطيفه بغير سرج فركبه، فهملج، تحته، فقال للناس: احبسوا، فحبسوه، فقال: ما كنت
اظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا! قدموا لى جملى.

فجى ء به فنزل عن البرذون و ركبه.

قدم عمر الشام، فلقيه امراء، الاجناد و عظماء تلك الارض، فقال: و اين اخى؟ قالوا: من هو؟ قال ابوعبيده، قالوا: سياتيك الان، فجاء ابوعبيده على ناقه مخطومه بحبل، فسلم عليه، و رد له، ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى اتى منزله، فنزل عليه، فلم ير فيه الا سيفا و ترسا، فقال له: لو اتخذت متاع البيت: قال: حسبى هذا يبلغنى المقيل.

و روى طارق بن شهاب، ان عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضه، فنزل عن بعيره، و نزع جرموقيه فامسكهما بيده، و خاض الماء و زمام بعيره فى يده الاخرى، فقال له ابوعبيده: لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند اهل هذه الارض! فصك فى صدره، و قال: لو غيرك قالها يا اباعبيده! انكم كنتم اذل الناس، و احقر الناس، و اقل الناس، فاعزكم الله بالاسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم الى الذل.

و روى محمد بن سعد صاحب الواقدى، ان عمر قال يوما على المنبر، لقد رايتنى و ما لى من اكال ياكله الناس، الا ان لى خالات من بنى مخزوم، فكنت استعذب لهن الماء، فيقبضن لى القبضات من الزبيب، فلما نزل قيل له: ما اردت بهذا؟ قال: وجدت فى نفسى باوا؟ فاردت ان اطاطى ء
منها.

و من كلام عمر: رحم الله امرا اهدى الى عيوبى.

قدم عمرو بن العاص على عمر، و كان واليا لمصر، فقال له: فى: كم سرت؟ قال: فى عشرين، قال عمر: لقد سرت سير عاشق! فقال عمرو: انى و الله ما تابطتنى الاماء، و لاحملتنى فى غبرات المالى، فقال عمر: و الله ما هذا بجواب الكلام الذى سالتك عنه! و ان الدجاجه لتفحص فى الرماد فتضع لغير الفحل، و انما تنسب البيضه الى طرقها.

فقام عمرو مربد الوجه.

قلت: المالى: خرق سود يحملها النوائح، و يسرن بها بايديهن عند اللطم، و اراد خرق الحيص هاهنا، و شبهها بتلك، و انكر عمر فخره بالامهات، و قال: ان الفخر للاب الذى اليه النسب.

و سالت النقيب اباجعفر عن هذا الحديث فى عمر، فقال: ان عمرا فخر على، عمر لان ام الخطاب زنجيه، و تعرف بباطحلى، تسمى صهاك.

فقلت له: و ام عمرو النابغه امه من سبايا العرب، فقال: امه عربيه من عنزه، سبيت فى بعض الغارات، فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الاماء الزنجيات.

فقلت له: اكان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت؟ قال: قد يكون بلغه عنه قول قدح فى نفسه فلم يحتمله له، و نفث بما فى صدره منه، و ان لم يكن جوابا مطابقا للسوال.

و قد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا، فقد جبهه الزبير مره
، و جعل يحكى كلامه يمططه، و جبهه سعد بن ابى وقاص ايضا، فاغضى عنه.

و مر يوما فى السوق على ناقه له فوثب غلام من بنى ضبه، فاذا هو خلفه، فالتفت اليه، فقال: فممن انت؟ قال.

ضبى، قال: جسور و الله، فقال الغلام: على العدو، قال عمر: و على الصديق ايضا، ما حاجتك؟ فقضى حاجته، ثم قال: دع الان لنا ظهر راحلتنا.

و من كلام عمر: اخشع عند القبور اذا نظرت اليها: و استعص عند المعصيه، و ذل عند الطاعه، و لا تبذلن كلامك الا عند من يشتهيه و يتخذه غنما، و لاتستعن على حاجتك الا بمن يحب نجاحها لك، و آخ الاخوان على التقوى، و شاور فى امرك كله، و اذا اشترى احدكم بعيرا فليشتره جسيما، فان اخطاته النجابه لم يخطئه السوق.

اوفد بشر بن مروان و هو على العراق رجلا الى عبدالملك، فساله عن بشر، فقال: يا اميرالمومنين، هو اللين فى غير ضعف، الشديد فى غير عنف، فقال عبدالملك: ذاك الاحوذى ابن حنتمه الذى كان يامن عنده البرى ء، و يخافه السقيم، و يعاقب على الذنب، و يعرف موضع العقوبه، لا بشر بن مروان! اذن عمر يوما للناس، فدخل شيخ كبير يعرج، و هو يقود ناقه رجيعا يجاذبها، حتى وقف بين ظهرانى الناس، ثم قال: و انك مسترعى و انا رعيه و انك مدعو بسيماك يا عمر لدى
يوم شر شره لشراره و خير لمن كانت موانسه الخير فقال عمر، لا حول و لا قوه الا بالله، من انت؟ قال: عمرو بن براقه، قال: ويحك! فما منعك ان تقول: (و اعلموا انما غنمتم من شى ء فان لله خمسه و للرسول).

ثم قراها الى آخرها، و امر بناقته فقبضت، و حمله على غيرها، و كساه و زوده.

بينا عمر يسير فى طريق مكه يوما اذا بالشيخ بين يديه يرتجز، و يقول: ما ان رايت كفتى الخطاب ابر بالدين و بالاحساب بعد النبى صاحب الكتاب فطعنه عمر بالسوط فى ظهره، فقال: ويلك! و اين الصديق! قال: ما لى بامره علم يا اميرالمومنين، قال: اما انك لو كنت عالما، ثم قلت هذا لاوجعت ظهرك.

قال زيد بن اسلم: كنت عند عمر، و قد كلمه عمرو بن العاص فى الحطيئه، و كان محبوسا، فاخرجه من السجن، ثم انشده: ما ذا تقول لافراخ بذى مرخ زغب الحواصل لا ماء و لا شجر القيت كاسبهم فى قعر مظلمه فاغفر عليك سلام الله يا عمر انت الامام الذى من بعد صاحبه القت اليه مقاليد النهى البشر ما آثروك بها اذ قدموك لها لكن لانفسهم كانت بك الاثر فبكى عمر لما قال له: (ما ذا تقول لافراخ)! فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول: ما اقلت الغبراء و لا اظلت الخضراء اتقى من رجل يبكى خوفا من
حبس الحطيئه! ثم قال عمر لغلامه يرفا: على بالكرسى، فجلس عليه، ثم قال: على بالطست، فاتى بها، ثم قال: على بالمخصف، لا بل على بالسكين، فاتى بها، فقال: لا بل على بالموسى، فانها اوجى، فاتى بموسى، ثم قال: اشيروا على فى الشاعر، فانه يقول الهجر، و ينسب بالحرم، و يمدح الناس و يذمهم بغير ما فيهم، و ما ارانى الا قاطعا لسانه! فجعل الحطيئه يزيد خوفا، فقال من حضر: انه لايعود يا اميرالمومنين، و اشاروا اليه قل: لا اعود يا اميرالمومنين، فقال: النجاء النجاء! فلما ولى ناداه: يا حطيئه! فرجع مرعوبا، فقال: كانى بك يا حطيئه عند فتى من قريش، قد بسط لك نمرقه، و كسر لك اخرى، ثم قال: غننا يا حطيئه، فطفقت تغنيه باعراض الناس.

قال: يا اميرالمومنين، لا اعود، و لايكون ذلك.

قال زيد بن اسلم: ثم رايت الحطيئه يوما بعد ذلك عند عبيدالله بن عمر، قد بسط له نمرقه و كسر له اخرى، ثم قال: تغنينا يا حطيئه، و هو يغنيه، فقلت: يا حطيئه، اما تذكر قول عمر لك! ففزع، و قال: رحم الله ذلك المرء! اما لو كان حيا ما فعلنا هذا.

قال: فقلت لعبيدالله بن عمر: سمعت اباك يذكر كذا، فكنت انت ذلك الفتى.

كان عمر يصادر خونه العمال، فصادر اباموسى الاشعرى، و كان عامله على البصره
، و قال له: بلغنى ان لك جاريتين، و انك تطعم الناس من جفنتين، و اعاده بعد المصادره الى عمله.

و صادر اباهريره، و اغلظ عليه، و كان عامله على البحرين، فقال له: الا تعلم انى استعملتك على البحرين، و انت حاف لانعل فى رجلك! و قد بلغنى انك بعت افراسا بالف و ستمائه دينار.

قال ابوهريره: كانت لنا افراس فتناتجت، فقال: قد حبست لك رزقك و مونتك، و هذا فضل.

قال ابوهريره: ليس ذلك لك، قال: بلى، و الله و اوجع ظهرك! ثم قام اليه بالدره فضرب ظهره، حتى ادماه، ثم قال: ائت بها، فلما احضرها، قال ابوهريره: سوف احتسبها عند الله، قال عمر: ذاك لو اخذتها من حل، و اديتها طائعا، اما و الله ما رجت فيك اميمه ان تجبى اموال هجر و اليمامه و اقصى البحرين لنفسك، لا لله و لا للمسلمين، و لم ترج فيك اكثر من رعيه الحمر.

و عزله.

و صادر الحارث بن وهب احد بنى ليث بكر بن كنانه، و قال له: ما قلاص و اعبد بعتها بمائه دينار؟ قال: خرجت بنفقه لى فاتجرت فيها، قال: و انا و الله ما بعثناك للتجاره، ادها، قال: اما و الله لااعمل لك بعدها.

قال: انا و الله لا استعملك بعدها.

ثم صعد المنبر، فقال: يا معشر الامراء، ان هذا المال لو راينا انه يحل لنا لاحللناه لكم، فاما اذ لم
نره يحل لنا و ظلفنا انفسنا عنه، فاظلفوا عنه انفسكم، فانى و الله ما وجدت لكم مثلا الا عطشان ورد اللجه، و لم ينظر الماتح، فلما روى غرق.

و كتب عمر الى عمرو بن العاص و هو عامله فى مصر: اما بعد، فقد بلغنى انه قد ظهر لك مال من ابل و غنم و خدم و غلمان، و لم يكن لك قبله مال، و لا ذلك من رزقك، فانى لك هذا! و لقد كان لى من السابقين الاولين من هو خير منك، و لكنى استعملتك لغنائك، فاذا كان عملك لك و علينا، بم نوثرك على انفسنا! فاكتب الى من اين مالك؟ و عجل.

و السلام.

فكتب اليه عمرو بن العاص قرات: كتاب اميرالمومنين، و لقد صدق، فاما ما ذكره من مالى، فانى قدمت بلده، الاسعار فيها رخيصه، و الغزو فيها كثير، فجعلت فضول ما حصل لى من ذلك فيما ذكره اميرالمومنين.

و الله يا اميرالمومنين، لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك، حيث ائتمنتنا، فاقصر عنا عناك، فان لنا احسابا اذا رجعنا اليها اغنتنا عن العمل لك، و اما من كان لك من السابقين الاولين، فهلا استعملتهم! فو الله ما دققت لك بابا.

فكتب اليه عمر: اما بعد، فانى لست من تسطيرك و تشقيقك الكلام فى شى ء! انكم معشر الامراء اكلتم الاموال، و اخلدتم الى الاعذار، فانما تاكلون النار، و تورثون العار، و
قد وجهت اليك محمد بن مسلمه ليشاطرك على ما فى يديك.

و السلام.

فلما قدم اليه محمد اتخذ له طعاما و قدمه اليه، فابى ان ياكل، فقال: ما لك لاتاكل طعامنا؟ قال: انك عملت لى طعاما هو تقدمه للشر، و لو كنت عملت لى طعام الضيف لاكلته، فابعد عنى طعامك، و احضر لى مالك.

فلما كان الغد و احضر ماله، جعل محمد ياخذ شطرا، و يعطى عمرا شطرا، فما راى عمرو ما حاز محمد من المال، قال: يا محمد، اقول؟ قال: قل ما تشاء، قال: لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب! و الله لقد رايته و رايت اباه، و ان على كل واحد منهما عبائه قطوانيه، موتزرا بها، ما تبلغ مابض ركبتيه، و على عنق كل واحد منهما حزمه من حطب، و ان العاص بن وائل لفى مزررات الديباج.

فقال محمد: ايها يا عمرو! فعمر و الله خير منك، و اما ابوك و ابوه ففى النار، و و الله لو لا ما دخلت فيه من الاسلام لالفيت معتلفا شاه يسرك غزرها، و يسوئك بكوها.

قال: صدقت، فاكتم على.

قال: افعل.

جائت سريه لعبيدالله بن عمر الى عمر تشكوه، فقالت: يا اميرالمومنين، الا تعذرنى من ابى عيسى؟ قال: و من ابوعيسى؟ قالت: ابنك عبيدالله، قال: ويحك! و قد تكنى بابى عيسى! و دعاه، و قال: ايها اكتنيت بابى عيسى! فحذر و فزع، فاخذ
يده فعضها حتى صاح، ثم ضربه و قال: ويلك! هل لعيسى اب! اما تدرى ما كنى العرب؟ ابوسلمه، ابوحنظله، ابوعرفطه، ابومره.

كان عمر اذا غضب على بعض اهله لم يشتف حتى يعض يده، و كان عبدالله بن الزبير كذلك يقال: انه لم يل ولايه من ولد عمر وال عادل.

و قال مالك بن انس: ان عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل فى ولده، فلم يعدل بعده احد منهم فى ولايه وليها.

كان عمر و من بعده من الولاه اذا اخذوا العصاه نزعوا عمائمهم، و اقاموهم للناس، حتى جاء زياد فضربهم بالسياط، فجاء مصعب فحلق مع الضرب، فجاء بشر بن مروان، فكان يصلب تحت الابطين، و يضرب الاكف بالمسامير.

فكتب الى بعض الجند قوم من اهله يستزيرونه، و يتشوقونه، و قد اخرجه بشر الى الرى فكتب اليهم: لو لا مخافه بشر او عقوبته او ان يرى شانى كفى بمسمار اذا لعطلت ثغرى ثم زرتكم ان المحب المعنى جد زوار فلما جاء الحجاج قال: كل هذا لعب، فقتل العصاه بالسيف.

زيد بن اسلم، عن ابيه، قال: خلا عمر لبعض شانه، و قال: امسك على الباب، فطلع الزبير، فكرهته حين رايته، فاراد ان يدخل، فقلت: هو على حاجه، فلم يلتفت الى، و اهوى ليدخل، فوضعت يدى فى صدره، فضرب انفى فادماه، ثم رجع، فدخلت على عمر، فقال: ما بك؟ قلت: ا
لزبير! فارسل الى الزبير، فلما دخل جئت فقمت لانظر ما يقول له، فقال: ما حملك على ما صنعت! ادميتنى للناس.

فقال الزبير يحكيه و يمطط فى كلامه: (ادميتنى)، اتحتجب عنا يا بن الخطاب! فو الله ما احتجب منى رسول الله، و لا ابوبكر! فقال عمر كالمعتذر: انى كنت فى بعض شانى! قال اسلم: فلما سمعته يعتذر اليه، يئست من ان ياخذ لى بحقى منه.

فخرج الزبير، فقال عمر: انه الزبير و آثاره ما تعلم! فقلت: حقى حقك! و روى الزبير بن بكار فى كتاب "الموفقيات"، عن عبدالله بن عباس قال: انى لاماشى عمر بن الخطاب فى سكه من سكك المدينه، اذ قال لى: يا بن عباس، ما ارى صاحبك الا مظلوما، فقلت فى نفسى:، و الله لايسبقنى بها، فقلت: يا اميرالمومنين، فاردد اليه ظلامته، فانتزع يده من يدى، و مضى يهمهم ساعه، ثم وقف فلحقته، فقال: يا بن عباس؟ ما اظنهم منعهم عنه الا انه استصغره قومه! فقلت فى نفسى: هذه شر من الاولى! فقلت: و الله ما استصغره الله و رسوله حين امراه ان ياخذ برائه من صاحبك.

فاعرض عنى و اسرع، فرجعت عنه.

و قال ابن عباس: قلت لعمر، لقد اكثرت التمنى للموت، حتى خشيت ان يكون عليك غير سهل عند اوانه! فما ذا سئمت من رعيتك، ان تعين صالحا، او تقوم فاسدا! قال: يا بن
عباس، انى قائل قولا فخذه اليك، كيف لااحب فراقهم، و فيهم من هو فاتح فاه للشهوه من الدنيا، اما لحق لا ينوء به، و اما لباطل لا يناله! و الله لو لا ان اسال عنكم لبرئت منكم فاصبحت الارض منى بلاقع، و لم اقل: ما فعل فلان و فلان! جائت امراه الى عمر بن الخطاب، فقالت: يا اميرالمومنين، ان زوجى يصوم النهار و يقوم الليل، و انى اكره ان اشكوه و هو يعمل بطاعه الله فقال: نعم الزوج زوجك!، فجعلت تكرر عليه القول، و هو يكرر عليها الجواب.

فقال له كعب بن سور: يا اميرالمومنين، انها تشكو زوجها فى مباعدته اياها عن فراشه، ففطن عمر حينئذ، و قال له: قد وليتك الحكم بينهما! فقال كعب: على بزوجها، فاتى به، فقال: ان زوجتك هذه تشكوك، قال: فى طعام او شراب؟ قال: لا، قالت المراه: ايها القاضى الحكيم رشده الهى خليلى عن فراشى مسجده زهده فى مضجعى تعبده نهاره و ليله ما يرقده فلست فى امر النساء احمده فقال زوجها: زهدنى فى فرشها و فى الحجل انى امرو اذهلنى ما قد نزل فى سوره النمل و فى السبع الطول و فى كتاب الله تخويف جلل قال كعب: ان لها حقا عليك يا رجل تصيبها من اربع لمن عقل فاعطها ذاك ودع عنك العلل فقال لعمر: يا اميرالمومنين، ان
الله احل له من النساء مثنى و ثلاث و رباع، فله ثلاثه ايام و لياليهن، يعبد فيها ربه، و لها يوم و ليله.

فقال عمر: و الله ما اعلم من اى امريك اعجب! امن فهمك امرهما، ام من حكمك بينهما! اذهب فقد وليتك قضاء البصره.

و روى زيد بن اسلم، عن ابيه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب و هو يطوف بالليل، فنظر الى نار شرقى حره المدينه، فقال: ان هولاء الركب لم ينزلوا هاهنا الا الليله! ثم اهوى لهم، فخرجت معه حتى دنونا، فسمعنا تضاغى الصبيان و بكائهم.

فقال: السلام عليكم يا اصحاب الضوء، هل ندنو منكم! و احتبسنا قليلا، فقالت امراه منهم: ادنوا بسلام! فاقبلنا حتى وقفنا عليها، فقال: ما يبكى هولاء الصبيان؟ قالت: الجوع، قال: فما هذا القدر على النار؟ قالت ماء اعللهم به، قال: انتظرينى فانى بالغك ان شاءالله: ثم خرج يهرول و انا معه، حتى جئنا دار الدقيق- و كانت دارا يطرح فيها ما يجى ء من دقيق العراق و مصر.

و قد كان كتب الى عمرو بن العاص و ابى موسى حين امحلت السنه: الغوث، الغوث! احملوا الى احمال الدقيق، و اجعلوا فيها جمائد الشحم.

فجاء الى عدل منها، فطاطا ظهره، ثم قال: احمله على ظهرى يا اسلم! فقلت: انا احمله عنك! فنظر الى و قال: انت تحمل عنى وزرى يوم ا
لقيامه؟ لا ابا لك! قلت: لا، قال: فاحمله على ظهرى اذا، ففعلت، و خرج به يدلج و انا معه، حتى القاه عند المراه.

ثم قال لى: ذر على ذرور الدقيق لايتعرد و انا اخزر، ثم اخذ المسواط يخزر، ثم جعل ينفخ تحت البرمه، و انا انظر الى الدخان يخرج من خلل لحيته، و يقول: لاتعجل حتى ينضج، ثم قال: الق على من الشحم، فان القفار يوجع البطن.

ثم انزل القدر، و قال للمراه: لاتعجلى، لاتعطيهم حارا، و انا اسطح لك، فجعل يسطح بالمسواط، و يبرد طعامهم، حتى اذا شبعوا ترك عندها الفضل، ثم قال لها: ائتى اميرالمومنين غدا، فانك عسيت ان تجدينى قريبا منه، فاشفع لك بخير، و هى تقول: من انت يرحمك الله! و تدعو له و تقول: انت اولى بالخلافه من اميرالمومنين، فيقول: قولى خيرا يرحمك الله! لا يزيد على هذا.

ثم انصرف حتى اذا كان قريبا جلس فاقعى، و جعل يسمع طويلا، حتى سمع التضاحك منها و من الصبيان، و انا اقول: يا اميرالمومنين، قد فرغت من هذه، و لك شغل فى غيرها، و يقول: لاتكلمنى، حتى اذا هدا حسهم قام فتمطى و قال: ويحك! انى سمعت الجوع اسهرهم، فاحببت الا ابرح حتى اسمع الشبع انامهم! و من كلامه: الرجال ثلاثه: الكامل، و دون الكامل، و لا شى ء.

فالكامل ذو الراى يستشير الن
اس، فياخذ من آراء الرجال الى رايه، و دون الكامل من يستبد به و لايستشير.

و لا شى ء من لا راى له و لايستشير.

و النساء ثلاث: تعين اهلها على الدهر و لا تعين الدهر على اهلها، و قلما تجدها.

و امراه وعاء للولد ليس فيها غيره.

و الثالثه غل قمل يجعله الله فى رقبه من يشاء، و يفكه اذا شاء.

لما اخرج عمر الحطيئه من حبسه قال له: اياك و الشعر! قال: لااقدر على تركه يا اميرالمومنين، ماكله عيالى، و نمله تدب على لسانى.

قال فشبب باهلك، و اياك و كل مدحه مجحفه.

قال: و ما المجحفه؟ قال: تقول: ان بنى فلان خير من بنى فلان، امدح و لاتفضل احدا، قال: انت و الله يا اميرالمومنين اشعر منى! و روى الزبير فى "الموفقيات" عن عبدالله بن عباس، قال: خرجت اريد عمر بن الخطاب، فلقيته راكبا حمارا، و قد ارتسنه بحبل اسود، فى رجليه نعلان مخصوفتان، و عليه ازار و قميص صغير، و قد انكشفت منه رجلاه الى ركبتيه، فمشيت الى جانبه، و جعلت اجذب الازار و اسويه عليه، كلما سترت جانبا انكشف جانب، فيضحك و يقول: انه لايطيعك، حتى جئنا العاليه، فصلينا، ثم قدم بعض القوم الينا طعاما من خبز و لحم، و اذا عمر صائم، فجعل ينبذ الى طيب اللحم، و يقول: كل لى و لك، ثم دخلنا حائطا فالق
ى الى ردائه، و قال اكفنيه، و القى قميصه بين يديه، و جلس يغسله، و انا اغسل ردائه، ثم جففناهما و صلينا العصر، فركب و مشيت الى جانبه، و لا ثالث لنا.

فقلت: يا اميرالمومنين، انى فى خطبه فاشر على، قال: و من خطبت؟ قلت: فلانه ابنه فلان، قال: النسب كما تحب، و كما قد علمت، و لكن فى اخلاق اهلها دقه لاتعدمك ان تجدها فى ولدك! قلت: فلا حاجه لى اذا فيها، قال: فلم لا تخطب الى ابن عمك- يعنى عليا؟ قلت الم تسبقنى اليه؟ قال: فالاخرى، قلت: هى لابن اخيه.

قال: يا بن عباس، ان صاحبكم ان ولى هذا الامر اخشى عجبه بنفسه ان يذهب به، فليتنى اراكم بعدى! قلت: يا اميرالمومنين، ان صاحبنا ما قد علمت، انه ما غير و لا بدل، و لا اسخط رسول الله (ص) ايام صحبته له.

قال: فقطع على الكلام، فقال: و لا فى ابنه ابى جهل، لما اراد ان يخطبها على فاطمه! قلت: قال الله تعالى: (و لم نجد له عزما)، و صاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله (ص)، و لكن الخواطر التى لايقدر احد على دفعها عن نفسه، و ربما كان من الفقيه فى دين الله، العالم العامل بامر الله.

فقال: يا بن عباس، من ظن انه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا! استغفر الله لى و لك، خذ فى غيرها.

ثم ان
شا يسالنى عن شى ء من امور الفتيا و اجيبه فيقول: اصبت اصاب الله بك! انت و الله احق ان تتبع! اشرف عبدالملك على اصحابه، و هم يتذاكرون سيره عمر، فغاظه ذلك، و قال: ايها عن ذكر سيره عمر! فانها مزراه على الولاه، مفسده للرعيه.

قال ابن عباس: كنت عند عمر، فتنفس نفسا ظننت ان اضلاعه قد انفرجت، فقلت: ما اخرج هذا النفس منك يا اميرالمومنين الا هم شديد! قال: اى و الله يا بن عباس! انى فكرت فلم ادر فيمن اجعل هذا الامر بعدى! ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها اهلا! قلت: و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه! قال: صدقت، و لكنه امرو فيه دعابه، قلت.

فاين انت عن طلحه! قال: ذو الباو، و باصبعه المقطوعه! قلت: فعبدالرحمن؟ قال: رجل ضعيف لو صار الامر اليه لوضع خاتمه فى يد امراته.

قلت: فالزبير؟ قال: شكس لقس يلاطم فى النقيع فى صاع من بر! قلت: فسعد بن ابى وقاص؟ قال: صاحب سلاح و مقنب، قلت: فعثمان؟ قال: اوه! ثلاثا، و الله لئن وليها ليحملن بنى ابى معيط على رقاب الناس، ثم لتنهض العرب اليه.

ثم قال: يا بن عباس، انه لايصلح لهذا الامر الا خصيف العقده، قليل الغره، لاتاخذه فى الله لومه لائم، ثم يكون شديدا من غير عنف، لينا من غير ضعف، سخيا من غ
ير سرف، ممسكا من غير وكف.

قال ابن عباس: و كانت و الله هى صفات عمر.

قال: ثم اقبل على بعد ان سكت هنيهه، و قال: اجروهم و الله ان وليها ان يحملهم على كتاب ربهم و سنه نبيهم لصاحبك! اما ان ولى امرهم حملهم على المحجه البيضاء و الصراط المستقيم.

و روى عبدالله بن عمر قال: كنت عند ابى يوما، و عنده نفر من الناس، فجرى ذكر الشعر، فقال: من اشعر العرب؟ فقالوا: فلان و فلان، فطلع عبدالله بن عباس، فسلم و جلس، فقال عمر: قد جائكم الخبير! من اشعر الناس يا عبدالله؟ قال: زهير بن ابى سلمى، قال: فانشدنى مما تستجيده له.

فقال: يا اميرالمومنين، انه مدح قوما من غطفان، يقال لهم بنوسنان، فقال: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم باولهم او مجدهم قعدوا قوم ابوهم سنان حين تنسبهم طابوا و طاب من الاولاد ما ولدوا انس اذا، امنوا جن اذا فزعوا مرزئون بها ليل اذا جهدوا محسدون على ما كان من نعم لابنزع الله منهم ماله حسدوا فقال عمر: و الله لقد احسن، و ما ارى هذا المدح يصلح الا لهذا البيت من هاشم، لقرابتهم من رسول الله (ص)، فقال ابن عباس، وفقك الله يا اميرالمومنين، فلم تزل موفقا، فقال: يا بن عباس، ا تدرى ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا اميرا
لمومنين، قال: لكنى ادرى، قال: ما هو يا اميرالمومنين؟ قال: كرهت قريش ان تجتمع لكم النبوه و الخلافه، فيجخفوا جخفا، فنظرت قريش لنفسها فاختارت و وفقت فاصابت فقال ابن عباس: ايميط اميرالمومنين عنى غضبه فيسمع! قال: قل ما تشاء، قال: اما قول اميرالمومنين: ان قريشا كرهت، فان الله تعالى قال لقوم: (ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فاحبط اعمالهم).

و اما قولك: (انا كنا نجخف)، فلو جخفنا بالخلافه جخفنا بالقرابه، و لكنا قوم اخلاقنا مشتقه من خلق رسول الله (ص) الذى قال الله تعالى: (و انك لعلى خلق عظيم)، و قال له: (و اخفض جناحك لمن اتبعك من المومنين).

و اما قولك: (فان قريشا اختارت)، فان الله تعالى يقول: (و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيره)، و قد علمت يا اميرالمومنين ان الله اختار من خلقه لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت و اصابت قريش.

فقال عمر: على رسلك يا بن عباس، ابت قلوبكم يا بنى هاشم الا غشا فى امر قريش لايزول، و حقدا عليها لايحول، فقال ابن عباس: مهلا يا اميرالمومنين! لاتنسب هاشما الى الغش، فان قلوبهم من قلب رسول الله الذى طهره الله و زكاه، و هم اهل البيت الذين قال الله تعالى لهم: (انما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس اهل البيت و يطهركم تطهيرا)، و اما قولك: (حقدا) فكيف لا يحقد من غصب شيئه، و يراه فى يد غيره! فقال عمر: اما انت يا بن عباس، فقد بلغنى عنك كلام اكره ان اخبرك به، فتزول منزلتك عندى، قال: و ما هو يا اميرالمومنين؟ اخبرنى به، فان يك باطلا فمثلى اماط الباطل عن نفسه، و ان يك حقا فان منزلتى عندك لاتزول به.

قال: بلغنى انك لاتزال تقول: اخذ هذا الامر منك حسدا و ظلما.

قال: اما قولك يا اميرالمومنين: (حسدا)، فقد حسد ابليس آدم، فاخرجه من الجنه، فنحن بنو آدم المحسود.

و اما قولك: (ظلما) فامير المومنين يعلم صاحب الحق من هو! ثم قال: يا اميرالمومنين، الم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله، و احتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله (ص)! فنحن احق برسول الله من سائر قريش.

فقال له عمر: قم الان فارجع الى منزلك.

فقام، فلما ولى هتف به عمر: ايها المنصرف، انى على ما كان منك لراع حقك! فالتفت ابن عباس فقال: ان لى عليك يا اميرالمومنين و على كل المسلمين حقا برسول الله (ص)، فمن حفظه فحق نفسه حفظ، و من اضاعه فحق نفسه اضاع.

ثم مضى.

فقال عمر لجلسائه: واها لابن عباس! ما رايته لاحى احدا قط الا خصمه! لما توفى عبدالله بن ابى، راس الم
نافقين فى حياه رسول الله (ص)، جاء ابنه و اهله، فسالوا رسول الله (ص) ان يصلى عليه، فقام بين يدى الصف يريد ذلك، فجاء عمر فجذبه من خلفه، و قال: الم ينهك الله ان تصلى على المنافقين! فقال: انى خيرت فاخترت، فقيل لى: (استغفر لهم او لاتستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مره فلن يغفر الله لهم)، و لو انى اعلم انى اذا زدت على السبعين غفر له لزدت.

ثم صلى رسول الله عليه و مشى معه، و قام على قبره.

فعجب الناس من جراه عمر على رسول الله (ص)، فلم يلبث الناس الا ان نزل قوله تعالى: (و لاتصل على احد منهم مات ابدا و لا تقم على قبره.

) فلم يصل (ع) بعدها على احد من المنافقين.

و روى ابوهريره، قال: كنا قعودا حول رسول الله (ص) فى نفر، فقام من بين اظهرنا، فابطا علينا، و خشينا ان يقطع دوننا فقمنا- و كنت اول من فزع- فخرجت ابتغيه حتى اتيت حائطا للانصار لقوم من بنى النجار، فلم اجد له بابا الا ربيعا فدخلت فى جوف الحائط- و الربيع الجدول- فدخلت منه بعد ان احتفرته، فاذا رسول الله (ص)، فقال: ابوهريره! قلت: نعم، قال: ما شانك؟ قلت: كنت بين اظهرنا، فقمت فابطات عنا، فخشينا ان تقتطع دوننا، ففزعنا- و كنت اول من فزع- فاتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثع
لب، و الناس من ورائى.

فقال: يا اباهريره، اذهب بنعلى هاتين، فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد ان لا اله الا الله، مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنه.

فخرجت، فكان اول من لقيت عمر، فقال: ما هذان النعلان؟ قلت: نعلا رسول الله (ص) بعثنى بهما، و قال: من لقيته يشهد ان لا اله الا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنه.

فضرب عمر فى صدرى فخررت لاستى، و قال: ارجع الى رسول الله (ص).

فاجهشت بالبكاء راجعا، فقال رسول الله: ما بالك؟ قلت: لقيت عمر فاخبرته بالذى بعثتنى به، فضرب صدرى ضربه خررت لاستى، و قال: ارجع الى رسول الله.

فخرج رسول الله، فاذا عمر، فقال: ما حملك يا عمر على ما فعلت؟ فقال عمر: انت بعثت اباهريره بكذا؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فانى اخشى ان يتكل الناس عليها فيتركوا العمل، خلهم يعملون.

فقال رسول الله (ص): خلهم يعملون.

و روى ابوسعيد الخدرى، قال: اصابت الناس مجاعه فى غزاه تبوك، فقالوا: يا رسول الله، لو اذنت لنا فذبحنا نواضحنا، و اكلنا شحمها و لحمها! فقال: افعلوا، فجاء عمر فقال: يا رسول الله، انهم ان فعلوا قل الظهر، و لكن ادعهم بفضلات ازوادهم فاجمعها، ثم ادع لهم عليها بالبركه، لعل الله يجعل فى ذلك خيرا.

ففعل رسول الله (ص) ذل
ك، فاكل الخلق الكثير من طعام قليل، و لم تذبح النواضح.

و روى ابن عباس رضى الله عنه ان رجلا اتى رسول الله (ص) يذكر له ذنبا اذنبه، فانزل الله تعالى فى امره: (و اقم الصلاه طرفى النهار و زلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) فقال: يا رسول الله، لى خاصه، ام للناس عامه! فضرب عمر صدره بيده و قال: لا، و لا نعمى عين! بل للناس عامه.

فقال رسول الله (ص): بل للناس عامه.

و كان عمر يقول: وافقنى ربى فى ثلاث: قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى؟ فنزلت: (و اتخذوا من مقام ابراهيم مصلى).

و قلت: يا رسول الله، ان نسائك يدخل عليهن البر و الفاجر، فلو امرتهن ان يحتجبن! فنزلت آيه الحجاب.

و تمالا عليه نساوه غيره، فقلت له: (عسى ربه ان طلقكن ان يبدله ازواجا خيرا منكن)، فنزلت بهذا اللفظ.

و قال عبدالله بن مسعود: فضل عمر الناس باربع: برايه فى اسارى بدر، فنزل القرآن بموافقته: (ما كان لنبى ان يكون له اسرى حتى يثخن فى الارض)، و برايه فى حجاب نساء النبى (ص)، فنزل قوله تعالى: (و اذا سالتموهن متاعا فاسالوهن من وراء حجاب) و بدعوه النبى (ص): (اللهم ايد الاسلام باحد الرجلين)، و برايه فى ابى بكر، كان اول من بايعه.

و
روت عائشه قالت: كنت آكل مع رسول الله (ص) حيسا قبل ان تنزل آيه الحجاب، و مر عمر فدعاه فاكل، فاصابت يده اصبعى، فقال: حس لو اطاع فيكن ما راتكن عين! فنزلت آيه الحجاب.

جاء عيينه بن حصن و الاقرع بن حابس الى ابى بكر، فقالا: يا خليفه رسول الله، ان عندنا ارضا سبخه ليس فيها كلا و لامنفعه، فان رايت ان تقطعناها، لعلنا نحرثها او نزرعها! و لعل الله ان ينفع بها بعد اليوم! فقال ابوبكر لمن حوله من الناس المسلمين: ما ترون؟ قالوا: لا باس فكتب لهما بها كتابا، و اشهد فيه شهودا.

و عمر ما كان حاضرا، فانطلقا اليه ليشهد فى الكتاب، فوجداه قائما يهنا بعيرا، فقالا: ان خليفه رسول الله (ص) كتب لنا هذا الكتاب، و جئناك لتشهد على ما فيه، افتقروه ام نقروه عليك؟ قال: اعلى الحال التى تريان! ان شئتما فاقرآه، و ان شئتما فانتظرا حتى افرغ.

قالا: بل نقروه عليك، فلما سمع ما فيه، اخذه منهما، ثم تفل فيه، فمحاه، فتذامرا و قالا مقاله سيئه.

فقال: ان رسول الله (ص) كان يتالفكما و الاسلام يومئذ ذليل، و ان الله تعالى قد اعز الاسلام، فاذهبا فاجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما ان رعيتما! فذهبا الى ابى بكر، و هما يتذمران، فقالا: و الله ما ندرى انت امير ام عمر؟ فق
ال: بل هو لو شاء كان.

و جاء عمر و هو مغضب، حتى وقف على ابى بكر، فقال: اخبرنى عن هذه الارض التى اقطعتها هذين الرجلين، اهى لك خاصه، ام بين المسلمين عامه! فقال: بين المسلمين عامه، قال: فما حملك على ان تخص بها هذين دون جماعه المسلمين: قال: استشرت الذين حولى، فاشاروا بذلك، فقال: افكل المسلمين اوسعتهم مشوره و رضا! فقال ابوبكر: فلقد كنت قلت لك: انك اقوى على هذا الامر منى، لكنك غلبتنى! لما كتب النبى (ص) كتاب الصلح فى الحديبيه بينه و بين سهيل ابن عمرو، كان فى الكتاب ان من خرج من المسلمين الى قريش لايرد، و من خرج من المشركين الى النبى (ص) يرد عليهم، فغضب عمر و قال لابى بكر: ما هذا يا ابابكر! ايرد المسلمون الى المشركين!، ثم جاء الى رسول الله (ص)، فجلس بين يديه، و قال يا رسول الله، الست رسول الله حقا! قال: بلى، قال: و نحن المسلمون حقا! قال: نعم، قال: و هم الكافرون حقا! قال: نعم، قال: فعلام نعطى الدنيه فى ديننا! فقال رسول الله: انا رسول الله، افعل ما يامرنى به، و لن يضيعنى.

فقام عمر مغضبا، و قال: لو اجد اعوانا ما اعطيت الدنيه ابدا.

و جاء الى ابى بكر فقال له: يا ابابكر، الم يكن وعدنا اننا سندخل مكه، فاين ما وعدنا به؟ فقال
ابوبكر: اقال لك: انه العام يدخلها؟ قال: لا، قال: فسيدخلها، فقال: فما هذه الصحيفه التى كتبت؟ و كيف نعطى الدنيه من انفسنا! فقال ابوبكر: يا هذا، الزم غرزه، فو الله انه لرسول الله، و ان الله لايضيعه.

فلما كان يوم الفتح و اخذ رسول الله (ص) مفتاح الكعبه، قال: ادعوا لى عمر، فجاء فقال: هذا الذى كنت وعدتكم به! لما قتل المشركون يوم بدر اسر منهم سبعون اسيرا، فاستشار رسول الله (ص) فيهم ابابكر و عمر، فقال ابوبكر: يا رسول الله، هولاء بنو العم و العشيره و الاخوان، و ارى ان تاخذ منهم الفديه، فيكون ما اخذنا منهم قوه لنا على المشركين، و عسى ان يهديهم الله بعد اليوم، فيكونوا لنا عذرا.

فقال رسول الله (ص): ما تقول انت يا عمر؟ قال: ارى ان تمكننى من فلان- قريب لعمر- فاضرب عنقه، و تمكن عليا من عقيل، فيضرب عنقه، و تمكن حمزه من اخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله انه ليس فى قلوبنا هواده للمشركين.

اقتلهم يا رسول الله، فانهم صناديدهم و قادتهم.

فلم يهو رسول الله ما قاله عمر.

قال عمر: فجئت رسول الله (ص)، فوجدته قاعدا و ابوبكر، و هما يبكيان، فقلت: ما يبكيكما؟ حدثانى، فان وجدت بكاء بكيت و الا تباكيت، فقال رسول الله (ص)، ابكى لاخذ الفداء، لقد عرض
على عذابكم ادنى من هذه الشجره- لشجره قريبه منه.

قال عبدالله بن عمر: فكان رسول الله (ص) يقول: كدنا ان يصيبنا شر فى مخالفه عمر.

و قال عمر فى خلافته: لئن عشت ان شاءالله لاسيرن فى الرعيه حولا، فانى اعلم ان للناس حوائج تقتطع دونى، اما عمالهم فلايرفعونها الى، و اما هم فلايصلون الى.

اسير الى الشام فاقيم بها شهرين، ثم اسير الى الجزيره فاقيم بها شهرين، ثم اسير الى مصر فاقيم بها شهرين، ثم اسير الى البحرين فاقيم بها شهرين، ثم اسير الى الكوفه فاقيم بها شهرين، ثم الى البصره فاقيم بها شهرين، و الله لنعم الحول هذا! و قال اسلم: بعثنى عمر بابل من ابل الصدقه الى الحمى، فوضعت جهازى على ناقه منها كريمه، فلما اردت ان اصدرها قال: اعرضها على، فعرضتها عليه، فراى متاعى على ناقه حسناء، فقال: لا ام لك! عمدت الى ناقه تغنى اهل بيت من المسلمين! فهلا ابن لبون بوال، او ناقه شصوص! و قيل لعمر: ان هاهنا رجلا من الاحبار نصرانيا، له بصر بالديوان، لو اتخذته كاتبا! فقال: لقد اتخذت اذا بطانه من دون المومنين! قال، و قد خطب الناس: و الذى بعث محمدا بالحق لو ان جملا هلك ضياعا بشط الفرات، خشيت ان يسال الله عنه آل الخطاب.

قال عبدالرحمن بن زيد بن اسلم: يعنى بال الخطاب نفسه، ما يعنى غيرها.

و كتب الى ابى موسى: انه لم يزل للناس وجوه من الامر، فاكرم من قبلك من وجوه الناس، و بحسب المسلم الضعيف من بين القوم ان ينصف فى الحكم و فى القسم.

اتى اعرابى عمر، فقال: ان ناقتى بها نقبا و دبرا، فاحملنى، فقال له: و الله ما ببعيرك من نقب و لا دبر، فقال: اقسم بالله ابوحفص عمر ما مسها من نقب و لا دبر فاغفر له اللهم ان كان فجر فقال عمر: اللهم اغفر لى، ثم دعاه فحمله.

جاء رجل الى عمر و كانت بينهما قرابه يساله، فزبره و اخرجه، فكلم فيه، و قيل: يا اميرالمومنين زبرته و اخرجته.

قال: انه سالنى من مال الله، فما معذرتى اذا لقيته ملكا خائنا؟ فلو سالنى من مالى! ثم بعث اليه الف درهم من ماله.

و كان يقول فى عماله: اللهم انى لم ابعثهم لياخذوا اموال المسلمين، و لا ليضربوا ابشارهم، من ظلمه اميره فلا امره عليه دونى! بينا عمر ذات ليله يعس، سمع صوت امراه من سطح و هى تنشد: تطاول هذا الليل و ازور جانبه و ليس الى جنبى خليل الاعبه فو الله لو لا الله تخشى عواقبه لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافه ربى و الحياء يصدنى و اكرم بعلى ان تنال مراكبه (و لكننى اخشى رقيبا موكلا بانفسنا لايفتر الد
هر كاتبه) فقال عمر: لا حول و لا قوه الا بالله! ما ذا صنعت يا عمر بنساء المدينه! ثم جاء فضرب على حفصه ابنته، فقالت: ما جاء بك فى هذه الساعه؟ قال: اخبرينى كم تصبر المراه المغيبه عن بعلها؟ قالت: اقصاه اربعه اشهر.

فلما اصبح كتب الى امرائه فى جميع النواحى الا تجمر البعوث، و الا يغيب رجل عن اهله اكثر من اربعه اشهر.

و روى اسلم، قال: كنت مع عمر، و هو يعس بالمدينه، اذ سمع امراه تقول لبنتها: قومى يا بنيه الى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه، قالت: او ما علمت ما كان من عزمه اميرالمومنين بالامس؟ قالت: و ما هو؟ قالت: انه امر مناديا فنادى الا يشاب اللبن بالماء، قالت فانك بموضع لايراك اميرالمومنين و لا منادى اميرالمومنين! قالت: و الله ما كنت لاطيعه فى الملا، و اعصيه فى الخلاء- و عمر يسمع ذلك- فقال: يا اسلم، اعرف الباب، ثم مضى فى عسه، فلما اصبح، قال: يا اسلم، امض الى الموضع، فانظر من القائله و من المقول لها؟ و هل لهما من بعل؟ قال اسلم: فاتيت الموضع، فنظرت فاذا الجاريه ايم، و اذا المتكلمه بنت لها، ليس لهما رجل.

فجئت فاخبرته، "فجمع عمر ولده" و قال هل: يريد احد ان يتزوج فازوجه امراه صالحه فتاه، و لو كان فى ابيكم حركه الى النساء
لم يسبقه احد اليها؟ فقال عاصم ابنه: انا، فبعث الى الجاريه فزوجها ابنه عاصما، فولدت له بنتا هى المكناه ام عاصم، و هى ام عمر بن عبدالعزيز بن مروان، حج عمر فلما كان بضجنان قال: لا اله الا الله العلى العظيم، المعطى ما يشاء لمن يشاء، اذكر و انا ارعى ابل الخطاب بهذا الوادى فى مدرعه صوف- و كان فظا يتعبنى اذا عملت، و يضربنى اذا قصرت- و قد امسيت اليوم و ليس بينى و بين الله احد ثم تمثل: لا شى ء مما يرى تبقى بشاشته يبقى الاله، و يودى المال و الولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا و لا سليمان اذ تجرى الرياح له و الانس و الجن فيما بينها يرد اين الملوك التى كانت منازلها من كل اوب اليها راكب يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوما كما وردوا و روى محمد بن سيرين ان عمر فى آخر ايامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاه، فجعل امامه رجلا يلقنه، فاذا اومى اليه ان يقوم او يركع، فعل.

و سمع عمر منشدا ينشد قول طرفه: فلو لا ثلاث هن من عيشه الفتى و جدك لم احفل متى قام عودى فمنهن سبقى العاذلات بشربه كميت متى ما تعل بالماء تزبد و كرى اذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبه
ته المتوسد و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب ببهكنه تحت الطراف الممدد فقال، و انا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى، لم احفل متى قام عودى، ان اجاهد فى سبيل الله، و ان اضع وجهى فى التراب لله، و ان اجالس قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر.

و روى عبدالله بن بريده، قال: كان عمر ربما ياخذ بيد الصبى، فيقول: ادع لى، فانك لم تذنب بعد! و كان عمر كثير المشاوره، كان يشاور فى امور المسلمين حتى المراه.

و روى يحيى بن سعيد، قال: امر عمر الحسين بن على (ع) ان ياتيه فى بعض الحاجه، فلقى الحسين (ع) عبدالله بن عمر، فساله من اين جائ؟ قال: استاذنت على ابى فلم ياذن لى، فرجع الحسين و لقيه عمر من الغد، فقال: ما منعك يا حسين ان تاتينى؟ قال: قد اتيتك، و لكن اخبرنى ابنك عبدالله انه لم يوذن له عليك، فرجعت، فقال عمر: و انت عندى مثله! و هل انبت الشعر على الراس غيركم! قال عمر يوما، و الناس حوله: و الله ما ادرى اخليفه انا ام ملك! فان كنت ملكا، فقد ورطت فى امر عظيم، فقال له قائل: يا اميرالمومنين ان بينهما فرقا، و انك ان شاء الله لعلى خير، قال: كيف؟ قال: ان الخليفه لا ياخذ الا حقا و لايضعه الا فى حق، و انت بحمد الله كذلك، و الملك يعسف النا
س و ياخذ مال هذا فيعطيه هذا.

فسكت عمر و قال: ارجو ان اكونه.

و روى مالك عن نافع، عن ابن عمر، ان عمر تعلم سوره البقره فى اثنتى عشره سنه، فلما ختمها نحر جزورا.

و روى انس، قال: كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر، فياكله حتى حشفه.

و روى يوسف بن يعقوب الماجشون، قال: قال لى ابن شهاب و لاخ لى و ابن عم لنا، و نحن صبيان احداث: لاتحتقروا انفسكم لحداثه اسنانكم، فان عمر كان اذا نزل به الامر المعضل، دعا الصبيان فاستشارهم، يبتغى حده عقولهم.

و روى الحسن، قال: كان رجل لايزال ياخذ من لحيه عمر شيئا فاخذ يوما من لحيته، فقبض على يده فاذا فيها بشى ء، فقال: ان الملق من الكذب ثم علاه بالدره.

انقطع شسع نعل عمر، فاسترجع و قال: كل ما سائك فهو مصيبه.

وقف اعرابى على عمر، فقال له: يا بن خطاب جزيت الجنه اكس بنياتى و امهنه اقسم بالله لتفعلنه فقال عمر: ان لم افعل، يكون ماذا؟ قال: اذا اباحفص لامضينه فقال: اذا مضيت يكون ماذا؟ قال: تكون عن حالى لتسالنه يوم تكون الاعطيات جنه و الواقف المسئول يبهتنه اما الى نار و اما جنه فبكى عمر، ثم قال لغلامه، اعطه قميصى هذا لذلك اليوم، لا لشعره، و الله ما املك ثوبا غيره.

و روى ابن عباس قال: قال ل
ى عمر ليله: انشدنى لشاعر الشعراء، قلت: و من هو؟ قال: زهير الذى يقول: اذا ابتدرت قيس بن عيلان غايه من المجد من يسبق اليها يسود فانشدته حتى برق الفجر، فقال: ايها الان! اقرا يا عبدالله، قلت: ما اقرا؟ قال: سوره الواقعه.

سمع عمر صوت بكاء، فى بيت، فدخل و بيده الدره، فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحه، فضربها حتى سقط خمارها، ثم قال لغلامه: اضرب النائحه، ويلك! اضربها فانها نائحه لا حرمه لها، لانها لاتبكى بشجوكم، انها تهريق دموعها على اخذ دراهمكم، انها توذى امواتكم فى قبورهم، و احيائكم فى دورهم، انها تنهى عن الصبر، و قد امر الله به، و تامر بالجزع و قد نهى الله عنه.

و من كلامه: من اتجر فى شى ء ثلاث مرات فلم يصب فيه، فليتحول عنه الى غيره.

و من كلامه: لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا، ان فاتنى ربحه لم يفتنى ريحه.

و من كلامه: تفقهوا قبل ان تسودوا.

و من كلامه: تعلموا المهنه، فانه يوشك احدكم ان يحتاج الى مهنته.

و من كلامه: مكسبه فيها بعض الدنائه، خير من مساله الناس.

و من كلامه: اعقل الناس اعذرهم لهم.

راى عمر ناسا يتبعون ابى بن كعب، فرفع عليه الدره، فقال: يا اميرالمومنين، اتق الله، قال: فما هذه الجموع خلفك يا بن كعب!اما علمت انها فتنه للمتبوع، مذله للتابع.

جاء رجل الى عمر، فقال: ان بنتا لى واريتها فى الجاهليه، فاستخرجناها قبل ان تموت، فادركت معنا الاسلام، فاسلمت، ثم قارفت حدا من حدود الله، فاخذت الشفره لتذبح نفسها، فادركناها و قد قطعت بعض اوداجها، فداويناها حتى برئت، و تابت توبه حسنه، و قد خطبها قوم، افاخبرهم بالذى كان من شانها؟ فقال عمر: اتعمد الى ما ستره الله فتبديه، و الله لئن اخبرت بشانها احدا لاجعلنك نكالا لاهل الامصار! انكحها نكاح العفيفه السليمه.

اسلم غيلان بن سلمه الثقفى من عشر نسوه، فقال له النبى (ص): اختر منهن اربعا، و طلق ستا، فلما كان على عهد عمر طلق نسائه الاربع، و قسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر، فاحضره فقال له: انى لاظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه فى نفسك، و لعلك لا تمكث الا قليلا! و ايم الله لتراجعن نسائك، و لترجعن فى مالك، او لاورثنهن منك، و لامرن بقبرك فيرجم، كما رجم قبر ابى رغال.

و قال عمر: ان الجزف فى المعيشه اخوف عندى عليكم من العيال، انه لايبقى مع الفساد شى ء، و لايقل مع الاصلاح شى ء.

و كان عمر يقول: ادبوا الخيل، و انتضلوا، و اقعدوا فى الشمس، و لا يجاورنكم الخنازير، و لاتقعدوا على م
ائده يشرب عليها الخمر، او يرفع عليها الصليب، و اياكم و اخلاق العجم، و لايحل لمومن ان يدخل الحمام الا موتزرا، و لا لامراه ان تدخل الحمام الا من سقم، فاذا وضعت المراه خمارها فى غير بيت زوجها، فقد هتكت الستر بينها و بين الله تعالى.

و كان يكره ان يتزيا الرجال بزى النساء، و الا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا، و ان يحف لحيته و شاربه كما تحف المراه.

سمع عمر سائلا يقول: من يعشى السائل؟ فقال: عشوا سائلكم، ثم جاء الى دار ابل الصدقه يعشيها، فسمع صوته مره اخرى: من يعشى السائل؟ فقال: الم آمركم ان تعشوه! فقالوا: قد عشيناه فارسل اليه عمر، و اذا معه جراب مملوء خبزا، فقال: انك لست سائلا، انما انت تاجر تجمع لاهلك، فاخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدى الابل.

و قال عمر: من مزح استخف به، و قال: اتدرون لم سمى المزاح مزاحا؟ لانه ازاح الناس عن الحق.

و من كلامه: لن يعطى احد بعد الكفر بالله شرا من زوجه حديده اللسان، سيئه الخلق، عقيم.

و لن يعطى احد بعد الايمان بالله خيرا من زوجه كريمه ودود ولود، حسنه الخلق.

و كان يقول: ان شقاشق الكلام من شقاشق اللسان، فاقلوا ما استطعتم.

و نظر الى شاب قد نكس راسه خشوعا، فقال: يا هذا، ارفع راسك، فان الخشوع لا يز
يد على ما فى القلب، فمن اظهر للخلق خشوعا فوق ما فى قلبه، فانما اظهر نفاقا.

و من كلامه: ان احبكم الينا ما لم نركم احسنكم اسماء، فاذا رايناكم فاحبكم الينا احسنكم اخلاقا، فاذا بلوناكم فاحبكم الينا اعظمكم امانه، و اصدقكم حديثا.

و كان يقول: لاتنظروا الى صلاه امرى ء و لا صيامه، و لكن انظروا الى عقله و صدقه.

و من كلامه: ان العبد اذا تواضع لله رفع حكمته، و قال له: انتعش نعشك الله! فهو فى نفسه صغير، و فى اعين الناس عظيم.

و اذا تكبر و عتا وهضه الله الى الارض، و قال: اخسا، خساك الله! فهو فى نفسه عظيم، و فى اعين الناس حقير، حتى يكون عندهم احقر من الخنزير.

و قال: الانسان لايتعلم العلم لثلاث، و لايتركه لثلاث: لايتعلمه ليمارى به، و لا ليباهى به، و لا ليرائى به.

و لايتركه حياء من طلبه، و لا زهاده فيه، و لا رضا بالجهل بدلا منه.

و قال: تعلموا انسابكم تصلوا ارحامكم.

و قال: انى لا اخاف عليكم احد الرجلين، مومنا قد تبين ايمانه، و كافرا قد تبين كفره، و لكن اخاف عليكم منافقا يتعوذ بالايمان و يعمل بغيره.

و من كلامه: ان الرجف من كثره الزنا، و ان قحوط المطر من قضاه السوء و ائمه الجور.

و قال فى النساء: استعينوا عليهن بالعرى، فان احداهن
اذا كثرت ثيابها، و حسنت زينتها، اعجبها الخروج.

و من كلامه: ان الجبت السحر، و ان الطاغوت الشيطان، و ان الجبن و الشجاعه غرائز تكون فى الرجال، يقاتل الشجاع عمن لايعرف، و يفر الجبان عن امه، و ان كرم الرجل دينه، و حسب الرجل خلقه، و ان كان فارسيا او نبطيا.

و قال: تفهموا العربيه، فانها تشحذ العقل، و تزيد فى المروئه.

و قال: النساء ثلاث: امراه هينه لينه عفيفه، ودود ولود، تعين بعلها على الدهر، و لا تعين الدهر على بعلها، و قلما تجدها.

و اخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا، و الثالثه غل قمل، يجعله الله فى عنق من يشاء، و ينزعه اذا شاء.

و الرجال ثلاثه: رجل عاقل يورد الامور و يصدرها، فيحسن ايرادا و اصدارا، و آخر يشاور الرجال، و يقف عند آرائهم، و الثالث حائر بائر، لا ياتمر رشدا، و لايطيع مرشدا.

و قال: ما يمنعكم اذا رايتم السفيه يخرق اعراض النساء ان تعربوا عليه، قالوا: نخاف لسانه، قال: ذاك ادنى الا تكونوا شهداء.

و راى رجلا عظيم البطن، فقال: ما هذا؟ قال بركه من الله.

و قال: اذا رزقت موده من اخيك فتشبث بها ما استطعت.

و قال لقوم يحصدون الزرع: ان الله جعل ما اخطات ايديكم رحمه لفقرائكم، فلاتعودوا فيه.

و قال: ما ظهرت قط نعمه على
احد الا وجدت له حاسدا، و لو ان امرا كان اقوم من قدح، لوجدت له غامزا.

و قال: اياكم و المدح، فانه الذبح.

و قال لقبيصه بن ذويب: انت رجل حديث السن، فصيح اللسان.

و انه يكون فى الرجل تسعه اخلاق حسنه، و خلق واحد سيى ء، فيغلب الواحد التسعه، فتوق عثرات السيئات.

و قال: بحسب امرى ء من الغى ان يوذى جليسه، او يتكلف ما لايعنيه، او يعيب الناس بما ياتى مثله، و يظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه.

و قال: احترسوا من الناس بسوء الظن.

و قال فى خطبه له: لا يعجبنكم من الرجل طنطنته و لكن من ادى الامانه، و كف عن اعراض الناس فهو الرجل.

و قال: الراحه فى مهاجره خلطاء السوء.

و قال: ان لوما بالرجل ان يرفع يديه من الطعام قبل اصحابه.

و اثنى رجل على رجل عند عمر، فقال له: اعاملته؟ قال: لا، قال: اصحبته فى السفر؟ قال: لا، قال: فانت اذا القائل ما لايعلم.

و قال: لان اموت بين شعبتى رحلى، اسعى فى الارض، ابتغى من فضل الله كفاف وجهى، احب الى من ان اموت غازيا.

و كان عمر قاعدا و الدره معه، و الناس حوله، اذ اقبل الجارود العامرى، فقال رجل: هذا سيد ربيعه، فسمعها عمر و من حوله، و سمعها الجارود، فلما دنا منه، خفقه بالدره! فقال: ما لى و لك يا اميرالمومنين!قال: ويلك! سمعتها! قال: و سمعتها فمه! قال: خشيت ان تخالط القوم و يقال: هذا امير، فاحببت ان اطاطى ء منك.

و قال: من احب ان يصل اباه فى قبره، فليصل اخوان ابيه من بعده.

و قال: ان اخوف ما اخاف ان يكون، اعجاب المرء برايه، فمن قال: انى عالم فهو جاهل، و من قال: انى فى الجنه فهو فى النار.

و خرج للحج فسمع غناء راكب يغنى و هو محرم، فقيل: يا اميرالمومنين، الا تنهاه عن الغناء و هو محرم؟ فقال: دعوه، فان الغناء زاد الراكب.

و قال: يثغر الغلام لسبع، و يحتلم لاربع عشره، و ينتهى طوله لاحدى و عشرين، و يكمل عقله لثمان و عشرين، و يصير رجلا كاملا لاربعين.

و روى سعيد بن المسيب، ان عمر لما صدر من الحج فى الشهر الذى قتل فيه، كوم كومه من بطحاء، و القى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، و رفع يديه الى السماء، و قال: اللهم كبرت سنى، و ضعفت قوتى، و انتشرت رعيتى، فاقبضنى اليك غير مضيع و لا مفرط.

ثم قدم المدينه فخطب الناس، فقال: ايها الناس قد فرضت لكم الفرائض، و سننت لكم السنن، و تركتكم على الواضحه، الا ان تضلوا بالناس يمينا و شمالا.

اياكم ان تنتهوا عن آيه الرجم، و ان يقول قائل: لانجد ذلك حدا فى كتاب الله، فقد رايت رسول الله رجم و رجمنا بعده
، و لو لا ان يقول الناس: ان ابن الخطاب احدث آيه فى كتاب الله لكتبتها، و لقد كنا نقروها: (و الشيخ و الشيخه اذا زنيا فارجموهما البته): فما انسلخ ذو الحجه حتى طعن.

دفع الى عمر صك محله فى شعبان، فقال: اى شعبان؟ الذى مضى ام الذى نحن فيه؟ ثم جمع اصحاب رسول الله (ص)، و قال: ضعوا للناس تاريخا يرجعون اليه، فقال قائل منهم: اكتبوا على تاريخ الروم، فقيل: انه يطول، و انه مكتوب من عهد ذى القرنين.

و قال قائل: بل اكتبوا على تاريخ الفرس، (فقيل ان الفرس) كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله.

فقال على (ع): اكتبوا تاريخكم منذ خرج رسول الله (ص) من دار الشرك الى دار النصره، و هى دار الهجره، فقال عمر: نعم ما اشرت به، فكتب للهجره، بعد مضى سنتين و نصف من خلافه عمر.

قال المورخون: ان عمر اول من سن قيام رمضان فى جماعه، و كتب به الى البلدان، و اقام الحد فى الخمر ثمانين، و احرق بيت رويشد الثقفى، و كان نباذا، و اقام فى عمله بنفسه.

و اول من حمل الدره و ادب بها.

و قيل بعده كانت دره عمر اهيب من سيف الحجاج.

و هو اول من فتح الفتوح، فتح العراق كله: السواد و الجبال و اذربيجان، و كور البصره، و كور الكوفه و الاهواز، و فارس، و فتح الشام كلها ما خلا اجناد
ين، فانها فتحت فى خلافه ابى بكر.

و فتح كور الجزيره و الموصل و مصر و الاسكندريه، و قتله ابولولوه و خيله على الرى.

و هو اول من مسح السواد و وضع الخراج على الارض، و الجزيه على جماجم اهل الذمه فيما فتحه من البلدان، و بلغ خراج السواد فى ايامه مائه الف الف درهم و عشرين الف الف درهم بالوافيه، و هى وزن الدينار من الذهب.

و هو اول من مصر الامصار، و كوف الكوفه، و بصر البصره، و انزلها العرب، و اول من استقضى القضاه فى الامصار، و اول من دون الدواوين، و كتب الناس على قبائلهم، و فرض لهم الاعطيه، و هو اول من قاسم العمال و شاطرهم اموالهم، و كان يستعمل قوما و يدع افضل منهم لبصرهم بالعمل، و قال: اكره ان ادنس هولاء بالعمل.

و هو الذى هدم مسجد رسول الله (ص): و زاد فيه، و ادخل دار العباس فيما زاد.

و هو الذى اخرج اليهود من الحجاز، و اجلاهم عن جزيره العرب الى الشام.

و هو الذى فتح البيت المقدس، و حضر الفتح بنفسه.

و هو الذى اخر المقام الى موضعه اليوم، و كان ملصقا بالبيت.

و حج بنفسه خلافته كلها الا السنه الاولى، فانه استخلف على الحج عبدالرحمن بن عوف.

و هو الذى جاء بالحصى من العقيق فبسطه فى مسجد المدينه، و كان الناس اذا رفعوا رئوسهم من ا
لسجود نفضوا ايديهم.

و روى ابوهريره، قال: قدمت على عمر من عند ابى موسى بثمانمائه الف درهم، فقال لى: بما ذا قدمت؟ قلت: بثمانمائه الف درهم، فقال: الم اقل لك انك يمان احمق، ويحك! انما قدمت بثمانين الف درهم، فقلت: يا اميرالمومنين انما قدمت بثمانمائه الف درهم، فجعل يعجب و يكررها، فقال: ويحك! و كم ثمانمائه الف درهم؟ فعددت مائه الف، و مائه الف حتى بلغت ثمانيه، فاستعظم ذلك، و قال: اطيب هو ويحك! قلت: نعم، فبات عمر ليلته تلك ارقا حتى اذا نودى لصلاه الصبح، قالت له امراته: ما نمت هذه الليله، قال: و كيف انام و قد جاء الناس ما لم ياتهم مثله منذ قام الاسلام، فظنت المراه انها داهيه، فسالته، فقال: مال جم، حمله ابوموسى، قالت: فما بالك؟ قال ما يومننى لو مت و هذا المال عندى لم اضعه فى حقه! فخرج يصلى الصبح، و اجتمع الناس اليه، فقال لهم: قد رايت فى هذا المال رايا فاشيروا على، رايت ان اكيله للناس بالمكيال، قالوا: لا يا اميرالمومنين، قال: لا بل ابدا برسول الله (ص) و باهله، ثم الاقرب فالاقرب، فبدا ببنى هاشم، ثم ببنى المطلب، ثم بعبد شمس و نوفل، ثم بسائر بطون قريش.

قسم عمر مروطا بين نساء المدينه فبقى مرط جيد له فقال بعض من عنده: اعط هذا
يا اميرالمومنين ابنه رسول الله التى عندك- يعنون ام كلثوم ابنه على (ع)- فقال: ام سليط احق به، فانها ممن بايع رسول الله (ص)، و كانت تزفر لنا (القرب) يوم احد.

و روى زيد بن اسلم عن ابيه، قال: خرجت مع عمر الى السوق، فلحقته امراه شابه، فقالت: يا اميرالمومنين، هلك زوجى، و ترك صبيه صغارا لاينضحون كراعا، لا زرع لهم و لاضرع، و قد خشيت عليهم الضيعه، و انا ابنه خفاف بن اسماء الغفارى، و قد شهد ابى الحديبيه.

فوقف عمر معها و لم يمض، و قال: مرحبا بنسيب قريب! ثم انصرف الى بعير ظهير كان مربوطا فى الدار، فحمل عليه غرارتين ملاهما طعاما، و جعل بينهما نفقه و ثيابا، ثم ناولها خطامه و قال: اقتاديه فلن يفنى هذا حتى ياتيكم الله بخير.

فقال له رجل: لقد اكثرت لها يا اميرالمومنين! فقال: ثكلتك امك! و الله لكانى ارى ابا هذه و اخاها، و قد حاصرا حصنا فافتتحاه.

فافترقنا، ثم اصبحنا نستقرى ء سهماننا فيه.

و روى الاوزاعى ان طلحه تبع عمر ليله، فرآه دخل بيتا ثم خرج، فلما اصبح ذهب طلحه الى ذلك البيت، فراى امراه عمياء مقعده، فقال لها: ما بال رجل اتاك الليله؟ قالت: انه رجل يتعاهدنى منذ كذا و كذا، ياتينى بما يصلحنى، فقال طلحه: ثكلتك امك يا طلحه! تريد ت
تبع عمر! خرج عمر الى الشام، حتى اذا كان ببعض الطريق، لقيه امراء الاجناد: ابوعبيده بن الجراح و اصحابه، فاخبروه ان الوباء قد وقع بالشام، فقال لابن عباس: ادع لى المهاجرين، فدعاهم فسالهم، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم، خرجت لامر و لانرى ان ترجع عنه.

و قال بعضهم: معك بقيه الناس و اصحاب رسول الله (ص)، و لانرى ان تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عنى، ثم قال لابن عباس: ادع لى الانصار، فدعاهم فاستشارهم، فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين، فقال لابن عباس: ادع لى من كان من مشيخه قريش من مهاجره الفتح، فدعاهم فقالوا باجمعهم: نرى ان ترجع بالناس و لا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر فى الناس: انى مصبح على ظهر، فاصبحوا عليه، فقال له ابوعبيده بن الجراح: افرارا من قدر الله تعالى! فقال عمر: لو غيرك قالها يا اباعبيده! نعم نفر من قدر الله الى قدر الله، ارايت لو كان لك ابل فهبطت واديا له عدوتان، احداهما خصبه و الاخرى جدبه، اليس ان رعيت الخصبه رعيتها بقدر الله، و ان رعيت الجدبه رعيتها بقدر الله! فجاء عبدالرحمن بن عوف- و كان متغيبا فى بعض حاجته- فقال: ان عندى من هذا علما، سمعت رسول الله (ص) يقول: (اذا سمعتم به بارض فلا تقدموا، عليه و ا
ذا وقع بارض و انتم بها فلا تخرجوا فرارا منه) فحمد عمر الله عز و جل و انصرف الى المدينه.

و روى ابن عباس، قال: خرجت مع عمر الى الشام فى احدى خرجاته، فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته، فقال لى: يا بن عباس، اشكو اليك ابن عمك، سالته ان يخرج معى فلم يفعل، و لم ازل اراه واجدا، فيم تظن موجدته؟ قلت: يا اميرالمومنين، انك لتعلم، قال: اظنه لايزال كئيبا لفوت الخلافه، قلت: هو ذاك، انه يزعم ان رسول الله اراد الامر له، فقال: يا بن عباس، و اراد رسول الله (ص) الامر له فكان ما ذا اذا لم يرد الله تعالى ذلك! ان رسول الله (ص) اراد امرا، و اراد الله غيره، فنفذ مراد الله تعالى و لم ينفذ مراد رسوله، او كلما اراد رسول الله (ص) كان! انه اراد اسلام عمه و لم يرده الله فلم يسلم! و قد روى معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ، و هو قوله: ان رسول الله (ص) اراد ان يذكره للامر فى مرضه، فصددته عنه خوفا من الفتنه، و انتشار امر الاسلام، فعلم رسول الله ما فى نفسى و امسك، و ابى الله الا امضاء ما حتم.

و حدثنى الحسين بن محمد السينى، قال: قرات على ظهر كتاب، ان عمر نزلت به نازله، فقام لها و قعد، و ترنح لها و تقطر، و قال لمن عنده: معشر الحاضرين، ما تقولون فى
هذا الامر؟ فقالوا: يا اميرالمومنين انت المفزع و المنزع، فغضب و قال: (يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا)، ثم قال: اما و الله انى و اياكم لنعلم ابن بجدتها و الخبير بها، قالوا: كانك اردت ابن ابى طالب! قال: و انى يعدل بى عنه، و هل طفحت حره مثله! قالوا: فلو دعوت به يا اميرالمومنين! قال: هيهات! ان هناك شمخا من هاشم، و اثره من علم، و لحمه من رسول الله (ص)، يوتى و لا ياتى، فامضو بنا اليه.

فانقصفوا نحوه و افضوا اليه، فالفوه فى حائط له، عليه تبان، و هو يتركل على مسحاته، و يقرا: (ايحسب الانسان ان يترك سدى) الى آخر السوره، و دموعه تهمى على خديه، فاجهش الناس لبكائه فبكوا، ثم سكت و سكتوا، فساله عمر عن تلك الواقعه فاصدر جوابها، فقال عمر: اما و الله لقد ارادك الحق، و لكن ابى قومك، فقال: يا اباحفص، خفض عليك من هنا و من هنا (ان يوم الفصل كان ميقاتا)، فوضع عمر احدى يديه على الاخرى، و اطرق الى الارض، و خرج كانما ينظر فى رماد.

قلت: اجدر بهذا الخبر ان يكون موضوعا، و فيه ما يدل على ذلك، من كون عمر اتى عليا يستفتيه فى المساله، و الاخبار كثيره بانه ما زال يدعوه الى منزله و الى المسجد، و ايضا فان عليا لم يخاطب عمر منذ
ولى الخلافه بالكنيه، و انما كان يخاطبه بامره المومنين، هكذا تنطق كتب الحديث و كتب السير و التواريخ كلها.

و ايضا فان هذا الخبر لم يسند الى كتاب معين، و لا الى راو معين، بل ذكر ذلك انه قراه على ظهر كتاب، فيكون مجهولا، و الحديث المجهول غير الصحيح.

فاما ثناء عمر على اميرالمومنين فصحيح غير منكر، و فى الروايات منه الكثير الواسع، و لكنا انكرنا هذا الخبر بعينه خاصه، و قد روى عن ابن عباس ايضا، قال: دخلت على عمر يوما فقال: يابن العباس، لقد اجهد هذا الرجل نفسه فى العباده حتى نحلته، رياء.

قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمك- يعنى عليا- قلت: و ما يقصد بالرياء اميرالمومنين؟ قال: يرشح نفسه بين الناس للخلافه، قلت: و ما يصنع بالترشيح! قد رشحه لها رسول الله (ص) فصرفت عنه.

قال: انه كان شابا حدثا، فاستصغرت العرب سنه، و قد كمل الان، الم تعلم ان الله تعالى لم يبعث نبيا الا بعد الاربعين! قلت: يا اميرالمومنين، اما اهل الحجى و النهى فانهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار الاسلام، و لكنهم يعدونه محروما مجدودا، فقال: اما انه سيليها بعد هياط و مياط، ثم تزل فيها قدمه، و لايقضى منها اربه، و لتكونن شاهدا ذلك يا عبدالله، ثم يتبين الصبح لذى
عينين، و تعلم العرب صحه راى المهاجرين الاولين الذين صرفوها عنه بادى ء بدء، فليتنى اراكم بعدى يا عبدالله! ان الحرص محرمه، و ان دنياك كظلك، كلما هممت به ازداد عنك بعدا.

نقلت هذا الخبر من "امالى ابى جعفر محمد بن حبيب"، رحمه الله.

و نقلت منه ايضا ما رواه عن ابن عباس، قال: تبرم عمر بالخلافه فى آخر ايامه، و خاف العجز، و ضجر من سياسه الرعيه، فكان لايزال يدعو الله بان يتوفاه.

فقال لكعب الاحبار يوما و انا عنده: انى قد احببت ان اعهد الى من يقوم بهذا الامر، و اظن وفاتى قد دنت، فما تقول فى على؟ اشر على فى رايك و اذكرنى ما تجدونه عندكم، فانكم تزعمون ان امرنا هذا مسطور فى كتبكم، فقال: اما من طريق الراى فانه لايصلح، انه رجل متين الدين، لايغضى على عوره، و لايحلم عن زله، و لايعمل باجتهاد رايه، و ليس هذا من سياسه الرعيه فى شى ء، و اما ما نجده فى كتبنا فنجده لا يلى الامر و لا ولده، و ان وليه كان هرج شديد، قال: كيف ذاك؟ قال: لانه اراق الدماء، فحرمه الله الملك.

ان داود لما اراد ان يبنى حيطان بيت المقدس اوحى الله اليه: انك لا تبنيه، لانك ارقت الدماء، و انما يبنيه سليمان.

فقال عمر: اليس بحق اراقها؟ قال كعب: و داود بحق اراقها يا ام
يرالمومنين.

قال: فالى من يفضى الامر تجدونه عندكم؟ قال: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعه و الاثنين من اصحابه، الى اعدائه الذين حاربهم و حاربوه، و حاربهم على الدين.

فاسترجع عمر مرارا، و قال: اتستمع يابن عباس! اما و الله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا، سمعته يقول: (ليصعدن بنواميه على منبرى، و لقد اريتهم فى منامى ينزون عليه نزو القرده) و فيهم انزل: (و ما جعلنا الرويا التى اريناك الا فتنه للناس و الشجره الملعونه فى القرآن) و قد روى الزبير بن بكار فى "الموفقيات" ما يناسب هذا عن المغيره بن شعبه، قال: قال لى عمر يوما: يا مغيره، هل ابصرت بهذه عينك العوراء منذ اصيبت؟ قلت: لا، قال: اما و الله ليعورن بنواميه الاسلام كما اعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لايدرى اين يذهب و لا اين يجى ئ؟ قلت: ثم ماذا يا اميرالمومنين؟ قال: ثم يبعث الله تعالى بعد مائه و اربعين او بعد مائه و ثلاثين وفدا كوفد الملوك، طيبه ريحهم، يعيدون الى الاسلام بصره و شتاته.

قلت: من هم يا اميرالمومنين؟ قال: حجازى و عراقى، و قليلا ما كان، و قليلا مادام.

و روى ابوبكر الانبارى فى "اماليه" ان عليا (ع) جلس الى عمر فى المسجد، و عنده ناس، فلما قام عرض واحد بذكره، و نس
به الى التيه و العجب، فقال عمر: حق لمثله ان يتيه! و الله لولا سيفه لما قام عمود الاسلام، و هو بعد اقضى الامه و ذو سابقتها و ذو شرفها، فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا اميرالمومنين عنه؟ قال: كرهناه على حداثه السن و حبه بنى عبدالمطلب.

قلت: سالت النقيب اباجعفر يحيى بن محمد بن ابى زيد- و قد قرات عليه هذه الاخبار- فقلت له: ما اراها الا تكاد تكون داله على النص، و لكنى استبعد ان يجتمع الصحابه على دفع نص رسول الله (ص) على شخص بعينه، كما استبعدنا من الصحابه على رد نصه على الكعبه و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين، فقال لى رحمه الله: ابيت الا ميلا الى المعتزله! ثم قال: ان القوم لم يكونوا يذهبون فى الخلافه الى انها من معالم الدين، و انها جاريه مجرى العبادات الشرعيه، كالصلاه و الصوم، و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الامور الدنيويه، و يذهبون لهذا، مثل تامير الامراء و تدبير الحروب و سياسه الرعيه، و ما كانوا يبالون فى امثال هذا من مخالفه نصوصه (ص) اذا راوا المصلحه فى غيرها، الا تراه كيف نص على اخراج ابى بكر و عمر فى جيش اسامه، و لم يخرجا لما رايا ان فى مقامهما مصلحه للدوله و للمله، و حفظا للبيضه، و دفعا للفتنه، و قد كان رسول ا
لله (ص) يخالف و هو حى فى امثال ذلك فلاينكره، و لايرى به باسا الست تعلم انه نزل فى غزاه بدر منزلا على ان يحارب قريشا فيه، فخالفته الانصار و قالت له: ليس الراى فى نزولك هذا المنزل فاتركه، و انزل فى منزل كذا، فرجع الى آرائهم! و هو الذى قال للانصار عام قدم الى المدينه: (لا توبروا النخل)، فعملوا على قوله فحالت نخلهم فى تلك السنه و لم تثمر حتى قال لهم: (انتم اعرف بامر دنياكم و انا اعرف بامر دينكم)، و هو الذى اخذ الفداء من اسارى بدر، فخالفه عمر، فرجع الى تصويب رايه بعد ان فات الامر و خلص الاسرى و رجعوا الى مكه، و هو الذى اراد ان يصالح الاحزاب على ثلث تمر المدينه ليرجعوا عنه، فاتى سعد بن معاذ و سعد بن عباده فخالفاه، فرجع الى قولهما، و قد كان قال لابى هريره: اخرج فناد فى الناس: (من قال لا اله الا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنه)، فخرج ابوهريره فاخبر عمر بذلك فدفعه فى صدره، حتى وقع على الارض، فقال: لاتقلها، فانك ان تقلها يتكلوا عليها، و يدعوا العمل، فاخبر ابوهريره رسول الله (ص) بذلك، فقال: (لاتقلها و خلهم يعملون)، فرجع الى قول عمر! و قد اطبقت الصحابه اطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما راوا المصلحه فى ذلك، كاسقاطهم س
هم ذوى القربى و اسقاط سهم المولفه قلوبهم، و هذان الامران ادخل فى باب الدين منهما فى باب الدنيا، و قد عملوا بارائهم امور الم يكن لها ذكر فى الكتاب و السنه، كحد الخمر فانهم عملوه اجتهادا، و لم يحد رسول الله (ص) شاربى الخمر، و قد شربها الجم الغفير فى زمانه بعد نزول آيه التحريم، و لقد كان اوصاهم فى مرضه.

ان اخرجوا نصارى نجران من جزيره العرب فلم يخرجوهم، حتى مضى صدر من خلافه عمر، و عملوا فى ايام ابى بكر برايهم فى ذلك باستصلاحهم، و هم الذين هدموا المسجد بالمدينه، و حولوا المقام بمكه، و عملوا بمقتضى ما يغلب فى ظنونهم من المصلحه، و لم يقفوا مع موارد النصوص، حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد، فرجح كثير منهم القياس على النص، حتى استحالت الشريعه، و صار اصحاب القياس اصحاب شريعه جديده.

قال النقيب: و اكثر ما يعملون بارائهم، فيما يجرى مجرى الولايات و التامير و التدبير و تقرير قواعد الدوله، و ما كانوا يقفون مع نصوص الرسول (ص) و تدبيراته اذا راوا المصلحه فى خلافها، كانهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقه بقيد غير مذكور لفظا، و كانهم كانوا يفهمونه من قرائن احواله، و تقدير ذلك القيد: (افعلوا كذا ان رايتموه مصلحه).

قال: و اما مخالفتهم له ف
يما هو محض الشرع و الدين، و ليس بمتعلق بامور الدنيا و تدبيراتها، فانه يقل جدا، نحو ان يقول: (الوضوء شرط فى الصلاه)، فيجمعوا على رد ذلك و يجيزوا الصلاه من غير وضوء، او يقول: (صوم شهر رمضان واجب)، فيطبقوا على مخالفه ذلك و يجعلوا شوالا عوضا عنه، فانه بعيد، اذ لا غرض لهم فيه، و لايقدرون على اظهار مصلحه عثروا عليها خفيت عنه (ص).

و القوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم ان العرب لاتطيع عليا (ع)، فبعضها للحسد، و بعضها للوتر و الثار، و بعضها لاستحداثهم سنه، و بعضها لاستطالته عليهم و رفعه عنهم، و بعضها كراهه اجتماع النبوه و الخلافه فى بيت واحد، و بعضها للخوف من شده وطاته و شدته فى دين الله، و بعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافه اذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه، فيكون رجاء كل حى لوصولهم اليها ثابتا مستمرا، و بعضها ببغضه، لبغضهم من قرابته لرسول الله (ص)- و هم المنافقون من الناس، و من فى قلبه زيغ من امر النبوه- فاصفق الكل اصفاقا واحدا على صرف الامر عنه لغيره، و قال روساوهم: انا خفنا الفتنه: و علمنا ان العرب لاتطيعه و لاتتركه، و تاولوا عند انفسهم النص، و لاينكر النص، و قالوا: انه النص، و لكن الحاضر يرى ما لا يرى ا
لغائب، و الغائب قد يترك لاجل المصلحه الكليه، و اعانهم على ذلك مسارعه الانصار الى ادعائهم الامر، و اخراجهم سعد بن عباده من بيته و هو مريض، لينصبوه خليفه- فيما زعموا- و اختلط الناس، و كثر الخبط، و كادت الفتنه ان تشتعل نارها، فوثب روساء المهاجرين، فبايعوا ابابكر و كانت فلته- كما قال قائلهم- و زعموا انهم اطفئوا بها نائره الانصار، فمن سكت من المسلمين، و اغضى و لم يتعرض، فقد كفاهم امر نفسه، و من قال سرا او جهرا: ان فلانا قد كان رسول الله (ص) ذكره، او نص عليه او اشار اليه، اسكتوه فى الجواب، بانا بادرنا الى عقد البيعه مخافه الفتنه، و اعتذروا عنده ببعض ما تقدم، اما انه حديث السن او تبغضه العرب، لانه وترها و سفك دمائها، او لانه صاحب زهو وتيه، او كيف تجتمع النبوه و الخلافه فى مغرس واحد! بل قد قالوا فى العذر ما هو اقوى من هذا و اوكد، قالوا: ابوبكر اقوى على هذا الامر منه، لا سيما و عمر يعضده و يساعده، و العرب تحب ابابكر و يعجبها لينه و رفقه، و هو شيخ مجرب للامور لا يحسده احد، و لا يحقد عليه احد، و لا يبغضه احد، و ليس بذى شرف فى النسب فيشمخ على الناس بشرفه، و لا بذى قربى من الرسول (ص) فيدل بقربه، ودع ذا كله، فانه فضل مستغن
ى عنه.

قالوا: لو نصبنا عليا (ع)، ارتد الناس عن الاسلام و عادت الجاهليه كما كانت، فايما اصلح فى الدين؟ الوقوف مع النص المفضى الى ارتداد الخلق و رجوعهم الى الاصنام و الجاهليه ام العمل بمقتضى الاصلح و استبقاء الاسلام و استدامه العمل بالدين، و ان كان فيه مخالفه النص! قال رحمه الله: و سكت الناس عن الانكار، فانهم كانوا متفرقين، فمنهم من هو مبغض شانى ء لعلى (ع)، فالذى تم من صرف الامر عنه هو قره عينه، و برد فواده، و منهم ذو الدين و صحه اليقين، الا انه لما راى كبراء الصحابه قد اتفقوا على صرف الامر عنه، ظن انهم انما فعلوا ذلك لنص سمعوه من رسول الله (ص) ينسخ ما قد كان سمعه من النص على اميرالمومنين (ع)، لا سيما ما رواه ابوبكر من قول النبى (ص): (الائمه من قريش)، فان كثيرا من الناس توهموا انه ناسخ للنص الخاص، و ان معنى الخبر انكم مباحون فى نصب امام من قريش، من اى بطون قريش كان، فانه يكون اماما.

و اكد ايضا فى نفوسهم رفض النص الخاص ما سمعوه من قول رسول الله (ص): (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)، و قوله (ع): (سالت الله الا يجمع امتى على ضلال، فاعطانيها، فاحسنوا الظن بعاقدى البيعه).

و قالوا: هولاء اعرف باغراض رسول الله
(ص) من كل احد، فامسكوا و كفوا عن الانكار، و منهم فرقه اخرى- و هم الاكثرون- اعراب و جفاه، و طغام اتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، فهولاء مقلدون لايسالون و لاينكرون، و لايبحثون، و هم مع امرائهم و ولاتهم، لو اسقطوا عنهم الصلاه الواجبه لتركوها، فلذلك امحق النص، و خفى و درس، و قويت كلمه العاقدين لبيعه ابى بكر، و قواها زياده على ذلك اشتغال على و بنى هاشم برسول الله (ص)، و اغلاق بابهم عليهم، و تخليتهم الناس يعملون ما شاء و او احبوا، من غير مشاركه لهم فيما هم فيه، لكنهم ارادوا استدراك ذلك بعد ما فات، و هيهات الفائت لارجعه له! و اراد على (ع) بعد ذلك نقض البيعه، فلم يتم له ذلك، و كانت العرب لاترى الغدر، و لا تنقض البيعه صوابا كانت او خطا، و قد قالت له الانصار و غيرها: ايها الرجل، لو دعوتنا الى نفسك قبل البيعه لما عدلنا بك احدا، و لكنا قد بايعنا، فكيف السبيل الى نقض البيعه بعد وقوعها! قال النقيب: و مما جرا عمر على بيعه ابى بكر و العدول عن على- مع ما كان يسمعه من الرسول (ص) فى امره- انه انكر مرارا على الرسول (ص) امورا اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله (ص) انكاره، بل رجع فى كثير منها اليه، و اشار عليه بامور كثيره نزل القرآ
ن فيها بموافقته، فاطمعه ذلك فى الاقدام على اعتماد كثير من الامور التى كان يرى فيها المصلحه، مما هى خلاف النص، و ذلك نحو انكاره عليه فى الصلاه على عبدالله بن ابى المنافق، و انكاره فداء اسارى بدر، و انكاره عليه تبرج نسائه للناس، و انكاره قضيه الحديبيه، و انكاره امان العباس لابى سفيان ابن حرب، و انكاره واقعه ابى حذيفه بن عتبه، و انكاره امره بالنداء: (من قال لا اله الا الله دخل الجنه)، و انكاره امره بذبح النواضح، و انكاره على النساء بحضره رسول الله (ص) هيبتهن له دون رسول الله (ص)... الى غير ذلك من امور كثيره تشتمل عليها كتب الحديث، و لو لم يكن الا انكاره قول رسول الله (ص) فى مرضه: (ائتونى بدواه و كتف اكتب لكم ما لاتضلون بعدى)، و قوله ما قال، و سكوت رسول الله (ص) عنه.

و اعجب الاشياء انه قال ذلك اليوم: حسبنا كتاب الله، فافترق الحاضرون من المسلمين فى الدار، فبعضهم، يقول: القول ما قال رسول الله (ص)، و بعضهم يقول: القول ما قال عمر، فقال رسول الله و قد كثر اللغط، و علت الاصوات: (قوموا عنى فما ينبغى لنبى ان يكون عنده هذا التنازع)! فهل بقى للنبوه مزيه او فضل اذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين، و ميل المسلمون بينهما، فر
جح قوم هذا، و قوم هذا! فليس ذلك دالا على ان القوم سووا بينه و بين عمر، و جعلوا القولين مساله خلاف، ذهب كل فريق الى نصره واحد منهما، كما يختلف اثنان من عرض المسلمين فى بعض الاحكام، فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون، فمن بلغت قوته و همته الى هذا، كيف ينكر منه انه يبايع ابابكر لمصلحه رآها، و يعدل عن النص! و من الذى كان ينكر عليه ذلك، و هو فى القول الذى قاله للرسول (ص) فى وجهه غير خائف من الانصار، و لاينكر عليه احد، لا رسول الله (ص) و لا غيره، و هو اشد من مخالفه النص فى الخلافه و افظع و اشنع.

قال النقيب: على ان الرجل ما اهمل امر نفسه، بل اعد اعذارا و اجوبه، و ذلك لانه قال لقوم عرضوا له بحديث النص: ان رسول الله (ص) رجع عن ذلك باقامته ابابكر فى الصلاه مقامه، و اوهمهم ان ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافه، و قال يوم السقيفه: ايكم يطيب نفسا ان يتقدم قدمين قدمهما رسول الله (ص) فى الصلاه! ثم اكد ذلك بان قال لابى بكر، و قد عرض عليه البيعه: انت صاحب رسول الله (ص) فى المواطن كلها، شدتها و رخائها، رضيك لديننا، افلا نرضاك لدنيانا! ثم عاب عليا بخطبته بنت ابى جهل، فاوهم ان رسول الله (ص) كرهه لذلك و وجد عليه، و ارضاه عمرو بن العاص،
فروى حديثا افتعله و اختلقه على رسول الله، قال سمعته يقول: (ان آل ابى طالب ليسوا لى باولياء، انما وليى الله و صالح المومنين)، فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله (ص): (من كنت مولاه فهذا مولاه).

قلت للنقيب: ايصح النسخ فى مثل هذا؟ اليس هذا نسخا للشى ء قبل تقضى وقت فعله؟ فقال: سبحان الله! من اين تعرف العرب هذا؟ و انى لها ان تتصوره فضلا عن ان تحكم بعدم جوازه! فهل يفهم حذاق الاصوليين هذه المساله، فضلا عن حمقى العرب! هولاء قوم ينخدعون بادنى شبهه، و يستمالون باضعف سبب، و تبنى الامور معهم على ظواهر النصوص و اوائل الادله، و هم اصحاب جهل و تقليد، لا اصحاب تفضيل و نظر! قال: ثم اكد حسن ظن الناس بهم انهم اطلقوا انفسهم عن الاموال، و زهدوا فى متاع الدنيا و زخرفها، و سلكوا مسلك الرفض لزينتها، و الرغبه عنها و القناعه بالطفيف النزر منها، و اكلوا الخشن، و لبسوا الكرابيس، و لما القت اليهم الدنيا افلاذ كبدها، و فرقوا الاموال على الناس، و قسموها بينهم، و لم يتدنسوا منها بقليل و لا كثير، فمالت اليهم القلوب، و احبتهم النفوس، و حسنت فيهم الظنون، و قال من كان فى نفسه شبهه منهم، او وقفه فى امرهم: لو كان هولاء قد خالفوا النص لهوى انفسهم لكانوا اهل
الدنيا.

و لظهر عليهم الميل اليها، و الرغبه فيها، و الاستئثار بها.

و كيف يجمعون على انفسهم مخالفه النص، و ترك لذات الدنيا و ماربها، فيخسروا الدنيا و الاخره! و هذا لايفعله عاقل، و القوم عقلاء ذوو الباب و آراء صحيحه، فلم يبق عند احد شك فى امرهم و لا ارتياب لفعلهم، و ثبتت العقائد على ولايتهم، و تصويب افعالهم، و نسوا لذه الرياسه، و ان اصحاب الهمم العاليه لايلتفون الى الماكل و المشرب و المنكح، و انما يريدون الرياسه و نفوذ الامر، كما قال الشاعر: و قد رغبت عن لذه المال انفس و ما رغبت عن لذه النهى و الامر قال رحمه الله: و الفرق بين الرجلين و بين الثالث، ما اصيب به الثالث، و قتل تلك القتله، و خلعه الناس و حصروه، و ضيقوا عليه، بعد ان توالى انكارهم افعاله، و جبهوه فى وجهه و فسقوه، و ذلك لانه استاثر هو و اهله بالاموال، و انغمسوا فيها و استبدوا بها، فكانت طريقته و طريقتهم مخالفه لطريق الاولين، فلم تصبر العرب على ذلك، و لو كان عثمان سلك طريق عمر فى الزهد، و جمع الناس، وردع الامراء و الولاه عن الاموال، و تجنب استعمال اهل بيته، و وفر اعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس، زاهدا فيها، تاركا لها معرضا عنها، لما ضره شى ء
قط، و لا انكر عليه احد قط، و لو حول الصلاه من الكعبه الى بيت المقدس، بل لو اسقط عن الناس احدى الصلوات الخمس، و اقتنع منهم باربع، و ذلك لان همم الناس مصروفه الى الدنيا و الاموال، فاذا وجدوها سكتوا، و اذا فقدوها هاجوا و اضطربوا، الست ترى رسول الله (ص) كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين، و على اعدائه الذين يتمنون قتله و موته، و زوال دولته، فلما اعطاهم احبوه، اما كلهم او اكثرهم، و من لم يحبه منهم بقلبه جامله و داراه، و كف عن اظهار عداوته، و الاجلاب عليه و لو ان عليا صانع اصحابه بالمال، و اعطاه الوجوه و الروساء، لكان امره الى الانتظام و الاطراد اقرب، و لكنه رفض جانب التدبير الدنيوى، و آثر لزوم الدين، و تمسك باحكام الشريعه، و الملك امر آخر غير الدين، فاضطرب عليه اصحابه، و هرب كثير منهم الى عدوه.

و قد ذكرت فى هذا الفصل خلاصه ما حفظته عن النقيب ابى جعفر، و لم يكن امامى المذهب، و لا كان يبرا من السلف، و لايرتضى قول المسرفين من الشيعه، و لكنه كلام اجراه على لسانه البحث و الجدل بينى و بينه، على ان العلوى لو كان كراميا، لابد ان يكون عنده نوع من تعصب و ميل على الصحابه و ان قل.

و لنرجع الى ذكر كلام عمر من خطبته و سيرته.

كت
ب عمر الى ابى موسى، لما استعمله قاضيا، و بعثه الى العراق: من عبدالله اميرالمومنين عمر الى عبدالله بن قيس.

سلام عليك، اما بعد، فان القضاء فريضه محكمه و سنه متبعه، فافهم اذا ادلى اليك، فانه لاينفع تكلم بحق لا نفاد له.

آس بين الناس فى وجهك و عدلك و مجلسك، حتى لايطمع شريف فى حيفك، و لا يياس ضعيف من عدلك.

البينه على من ادعى و اليمين على من انكر، و الصلح جائز بين المسلمين، الا صلحا احل حراما، او حرم حلالا.

لايمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، و هديت فيه لرشدك، ان ترجع الى الحق، فان الحق قديم، و مراجعه الحق خير من التمادى فى الباطل.

الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما ليس فى كتاب و لا سنه، ثم اعرف الاشباه و الامثال، و قس الامور عند ذلك، و اعمد الى اقربها الى الله عز و جل، و اشبهها بالحق، و اجعل لمن ادعى حقا غائبا او بينه امدا ينتهى اليه، فان احضر بينته اخذت له بحقه، و الا استحللت عليه القضيه، فانه انفى للشك و اجلى للعمى.

المسلمون عدول بعضهم على بعض، الا مجلودا فى حد او مجربا عليه شهاده زور، او ظنينا فى ولاء او نسب، فان الله عز و جل تولى منكم السرائر، و درا عنكم بالبينات و الايمان الشبهات.

اياك و الغلق و الضجر
و التاذى بالخصوم، و التنكر عند الخصومات، فان الحق فى مواطن الحق يعظم الله به الاجر، و يحسن به الذخر، فمن صحت نيته، و اقبل على نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس، و من تخلق للناس بما يعلم الله عز و جل منه انه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب الله فى عاجل رزقه، و خزائن رحمته! و السلام.

ذكر هذه الرساله ابوالعباس محمد بن يزيد المبرد فى كتاب "الكامل" و اطراها، فقال: انه جمع فيها جمل الاحكام، و اختصرها باجود الكلام، و جعل الناس بعده يتخذونه، اماما فلا يجد محق عنها معدلا، و لا ظالم عن حدودها محيصا.

و كتب عمر الى عماله يوصيهم، فقال فى جمله الكتاب: ارتدوا، و ائتزروا، و انتعلوا و القوا الخفاف و السراويلات و القوا الركب، و انزوا نزوا على الخيل، و اخشوشنوا، و عليكم بالمعديه- او قال: و تمعددوا- و ارموا الاغراض، و علموا فتيانكم العوم و الرمايه، و ذروا التنعم و زى العجم، و اياكم و الحرير، فان رسول الله (ص) نهى عنه، و قال: (لاتلبسوا من الحرير الا ما كان هكذا)، و اشار باصبعه.

و كتب الى بعض عماله: ان اسعد الرعاه من سعدت به رعيته، و ان اشقى الرعاه من شقيت به رعيته، فاياك ان تزيغ فتزيغ رعيتك، فيكون مثلك عند الله مثل البهيم
ه رات الخضره فى الارض فرعت فيها تبغى السمن، و حتفها فى سمنها.

و كتب الى ابى موسى و هو بالبصره: بلغنى انك تاذن للناس الجماء الغفير، فاذا جائك كتابى هذا فاذن لاهل الشرف و اهل القرآن و التقوى و الدين، فاذا اخذوا مجالسهم فاذن للعامه، و لا توخر عمل اليوم لغد، فتتداك عليك الاعمال فتضيع، و اياك و اتباع الهوى، فان للناس اهواء متبعه، و دنيا موثره، و ضغائن محموله.

و حاسب نفسك فى الرخاء قبل حساب الشده، فانه من حاسب نفسه فى الرخاء قبل حساب الشده كان مرجعه الى الرضا و الغبطه، و من الهته حياته، و شغلته اهواوه، عاد امره الى الندامه و الحسره، انه لا يقيم امر الله فى الناس الا خصيف العقده بعيد القراره لايحنق على جره، و لايطلع الناس منه على عوره، و لايخاف فى الحق لومه لائم.

الزم اربع خصال يسلم لك دينك و تحيط بافضل حظك: اذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول و الايمان القاطعه، ثم ائذن للضعيف حتى ينبسط لسانه، و يجترى ء قلبه، و تعاهد الغريب، فانه اذا طال حبسه ترك حاجته و انصرف الى اهله، و احرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء، و السلام عليك.

و كان رجل من الانصار لايزال يهدى لعمر فخذ جزور الى ان جاء ذات يوم مع خصم له، فجعل فى اثناء ا
لكلام يقول: يا اميرالمومنين، افصل القضاء بينى و بينه كما يفصل فخذ الجزور.

قال عمر: فما زال يرددها حتى خفت على نفسى.

فقضيت عليه، و كتبت الى عمالى: اما بعد فاياكم و الهدايا، فانها من الرشا.

ثم لم اقبل له هديه فيما بعد، و لا لغيره.

و كان عمر يقول: اكتبوا عن الزاهدين فى الدنيا ما يقولون، فان الله عز و جل و كل بهم ملائكه، واضعه ايديهم على افواههم، فلايتكلمون الا بما هياه الله لهم.

و روى ابوجعفر الطبرى فى تاريخه، قال: كان عمر يقول: جردوا القرآن و لا تفسروه، و اقلوا الروايه عن رسول الله (ص)، و انا شريككم.

و قال ابوجعفر: و كان عمر اذا اراد ان ينهى الناس عن شى ء جمع اهله، فقال: انى عسيت ان انهى الناس عن كذا، و ان الناس ينظرون اليكم نظر الطير الى اللحم، و اقسم بالله لا اجد احدا منكم يفعل الا اضعفت عليه العقوبه.

قال ابوجعفر: و كان عمر شديدا على اهل الريب، و فى حق الله، صليبا حتى يستخرجه، و لينا سهلا فيما يلزمه حتى يوديه، و بالضعيف رحيما.

و روى زيد بن اسلم، عن ابيه ان نفرا من المسلمين كلموا عبدالرحمن بن عوف، فقالوا: كلم لنا عمر بن الخطاب، فقد و الله اخشانا حتى لانستطيع ان نديم اليه ابصارنا، فذكر عبدالرحمن له ذلك، فقال: او قد قالوا ذلك! و الله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله فى امرهم، و قد تشددت عليهم حتى خفت الله فى امرهم، و انا و الله اشد فرقا لله منهم لى! و روى جابر بن عبدالله، قال: قال رجل لعمر: يا خليفه الله، قال: خالف الله بك، قال: جعلنى الله فداك! قال: اذن يهينك الله.

و روى ابوجعفر، قال: استشار عمر فى امر المال كيف يقسمه، فقال له على بن ابى طالب (ع): تقسم كل سنه ما اجتمع معك من المال، و لاتمسك منه شيئا، و قال عثمان ابن عفان: ارى مالا كثيرا يسع الناس، و ان لم يحصوا حتى يعرف من اخذ ممن لم ياخذ خشيت ان ينتشر الامر.

فقال الوليد بن هشام بن المغيره: يا اميرالمومنين، قد جئت الشام فرايت ملوكها قد دونوا ديوانا، و جندوا جنودا، و فرضوا لهم ارزاقا.

فاخذ بقوله، فدعا عقيل بن ابى طالب و مخرمه بن نوفل و جبير بن- مطعم و كانوا نساب قريش- و قال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا فبدئوا ببنى هاشم، ثم اتبعوهم ابابكر و قومه، ثم عمر و قومه، على ترتيب الخلافه، فلما نظر اليه قال: وددت انه كان هكذا، لكن ابدا بقرابه النبى (ص)، الاقرب فالاقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.

قال ابوجعفر: جائت بنو عدى الى عمر، فقالوا له: يا عمر، انت خليفه رسول الله (ص).

قال: او خليفه ابى بكر، و ابوبكر خليفه رسول الله (ص)، قالوا: و ذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هولاء القوم! فقال: بخ بخ يا بنى عدى! اردتم الاكل على ظهرى، و ان اذهب حسناتى لكم! لا و الله و لو كتبتم آخر الناس، ان لى صاحبين سلكا طريقا، فان انا خالفتهما خولف بى، و الله ما ادركنا الفضل فى الدنيا الا بمحمد، و لانرجو ما نرجو من الاخره و ثوابها الا بمحمد (ص)، فهو شرفنا، و قومه اشرف العرب ثم الاقرب منه فالاقرب، و ما بيننا و بين ان نلقاه ثم لا نفارقه الى آدم الا آباء يسيره، و الله لئن جائت الاعاجم بالاعمال، و جئنا بغير عمل فانهم اولى بمحمد (ص) منا يوم القيامه.

لاينظرن رجل الى قرابته، و ليعمل بما عند الله، فان من قصر به عمله لم يسرع به نسبه.

و روى السائب بن يزيد، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: و الله ما من احد الا له فى هذا المال حق اعطيه او منعه، و ما احد احق به من احد الا عبد مملوك، و ما انا فيه الا كاحدكم، و لكنا على منازلنا من كتاب الله، و قسمنا من رسول الله (ص)، فالرجل و بلاوه فى الاسلام، و الرجل و غناوه، و الرجل و حاجته، و الله لئن بقيت لياتين الراعى بجبل صنعاء، حظه من المال و هو مكانه.

و روى نافع مولى آل الزبير، قال: سمعت اباهريره يقول: رحم الله ابن حنتمه، لقد رايته عام الرماده، و انه ليحمل على ظهره جرابين، و عكه زيت فى يده، و انه ليعتقب هو و اسلم، فلما رآنى قال: من اين يا اباهريره؟ قلت: قريبا، فاخذت اعقبه، فحملناه حتى انتهينا الى ضرار فاذا صرم من نحو عشرين بيتا من محارب، فقال عمر: ما اقدمكم؟ قالوا: الجهد، و اخرجوا لنا جلد الميته مشويا كانوا ياكلونه، و رمه العظام مسحوقه كانوا يستفونها، فرايت عمر طرح ردائه ثم برز، فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، و ارسل اسلم الى المدينه، فجاء بابعره فحملهم عليها، ثم انزلهم الجبانه، ثم كساهم، و كان يختلف اليهم و الى غيرهم حتى كفى الله ذلك.

و روى راشد بن سعد ان عمر اتى بمال، فجعل يقسم بين الناس، فازدحموا عليه، فاقبل سعد بن ابى وقاص يزاحم الناس حتى خلص اليه، فعلاه عمر بالدره، و قال: انك اقبلت، لا تهابن سلطان الله فى الارض، فاحببت بان اعلمك ان سلطان الله لا يهابك.

و قالت الشفاء ابنه عبدالله- و رات فتيانا من النساك يقتصدون فى المشى، و يتكلمون رويدا: ما هولائ؟ فقيل: نساك، فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقا، و كان اذا تكلم اسمع، و اذا مشى اسرع، و اذا ضرب اوجع.

اعان عمر رجلا على حمل شى ء، فدعا له ا
لرجل، و قال: نفعك بنوك يا اميرالمومنين! قال: بل اغنانى الله عنهم.

و من كلامه: القوه فى العمل الا يوخر عمل اليوم لغد، و الامانه الا تخالف سريرتك علانيتك، و التقوى بالتوقى، و من يتق الله يقه.

و قال عمر: كنا نعد المقرض بخيلا، انما كانت المواساه.

اتى رهط الى عمر، فقالوا: يا اميرالمومنين، كثر العيال، و اشتدت الموونه، فزدنا فى اعطياتنا، فقال: فعلتموها! جمعتم بين الضرائر، و اتخذتم الخدم من مال الله! اما لوددت انى و اياكم فى سفينتين فى لجه البحر، تذهب بنا شرقا و غربا، فلن يعجز الناس ان يولوا رجلا منهم، فان استقام اتبعوه، و ان جنف قتلوه.

فقال طلحه: و ما عليك لو قلت: و ان اعوج عزلوه! فقال: القتل ارهب لمن بعده، احذروا فتى قريش، فانه كريمها الذى لاينام الا على الرضا، و يضحك عند الغضب، و يتناول ما فوقه من تحته.

و كان يقول فى آخر ايامه عند تبرمه بالامر و ضجره من الرعيه: اللهم ملونى و مللتهم، و احسست من نفسى و احسوا منى! و لاادرى باينا يكون اللوت، و قد اعلم ان لهم قتيلا منهم فاقبضنى اليك.

و ذكر قوم من الصحابه لعمر رجلا، فقالوا: فاضل لايعرف الشر، قال: ذاك اوقع له فيه.

و روى الطبرى فى التاريخ، ان عمر استعمل عتبه بن ابى سفيان
على عمل فقدم منه بمال، فقال له: ما هذا يا عتبه؟ قال: مال خرجت به معى و تجرت فيه، قال: و ما لك تخرج المال معك الى هذا الوجه؟ فاخذ المال منه فصيره فى بيت المال، فلما قام عثمان قال لابى سفيان: انك ان طلبت ما اخذه عمر من عتبه رددته عليك، فقال له ابوسفيان: اياك و ما هممت به، انك ان خالفت صاحبك قبلك ساء راى الناس فيك.

اياك ان ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك.

و روى الطبرى ايضا ان هندا بنت عتبه بن ربيعه قامت الى عمر، فسالته ان يقرضها من بيت المال اربعه آلاف درهم تتجر فيها و تضمنها.

فخرجت بها الى بلاد كلب، فباعت و اشترت، و بلغها ان اباسفيان قد اتى معاويه يستميحه و معه ابنه عمرو بن ابى سفيان، فعدلت اليه من بلاد كلب- و كان ابوسفيان قد طلقها- فقال معاويه: ما اقدمك يا امه؟ قالت: النظر اليك يا بنى، انه عمر، و انما يعمل لله، و قد اتاك ابوك فخشيت ان تخرج اليه من كل شى ء، و اهل ذلك هو! و لكن لايعلم عمر من اين اعطيته، فيونبوك و يونبك، و لاتستقبلها ابدا.

فبعث معاويه الى ابيه و اخيه مائه دينار، و كساهما و حملهما.

فسخطها عمر، فقال ابوسفيان: لا تسخطها، فانها عطاء لم تغب عنه هند، و رجع هو و ابنه الى المدينه، فساله عمر: بكم ا
جازك معاويه؟ فقال: بمائه دينار، فسكت عمر.

و روى الاحنف، قال: اتى عبدالله بن عمير عمر، و هو يقرض الناس، فقال: يا اميرالمومنين، اقرض لى، فلم يلتفت اليه، فنخسه، فقال عمر: حس، و اقبل عليه، فقال: من انت؟ فقال: عبدالله بن عمير- و كان ابوه استشهد يوم حنين- فقال: يا يرفا، اعطه ستمائه، فاعطاه ستمائه فلم يقبلها، و رجع الى عمر فاخبره فقال: يا يرفا، اعطه ستمائه حله، فاعطاه، فلبس الحله التى كساه عمر، و رمى ما كان عليه، فقال له: خذ ثيابك هذه، فلتكن فى مهنه اهلك، و هذه لزينتك.

و روى اياس بن سلمه، عن ابيه، قال: مر عمر فى السوق، و معه الدره، فخفقنى خفقه، فاصاب طرف ثوبى، و قال: امط عن الطريق، فلما كان فى العام المقبل لقينى، فقال: يا سلمه، اتريد الحج؟ قلت: نعم، فاخذ بيدى و انطلق بى الى منزله، فاعطانى ستمائه درهم، و قال: استعن بها على حجك، و اعلم انها بالخفقه التى خفقتك، فقلت: يا اميرالمومنين، ما ذكرتها، قال: و انا ما نسيتها.

و خطب عمر فقال: ايتها الرعيه، ان لنا عليكم حقا، النصيحه بالغيب، و المعاونه على الخير.

انه ليس من حلم احب الى الله و لا اعم نفعا من حلم امام و رفقه، و ليس من جهل ابغص الى الله من جهل امام و خرفه، ايها الرعي
ه انه من ياخذ بالعافيه من بين ظهرانيه فوته الله العافيه من فوقه.

و روى الربيع بن زياد، قال: قدمت على عمر بمال من البحرين، فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه، فقال: ما قدمت به؟ قلت: خمسمائه الف، قال: ويحك! انما قدمت بخمسين الفا، قلت: بل خمسمائه الف، قال: كم يكون ذلك؟ قلت: مائه الف و مائه الف و مائه الف، حتى عددت خمسا، فقال: انك ناعس، ارجع الى بيتك، ثم اغد على، فعدوت عليه.

فقال: ما جئت به؟ قلت: ما قلته لك، قال: كم هو؟ قلت: خمسمائه الف، قال: اطيب هو؟ قلت: نعم، لااعلم الا ذلك، فاستشار الصحابه فيه، فاشير عليه بنصب الديوان فنصبه، و قسم المال بين المسلمين، ففضلت عنده فضله، فاصبح فجمع المهاجرين و الانصار، و فيهم على بن ابى طالب، و قال للناس: ما ترون فى فضل فضل عندنا من هذا المال؟ فقال الناس.

يا اميرالمومنين، انا شغلناك بولايه امورنا عن اهلك و تجارتك و صنعتك، فهو لك.

فالتفت الى على فقال: ما تقول انت؟ قال: قد اشاروا عليك، قال: فقل انت، فقال له: لم تجعل يقينك ظنا؟ فلم يفهم عمر قوله، فقال: لتخرجن مما قلت، قال: اجل و الله، لاخرجن منه، اتذكر حين بعثك رسول الله (ص) ساعيا، فاتيت العباس بن عبدالمطلب، فمنعك صدقته، فكان بينكما شى ء
، فجئتما الى و قلتما: انطلق معنا الى رسول الله (ص)، فجئنا اليه، فوجدناه خاثرا فرجعنا، ثم غدونا عليه، فوجدناه طيب النفس، فاخبرته بالذى صنع العباس، فقال لك: يا عمر، اما علمت ان عم الرجل صنو ابيه! فذكرنا له ما راينا، من خثوره فى اليوم الاول، و طيب نفسه فى اليوم الثانى، فقال: انكم اتيتم فى اليوم الاول، و قد بقى عندى من مال الصدقه ديناران، فكان ما رايتم من خثورى لذلك، و اتيتم فى اليوم الثانى و قد وجهتهما، فذاك الذى رايتم من طيب نفسى.

اشير عليك الا تاخذ من هذا الفضل شيئا، و ان تفضه على فقراء المسلمين، فقال: صدقت و الله لاشكرن لك و الاولى و الاخيره.

و روى ابوسعيد الخدرى قال: حججنا مع عمر اول حجه حجها فى خلافته، فلما دخل المسجد الحرام، دنا من الحجر الاسود فقبله و استلمه، و قال: انى لاعلم انك حجر لاتضر و لاتنفع، و لولا انى رايت رسول الله (ص) قبلك و استلمك، لما قبلتك و لا استلمتك، فقال له على: بلى يا اميرالمومنين، انه ليضر و ينفع، و لو علمت تاويل ذلك من كتاب الله لعلمت ان الذى اقول لك كما اقول قال الله تعالى: (و اذ اخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم و اشهدهم على انفسهم الست) بربكم قالوا بلى).

فلما اشهدهم و اقروا له ا
نه الرب عز و جل، و انهم العبيد، كتب ميثاقهم فى رق، ثم القمه هذا الحجر، و ان له لعينين و لسانا و شفتين، تشهد لمن وافاه بالموافاه، فهو امين الله عز و جل فى هذا المكان.

فقال عمر: لا ابقانى الله بارض لست بها يا اباالحسن.

قلت: قد وجدنا فى الاثار و الاخبار فى سيره عمر اشياء تناسب قوله فى هذا الحجر الاسود، كما امر بقطع الشجره التى بويع رسول الله (ص) تحتها بيعه الرضوان فى عمره الحديبيه، لان المسلمين بعد وفاه رسول الله (ص) كانوا ياتونها، فيقيلون تحتها، فلما تكرر ذلك اوعدهم عمر فيها، ثم امر بها فقطعت.

و روى المغيره بن سويد، قال: خرجنا مع عمر فى حجه حجها، فقرا بنا فى الفجر: (الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل)، و (لايلاف قريش)، فلما فرغ راى الناس يبادرون الى مسجد هناك، فقال: ما بالهم؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبى (ص) و الناس يبادرون اليه، فناداهم فقال: هكذا هلك اهل الكتاب قبلكم! اتخذوا آثار انبيائهم بيعا.

من عرضت له صلاه فى هذا المسجد فليصل، و من لم تعرض له صلاه فليمض.

و اتى رجل من المسلمين الى عمر، فقال: انا لما فتحنا المدائن اصبنا كتابا فيه علم من علوم الفرس، و كلام معجب، فدعا بالدره فجعل يضربه بها، ثم قرا: (نحن نقص عليك اح
سن القصص)، و يقول: ويلك! اقصص احسن من كتاب الله! انما هلك من كان قبلكم، لانهم اقبلوا على كتب علمائهم و اساقفتهم، و تركوا التوراه و الانجيل حتى درسا، و ذهب ما فيهما من العلم.

و جاء رجل الى عمر، فقال: ان ضبيعا التميمى لقينا يا اميرالمومنين، فجعل يسالنا عن تفسير حروف من القرآن، فقال: اللهم امكنى منه، فبينا عمر يوما جالس يغدى الناس اذ جاءه الضبيع، و عليه ثياب و عمامه، فتقدم فاكل، حتى اذا فرغ، قال: يا اميرالمومنين، ما معنى قوله تعالى: (و الذاريات ذروا، فالحاملات وقرا)؟ قال: ويحك انت هو! فقام اليه فحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فاذا له ضفيرتان، فقال: و الذى نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت راسك، ثم امر به فجعل فى بيت، ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائه، فاذا برا اخرجه فضربه مائه اخرى، ثم حمله على قتب و سيره الى البصره.

و كتب الى ابى موسى يامره ان يحرم على الناس مجالسته، و ان يقوم فى الناس خطيبا، ثم يقول: ان ضبيعا قد ابتغى العلم فاخطاه، فلم يزل وضيعا فى قومه و عند الناس حتى هلك، و قد كان من قبل سيد قومه.

و قال عمر على المنبر: الا ان اصحاب الراى اعداء السنن، اعيتهم الاحاديث ان يحفظوها، فافتوا بارائهم،
فضلوا و اضلوا.

الا انا نقتدى و لا نبتدى، و نتبع و لا نبتدع، انه ما ضل متمسك بالاثر.

و روى زيد بن اسلم، عن ابيه قال: سمعت عمر يقول فى الحج: فيم الرملان الان و الكشف عن المناكب، و قد اظهر الله الاسلام، و نفى الكفر و اهله! و مع ذلك لاندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله (ص).

مر عمر برجل فسلم عليه، فرد عليه، فقال: ما اسمك؟ قال: جمره، قال: ابو من؟ قال: ابوشهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقه، قال: و اين مسكنك؟ قال: بحره النار، قال: بايها؟ قال: بذات لظى، فقال: ويحك! ادرك اهلك فقد احترقوا.

فمضى عليهم فوجدهم قد احترقوا.

و روى الليث بن سعد، قال: اتى عمر بفتى امرد، قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق، فسال عن امره و اجتهد، فلم يقف له على خبر، فشق عليه، فكان يدعو و يقول: اللهم اظفرنى بقاتله، حتى اذا كان راس الحول او قريبا من ذلك، وجد طفل مولود ملقى فى موضع ذلك القتيل، فاتى به عمر، فقال: ظفرت بدم القتيل، ان شاء الله تعالى! فدفع الطفل الى امراه، و قال لها: قومى بشانه، و خذى منا نفقته، و انظرى من ياخذه منك، فاذا وجدت امراه تقبله و تضمه الى صدرها فاعلمينى مكانها، فلما شب الصبى جاءت جاريه، فقالت للمراه: ان سيدتى بعثتنى اليك لتبعثى ا
ليها بهذا الصبى، فتراه و ترده اليك، قالت: نعم، اذهبى به اليها، و انا معك، فذهبت بالصبى، حتى دخلت على امراه شابه، فاخذت الصبى، فجعلت تقبله و تفديه و تضمه اليها، و اذا هى بنت شيخ من الانصار من اصحاب رسول الله (ص)، فجاءت المراه و اخبرت عمر، فاشتمل على سيفه و اقبل الى منزلها، فوجد اباها متكئا على الباب، فقال له: ما الذى تعلم من حال ابنتك؟ قال: اعرف الناس بحق الله و حق ابيها، مع حسن صلاتها و صيامها و القيام بدينها، فقال: انى احب ان ادخل اليها و ازيدها رغبه فى الخير، فدخل الشيخ، ثم خرج فقال: ادخل يا اميرالمومنين، فدخل و امر ان يخرج كل من فى الدار الا اباها، ثم سالها عن الصبى، فلجلجت، فقال: لتصدقينى، ثم انتضى السيف، فقالت: على رسلك يا اميرالمومنين! فو الله لاصدقنك! ان عجوزا كانت تدخل على فاتخذتها اما، و كانت تقوم فى امرى بما تقوم به الوالده، و انا لها بمنزله البنت، فمكثت كذلك حينا، ثم قالت: انه قد عرض لى سفر، و لى بنت اتخوف عليها بعدى الضيعه، و انا احب ان اضمها اليك حتى ارجع من سفرى، ثم عمدت الى ابن لها امرد فهياته و زينته كما تزين المراه و اتتنى به، و لا اشك انه جاريه، فكان يرى منى ما ترى المراه من المراه، فاغتفلن
ى يوما و انا نائمه فما شعرت به حتى علانى و خالطنى، فمددت يدى الى شفره كانت عندى فقتلته، ثم امرت به فالقى حيث رايت، فاشتملت منه على هذا الصبى، فلما وضعته القيته فى موضع ابيه، هذا و الله خبرهما على ما اعلمتك! فقال عمر: صدقت بارك الله فيك! ثم اوصاها و وعظها و خرج.

و كان عمر يقول: لو ادركت عروه و عفراء لجمعت بينهما.

ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه، و قال: ما رايت احدا اتقى منه، و لااعمل بالحق منه، لا يبالى على من وقع الحق، من ولد او والد، انى لفى منزلى بمصر ضحى، اذ اتانى آت، فقال: قدم عبدالله و عبدالرحمن ابنا عمر غازيين، فقلت: اين نزلا؟ قال: فى موضع كذا- لاقصى مصر- و قد كان عمر كتب الى: اياك و ان يقدم عليك احد من اهل بيتى فتجيزه او تحبوه بامر لاتصنعه بغيره، فافعل بك ما انت اهله.

فضقت ذرعا بقدومهما، و لااستطيع ان اهدى لهما، و لا ان آتيهما فى منزلهما، خوفا من ابيهما، فو الله انى لعلى ما انا عليه، و اذا قائل يقول: هذا عبدالرحمن بن عمر بالباب و ابوسروعه يستاذنان عليك، فقلت: يدخلان، فدخلا و هما منكسران، فقالا: اقم علينا حد الله، فانا اصبنا الليله شرابا فسكرنا، فزبرتهما و طردتهما، و قلت: ابن اميرالمومنين و آخر مع
ه من اهل بدر! فقال عبدالرحمن: ان لم تفعل اخبرت ابى اذا قدمت عليه انك لم تفعل، فعلمت انى ان لم اقم عليهما الحد غضب عمر و عزلنى، فنحن على ما نحن عليه، اذ دخل عبدالله بن عمر، فقمت اليه و رحبت به، و اردت ان اجلسه فى صدر مجلسى، فابى على و قال: ان ابى نهانى ان ادخل عليك الا الا اجد من الدخول بدا، و انى لم اجد من الدخول عليك بدا، ان اخى لايحلق على رءوس الناس ابدا، فاما الضرب فاصنع ما بدا لك- قال: و كانوا يحلقون مع الحد- فاخرجتهما الى صحن الدار و ضربتهما الحد، و دخل عبدالله بن عمر باخيه عبدالرحمن الى بيت من الدار فحلق راسه، و حلق ابا سروعه، و الله ما كتبت الى عمر بحرف مما كان و اذا كتابه قد ورد: من عبدالله عمر اميرالمومنين، الى العاصى ابن العاصى، عجبت لك يا بن العاصى و لجراتك على و مخالفتك عهدى! اما انى خالفت فيك اصحاب بدر و من هو خير منك، و اخترتك و انت الخامل، و قدمتك و انت الموخر، و اخبرنى الناس بجراتك و خلافك، و اراك كما اخبروا، و ما ارانى الا عازلك فمسى ء عزلك.

ويحك! تضرب عبدالرحمن بن عمر فى داخل بيتك، و تحلق راسه فى داخل بيتك، و قد عرفت ان فى هذا مخالفتى! و انما عبدالرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من
المسلمين، و لكن قلت: هو ولد اميرالمومنين، و قد عرفت الا هواده لاحد من الناس عندى فى حق يجب لله عز و جل، فاذا جاءك كتابى هذا فابعث به فى عباءه على قتب، حتى يعرف سوء ما صنع.

قال: فبعثت به كما قال ابوه، و اقرات اخاه عبدالله كتاب ابيهما، و كتبت الى عمر كتابا اعتذر فيه و اخبرته انى ضربته فى صحن الدار، و حلفت بالله الذى لايحلف باعظم منه، انه الموضع الذى اقيم فيه الحدود على المسلم و الذمى، و بعثت بالكتاب مع عبدالله بن عمر.

فذكر اسلم مولى عمر قال: قدم عبدالله باخيه عبدالرحمن على ابيهما، فدخل عليه فى عباءه، و هو لايقدر على المشى من مركبه، فقال: يا عبدالرحمن، فعلت و فعلت! السياط السياط! فكلمه عبدالرحمن بن عوف، و قال: يا اميرالمومنين، قد اقيم عليه الحد مره، فلم يلتفت اليه و زبره، فاخذته السياط، و جعل يصيح: انا مريض و انت و الله قاتلى! فلم يرق له، حتى استوفى الحد و حبسه.

ثم مرض شهرا و مات.

و روى الزبير بن بكار، قال: خطب عمر ام كلثوم بنت على (ع)، فقال له: انها صغيره، فقال زوجنيها يا اباالحسن، فانى ارصد من كرامتها ما لا يرصده احد، فقال: انا ابعثها اليك، فان رضيتها زوجتكها.

فبعثها اليه ببرد، و قال لها قولى: هذا البرد الذى
ذكرته لك.

فقالت له ذلك، فقال: قولى له: قد رضيته رضى الله عنك- و وضع يده على ساقها- فقالت له: اتفعل هذا! لو لا انك اميرالمومنين لكسرت انفك، ثم جاءت اباها فاخبرته الخبر، و قالت: بعثتنى الى شيخ سوء! قال: مهلا يا بنيه، انه زوجك، فجاء عمر الى مجلس المهاجرين فى الروضه، و كان يجلس فيها المهاجرون الاولون، فقال: رفئونى، رفئونى، قالوا: بماذا يا اميرالمومنين؟ قال: تزوجت ام كلثوم بنت على بن ابى طالب، سمعت رسول الله (ص) يقول: (كل سبب و نسب و صهر ينقطع يوم القيامه الا سببى و نسبى و صهرى).

و كتب عثمان الى ابى موسى: اذا جاءك كتابى هذا فاعط الناس اعطياتهم، و احمل ما بقى الى.

ففعل، و جاء زيد بن ثابت بالمال، فوضعه بين يدى عثمان، فجاء ابن لعثمان، فاخذ منه استاندانه من فضه، فمضى بها فبكى زيد، قال عثمان: ما يبكيك؟ قال: اتيت عمر مثل ما اتيتك به، فجاء ابن له فاخذ درهما فامر به فانتزع منه، حتى ابكى الغلام، و ان ابنك قد اخذ هذه فلم ار احدا قال شيئا.

فقال عثمان: ان عمر كان يمنع اهله و قرابته ابتغاء وجه الله، و انا اعطى اهلى و اقاربى ابتغاء وجه الله، و لن تلقى مثل عمر.

و روى اسماعيل بن خالد، قال: قيل لعثمان الا تكون مثل عمر! قال: لااست
طيع ان اكون مثل لقمان الحكيم.

ذكرت عائشه عمر، فقالت: كان اجودنا، نسيج وحده، قد اعد للامور اقرانها.

جاء عبدالله بن سلام بعد ان صلى الناس على عمر، فقال: ان كنتم سبقتمونى بالصلاه عليه فلا تسبقونى بالثناء عليه، ثم قال: نعم اخو الاسلام كنت يا عمر! جوادا بالحق بخيلا بالباطل، ترضى حين الرضا، و تسخط حين السخط، لم تكن مداحا و لا معيابا، طيب الطرف، عفيف الطرف.

و روى جويريه بن قدامه، قال: دخلت مع اهل العراق على عمر حين اصيب، فرايته قد عصب بطنه بعمامه سوداء، و الدم يسيل، فقال له الناس: اوصنا، فقال عليكم بكتاب الله، فانكم لن تضلوا ما اتبعتموه.

فاعدنا القول عليه ثانيه: اوصنا، قال: اوصيكم بالمهاجرين، فان الناس سيكثرون و يقلون، و اوصيكم بالانصار، فانهم شعب الاسلام الذى لجا اليه، و اوصيكم بالاعراب، فانهم اصلكم الذى لجاتم اليه و ماواكم.

و اوصيكم باهل الذمه، فانهم عهد نبيكم و رزق عيالكم، قوموا عنى.

فلم احفظ من كلامه الا هذه الكلمات.

و روى عمرو بن ميمون، قال: سمعت عمر و هو يقول- و قد اشار الى السته، و لم يكلم احدا منهم الا على بن ابى طالب و عثمان، ثم امرهم بالخروج، فقال لمن كان عنده: اذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فلتضرب رقبته، ث
م قال: ان يولوها الاجلح يسلك بهم الطريق، فقال له قائل: فما يمنعك من العهد اليه؟ قال: اكره ان اتحملها حيا و ميتا.

(خطب عمر الطوال) و قال الجاحظ فى كتاب "البيان و التبيين" لم يكن عمر من اهل الخطب الطوال، و كان كلامه قصيرا، و انما صاحب الخطب الطوال على بن ابى طالب (ع).

و قد وجدت انا لعمر خطبا فيها بعض الطول، ذكرها ابوجعفر محمد بن جرير الطبرى فى التاريخ.

فمنها خطبه خطب بها حين ولى الخلافه، و هى بعد حمد الله و الثناء عليه و على رسوله: ايها الناس، انى وليت عليكم، و لو لا رجاء ان اكون خيركم لكم، و اقواكم عليكم، و اشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم اموركم، ما توليت ذلك منكم، و لكفى عمر فيها مجزى العطاء موافقه الحساب، باخذ حقوقكم كيف آخذها و وضعها اين اضعها، و بالسير فيكم كيف اسير! فربى المستعان، فان عمر لم يصبح يثق بقوه و لا حيله، ان لم يتداركه الله برحمته و عونه.

ايها الناس ان الله قد ولانى امركم، و قد علمت انفع ما لكم، و اسال الله ان يعيننى عليه، و ان يحرسنى عنده، كما حرسنى عند غيره، و ان يلهمنى العدل فى قسمكم كالذى امر به، فانى امرو مسلم، و عبد ضعيف الا ما اعان الله، و لن يغير الذى وليت من خلافتكم من خلقى شيئا ان
شاء الله.

انما العظمه لله، و ليس للعباد منها شى ء فلايقولن احدكم ان عمر تغير منذ ولى، و انى اعقل الحق من نفسى، و اتقدم و ابين لكم امرى، فايما رجل كانت له حاجه او ظلم مظلمه او عتب علينا فى خلق، فليوذنى، فانما انا رجل منكم.

فعليكم بتقوى الله فى سركم و علانيتكم و حرماتكم و اعراضكم، و اعطوا الحق من انفسكم، و لايحمل بعضكم بعضا على الا تتحاكموا الى، فانه ليس بينى و بين احد هواده، و انا حبيب الى صلاحكم، عزيز على عنتكم، و انتم اناس عامتكم حضر فى بلاد الله و اهل بلد لا زرع فيه و لاضرع الا ما جاء الله به اليه، و ان الله عز و جل قد وعدكم كرامه كبيره، و انا مسئول عن امانتى و ما انا فيه، و مطلع على ما يحضرنى بنفسى ان شاء الله، لا اكله الى احد، و لااستطيع ما بعد منه الا بالامناء و اهل النصح منكم للعامه، و لست احمل امانتى الى احد سواهم ان شاءالله.

و خطب عمر مره اخرى، فقال بعد حمد الله و الصلاه على رسول الله (ص): ايها الناس، ان (بعض) الطمع فقر، و ان بعض الياس غنى، و انكم تجمعون ما لاتاكلون، و توملون ما لاتدركون، و انتم موجلون فى دار غرور، و قد كنتم على عهد رسول الله (ص) توخذون بالوحى، و من اسر شيئا اخذ بسريرته، و من اعلن شي
ئا اخذ بعلانيته، فاظهروا لنا حسن اخلاقكم، و الله اعلم بالسرائر، فانه من اظهر لنا قبيحا، و زعم ان سريرته حسنه لم نصدقه، و من اظهر لنا علانيه حسنه ظننا (به حسنا).

و اعلموا ان بعض الشح شعبه من النفاق، فانفقوا خيرا لانفسكم، و من يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون.

ايها الناس، اطيبوا مثواكم، و اصلحوا اموركم، و اتقوا الله ربكم، و لاتلبسوا نساءكم القباطى، فانه ان لم يشف فانه يصف.

ايها الناس، انى لوددت ان انجو كفافا لا لى و لا على، انى لارجو ان عمرت فيكم يسيرا او كثيرا، ان اعمل فيكم بالحق ان شاء الله، و الا يبقى احد من المسلمين- و ان كان فى بيته- الا اتاه حقه و نصيبه من مال الله، و ان لم يعمل اليه نفسه، و لم ينصب اليه بدنه، فاصلحوا اموالكم التى رزقكم الله، فقليل فى رفق خير من كثير فى عنف.

و اعلموا ان القتل حتف من الحتوف يصيب البر و الفاجر- و الشهيد من احتسب نفسه، و اذا اراد احدكم بعيرا فليعمد الى الطويل العظيم فليضربه بعصاه، فان وجده حديد الفواد فليشتره.

و خطب عمر مره اخرى فقال: ان الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر، و اتخذ عليكم الحجج فيما اتاكم من كرامه الدنيا و الاخره من غير مساله منكم، و لا رغبه منكم فيه اليه، فخلقكم
- تبارك و تعالى- و لم تكونوا شيئا لنفسه و عبادته، و كان قادرا ان يجعلكم لاهون خلقه عليه فجعلكم عامه خلقه، و لم يجعلكم لشى ء غيره، و سخر لكم ما فى السموات و الارض، و اسبغ عليكم نعمه ظاهره و باطنه، و حملكم فى البر و البحر، و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون.

ثم جعل لكم سمعا و بصرا.

و من نعم الله عليكم نعم عم بها بنى آدم و منها نعم اختص بها اهل دينكم، ثم صارت تلك النعم خواصها فى دولتكم و زمانكم و طبقتكم، و ليس من تلك النعم نعمه وصلت الى امرى ء خاصه الا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم اتعبهم شكرها، و فدحهم حقها الا بعون الله مع الايمان بالله و رسوله، فانتم مستخلفون فى الارض قاهرون لاهلها، قد نصر الله دينكم فلم تصبح امه مخالفه لدينكم، الا امتين امه مستعبده للاسلام و اهله، يتجرون لكم، تستصفون معايشهم و كدائحهم، و رشح جباههم عليهم المونه، و لكم المنفعه، و امه تنتظر وقائع الله و سطواته فى كل يوم و ليله، قد ملا الله قلوبهم رعبا، فليس لهم معقل يلجئون اليه، و لا مهرب يتقون به، قد دهمتهم جنود الله و نزلت بساحتهم، مع رفاغه العيش و استفاضه المال، و تتابع البعوث و سد الثغور باذن الله، فى العافيه الجليله العامه التى لم تكن
الامه على احسن منها منذ كان الاسلام، و الله المحمود مع الفتوح العظام فى كل بلد، فما عسى ان يبلغ شكر الشاكرين، و ذكر الذاكرين، و اجتهاد المجتهدين، مع هذه النعم التى لايحصى عددها، و لايقدر قدرها، و لايستطاع اداء حقها الا بعون الله و رحمته و لطفه! فنسال الله الذى ابلانا هذا ان يرزقنا العمل بطاعته، و المسارعه الى مرضاته.

و اذكروا عباد الله بلاء الله عندكم، و استتموا نعمه الله عليكم و فى مجالسكم مثنى و فرادى، فان الله تعالى قال لموسى: (اخرج قومك من الظلمات الى النور و ذكرهم بايام الله) و قال لمحمد (ص): (و اذكروا اذ انتم قليل مستضعفون فى الارض) فلو كنتم اذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبه من الحق تومنون بها، و تستريحون اليها، مع المعرفه بالله و بدينه، و ترجون الخير فيما بعد الموت، و لكنكم كنتم اشد الناس عيشه و اعظم الناس بالله جهاله، فلو كان هذا الذى ابتلاكم به لم يكن معه حظ فى دنياكم غير انه ثقه لكم فى آخرتكم التى اليها المعاد و المنقلب، و انتم من جهد المعيشه على ما كنتم عليه كنتم احرياء ان تشحوا على نصيبكم منه، و ان تظهروه على غيره فبله.

اما انه قد جمع لكم فضيله الدنيا و كرامه الاخره، او لمن شاء ان يجمع
ذلك منكم، فاذكركم الله الحائل بينكم و بين قلوبكم الا ما عرفتم حق الله و عملتم له، و سيرتم انفسكم على طاعته، و جمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها و انتقالها، و وجلا من تحويلها، فانه لا شى ء اسلب للنعمه من كفرانها، و ان الشكر امن للغير، و نماء للنعمه، و استجلاب للزياده، و هذا على فى امركم و نهيكم واجب ان شاء الله.

و روى ابوعبيده معمر بن المثنى فى كتاب "مقاتل الفرسان" قال: كتب عمر الى سلمان بن ربيعه الباهلى- او الى النعمان بن مقرن: ان فى جندك رجلين من العرب: عمرو بن معديكرب و طليحه بن خويلد، فاحضرهما الناس و ادبهما و شاورهما فى الحرب، و ابعثهما فى الطلائع، و لا تولهما عملا من اعمال المسلمين، و اذا وضعت الحرب اوزارها، فضعهما حيث وضعا انفسهما.

قال: و كان عمرو ارتد، و طليحه تنبا.

و روى ابوعبيده ايضا فى هذا الكتاب، قال: قدم عمرو بن معديكرب و الاجلح بن وقاص الفهمى على عمر، فاتياه و بين يديه مال يوزن، فقال: متى قدمتما؟ قالا: يوم الخميس، قال: فما حبسكما عنى؟ قالا: شغلنا المنزل يوم قدمنا، ثم كانت الجمعه، ثم غدونا عليك اليوم.

فلما فرغ من وزن المال نحاه، و اقبل عليهما، فقال: هيه! فقال عمرو بن معديكرب: يا اميرالمومنين، ه
ذا الاجلح بن وقاص، الشديد المره، البعيد الغره، الوشيك الكره، و الله ما رايت مثله حين الرجال صارع و مصروع! و الله لكانه لايموت.

فقال عمر للاجلح- و اقبل عليه، و قد عرف الغضب فى وجهه: هيه يا اجلح! فقال الاجلح: يا اميرالمومنين، تركت الناس خلفى صالحين، كثيرا نسلهم، داره ارزاقهم، خصبه بلادهم، اجرياء على عدوهم، فاكلا عدوهم عنهم، فسيمتع الله بك، فما راينا مثلك الا من سبقك، فقال: ما منعك ان تقول فى صاحبك مثل ما قال فيك؟ قال: ما رايت من وجهك، قال: اصبت، اما انك لو قلت فيه مثل الذى قال فيك لاوجعتكما ضربا و عقوبه، فاذ تركتك لنفسك فساتركه لك، و الله لوددت لو سلمت لكم حالكم، و دامت عليكم اموركم.

اما انه سياتى عليك يوم تعضه و ينهشك، و تهره و ينبحك، و لست له يومئذ و ليس لك، فان لا يكن بعهدكم، فما اقربه منكم! لما اسر الهرمزان صاحب الاهواز و تستر و حمل الى عمر، حمل و معه رجال من المسلمين، فيهم الاحنف بن قيس و انس بن مالك، فادخلوه فى المدينه فى هيئته، و عليه تاجه الذهب و كسوته، فوجدوا عمر نائما فى جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال الهرمزان: اين عمر؟ فقالوا: هو ذا، قال: و اين حراسه و حجابه؟ قالوا: لاحارس له و لا حاج
ب، قال: فينبغى ان يكون هذا نبيا! قالوا: انه يعمل عمل الانبياء.

فاستيقظ عمر، فقال: الهرمزان! قالوا: نعم، قال: لا اكلمه حتى لايبقى عليه من حليته شى ء، فرموا بالحليه و البسوه ثوبا ضعيفا، فقال عمر: يا هرمزان: كيف رايت وبال الغدر؟- و قد كان صالح المسلمين مره ثم نكث- فقال: يا عمر، انا و اياكم فى الجاهليه كنا نغلبكم اذ لم يكن الله معكم و لا معنا، فلما كان الله معكم غلبتمونا، قال: فما عذرك فى انتقاضك مره بعد مره؟ قال: اخاف ان قلت ان تقتلنى، قال: لا باس عليك! فاخبرنى، فاستسقى ماء، فاخذه و جعلت يده ترعد، قال: ما لك؟ قال: اخاف ان تقتلنى و انا اشرب، قال: لا باس عليك حتى تشربه، فالقاه من يده، فقال: ما بالك! اعيدوا عليه الماء و لاتجمعوا عليه بين القتل و العطش، قال: كيف تقتلنى و قد امنتنى؟ قال: كذبت! قال: لم اكذب، فقال انس: صدق يا اميرالمومنين، قال: ويحك يا انس! انا اومن قاتل مجزاه بن ثور و البراء بن مالك! و الله لتاتينى بالمخرج او لاعاقبنك! قال: انك قلت: (لا باس عليك حتى تخبرنى و لا باس عليك حتى تشرب)! و قال له ناس من المسلمين مثل قول انس، فاقبل على الهرمزان، فقال: تخدعنى! و الله لاتخدعنى الا ان تسلم، فاسلم، ففرض له الفين
، و انزله المدينه.

بعث عمر عمير بن سعيد الانصارى عاملا على حمص، فمكث حولا لا ياتيه خبره، ثم كتب اليه بعد حول: اذا اتاك كتابى هذا فاقبل و احمل ما جبيت من مال المسلمين، فاخذ عمير جرابه، و جعل فيه زاده و قصعته، و علق اداته، و اخذ عنزته، و اقبل ماشيا من حمص حتى دخل المدينه، و قد شحب لونه، و اغبر وجهه، و طال شعره.

فدخل على عمر فسلم، فقال عمر: ما شانك يا عمير؟ قال: ما ترى من شانى، الست ترانى صحيح البدن، ظاهر الدم، معى الدنيا اجرها بقرنيها؟ قال: و ما معك- فظن عمر انه قد جاء بمال، قال: معى جرابى اجعل فيه زادى، و قصعتى آكل فيها و اغسل منها راسى و ثيابى، و اداتى احمل فيها وضوئى و شرابى، و عنزتى اتوكا عليها و اجاهد بها عدوا ان عرض لى.

قال عمر: افجئت ماشيا؟ قال: نعم، لم يكن لى دابه، قال: افما كان فى رعيتك احد يتبرع لك بدابه تركبها؟ قال: ما فعلوا، و لاسالتهم ذلك، قال عمر: بئس المسلمون خرجت من عندهم! قال عمير: اتق الله يا عمر، و لاتقل الا خيرا، قد نهاك الله عن الغيبه، و قد رايتهم يصلون! قال عمر: فما ذا صنعت فى امارتك؟ قال: و ما سوالك؟ قال: سبحان الله! قال: اما انى لو لااخشى ان اعمل ما اخبرتك.

اتيت البلد، فجمعت صلحاء اهله
فوليتهم جبايته، و وضعه فى مواضعه، و لو اصابك منه شى ء لاتاك، قال: افما جئت بشى ء؟ قال: لا، فقال: جددوا لعمير عهدا، قال: ان ذلك لشى ء لااعمله بعد لك، و لا لاحد بعدك، و الله ما كدت اسلم- بل لم اسلم، قلت لنصرانى معاهد: اخزاك الله، فهذا ما عرضتنى له يا عمر! ان اشقى ايامى ليوم صحبتك! ثم استاذنه فى الانصراف، فاذن له، و منزله بقباء بعيدا عن المدينه، فامهله عمر اياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث، فقال: انطلق الى عمير بن سعد و هذه مائه دينار، فان وجدت عليه اثرا فاقبل على بها، و ان رايت حالا شديده فادفع اليه هذه المائه، فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا يفلى قميصا له الى جانب حائط، فسلم عليه، فقال عمير: انزل رحمك الله! فنزل فقال: من اين جئت؟ قال: من المدينه، قال: كيف تركت اميرالمومنين؟ قال: صالحا، قال: كيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين، قال: اليس عمر يقيم الحدود؟ قال: بلى، ضرب ابنا له على فاحشه فمات من ضربه، فقال عمير: اللهم اعن عمر، فانى لااعلمه الا شديدا حبه لك! قال: فنزل به ثلاثه ايام، و ليس لهم الا قرص من شعير كانوا يخصونه كل يوم به و يطوون، حتى نالهم الجهد، فقال له عمير: انك قد اجعتنا، فان رايت ان تتحول عنا فافعل، فاخرج ا
لحارث الدنانير فدفعها اليه، و قال: بعث بها اميرالمومنين، فاستغن بها، فصاح و قال: ردها، لا حاجه لى فيها، فقالت المراه: خذها ثم ضعها فى موضعها، فقال: ما لى شى ء اجعلها فيه! فشقت اسفل درعها فاعطته خرقه فشدها فيها، ثم خرج فقسمها كلها بين ابناء الشهداء و الفقراء، فجاء الحارث الى عمر فاخبره، فقال: رحم الله عميرا! ثم لم يلبث ان هلك، فعظم مهلكه على عمر، و خرج مع رهط من اصحابه ماشين الى بقيع الغرقد، فقال لاصحابه: ليتمنين كل واحد منا امنيته، فكل واحد تمنى شيئا، و انتهت الامنيه الى عمر، فقال: وددت ان لى رجلا مثل عمير بن سعد استعين به على امور المسلمين! (نبذ من كلام عمر) و من كلام عمر: اياكم و هذه المجازر، فان لها ضراوه كضراوه الخمر.

و قال: اياكم و الراحه فانها غفله.

و قال: السمن غفله.

و قال: لاتسكنوا نساءكم الغرف، و لاتعلموهن الكتابه، و استعينوا عليهن بالعرى، و عودوهن قول (لا) فان (نعم) تجرئهن على المساله.

و قال: تبين عقل المرء فى كل شى ء، حتى فى علته، فاذا رايته يتوقى على نفسه الصبر عن شهوته، و يحتمى من مطعمه و مشربه، عرفت ذلك فى عقله، و ما سالنى رجل عن شى ء قط الا تبين لى عقله فى ذلك.

و قال: ان للناس حدودا و مناز
ل، فانزلوا كل رجل منزلته، و ضعوا كل انسان فى حده، و احملوا كل امرى ء بفعله على قدره.

و قال: اعتبروا عزيمه الرجل بحميته، و عقله بمتاع بيته.

قال ابوعثمان الجاحظ: لانه ليس من العقل ان يكون فرشه لبدا و مرقعته طبريه.

و قال: من يئس من شى ء استغنى عنه، و عز المومن استغناوه عن الناس.

و قال: لا يقوم بامر الله الا من لايصانع، و لايصارع، و لايتبع المطامع.

و قال: لاتضعفوا همتكم، فانى لم ار شيئا اقعد برجل عن مكرمه من ضعف همته.

و وعظ رجلا فقال: لاتلهك الناس عن نفسك، فان الامور اليك تصل دونهم، و لاتقطع النهار سادرا، فانه محفوظ عليك، فاذا اسات فاحسن، فانى لم ار شيئا اشد طلبا، و لااسرع ادراكا من حسنه حديثه لذنب قديم.

و قال: احذر من فلتات السباب، و كل ما اورثك النبز، و اعلقك اللقب، فانه ان يعظم بعده شانك يشتد على ذلك ندمك.

و قال: كل عمل كرهت من اجله الموت فاتركه، ثم لا يضرك متى مت.

و قال: اقلل من الدين تعش حرا، و اقلل من الذنوب يهن عليك الموت، و انظر فى اى نصاب تضع ولدك، فان العرق دساس.

و قال: ترك الخطيئه اسهل من معالجه التوبه.

و قال: احذروا النعمه حذركم المعصيه، و هى اخفهما عليكم عندى.

و قال: احذروا عاقبه الفراغ، فانه اجمع ل
ابواب المكروه من السكر.

و قال: اجود الناس من يجود على من لايرجو ثوابه، و احلمهم من عفا بعد القدره، و ابخلهم من بخل بالسلام، و اعجزهم من عجز فى دعائه.

و قال: رب نظره زرعت شهوه، و رب شهوه اورثت حزنا دائما.

و قال: ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الايمان: حلم يرد به جهل الجاهل، و ورع يحجزه عن المحارم، و خلق يدارى به الناس.

(اخبار عمر مع عمرو بن معديكرب) و ذكر ابوعبيده معمر بن المثنى فى كتاب "مقاتل الفرسان" ان سعد بن ابى وقاص اوفد عمرو بن معديكرب بعد فتح القادسيه الى عمر، فساله عمر عن سعد: كيف تركته، و كيف رضا الناس عنه؟ فقال: يا اميرالمومنين، هو لهم كالاب يجمع لهم جمع الذره، اعرابى فى نمرته، اسد فى تامورته، نبطى فى جبايته، يقسم بالسويه، و يعدل فى القضيه، و ينفر فى السريه.

و كان سعد كتب يثنى على عمرو، فقال عمر: لكانما تعاوضتما الثناء! كتب يثنى عليك، و قدمت تثنى عليه! فقال: لم اثن الا بما رايت، قال: دع عنك سعدا، و اخبرنى عن مذحج قومك.

قال: فى كل فضل و خير، قال: ما قولك فى عله بن خالد؟ قال: اولئك فوارس اعراضنا، احثنا طلبا، و اقلنا هربا، قال: فسعد العشيره؟ قال: اعظمنا خميسا، و اكبرنا رئيسا، و اشدنا شريسا.

قال: فالحارث بن كعب؟ قال: حكمه لا ترام، قال: فمراد؟ قال: الاتقياء البرره، و المساعير الفجره، الزمنا قرارا، و ابعدنا آثارا.

قال: فاخبرنى عن الحرب، قال: مره المذاق، اذا قلصت عن ساق، من صبر فيها عرف، و من ضعف عنها تلف، و انها لكما قال الشاعر: الحرب اول ما تكون فتيه تسعى بزينتها لكل جهول حتى اذا استعرت و شب ضرامها عادت عجوزا غير ذات حليل شمطاء جزت راسها و تنكرت مكروهه للشم و التقبيل قال: فاخبرنى عن السلاح، قال: سل عما شئت منه، قال: الرمح؟ قال: اخوك و ربما خانك، قال النبل؟ قال: منايا تخطى ء و تصيب، قال: الترس؟ قال: ذاك المجن، و عليه تدور الدوائر، قال: الدرع؟ قال: مشغله للراكب، متعبه للراجل، و انها لحصن حصين.

قال: السيف؟ قال: هناك قارعت امك الهبل، قال: بل امك، قال: بل امى، و الحمى اضرعتنى لك.

عرض سليمان بن ربيعه الباهلى جنده بارمينيه، فكان لايقبل من الخيل الا عتيقا، فمر عمرو بن معديكرب بفرس غليظ، فرده و قال: هذا هجين، قال عمرو: انه ليس بهجين، و لكنه غليظ، قال: بل هو هجين، فقال عمرو: ان الهجين ليعرف الهجين.

فكتب بكلمته الى عمر، فكتب اليه: اما بعد يا بن معديكرب، فانك القائل لاميرك ما قلت، فانه بلغنى ان عندك س
يفا تسميه الصمصامه، و ان عندى سيفا اسميه مصمما، و اقسم بالله لئن وضعته بين اذنيك لايقلع حتى يبلغ قحفك.

و كتب الى سليمان بن ربيعه يلومه فى حلمه عنه، فلما قرا عمرو الكتاب، قال: من ترونه يعنى؟ قالوا: انت اعلم، قال: هددنى بعلى و الله، و قد كان صلى بناره مره فى حياه رسول الله (ص)، و افلت من يده بجريعه الذقن، و ذلك حين ارتدت مذحج، و كان رسول الله (ص) امر عليها فروه بن مسيك المرادى، فاساء السيره، و نابذ عمرو بن معديكرب ففارقه فى كثير من قبائل مذحج، فاستجاش فروه عليه و عليهم رسول الله (ص)، فارسل خالد بن سعيد بن العاص فى سريه و خالد بن الوليد بعده فى سريه ثانيه، و على بن ابى طالب (ع) فى سريه ثالثه، و كتب اليهم: كل واحد منكم امير من معه، فاذا اجتمعتم فعلى امير على الكل، فاجتمعوا بموضع من ارض اليمن يقال له (كسر)، فاقتتلوا هناك، و صمد عمرو بن معديكرب لعلى (ع)- و كان يظن ان لايثبت له احد من شجعان العرب- فثبت له، فعلا عليه، و عاين منه ما لم يكن يحتسبه، ففر من بين يديه هاربا ناجيا بحشاشه نفسه، بعد ان كاد يقتله، و فر معه روساء مذحج و فرسانهم، و غنم المسلمون اموالهم، و سبيت ذلك اليوم ريحانه بنت معديكرب اخت عمرو، فادى خالد بن
سعيد بن العاص فداءها من ماله، فاصابه عمرو اخوها الصمصامه، فلم يزل ينتقل فى بنى اميه و يتداولونه واحدا بعد واحد حتى صار الى بنى العباس فى ايام المهدى محمد بن المنصور ابى جعفر.

(فصل فيما نقل عن عمر من الكلمات الغريبه) فاما ما نقل عن عمر من الالفاظ الغريبه اللغويه التى شرحها المفسرون، فنحن نذكر من ذلك ما يليق بهذا الكتاب.

قال ابوجعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه: روى عبدالرحمن بن ابى زيد، عن عمران بن سوده الليثى، قال: صليت الصبح مع عمر، فقرا (سبحان) و سوره معها، ثم انصرف، فقمت معه، فقال: احاجه؟ قلت: حاجه، قال: فالحق، فلحقت، فلما دخل اذن، فاذا هو على رمال سرير، ليس فوقه شى ء، فقلت: نصيحه! قال: مرحبا بالناصح غدوا و عشيا، قلت: عابت امتك- او قال رعيتك- عليك اربعا، قال: فوضع عود الدره ثم ذقن عليها- هكذا روى ابن قتيبه- و قال ابوجعفر: (فوضع راس درته فى ذقنه) و وضع اسفلها على فخذه، و قال: هات- قال: ذكروا انك حرمت المتعه فى اشهر الحج- و زاد ابوجعفر: (و هى حلال)- و لم يحرمها رسول الله (ص) و لا ابوبكر، فقال: اجل! انكم اذا اعتمرتم فى اشهر حجكم رايتموها مجزئه عن حجكم، فقرع حجكم، و كانت قابيه قوب عامها و الحج بهاء من به
اء الله، و قد اصبت.

قال: و ذكروا انك حرمت متعه النساء، و قد كان رخصه من الله نستمتع بقبضه، و نفارق عن ثلاث، قال: ان رسول الله (ص) احلها فى زمان ضروره، و رجع الناس الى السعه، ثم لم اعلم احدا من المسلمين عاد اليها، و لا عمل بها، فالان من شاء نكح بقبضه، و فارق عن ثلاث بطلاق و قد اصبت.

و قال: ذكروا انك اعتقت الامه اذا وضعت ذا بطنها بغير عتاقه سيدها، قال: الحقت حرمه بحرمه، و ما اردت الا الخير، و استغفر الله.

قال: و شكوا منك عنف السياق، و نهر الرعيه.

قال: فنزع الدره ثم مسحها حتى اتى على سيورها و قال و انا زميل محمد رسول الله (ص) فى غزاه قرقره الكدر، فو الله انى لارتع فاشبع، و اسقى فاروى، و انى لاضرب العروض، و ازجر العجول، و اودب قدرى، و اسوق خطوتى، و ارد اللفوت، و اضم العنود، و اكثر الضجر، و اقل الضرب، و اشهر بالعصا، و ادفع باليد، و لو لا ذلك لاعذرت.

قال ابوجعفر: فكان معاويه اذا حدث بهذا الحديث يقول: كان و الله عالما برعيته.

قال ابن قتيبه: رملت السرير و ارملته، اذا نسجته بشريط من خوص او ليف.

و ذقن عليها، اى وضع عليها ذقنه يستمع الحديث.

و قوله: فقرع حجكم، اى خلت ايام الحج من الناس، و كانوا يتعوذون من قرع الفناء، و
ذلك الا يكون عليه غاشيه و زوار، و من قرع المراح، و ذلك الا يكون فيه ابل و القابيه: قشر البيضه اذا خرج منها الفرخ.

و القوب: الفرخ، قال الكميت: لهن و للمشيب و من علاه من الامثال قابيه و قوب اراد ان النساء ينفرن من ذى الشيب و يفارقنه كما يفارق الفرخ البيضه، فلايعود اليها بعد خروجه منها ابدا.

و روى عن عمر: انكم اذا رايتم العمره فى اشهر الحج كافيه من الحج خلت مكه من الحجاج، فكانت كبيضه فارقها فرخها.

قوله: (انى لارتع فاشبع، و اسقى فاروى) مثل مستعار من رعيت الابل، اى اذا ارتعت الابل، اى ارسلتها ترعى.

تركتها حتى تشبع، و اذا سقيتها تركتها حتى تروى.

و قوله: (اضرب العروض)، العروض: الناقه تاخذ يمينا و شمالا، و لاتلزم المحجه، يقول: اضربها حتى تعود الى الطريق.

و مثله قوله: (و اضم العنود).

و العجول: البعير يند عن الابل، يركب راسه عجلا و يستقبلها.

قوله: (و اودب قدرى)، اى قدر طاقتى.

و قوله: (و اسوق خطوتى) اى قدر خطوتى.

و اللفوت: البعير يلتفت يمينا و شمالا و يروغ، و قوله: (و اكثر الزجر و اقل الضرب) اى انه يقتصر من التاديب فى السياسه على ما يكتفى به، حتى يضطر الى ما هو اشد منه و اغلظ.

و قوله: (و اشهر بالعصا و ادفع باليد)،
يريد انه يرفع العصا يرهب بها و لايستعملها، و لكنه يدفع بيده.

قوله: (و لو لا ذلك لاعذرت) اى لو لا هذا التدبير و هذه السياسه لخلفت بعض ما اسوق، و يقال: اعذر الراعى الشاه و الناقه اذا تركها، و الشاه العذيره و عذرت هى، اذا تخلفت عن الغنم.

قال ابن قتيبه، و هذه امثال ضربها، و اصلها فى رعيه الابل و سوقها، و انما يريد بها حسن سياسته للناس فى الغزاه التى ذكرها، يقول: فاذا كنت افعل كذا فى ايام رسول الله (ص) مع طاعه الناس له، و تعظيمهم اياه، فكيف لاافعله بعده! و عندى ان ابن قتيبه غالط فى هذا التاويل، و ليس فى كلام عمر ما يدل على ذلك و ليس عمر فى غزاه قرقره الكدر يسوس الناس و لايامرهم و لاينهاهم، و كيف و رسول الله (ص) حاضر بينهم! و لا كان فى غزاه قرقره الكدر حرب، و لا ما يحتاج فيه الى السياسه، و هل كان لعمر او لغير عمر و رسول الله (ص) حى ان يرتع فيشبع، و يسقى فيروى! و هل تكون هذه الصفات و ما بعدها الا للرئيس الاعظم! و الذى اراده عمر ذكر حاله فى خلافته رادا على عمران بن سواده فى قوله: (ان الرعيه يشكون منك عنف السياق و شده النهر)، فقال: ليشكون! فو الله انى لرفيق بهم، و مستقص فى سياستهم، و لا ناهك لهم عقوبه، و انى لاقنع با
لهيبه و التهويل عليهم، و لااعمل العصا حيث يمكننى الاكتفاء باليد، و انى ارد الشارد منهم و اعدل المائل...، الى غير ذلك من الامور، التى عددها و احسن فى تعديدها.

و انما ذكر قوله: (انا زميل رسول الله (ص) فى غزاه قرقره الكدر)، على عاده العرب فى الافتخار وقت المنافره و عند ما تجيش النفس و يحمى القلب، كما كان على (ع) يقول وقت الحاجه: (انا عبدالله و اخو رسوله)، فيذكر اشرف احواله، و المزيه التى اختص بها عن غيره، و كان رسول الله (ص) فى غزاه قرقره الكدر اردف عمر معه على بعيره، فكان عمر يفخر بها و يذكرها وقت الحاجه اليها.

و فى حديث عمر انه خرج من الخلاء، فدعا بطعام فقيل له: الا تتوضا؟ فقال: لو لا التنطس ما باليت الا اغسل يدى.

قال ابوعبيد القاسم بن سلام: قال ابن عليه: التنطس التقذر.

و قال الاصمعى: هو المبالغه فى التطهر، فكل من ادق النظر فى الامور فاستقصى علمها فهو متنطس، و منه قيل للطبيب: النطاسى و النطيس لدقه علمه بالطب.

و فى حديث عمر حين سال الاسقف عن الخلفاء، فحدثه، حتى اذا انتهى الى الرابع، فقال: صدع من حديد، و قال عمر: وا دفراه! قال ابوعبيده، قال الاصمعى: كان حماد بن سلمه يقول: (صدا من حديد، و هذا اشبه بالمعنى، لان ال
صدا له دفر و هو النتن، و الصدع لا دفر له، و قيل للدنيا ام دفر، لما فيها من الدواهى و الافات، فاما الذفر بالذال المعجمه و فتح الفاء فهو الريح الذكيه من طيب او نتن.

و عندى فى هذا الحديث كلام، و الاظهر ان الروايه المشهوره هى الصحيحه، و هى قوله: (صدع من حديد)، و لكن بفتح الدال، و هو ما كان من الوعول، بين العظيم و الشخت، فان ثبتت الروايه بتسكين الدال فغير ممتنع ايضا، يقال: رجل صدع، اذا كان ضربا من الرجال، ليس برهل و لا غليظ.

و رابع الخلفاء هو على بن ابى طالب (ع)، و اراد بالاسقف مدحه.

و قول عمر: (وا دفراه!) اشاره الى نفسه، كانه استصغر نفسه و عابها بالنسبه الى ما وصفه الاسقف من مدح الرابع و اطرائه.

فاما تاويل ابى عبيده فانه ظن ان الرابع عثمان، و جعل رسول الله (ص) معدودا من الجمله ليصح كون عثمان رابعا، و جعل الدفر و النتن له، و صرف اللفظ عن الروايه المشهوره الى غيرها، فقال: (صدا حديد)، ليطابق لفظه النتن على ما يليق بها، فغير خاف ما فيه من التعسف، و رفض الروايه المشهوره.

و ايضا فان رسول الله (ص) لايجوز ادخاله فى لفظ الخلفاء، لانه ليس بخليفه، لان الخليفه من يخلف غيره، و رسول الله (ص) مستخلف الناس كلهم و ليس بخليفه لاح
د.

و فى حديث عمر، قال عند موته: (لو ان لى ما فى الارض جميعا لافتديت به من هول المطلع).

قال ابوعبيد: هو موضع الاطلاع من اشراف الى انحدار، او من انحدار الى اشراف، و هو من الاضداد، فشبه ما اشرف عليه من امر الاخره.

و فى حديث عمر، حين بعث حذيفه و ابن حنيف الى السواد ففلجا الجزيه على اهله.

قال ابوعبيد: فلجا اى قسما بالفلج، و اصله من الفلج، و هو المكيال الذى يقال له الفلج لان خراجهم كان طعاما.

و فى حديث عمر حين قال له حذيفه: انك تستعين بالرجل الذى فيه- و بعضهم يرويه بالرجل الفاجر، فقال: (استعمله لاستعين بقوته، ثم اكون على قفانه).

قال ابوعبيد عن الاصمعى: قفان كل شى ء جماعه و استقصاء معرفته، يقول: اكون على تتبع امره حتى استقصى عمله و اعرفه.

قال: ابوعبيد: و لااحسب هذه الكلمه عربيه، و انما اصلها (قبان)، و منه قول العامه: فلان قبان على فلان، اذا كان بمنزله الامين عليه و الرئيس الذى يتتبع امره و يحاسبه، و به سمى هذا الميزان الذى يقال له القبان.

و فى حديث عمر حين قال لابن عباس و قد شاوره فى شى ء فاعجبه كلامه: نشنشه (اعرفها) من اخشن، هكذا الروايه، و اما اهل العلم فيقولون: (شنشنه اعرفها من اخزم).

و الشنشنه فى بعض الاحوال قد
تكون بمعنى المضغه او القطعه تقطع من اللحم، و القول المشهور ان الشنشنه مثل الطبيعه و السجيه، فاراد عمر انى اعرف فيك مشابه من ابيك فى رايه، و يقال: انه لم يكن لقرشى مثل راى العباس.

قال: و قد قال ابوعبيده معمر بن المثنى: يجوز (شنشنه) و (نشنشه)، و غيره ينكر (نشنشه).

و فى حديث عمر يوم السقيفه، قال: (و قد كنت زورت فى نفسى قاله، اقوم بها بين يدى ابى بكر، فلم يترك ابوبكر شيئا مما زورته الا تكلم به).

قال ابوعبيد: التزوير اصلاح الكلام و تهيئته كالتزويق.

و فى حديث عمر حين ضرب الرجل الذى اقسم على ام سلمه ثلاثين سوطا كلها تبضع و تحدر.

قال ابوعبيد: اى تشق و تورم، حدر الجلد يحدره و احدره غيره.

و فى حديثه انه قال لموذن بيت المقدس: (اذا اذنت فترسل)، و اذا اقمت فاحذم.

قال ابوعبيده: الحذم بالحاء المهمله الحدر فى الاقامه، و قطع التطويل، و اصله فى المشى، و هو الاسراع فيه، و ان يكون مع هذا كانه يهوى بيده الى خلفه، و الجذم بالجيم ايضا القطع، و كذلك الخذم بالخاء المعجمه.

و فى حديثه انه قال: (لا يقر رجل انه كان يطا جاريته الا الحقت به ولدها، فمن شاء فليمسكها و من شاء فليرسلها).

قال ابوعبيد: هكذا الروايه بالسين المهمله و المعروف انه: (الارشال) بالشين المعجمه، و لعله حول الشين الى السين كما يقال سمت العاطش، اى شمته: و فى حديثه: (كذب عليكم الحج، كذب عليكم العمره، كذب عليكم الجهاد، ثلاثه اسفار، كذبت عليكم).

قال ابوعبيد: معنى كذب عليكم الاغراء، اى عليكم به، و كان الاصل فى هذا ان يكون نصبا، و لكنه جاء عنهم بالرفع شاذا على غير قياس، و مما يحقق انه مرفوع قول الشاعر: كذبت عليك لاتزال تقوفنى كما قاف آثار الوثيقه قائف فقوله: (كذبت عليك)، انما اغراه بنفسه، اى عليك بى، فجعل (نفسه) فى موضع رفع، الا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه.

و قال معقر بن حمار البارقى: و ذبيانيه وصت بنيها بان كذب القراطف و القروف فرفع، و الشعر مرفوع، و معناه عليكم بالقراطف و القروف، و القراطف: القطف واحدها قرطف.

و القروف: الاوعيه.

و مما يحقق الرفع ايضا قول عمر (كذبت عليكم)، قال ابوعبيد: و لم اسمع النصب فى هذا الا حرفا، كان ابوعبيد يحكيه عن اعرابى نظر الى ناقه نضو لرجل، فقال: كذب عليك البزر و النوى لم اسمع فى هذا نصبا غير هذا الحرف.

قال: و العرب تقول للمريض: كذب عليك العسل، بالرفع اى عليك به.

و فى حديثه: (ما يمنعكم اذا رايتم الرجل يخرق اعراض الناس الا تعربوا عليه)؟ قالوا: نخاف لسانه، قال: (ذاك الا تكونوا شهداء).

قال ابوعبيد: (الا تعربوا)، اى الا تفسدوا عليه كلامه و تقبحوه له.

قال ابوعبيد: قيل فى تفسيره: ان ينتهى بالذبح الى النخاع و هو عظم فى الرقبه، و ربما فسر النخاع بانه المخ الذى فى فقار الصلب متصلا بالقفا، فنهى ان ينتهى بالذبح الى ذلك.

و قيل فى تفسيره ايضا: ان يكسر رقبه الذبيحه قبل ان تبرد، و يوكد هذا التفسير قوله فى تمام الحديث: (و لاتعجلوا الانفس حتى تزهق).

و فى حديثه حين اتاه رجل يساله ايام المحل، فقال له: هلكت و اهلكت، فقال عمر: (اهلكت و انت تنث نثيث الحميت، اعطوه ربعه من الصدقه)، فخرجت يتبعها ظئراها.

قال ابوعبيد: قد روى: (تمث)، بالميم و المحفوظ بالنون.

و تنث، اى ترشح و تعرق من سمنك و كثره لحمك.

و الحميت: النحى و فيه الرب او السمن او نحوها.

و الربعه: ما ولد فى اول النتاج، و الذكر ربع.

و فى حديثه انه خرج الى المسجد للاستسقاء فصعد المنبر، فلم يزد على الاستغفار حتى نزل فقيل: انك لم تستسق، فقال: (لقد استسقيت بمجاديح السماء).

قال ابوعبيد: جعل الاستغفار استسقاء، تاول فيه قوله تعالى: (استغفروا ربكم انه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا).

و المجاديح: جمع مجدح و هو النجم الذى
كانت العرب تزعم انها تمطر به، و يقال: مجدح بضم الميم، و انما قال عمر ذلك، على انها كلمه جاريه على السنه العرب، ليس على تحقيق الانواء، و لا التصديق بها و هذا شبيه بقول ابن عباس فى رجل جعل امر امراته بيدها، فقالت له: انت طالق ثلاثا، فقال: خطا الله نوءها! الا طلقت نفسها ثلاثا! ليس هذا دعاء منه الا تمطر، انما ذلك على الكلام المقول.

و مما يبين ان عمر اراد ابطال الانواء و التكذيب بها قوله: (لقد استسقيت بمجاديح السماء)، التى يستسقى بها الغيث، فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الانواء.

و فى حديثه، و هو يذكر حال صباه فى الجاهليه: لقد رايتنى مره و اختا لى نرعى على ابوينا ناضحا لنا، قد البستنا امنا نقبتها، و زودتنا يمينتيها من الهبيد، فنخرج بناضحنا، فاذا طلعت الشمس، القيت النقبه الى اختى، و خرجت اسعى عريان فنرجع الى امنا، و قد جعلت لنا لفينه من ذلك الهبيد، فيا خصباه!.

قال ابوعبيد: الناضح: البعير الذى يسنى عليه فيسقى به الارض، و الانثى ناضحه، و هى السانيه ايضا، و الجمع سوان، و قد سنت تسنو، و لا يقال: ناضح لغير المستسقى.

و النقبه ان توخذ القطعه من الثوب قدر السراويل فيجعل لها حجزه مخيطه من غير نيفق، و تشد كما تشد حجزه السراو
يل، فاذا كان لها نيفق و ساقان، فهى سراويل.

و قال: و الذى وردت به الروايه (زودتنا يمينتيها)، و الوجه فى الكلام ان يكون (يمينتيها) بالتشديد، لانه تصغير (يمين) بلا هاء، و انما قال: (يمينتيها) و لم يقل: يديها و لا كفيها لانه لم يرد انها جمعت كفيها ثم اعطتنا بهما، و انما اراد انها اعطت كل واحد كفا كفا بيمينها، فهاتان يمينان.

الهبيد: حب الحنظل، زعموا انه يعالج حتى يمكن اكله و يطيب.

و اللفيته: ضرب من الطبيخ كالحساء.

و فى حديثه: (اذا مر احدكم بحائط فلياكل منه، و لايتخذ ثبانا).

قال ابوعبيد: هو الوعاء الذى يحمل فيه الشى ء، فان حملته بين يديك فهو ثبان، و ان جعلته فى حضنك فهى خبنه.

و فى حديثه: (لو اشاء لدعوت بصلاء و صناب و صلائق و كراكره و اسنمه و افلاذ).

قال ابوعبيد: الصلاء: الشواء.

و الصناب: الخردل بالزبيب.

و الصلائق: الخبز الرقيق، و من رواه (سلائق) بالسين اراد ما يسلق من البقول و غيرها.

و الكراكر، كراكر الابل.

و الافلاذ: جمع فلذ و هو القطعه من الكبد.

و فى حديثه: (لو شئت ان يدهمق لى لفعلت).

قال ابوعبيد: دهمقت الطعام، اذا لينته و رققته و طيبته.

و فى حديثه: (لئن بقيت لاسوين بين الناس، حتى ياتى الراعى حقه فى صفنه لم يعرق
جبينه).

الصفن: خريطه للراعى فيها طعامه و ما يحتاج اليه.

و روى بفتح الصاد، و يقال ايضا (فى صفينه).

و فى حديثه: (لئن بقيت الى قابل، لياتين كل مسلم حقه، حتى ياتى الراعى بسرو حمير، لم يعرق جبينه).

السرو مثل الخيف، و هو ما انحدر عن الجبل و ارتفع عن المسيل.

و فى حديثه: (لئن عشت الى قابل) لالحقن آخر الناس باولهم، حتى يكونوا ببانا واحدا).

قال ابوعبيد: قال ابن مهدى: يعنى شيئا واحدا، و لااحسب هذه الكلمه عربيه، و لم اسمعها فى غير هذا الحديث.

و فى حديثه: انه خطب، فقال: (الا ان الاسيفع- اسيفع جهينه- رضى من دينه و امانته بان يقال: سابق الحاج- او قال: سبق الحاج- فادان معرضا فاصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليغد بالغداه، فلنقسم ماله بينهم بالحصص).

قوله: (فادان معرضا) اى استدان معرضا، و هو الذى يعترض الناس فيستدين ممن امكنه، و كل شى ء امكنك من عرضه فهو معرض لك، كقوله: (و البحر معرضا و السدير).

و رين بالرجل، اذا وقع فيما لايمكنه الخروج منه.

و فى حديثه: انه قال لمولاه اسلم- و رآه يحمل متاعه على بعير من ابل الصدقه- فقال: (فهلا ناقه شصوصا او ابن لبون بوالا!).

الشصوص: التى قد ذهب لبنها، و وصف ابن اللبون بالبول، و ان كانت كل
ها تبول، انما اراد: ليس عنده سوى البول، اى ليس عنده مما ينتفع به من ظهر و لا له ضرع فيحلب، لا يزيد على انه بوال فقط.

و فى حديثه حين قيل له: ان النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد، فقال: (و ما على نساء بنى المغيره ان يسفكن من دموعهن على ابى سليمان، ما لم يكن نقع و لا لقلقه!).

قيل: النقع هاهنا طعام الماتم، و الاشبه ان النقع رفع الصوت، و اللقلقه مثله.

و فى حديثه: ان سلمان بن ربيعه الباهلى شكا اليه عاملا من عماله، فضربه بالدره حتى انهج.

قال ابوعبيد: اى اصابه النفس و البهر من الاعياء.

و فى حديثه حين قدم عليه احد بنى ثور، فقال له: هل من مغربه خبر؟ فقال: نعم اخذنا رجلا من العرب، كفر بعد اسلامه فقدمناه فضربنا عنقه، فقال: (فهلا ادخلتموه جوف بيت فالقيتم اليه كل يوم رغيفا ثلاثه ايام، لعله يتوب او يراجع! اللهم لم اشهد و لم آمر، و لم ارض اذ بلغنى).

يقال: هل من مغربه خبر بكسر الراء، و يروى بفتحها، و اصله البعد، و منه شاو مغرب.

و فى حديثه انه قال: (آلله ليضربن احدكم اخاه بمثل آكله اللحم، ثم يرى انه لا اقيده، و الله لاقيدنه).

قال ابوعبيد: آكله اللحم: عصا محدده.

و فى حديثه: (اعضل بى اهل الكوفه، ما يرضون بامير، و لا يرض
اهم امير).

هو من العضال، و هو الداء و الامر الشديد الذى لايقوم له صاحبه.

و فى حديثه: انه خطب فذكر الربا، فقال: (ان منه ابوابا لاتخفى على احد) منها السلم فى السن، و ان تباع الثمره و هى مغضفه و لما تطب، و ان يباع الذهب بالورق نساء).

قال ابوعبيد: السلم فى السن ان يسلف الرجل فى الرقيق و الدواب و غيرها من الحيوان، لانه ليس له حد معلوم.

و المغضفه: المتدليه فى شجرها، و كل مسترخ اغضف، اى تكون غير مدركه.

و فى حديثه: انه خطب، فقال: الا لاتغالوا فى صداق النساء، فان الرجل يغالى بصداق المراه، حتى يكون ذلك لها فى قلبه عداوه، تقول: جشمت اليك عرق القربه.

قال: معناه تكلفت لك حتى عرقت عرق القربه، و عرقها: سيلان مائها.

و فى حديثه: انه رفع اليه غلام ابتهر جاريه فى شعره، فقال: (انظروا اليه، فلم يوجد انبت، فدرا عنه الحد).

قال ابوعبيد: ابتهرها، اى قذفها بنفسه، فقال: فعلت بها.

و فى حديثه: انه قضى فى الارنب بحلان اذا قتلها المحرم.

قال: الحلان: الجدى.

و فى حديثه: انه قال: (حجه هاهنا، ثم احدج هاهنا حتى تفنى).

قال: يامر بحجه الاسلام لا غير، ثم بعدها الغزو فى سبيل الله.

حتى تفنى اى حتى تهرم.

و فى حديثه: انه سافر فى عقب رمضان، و قال: (ان
الشهر قد تسعسع، فلو صمنا بقيته).

قال ابوعبيد: السين مكرره مهمله، و العين مهمله، اى ادبر و فنى.

و فى حديثه- و قد سمع رجلا خطب فاكثر- فقال: (ان كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان).

الواحده شقشقه، و هو ما يخرج من شدق الفحل عند نزوانه، شبيهه بالرئه.

و الشيطان لا شقشقه له، انما هذا مثل لما يدخل فى الخطب من الكلام المكذوب و تزوير الباطل.

و فى حديثه: انه قدم مكه، فاذن ابومحذوره، فرفع صوته فقال له: (اما خشيت يا محذوره ان ينشق مريطاوك!).

قال: المريطاء: ما بين السره الى العانه، و يروى بالقصر.

و فى حديثه: انه سئل عن المذى، فقال هو الفطر، و فيه الوضوء.

قال: سماه فطرا من قولهم: فطرت الناقه فطرا، اذا حلبتها باطراف الاصابع فلايخرج اللبن الا قليلا، و كذلك المذى، و ليس المنى كذلك، لانه يخرج منه مقدار كثير.

و فى حديثه: انه سئل عن حد الامه الزانيه، فقال: (ان الامه القت فروه راسها من وراء الدار).

قال: الفروه: جلده الراس، و هذا مثل، انما اراد انها القت القناع و تركت الحجاب، و خرجت الى حيث لايمكنها ان تمتنع من الفجور، نحو رعايه الغنم، فكانه يرى ان لا حد عليها.

و فى حديثه، انه اتى بشارب، فقال لابعثنك الى رجل لاتاخذه فيك هواده، فبعث ل
ى مطيع بن الاسود العدوى، فقال: اذا اصبحت غدا فاضربه الحد، فجاء عمر و هو يضربه ضربا شديدا، فقال: قتلت الرجل! كم ضربته؟ قال: ستين، قال: (اقص عنه بعشرين).

قال: معناه اجعل شده هذا الضرب قصاصا بالعشرين التى بقيت من الحد فلا تضربه اياها.

و فى حديثه ان رجلا اتاه فذكر له ان شهاده الزور قد كثرت فى ارضهم، فقال: (لا يوسر احد فى الاسلام بشهاده الزور، فانا لانقبل الا العدول).

قال: لا يوسر: لايحبس، و منه الاسير: المسجون.

و فى حديثه: انه جدب السمر بعد عتمه.

جدبه، اى عابه و وصمه.

و مثل هذا الحديث فى كراهيته السمر حديثه الاخر: انه كان ينش الناس بعد العشاء بالدره، و يقول: انصرفوا الى بيوتكم.

قال: هكذا روى بالشين المعجمه، و قيل: ان الصحيح (ينس) بالسين المهمله، و الاظهر انه ينوش الناس بالواو، من التناوش، قال تعالى: (و انى لهم التناوش).

و فى حديثه: (هاجروا و لاتهجروا، و اتقوا الارنب ان يحذفها احدكم بالعصا، و لكن ليذك لكم الاسل، الرماح و النبل).

قال: رواه زر بن حبيش، قال: قدمت المدينه، فخرجت فى يوم عيد، فاذا رجل متلبب اعسر ايسر، يمشى مع الناس كانه راكب، و هو يقول: كذا و كذا، فاذا هو عمر، يقول: هاجروا و اخلصوا الهجره و لاتهجروا.

و لا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحه منكم، كقولك: تحلم الرجل، و ليس بحليم، و تشجع و ليس بشجاع.

و الذكاه: الذبح.

و الاسل اعم من الرماح، و اكثر ما يستعمل فى الرماح خاصه.

و المتلبب: المتحزم بثيابه.

و فلان اعسر يسر: يعمل بكلتا يديه، و الذى جاء فى الروايه (ايسر) بالهمزه.

و فى حديثه: انه افطر فى رمضان، و هو يرى ان الشمس قد غربت، ثم نظر فاذا الشمس طالعه، فقال: (لا نقضيه، ما تجانفنا فيه الاثم).

يقول: لم نتعمد فيه الاثم، و لا ملنا اليه، و الجنف: الميل.

و فى حديثه: انه قال لما مات عثمان بن مظعون على فراشه: (هبنه الموت عندى منزله حين لم يمت شهيدا، فلما مات رسول الله (ص) على فراشه و ابوبكر، علمت ان موت الاخيار على فرشهم.

هبته، اى طاطاه و حط من قدره.

و فى حديثه: ان رجلا من الجن لقيه، فقال: هل لك ان تصارعنى، فان صرعتنى علمتك آيه اذا قراتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان.

فصارعه فصرعه عمر، و قال له: انى اراك ضئيلا شخيتا، كان ذراعيك ذراعا كلب، افهكذا انتم كلكم ايها الجن، ام انت من بينهم؟ فقال: انى من بينهم لضليع، فعاودنى، فصارعه فصرعه الانسى، فقال: اتقرا آيه الكرسى؟ فانه لايقروها احد اذا دخل بيته الا خرج الشيطان منه، و له خبج ك
خبج الحمار.

قال: رواه عبدالله بن مسعود، و قال: خرج رجل من الانس، فلقيه رجل من الجن... ثم ذكر الحديث، فقيل له: هو عمر، فقال: و من عسى ان يكون الا عمر! الشخيت: النحيف الجسم، و مثله الشخت.

و الضليع: العظيم الخلق.

و الخبج: الضراط.

و فى حديثه: انه كان يطوف بالبيت، و هو يقول: (ربنا آتنا فى الدنيا حسنه و فى الاخره حسنه و قنا عذاب النار)، ما له هجيرى غيرها.

قال: هجيرى الرجل: دابه و ديدنه و شانه.

و مثلها من قول عمر: لو اطيق الاذان مع الخليقى لاذنت.

و مثلها من قول عمر بن عبدالعزيز: لا رديدى فى الصدقه، اى لاترد.

و مثلها قول العرب: كانت بينهم رميا، اى مراماه، ثم حجزت بينهم حجيزى، اى محاجزه.

و فى حديثه حين قال للرجل الذى وجد منبوذا فاتاه به، فقال: عسى الغوير ابوسا! قال عريفه: يا اميرالمومنين، انه و انه... فاثنى عليه خيرا، و قال: فهو حر، ولاوه لك.

الابوس: جمع باس و المثل قديم مشهور، و مراد عمر: لعلك انت صاحب هذا المنبوذ! كانه اتهمه و ساء ظنه فيه، فلما اثنى عليه عريفه- اى كفيله- قال له: هذا المنبوذ حر و ولاوه لك، لانه بانقاذه اياه من الهلكه كانه اعتقه.

و فى حديثه: ان قريشا تريد ان تكون مغويات لمال الله.

هكذا يروى بالتخفيف
و الكسر، و المعروف (مغويات) بتشديد الياء و فتحها، واحدتها مغواه، و هى حفره كالزبيه تحفر للذئب، و يجعل فيها جدى، فاذا نظر اليها الذئب سقط يريده فيصاد، و لهذا قيل: لكل مهلكه مغواه.

و فى حديثه: (فرقوا عن المنيه، و اجعلوا الراس راسين، و لا تلثوا بدار معجزه، و اصلحوا مثاويكم، و اخيفوا الهوام قبل ان تخيفكم، و اخشوشنوا، و اخشوشبوا و تمعددوا).

قال: (فرقوا عن المنيه، و اجعلوا الراس راسين)، اى اذا اراد احدكم ان يشترى شيئا من الحيوان كمملوك او دابه فلا يغالين به، فانه لايدرى ما يحدث فيه، و لكن ليجعل ثمنه فى راسين، و ان كان كل واحد منهما دون الاول، فان مات احدهما بقى الاخر.

و قوله: (و لا تلثوا بدار معجزه)، فالالثاث الاقامه، اى لاتقيموا ببلد يعجزكم فيه الرزق، و لكن اضطربوا فى البلاد للكسب.

و هذا شبيه بحديثه الاخر: (اذا اتجر احدكم فى شى ء ثلاث مرات فلم يرزق منه فليدعه).

و المثاوى: المنازل، جمع مثوى.

و اخيفوا الهوام، اى اقتلوا ما يظهر فى دوركم من الحيات و العقارب لتخافكم، فلاتظهر.

و اخشوشنوا: امر بالخشونه فى العيش، و مثله (اخشوشبوا) بالباء، اراد ابتذال النفس فى العمل و الاحتفاء فى المشى ليغلظ الجلد، و يجسو.

و تمعددوا، قيل
انه من الغلظ ايضا، يقال للغلام اذا انبت و غلظ: قد تمعدد.

و قيل: اراد تشبهوا بمعد بن عدنان، و كانوا اهل قشف و غلظ فى المعاش، اى دعوا التنعم و زى العجم.

و قد جاء عنه فى حديث آخر مثله: (عليكم باللبسه المعديه).

و فى حديثه: انه كتب الى خالد بن الوليد: (انه بلغنى انك دخلت حماما بالشام، و ان من بها من الاعاجم اعدوا لكم دلوكا عجن بخمر، و انى اظنكم آل المغيره ذرو النار).

الدلوك: ما يتدلك به كالسحور و الفطور و نحوهما.

و ذرو النار: خلق النار.

و يروى: (ذرء النار) بالهمزه، من ذرا الله الناس، اى صورهم و اوجدهم.

و فى حديثه: (املكوا العجين، فانه احد الريعين).

ملكت العجين: اجدت عجنه.

و الريع: الزياده، و الريع الثانى ما يزيد عند خبزه فى التنور.

و فى حديثه حين طعن، فدخل عليه ابن عباس فرآه مغتما بمن يستخلف بعده، فذكر عثمان فقال: كلف باقاربه، قال: فعلى؟ قال: فيه دعابه، قال: فطلحه؟ قال: لو لا باو فيه، قال: فالزبير؟ قال: وعقه لقس.

قال: فعبدالرحمن؟ قال: اوه! ذكرت رجلا صالحا و لكنه ضعيف، و هذا الامر لايصلح له الا اللين من غير ضعف، و القوى من غير عنف، قال: فسعد؟ قال: ذاك يكون فى مقنب من مقانبكم.

قوله: (كلف باقاربه) اى شديد الحب لهم.

و الدعابه: المزاح.

و الباو: الكبر و العظمه.

و قوله: (وعقه لقس) و يروى (ضبيس)، و معناه كله الشراسه، و شد الخلق و خبث النفس.

و المقنب: جماعه من الفرسان.

و فى حديثه: انه قال عام الرماده: لقد هممت ان اجعل مع كل اهل بيت من المسلمين مثلهم، فان الانسان لايهلك على نصف شبعه، فقال له رجل: لو فعلت يا اميرالمومنين ما كنت فيها ابن ثاداء.

قال: يريد ان الانسان اذا اقتصر على نصف شبعه، لم يهلك جوعا.

و ابن ثاداء بفتح الهمزه: ابن الامه.

و فى حديثه: انه قرا فى صلاه الفجر بالناس سوره يوسف، فلما انتهى الى قوله تعالى: (انما اشكو بثى و حزنى الى الله و اعلم من الله ما لاتعلمون)، بكى حتى سمع نشيجه.

النشيج: صوت البكاء، يردده الصبى فى صدره و لايخرجه.

و فى حديثه انه اتى فى نساء- او اماء- ساعيات فى الجاهليه، فامر باولادهن ان يقوموا على آبائهم، فلايسترقوا.

المساعاه، زنا الاماء خاصه.

قضى عمر فى اولادهن فى الجاهليه ان يسومن على آبائهم، بدفع الاباء قيمتهم الى سادات الاماء، و يصير الاولاد احرارا لاحقى النسب بابائهم.

و فى حديثه: (ليس على عربى ملك، و لسنا بنازعين من يد رجل شيئا اسلم عليهم، و لكنا نقومهم المله خمسا من الابل).

قال: كانت العرب تس
بى بعضها بعضا فى الجاهليه، فياتى الاسلام و المسبى فى يد الانسان كالمملوك له، فقضى عمر فى مثل هذا ان يرد حرا الى نسبه، و تكون قيمته على نفسه يوديها الى الذى سباه، لانه اسلم و هو فى يده، و قيمته كائنا ما كان خمس من الابل.

قوله: (و المله) اى تقوم مله الانسان و شرعها.

و فى حديثه لما ادعى الاشعث بن قيس رقاب اهل نجران، لانه كان سباهم فى الجاهليه و استعبدهم تغلبا فصاروا كمماليكه، فلما اسلموا ابوا عليه، فخاصموه عند عمر فى رقابهم، فقالوا: يا اميرالمومنين، انما كنا له عبيد مملكه، و لم نكن عبيد قن.

فتغيظ عمر عليه، و قال: (اردت ان تتغفلنى!).

يعنى اردت غفلتى.

و عبد قن ملك و ملك ابواه، و عبد مملكه بفتح اللام و ضمها: من غلب عليه و استعبد، و كان فى الاصل حرا، فقضى عمر فيهم ان صيرهم احرارا بلا عوض، لانه ليس بسباء على الحقيقه.

و فى حديثه: انه قضى فى ولد المغرور بغره.

قال: هو الرجل يزوج رجلا آخر مملوكه لانسان آخر على انها حره، فقضى عمر ان يغرم الزوج لمولى الامه غره، اى عبدا او امه، و يكون ولده حرا، ثم يرجع الرجل الزوج على من غره بما غرم.

و فى حديثه: انه راى جاريه متكمكمه، فسال عنها فقالوا: امه آل فلان فضربها بالدره ضربات، و قا
ل: يا لكعاء! اتشبهين بالحرائر! قال: متكمكمه: لابسه قناع، اصله من الكمه، و هى كالقنسوه، و الاصل مكممه، فاعاد الكاف، كما قالوا: كفكف فلان عن كذا، و تصرصر الباب.

و لكعاء و لكاع بالكسر و البناء: شتم للامه، و للرجل يقال: يا لكع.

و فى حديثه: (ورع اللص و لا تراعه).

يقول: ادفعه اذا رايته فى منزلك و اكففه بما استطعت، و لاتنتظر فيه شيئا، و كل شى ء كففته فقد ورعته، و كل ما تنتظره فانت تراعيه، و المعنى انه رخص فى الاقدام على اللص بالسلاح، و نهى ان يمسك عنه نائما.

و فى حديثه: ان رجلا اتاه، فقال: ان ابن عمى شج موضحه، فقال: امن اهل القرى ام من اهل الباديه؟ قال: من اهل الباديه، فقال عمر: انا لا نتعاقل المضغ بيننا.

قال: سماها مضغا، استصغارا لها و لامثالها كالسن و الاصبع.

قال: و مثل ذلك لاتحمله العاقله عند كثير من الفقهاء، و كذلك كل ما كان دون الثلث.

و فى حديثه: انه لما حصب المسجد، قال له فلان: لم فعلت؟ قال: هو اغفر للنخامه، و الين فى الموطى ء.

اغفر لها: استر لها.

و حصب المسجد: فرشه بالحصباء، و هى رمل فيه حصى صغار.

و فى حديثه: ان الحارث بن اوس ساله عن المراه تطوف بالبيت، ثم تنفر من غير ان تطوف طواف الصدر اذا كانت حائضا، فنهاه
عمر عن ذلك، فقال الحارث: كذلك افتانى رسول الله (ص)، فقال عمر: اربت يداك! اتسالنى، و قد سمعت من رسول الله (ص) كى اخالفه! قال: دعا عليه بقطع اليدين، من قولك: قطعت الشاه اربا اربا.

و فى حديثه انه سمع رجلا يتعوذ من الفتن، فقال عمر: اللهم انى اعوذ بك من الضفاطه، اتسال ربك الا يرزقك مالا و ولدا! قال اراد: قوله تعالى: (انما اموالكم و اولادكم فتنه).

و الضفاطه: الحمق و ضعف العقل، رجل ضفيط، اى احمق.

و فى حديثه: (ما بال رجال لايزال احدهم كاسرا وساده عند امراه مغزيه، يتحدث اليها و تتحدث اليه! عليكم بالجنبه فانها عفاف، انما النساء لجم على وضم الا ما ذب عنه).

قال: مغزيه، قد غزا زوجها، فهو غائب عنها، اغزت المراه، اذا كان بعلها غازيا، و كذلك اغابت فهى مغيبه.

و عليكم بالجنبه، اى الناحيه، يقول: تنحوا عنهن و كلموهن من خارج المنزل.

و الوضم: الخشبه او الباريه يجعل عليها اللحم.

قال: و هذا مثل حديثه الاخر: (الا لايدخلن رجل على امراه و ان قيل حموها، الا حموها الموت).

قال: دعا عليها.

فاذا كان هذا رايه فى ابى الزوج و هو محرم لها فكيف بالغريب!.

و فى حديثه: (ان بيعه ابى بكر كانت فلته وقى الله شرها، فلا بيعه الا عن مشوره، و ايما رجل باي
ع رجلا عن غير مشوره فلا يومر واحد منهما تغره ان يقتلا).

قال: التغره: التغرير: غررت بالقوم تغريرا و تغره، كقولك: حللت اليمين تحليلا و تحله، و مثله فى المضاعف كثير، اى ان فى ذلك تغريرا بانفسهما و تعريضا لهما ان يقتلا.

و فى حديثه: (ان العبد اذا تواضع لله رفع الله حكمته، و قال: انتعش نعشك الله، و اذا تكبر و عدا طوره وهصه الله الى الارض).

قال: وهصه اى كسره.

و عدا طوره، اى قدره.

و فى حديثه: (حجوا بالذريه، لاتاكلوا ارزاقها، و تذروا ارباقها فى اعناقها).

قال: اراد بالذريه هنا النساء و لم يرد الصبيان، لانه لا حج عليهم.

و الارباق: جمع ربق، و هو الحبل.

و فى حديثه: انه وقف بين الحرتين- و هما داران لفلان- فقال: (شوى اخوك، حتى اذا انضج رمد).

هذا مثل يضرب للرجل يصنع معروفا ثم يفسده.

و فى حديثه: (السائبه و الصدقه ليومهما).

قال: السائبه: المعتق.

و ليومهما: ليوم القيامه الذى فعل ما فعله لاجله.

و فى حديثه: (لاتشتروا رقيق اهل الذمه، فانهم اهل خراج يودى بعضهم عن بعض: و ارضهم فلا تتنازعوها، و لا يقرن احدكم بالصغار بعد اذ نجاه الله).

قال: كره ان يشترى ارضهم المسلمون و عليها خراج، فيصير الخراج منتقلا الى المسلم، و انما منع من شراء
رقيقهم، لان جزيتهم تكثر على حسب كثره رقيقهم، فاذا ابتيع رقيقهم قلت جزيتهم، و اذا اقلت جزيتهم يقل بيت المال.

و فى حديثه فى قنوت الفجر: (و اليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك، و نخشى عذابك، ان عذابك بالكفار ملحق).

قال: حفد العبد مولاه يحفد اى خدم، و منه قوله تعالى: (بنين و حفده) اى خدما.

و ملحق: اسم فاعل بمعنى لاحق من الحق، و هو لغه فى لحق، يقال: لحقت زيدا، و الحقته بمعنى.

و فى حديثه: (لاتشتروا الذهب بالفضه الا يدا بيد، هاء و هاء، انى اخاف عليكم الرماء).

قال: الرماء: الزياده و هو بمعنى الربا، يقال: ارميت على الخمسين، اى زدت عليها.

و فى حديثه: من لبد او عقص او ضفر، فعليه الحلق.

قال: التلبيد ان تجعل فى راسك شيئا من صمغ او عسل يمنع من ان يقمل.

و العقص و الضفر: فتل الشعر و نسجه.

و فى حديثه: (ما تصعدتنى خطبه كما تصعدتنى خطبه النكاح).

قال: معناه ما شق على، و اصله من الصعود، و هى العقبه المنكره، قال تعالى: (سارهقه صعودا).

و فى حديثه انه قال لمالك بن اوس: (يا مالك، انه قد دفت علينا من قومك دافه، و قد امرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم).

قال: الدافه: جماعه تسير سيرا ليس بالشديد.

و فى حديثه: انه سال جيشا، فقال: (هل ثبت لكم العدو قدر ح
لب شاه بكيئه؟) قال: البكيئه: القليله اللبن.

و فى حديثه انه قال فى متعه الحج: (قد علمت ان رسول الله (ص) فعلها و اصحابه، و لكن كرهت ان يظلوا بهن معرسين تحت الاراك، ثم يلبون بالحج تقطر رءوسهم).

قال: المعرس: الذى يغشى امراته.

قال: كره ان يحل الرجل من عمرته، ثم ياتى النساء، ثم يهل بالحج.

و فى حديثه: (نعم المرء صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه).

قال: المعنى انه لايترك المعصيه خوف العقاب، بل يتركها لقبحها، فلو كان لايخاف عقوبه الله لترك المعصيه.

و فى حديثه: انه اتى بسكران فى شهر رمضان، فقال: للمنخرين للمنخرين، اصبياننا صيام و انت مفطر!.

قال: معناه الدعاء عليه، كقولك: كبه الله للمنخرين! و كقولهم: لليدين و للفم! و فى حديثه انه قال لما توفى رسول الله (ص)، قام ابوبكر فتلا هذه الايه فى خطبته: (انك ميت و انهم ميتون).

قال عمر: فعقرت حتى وقعت الى الارض.

قال: يقال للرجل: اذا بهت و بقى متحيرا دهشا: قد عقر، و مثله بعل و خرق.

و فى حديثه انه كتب الى ابى عبيده و هو بالشام حين وقع بها الطاعون: (ان الاردن ارض غمقه، و ان الجابيه ارض نزهه، فاظهر بمن معك من المسلمين الى الجابيه).

قال: الغمقه: الكثيره الانداء و الوباء، و النزهه: البعيده
من ذلك.

و فى حديثه: انه قال لبعضهم فى كلام كلمه به: (بل تحوسك فتنه).

قال: معناه تخالطك و تحثك على ركوبها.

قال: و تحوس مثل: تجوس، بالجيم، قال تعالى: (فجاسوا خلال الديار).

و فى حديثه حين ذكر الجراد، فقال: (وددت ان عندنا منه قفعه او قفعتين).

قال: القفعه: شى ء شبيه بالزنبيل، ليس بالكبير، يعمل من خوص ليس له عرى، و هو الذى يسمى القفه.

و فى حديثه: ان اذينه العبدى اتاه يساله، فقال: انى حججت من راس هزا و خازك، او بعض هذه المزالف، فمن اين اعتمر؟ فقال: ائت عليا، فاساله، فسالته، فقال: من حيث ابتدات.

قال: راس هزا و خازك موضعان من ساحل فارس، و المزالف: كل قريه تكون بين البر و بلاد الريف، و هى المزارع ايضا، كالانبار و عين التمر و الحيره.

و فى حديثه: انه نهى عن المكايله.

قال: معناه مكافاه الفعل القبيح بمثله! و فى حديثه: (ليس الفقير الذى لا مال له، انما الفقير الاخلق الكسب).

قال: اراد الرجل الذى لايرزا فى ماله، و لايصاب بالمصائب، و اصله ان يقال للجبل المصمت الذى لا يوثر فيه شى ء: اخلق.

و صخره خلقاء، اذا كانت كذلك، فاراد عمر ان الفقر الاكبر انما هو فقر الاخره، لمن لم يقدم من ماله لنفسه شيئا يثاب عليه هناك.

و هذا نحو قول النبى
(ص): (ليس الرقوب الذى لايبقى له ولد، انما الرقوب الذى لم يقدم من ولده احدا).

فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب ابى عبيد.

فاما ما ذكره ابن قتيبه من غريب حديثه فى كتابه، فانا الخص منه ما انا ذاكره.

قال ابن قتيبه: فمن غريب حديث عمر انه خطب، فقال: ان اخوف ما اخاف عليكم ان يوخذ الرجل المسلم البرى ء عند الله فيدسر كما يدسر الجزور، و يشاط لحمه كما يشاط لحم الجزور، يقال: عاص و ليس بعاص.

فقال على (ع): فكيف ذاك و لما تشتد البليه، و تظهر الحميه، و تسبى الذريه، و تدقهم الفتن دق الرحى بثفالها! قال ابن قتيبه: يدسر اى يدفع، و منه حديث ابن عباس: ليس فى العنبر زكاه، انما هو شى ء يدسره البحر.

و يشاط لحمه، اى يقطع و يبضع، و الاصل فى الاشاطه الاحراق، فاستعير، و فى الحديث: (ان زيد بن حارثه قاتل يوم موته حتى شاط فى رماح القوم).

و الثفال: جلده تبسط تحت الرحى فيقع عليها الدقيق.

و فى حديث عمر: (القسامه توجب العقل، و لا تشيط الدم).

قال ابن قتيبه: العقل: الديه، يقول: اذا حلفت فانما تجب الديه لا القود، و قد روى عن ابن الزبير و عمر بن عبدالعزيز انهما اقادا بالقسامه.

و فى حديثه: (لاتفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب).

قال: يغسق،
اى يظلم.

و الظراب: جمع ظرب، و هو ما كان دون الجبل، و انما خص الظراب بالذكر لقصرها، اراد ان ظلمه الليل تقرب من الارض.

و فى حديثه: ان رجلا كسر منه عظم فاتى عمر يطلب القود، فابى ان يقتص له، فقال الرجل: فكاسر عظمى اذن كالارقم، ان يقتل ينقم، و ان يترك يلقم، فقال عمر: (هو كالارقم).

قال: كانت الجاهليه تزعم ان الجن يتصور بعضهم فى صوره الحيات، و ان من قتل حيه منها طلبت الحيه بالثار، فربما مات او اصابه خبل، فهذا معنى قوله: (ان يقتل ينقم).

و معنى (يلقم) يقول: ان تركته اكلك، و هذا مثل يضرب للرجل يجتمع عليه امران من الشر لايدرى كيف يصنع فيهما، و نحوه قولهم: هو كالاشقر ان تقدم عقر و ان تاخر نحر.

قال: و انما لم يقده لانه يخاف من القصاص فى العظم الموت، و لكن فيه الديه.

و فى حديثه: انه اتى مسجد قباء، فراى فيه شيئا من غبار و عنكبوت، فقال لرجل: (ائتنى بجريده و اتق العواهن)، قال: فجئته بها، فربط كميه بوذمه، ثم اخذ الجريده، فجعل يتتبع بها الغبار.

قال: الجريده: السعفه، و جمعها جريد.

و العواهن: السعفات التى يلين القلبه، و القلبه جمع قلب، و اهل نجد يسمون العواهن الحوانى، و انما نهاه عنها اشفاقا على القلب ان يضر به قطعها.

و الوذمه: سير من سيور الدلو يكون بين آذان الدلو و العراقى.

و فى حديثه: (الا لاتضربوا المسلمين فتذلوهم، و لاتمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، و لاتجمروهم فتفتنوهم).

قال: التجمير: ترك الجيش فى مغازيهم لايقفلون.

و فى حديثه: انه اتى بمروط، فقسمها بين نساء المسلمين، و رفع مرطا بقى الى ام سليط الانصاريه، و قال: (انها كانت تزفر القرب يوم احد تسقى المسلمين).

قال: تزفرها: تحملها، و منه زفر، اسم رجل كان يحمل الاثقال.

و فى حديثه انه قال: (اعطوا من الصدقه من ابقت له السنه غنما، و لاتعطوا من ابقت له السنه غنمين).

قال: السنه: هاهنا الازمنه، و منه قوله تعالى: (و لقد اخذنا آل فرعون بالسنين).

قال: و كان عمر لا يجيز نكاحا فى عام سنه، يقول: (لعل الضيعه تحملهم على ان ينكحوا غير الاكفاء).

و كان ايضا لايقطع سارقا فى عام سنه.

و قوله: (غنما) اى قطعه من الغنم، يقال لفلان: غنمان، اى قطعتان من الغنم، و اراد عمر ان من له قطعتان غنى لايعطى من الصدقه شيئا، لانها لم تكن قطعتين الا لكثرتها.

و فى حديثه انه انكفا لونه فى عام الرماده حين قال: (لا آكل سمنا و لا سمينا، و انه اتخذ ايام كان يطعم الناس قدحا فيه فرض، فكان يطوف على القصاع فيغمز القدح، فان لم تبلغ الثر
يده الفرض قال: فانظر ما ذا يفعل بصاحب الطعام).

قال: انكفا: تغير عن حاله، و اصله الانقلاب، من كفات الاناء.

و سمى عام الرماده من قولهم: ارمد الناس، اذا جهدوا، و الرمد: الهلاك.

و القدح: السهم.

و الفرض: الحز، جعل عمر هذا الحز علامه لعمق الثريد فى الصحفه.

و فى حديثه: ان عطاء بن يسار، قال: قلت للوليد بن عبدالملك: روى لى ان عمر بن الخطاب قال: وددت انى سلمت من الخلافه كفافا لا على و لا لى، فقال: كذبت! الخليفه يقول هذا! فقلت: او كذبت؟ فافلت منه بجريعه الذقن.

قال يقال خلص من خصمه كفافا، اى كف كل واحد منهما على صاحبه، فلم ينل احدهما من الاخر شيئا.

و افلت فلان بجريعه ذقن، اى ان نفسه قد صارت فى فيه.

و جريعه: تصغير جرعه.

قلت: و انما استعظم الوليد ذلك، لان بنى اميه كانوا يرون ان من ولى الخلافه فقد وجبت له الجنه، و لهذا خطب هشام يوم ولى، فقال: الحمد لله الذى انقذنى من النار بهذا المقام.

و فى حديثه: ان سماك بن حرب، قال: رايت عمر، فرايت رجلا اروح كانه راكب، و الناس يمشون كانه من رجال بنى سدوس.

قال: الاروح الذى تتدانى عقباه، و تتباعد صدور قدميه، يقال: اروح: بين الروح، و الافحج: الذى تتدانى صدور قدميه، و تتباعد عقباه و تتفحج سا
قاه، و الاوكع: الذى يميل ابهام رجله على اصابعه حتى يزول، فيرى شخص اصلها خارجا، و هو الوكع، و منه امه وكعاء.

و بنوسدوس: فخذ من بنى شيبان، و الطول اغلب عليهم.

و فى حديثه عن ابن عباس، قال: دعانى فاذا حصير بين يديه، عليه الذهب منثور نثر الحثا، فامرنى بقسمه.

قال: الحثا: التبن مقصور، قال الراجز يهجو رجلا: و ياكل التمر و لايلقى النوى و لا يوارى فرجه اذا اصطلى كانه غراره ملاى حثا و فى حديثه انه قال: (النساء ثلاث، فهينه لينه عفيفه مسلمه، تعين اهلها على العيش، و لا تعين الغيش على اهلها، و اخرى وعاء للولد، و اخرى غل قمل يضعه الله فى عنق من يشاء، و يفكه عمن يشاء.

و الرجال ثلاثه: رجل ذو راى و عقل، و رجل اذا حزبه امر اتى ذا راى فاستشاره، و رجل حائر بائر، لا ياتمر رشدا، و لايطيع مرشدا).

قال البائر: الهالك، قال تعالى: (و كنتم قوما بورا).

و الاصل فى قوله: (غل قمل)، انهم كانوا يغلون بالقد و عليه الشعر، فيقمل على الرجال.

و لا ياتمر رشدا، اى لا ياتى برشد من ذات نفسه، يقال لمن فعل الشى ء من غير مشاوره: قد ائتمر و بئس ما ائتمرت لنفسك، قال النمر بن تولب: و اعلمن ان كل موتمر مخطى ء فى الراى احيانا و فى حديثه انه خرج ليله
فى شهر رمضان، و الناس اوزاع، فقال: (انى لاظن لو جمعناهم على قارى ء واحد كان افضل)، فامر ابى بن كعب فامهم، ثم خرج ليله و هم يصلون بصلاته، فقال: (نعم البدعه هذه! و التى ينامون عنها افضل من التى يقومون).

قال: الاوزاع: الفرق، يريد انهم كانوا يصلون فرادى، يقال وزعت المال بينهم، اى فرقته.

و قوله: (و التى ينامون عنها افضل)، يريد صلاه آخر الليل، فانها خير من صلاه اوله.

و فى حديثه ان اصحاب محمد (ص) تذاكروا الوتر، فقال ابوبكر: اما انا فابدا بالوتر، و قال عمر: لكنى اوتر حين ينام الضفطى.

قال: هو جمع ضفيط، و هو الرجل الجاهل الضعيف الراى.

و منه ما روى عن ابن عباس، انه قال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجاره من السماء، فقيل: اتقول هذا و انت عامل لفلان؟ فقال: ان فى ضفطات، و هذه احدى ضفطاتى.

و فى حديثه انه قال فى وصيته: (ان توفيت و فى يدى صرمه ابن الاكوع، فسنتها سنه ثمغ).

قال: الصرمه هاهنا: قطعه من النخل، و يقال للقطعه الخفيفه من الابل: صرمه، و يقال لصاحبها مصرم، و لعله قيل للمقل، مصرم من هذا.

و ثمغ: مال كان لعمر، و وقفه.

و فى حديثه: انه لما قدم الشام تفحل له امراء الشام.

قال: اى اخشوشنوا له فى الزى و اللباس و المطعم
تشبها به، و اصله من الفحل، لان التصنع فى اللباس و القيام على النفس، انما هو عندهم للاناث لا للفحول.

و فى حديثه: انه قدم مكه، فسال من يعلم موضع المقام- و كان السيل احتمله من مكانه- فقال المطلب بن ابى وداعه السهمى: يا اميرالمومنين، قد كنت قدرته و ذرعته بمقاط عندى.

قال: المقاط: الحبل، و جمعه مقط.

و فى حديثه انه قال للذى قتل الظبى و هو محرم: (خذ شاه من الغنم فتصدق بلحمها، و اسق اهابها).

قال: الاهاب: الجلد.

و اسقه، اى اجعله سقاء لغيرك، كما تقول: اسقنى عسلا، اى اجعله لى سقاء و اقد بى خيلا، اى اعطنى خيلا اقودها، و اسقنى ابلا: اعطنى ابلا اسوقها.

و قالت بنوتميم للحجاج: اقبرنا صالحا، يعنون صالح بن عبدالرحمن، و كان قتله و صلبه، فسالوه ان يمكنهم من دفنه.

و فى حديثه: انه ذكر عنده التمر و الزبيب: ايهما افضل؟ و يروى انه قال لرجل من اهل الطائف: الحبله افضل ام النخله؟ فارسل الى ابى حثمه الانصارى، فقال: ان هولاء اختلفوا فى التمر و الزبيب ايهما افضل.

و فى روايه اخرى: و جاء ابوعمره عبدالرحمن بن محصن الانصارى، فقال ابوحثمه: ليس الصقر فى رئوس الرقل، الراسخات فى الوحل، المطعمات فى المحل، تعله الصبى، و قرى الضيف، و به يحترش الضب فى
الارض الصلعاء، كزبيب ان اكلته ضرست، و ان تركته غرثت.

و فى الروايه الاخرى: فقال ابوعمره: الزبيب ان آكله اضرس، و ان اتركه اغرث، ليس كالصقر فى رئوس الرقل، الراسخات فى الوحل، و المطعمات فى المحل، خرفه الصائم، و تحفه الكبير، و صمته الصغير، و خرسه مريم، و يحترش به الضباب من الصلعاء.

قال: الحبله، بفتح الحاء و تسكين الباء: الاصل من الكرم، و فى الحديث: ان نوحا لما خرج من السفينه غرس الحبله، و كانت لانس بن مالك حبله تحمل كذا، و كان يسميها ام العيال، فاما الحبله بالضم فثمر العضاه، و منه الحديث: كنا نغز و مع رسول الله (ص) و ما لنا طعام الا الحبله، و ورق السمر.

و الحبله بالضم ايضا: ضرب من الحلى يجعل فى القلائد، شبه بورق العضاه، لانه يصاغ على صورته.

و اغرث: اجوع، و الغرث: الجوع.

و الصقر: عسل الرطب.

و الرقل: جمع رقله، و هى النخله الطويله.

و قوله: (خرفه الصائم) اسم لما يخترف، اى يجتنى، و نسبها الى الصائم، لانهم كانوا يحبون ان يفطروا على التمر.

و قوله: (و صمته الصغير)، لان الصغير كان اذا بكى عندهم سكتوه به.

و تعله الصبى نحوه، من التعليل.

و خرسه مريم، الخرسه ما تطعمه النفساء عند ولادتها، اشار الى قوله تعالى: (و هزى اليك بجذع
النخله تساقط عليك رطبا جنيا)، فاما الخرس بغير هاء فهو الطعام الذى يصنع لاجل الولاده، كالاعذار للختان، و النقيعه للقادم، و الوكيره للبناء.

و يحترش به الضب اى يصطاده، يقال ان الضب يعجب بالتمر، و الحارش: صائد الضباب.

و الصلعاء: الصحراء التى لا نبات بها كراس الاصلع.

و فى حديثه انه قال للسائب: (ورع عنى بالدرهم و الدرهمين).

قال: اى كف الخصوم عنى فى قدر الدرهم و الدرهمين بان تنظر فى ذلك، و تقضى فيه بينهم، و تنوب عنى.

و كل من كففته فقد ورعته، و منه الورع فى الدين، انما هو الكف عن المعاصى.

و منه حديث عمر: لاتنظروا الى صلاه الرجل و صيامه، و لكن من اذا حدث صدق، و اذا ائتمن ادى، و اذا اشفى ورع، اى اذا اشرف على المعصيه كف عنها.

و فى حديثه انه خطب الناس، فقال: (ايها الناس، لينكح الرجل منكم لمته من النساء، و لتنكح المراه لمتها من الرجال).

قال: لمه الرجل من النساء مثله فى السن، و منه ما روى ان فاطمه (ع) خرجت فى لمه من نسائها (تتوطا ذيلها)، حتى دخلت على ابى بكر.

و اراد عمر بن الخطاب: لاتنكح الشابه الشيخ الكبير، و لاينكح الشاب العجوز، و كان سبب هذه الخطبه ان شابه زوجها اهلها شيخا فقتلته.

و فى حديثه: ان رجلا اتاه يشكو اليه الن
قرس، فقال: كذبتك الظهائر.

قال: الظهائر: جمع ظهيره، و هى الهاجره، و وقت زوال الشمس.

و كذبتك، اى عليك بها، و هى كلمه معناها الاغراء، يقولون: كذبك كذا، اى عليك به.

و منه الحديث المرفوع: (الحجامه على الريق فيها شفاء و بركه)، فمن احتجم فى يوم الخميس و يوم الاحد، كذباك! اى عليك بهما، و انما امر عمر صاحب النقرس ان يبرز للحر فى الهاجره و يمشى حافيا، و يبتذل نفسه، لان ذلك يذهب التقرس.

و فى حديثه انه قال: (من يدلنى على نسيج وحده؟)، فقال ابوموسى: ما نعلمه غيرك، فقال: ما هى الا ابل موقع ظهورها.

قال: معنى قولهم: (نسيج وحده) اى لا عيب فيه، و لا نظير له.

اصله من الثوب النفيس، لا ينسج على منواله غيره.

و البعير الموقع الذى يكثر آثار الدبر بظهره، لكثره ما يركب، و اراد عمر انا كلنا مثل ذلك فى العيب.

و فى حديثه: ان الطبيب الانصارى سقاه لبنا حين طعن، فخرج من الطعنه ابيض يصلد.

قال: اى يبرق و لم يتغير لونه.

و فى حديثه ان نادبه عمر، قالت: و اعمراه! اقام الاود، و شفى العمد.

فقال على (ع): اما و الله ما قالته و لكن قولته.

و العمد: ورم و دبر يكون فى ظهر البعير، و اراد على (ع) انه كانما القى هذا الكلام على لسانها لصحته و صدقه.

و فى حديث
ه: انه استعمل رجلا على اليمن، فوفد اليه، و عليه حله مشتهره، و هو مرجل دهين، فقال: اهكذا بعثناك! ثم امر بالحله فنزعت عنه، و البس جبه صوف، ثم سال عن ولايته فلم يذكر الا خيرا فرده على عمله، ثم وفد اليه بعد ذلك، فاذا اشعث مغبر عليه اطلاس، فقال: و لا كل هذا، ان عاملنا ليس بالشعث و لا العافى، كلوا و اشربوا و ادهنوا، انكم لتعلمون الذى اكره من امركم! قال: ثياب اطلاس، اى وسخه، و منه قيل للذئب: اطلس.

و العافى: الطويل الشعر، يقال: عفى وبر البعير، اذا طال، و منه الحديث المرفوع: (امر ان تعفى اللحى و تحفى الشوارب).

و فى حديثه انه قال للرجل: اما ترانى لو شئت امرت بشاه فتيه سمينه (او قنيه) فالقى عنها صوفها، ثم امرت بدقيق فنخل فى خرقه، فجعل منه خبز مرقق، و امرت بصاع من زبيب فجعل فى سعن حتى يكون كدم الغزال.

قال: السعن: قربه او اداوه ينتبذ فيها و تعلق بجذع.

و فى حديثه: انه راى رجلا يانح ببطنه، فقال: ما هذا؟ قال: بركه من الله، قال: بل هو عذاب من الله يعذبك به.

قال: يانح: يصوت، و هو ما يعترى الانسان السمين من البهر اذا مشى، انح يانح انوحا و فى حديثه انه لما دنا من الشام و لقيه الناس، جعلوا يتراطنون، فاشكعه ذلك و قال لاسلم مولاه: انهم لم يروا على صاحبك بزه قوم غضب الله عليهم.

قال: اشكعه: اغضبه، قال: اراد انهم لم يتحاموا عنه اللغط، و الكلام بالفارسيه و النبطيه بحضرته، لانهم لم يروه بعين الاماره و السلطان، كما يرون امرائهم، لانهم لم يروا عليه بزه الامراء و زيهم.

و فى حديثه: ان عاملا على الطائف كتب اليه: ان رجالا منهم كلمونى فى خلايا لهم، اسلموا عليها، و سالونى ان احميها لهم.

فكتب اليه عمر: (انها ذباب غيث، فان ادوا زكاته فاحمه لهم).

قال: الخلايا موضع النحل التى تعسل: الواحده خليه، و اراد بقوله: (انها ذباب غيث) انها تعيش بالمطر، لانها تاكل ما ينبت عنه، فاذا لم يكن غيث فقدت ما تاكل، فشبهها بالسائم من النعم لا مونه على صاحبها منها، و اوجب فيها الزكاه.

و فى حديثه: ان سعد بن الاخرم، قال: كان بين الحى و بين عدى بن حاتم تشاجر فارسلونى الى عمر فاتيته و هو يطعم الناس من كسور ابل، و هو قائم متوكى ء على عصا، موتزر الى انصاف ساقيه، خدب من الرجال كانه راعى غنم، و على حله ابتعتها بخمسمائه درهم، فسلمت عليه، فنظر الى بذنب عينه، و قال لى: امالك معوز؟ قلت: بلى، قال: فالقها، فالقيتها و اخذت معوزا، ثم لقيته فسلمت، فرد على السلام.

قال: كسور الابل: اعضاوها.

و الخدب: العظيم الجافى و كانه راعى غنم، يريد فى الجفاء و البذاذه و خشونه الهيئه و اللبسه.

و المعوز: الثوب الخلق، و الميم مكسوره، و انما ترك رد السلام عليه اولا، لانه اشهر الحله، فادبه بترك رد السلام، فلما خلعها و لبس المعوز رده عليه.

و فى حديثه: انه ذكر فتيان قريش و سرفهم فى الانفاق، فقال: لحرفه احدهم اشد على من عيلته.

قال: الحرفه هاهنا، ان يكون الرجل لايتجر و لايلتمس الرزق، فيكون محدودا لايرزق اذا طلب، و منه قيل: فلان محارف.

و العيله: الفقر.

و فى حديثه: انه قال لرجل: ما مالك؟ قال: اقرن لى و آدمه فى المنيئه، قال: قومها و زكها.

قال: الاقرن: جمع قرن، و هى جعبه من جلود تكون للصيادين يشق منها جانب ليدخلها الريح فلايفسد الريش.

و آدمه: جمع اديم، كجريب و اجربه.

و المنيئه: الدباغ، و انما امره بتزكيتها، لانها كانت للتجاره.

و فى حديثه ان اباوجزه السعدى، قال: شهدته يستقى، فجعل يستغفر، فاقول: الا ياخذ فيما خرج له! و لااشعر ان الاستسقاء هو الاستغفار، فقلدتنا السماء قلدا كل خمس عشره ليله، حتى رايت الارنبه ياكلها صغار الابل من وراء حقاق العرفط.

قال: فقلدتنا: مطرتنا لوقت معين، و منه قلد الحمى، و قلد الزرع، سقيه لوقت و هو وق
ت الحاجه.

و قال: رايت الارنب يحتملها السيل حتى تتعلق بالعرفط، و هو شجر ذو شوك، و زاد فى الارنب هاء، كما قالوا: عقرب و عقربه، و حقاق العرفط: صغارها، و قيل: الارنب ضرب من النبت، لا يكاد يطول، فاراد انه طال بهذا المطر حتى اكلته صغار الابل من وراء شجر العرفط.

و فى حديثه: انه قال: ما ولى احد الا حامى على قرابته، و قرى فى عيبته، و لن يلى الناس قرشى عض على ناجذه.

قال: حامى عليهم: عطف عليهم، و قرى فى عيبته، اى اختان، و اصل قرى: جمع.

و فى حديثه: لن تخور قوى ما كان صاحبها ينزع و ينزو.

يخور: يضعف.

و النزع فى القوس، و النزو على الخيل.

و روى ان عمر كان ياخذ بيده اليمنى اذنه اليسرى، ثم يجمع جراميزه و يثب، فكانما خلق على ظهر فرسه.

و فى حديثه: (تعلموا السنه و الفرائض و اللحن، كما تتعلمون القرآن).

قال: اللحن هاهنا: اللغه و النحو.

و فى حديثه: انه مر على راع، فقال: يا راعى، عليك بالظلف (من الارض) لا ترمض، فانك راع و كل راع مسئول: قال: الظلف: المواضع الصلبه، امره ان يرعى غنمه فيها، و نهاه ان يرمض، و هو ان يرعى غنمه فى الرمضاء و هى تشتد جدا فى الدهاس و الرمل، و تخف فى الارض الصلبه.

و فى حديثه: ان رجلا قرا عليه حرفا، فانكره، فقا
ل: من اقراك هذا؟ قال: ابوموسى، فقال: ان اباموسى لم يكن من اهل البهش.

قال: البهش المقل الرطب، فاذا يبس فهو الخشل، و اراد ان اباموسى: ليس من اهل الحجاز، لان المقل بالحجاز نبت، و القرآن نزل بلغه الحجاز و فى حديثه: ان عقبه بن ابى معيط، لما قال للنبى (ص): ااقتل من بين قريش؟ فقال عمر: حن قدح ليس منها.

قال: هذا مثل يضرب للرجل يدخل نفسه فى القوم و ليس منهم، و القدح: احد قداح الميسر، و كانوا يستعيرون القدح يدخلونه فى قداحهم يتيمنون به و يثقون بفوزه.

و فى حديثه: ان اهل الكوفه لما اوفدوا العلباء بن الهيثم السدوسى اليه، فراى عمر هيئته رثه، و اعجبه كلامه و عمله، قال: لكل اناس فى حميلهم خير.

قال: هذا مثل، و المراد انهم سودوه على معرفه منهم بما فيه من الخلال المحموده، و المعنى ان خبره فوق منظره.

و فى حديثه: انه اخذ من القطنيه الزكاه.

قال: هى الحبوب كالعدس و الحمص، و فى اخذ الزكاه منها خلاف بين الفقهاء.

و فى حديثه: انه كان يقول للخارص: (اذا وجدت قوما قد خرفوا فى حائطهم، فانظر قدر ما ترى انهم ياكلونه، فلا تخرصه).

قال: خرفوا فيه، اى نزلوا فيه ايام اختراف الثمره.

و فى حديثه: (اذا اجريت الماء على الماء جزى عنك).

قال: يريد صب ال
ماء على البول فى الارض، فانه يطهر المكان، و لا حاجه الى غسله.

و جزى: قضى و اغنى، من قوله تعالى: (لاتجزى نفس عن نفس شيئا)، فان ادخلت الالف قلت: (اجزاك) و همزت، و معناه كفاك.

و فى حديثه انه قال: (لايعطى من المغانم شى ء حتى تقسم، الالراع، و الدليل غير موليه).

قال: الراعى هاهنا الطليعه، لانه يرعى القوم، اى يحفظهم.

و قوله: (غير موليه)، اى غير معطيه شيئا لايستحقه.

و فى حديثه: (ان من الناس من يقاتل رياء، و سمعه، و منهم من يقاتل و هو ينوى الدنيا، و منهم من الجمه القتال فلم يجد بدا، و منهم من يقاتل صابرا محتسبا، اولئك هم الشهداء).

قال: الجمه القتال، اى رهقه و غشيه، فلم يجد مخلصا.

و فى حديثه: انه ارسل الى ابى عبيده رسولا فقال له حين رجع: فكيف رايت اباعبيده؟ قال: رايت بللا من عيش فقصر من رزقه، ثم ارسل اليه، و قال للرسول حين قدم: كيف رايته؟ قال: رايته حفوفا، قال: رحم الله اباعبيد، بسطنا له فبسط، و قبضنا له فقبض.

قال: الحفوف و الحفف واحد، و هو ضيق العيس و شدته، يقال: ما عليهم حفف و لا ضفف، اى ما عليهم اثر عوز، و الشظف: مثل الحفف.

و فى حديثه: انه رئى فى المنام، فسئل عن حاله، فقال: (ثل عرشى لو لا انى صادفت ربى رحيما).

قال: ثل عرشه، اى هدم.

و فى حديثه: انه قال لابى مريم الحنفى: (لانا اشد بغضا لك من الارض للدم)، قالوا: كان عمر عليه غليظا، كان قاتل زيد بن الخطاب اخيه، فقال: اينقصنى ذلك من حقى شيئا؟ قال: لا، قال: فلا ضير.

قال: هذا مثل، لان الارض لايغوص فيها الدم كما يغوص الماء، فهذا بغض الارض له، و يقال: ان دم البعير تنشفه الارض وحده.

و فى حديثه: (ان اللبن يشبه عليه).

قال: معناه ان الطفل ربما نزع به الشبه الى الظئر من اجل لبنها، فلاتسترضعوا الا من ترضون اخلاقها.

و فى حديثه: (اغزوا، و الغزو حلو خضر، قبل: ان يكون ثماما، ثم يكون رماما، ثم يكون خطاما).

قال: هذا مثل، و الثمام: نبت ضعيف.

و الرمام، بالضم و الرميم واحد، مثل طوال و طويل.

و الحطام: يبس النبت اذا تكسر، و معنى الكلام انه امرهم بالغزو حين عزائمهم قويه، و بواعثهم اليه شديده، فان مع ذلك يكون الظفر قبل ان يهى و يضعف، فيكون كالثمام الضعيف، ثم كالرميم، ثم يكون حطاما فيذهب.

و فى حديثه: (اذا انتاطت المغازى، و اشتدت العزائم، و منعت الغنائم انفسها، فخير غزوكم الرباط).

قال: انتاطت: بعدت، و النطى ء: البعيد.

و اشتدت العزائم: صعبت و منعت الغنائم انفسها، فخير غزوكم الرباط فى سبيل الله.

و فى
حديثه انه وضع يده فى كشيه ضب، و قال: ان النبى (ص) لم يحرمه، و لكن قذره.

قال: كشيه الضب: شحم بطنه.

و قوله: (وضع) اى اكل منه.

و فى حديثه: (لا اوتى باحد انتقص من سبل المسلمين الى مثاباته شيئا الا فعلت به كذا).

قال: المثابات هاهنا: المنازل يثوب اهلها اليها، اى يرجعون، و المراد من اقتطع شيئا من طريق المسلمين و ادخله فى داره.

و فى حديثه: انه كره النير.

قال: هو علم الثوب، و اظنه كرهه اذا كان حريرا.

و فى حديثه: انه انكسرت قلوص من ابل الصدقه فجفنها.

قال: اتخذ منها جفنه من طعام، و اجمع عليه.

و فى حديثه: (عجبت لتاجر هجر، و راكب البحر)! قال: عجب كيف يختلف الى هجر مع شده وبائها، و كيف يركب البحر مع الخطار بالنفس! و فى حديثه: انه قال ليله لابن عباس فى مسير له: انشدنا لشاعر الشعراء، قال: و من هو؟ قال: الذى لم يعاظل بين القول، و لم يتبع حوشى الكلام، قال: و من هو؟ قال: زهير، فجعل ينشد الى ان برق الصبح.

قال: هو ماخوذ من تعاظل الجراد، اذا ركب بعضه بعضا.

و حوشى الكلام: وحشيه.

و فى حديثه ان نائلا مولى عثمان، قال: سافرت مع مولاى و عمر فى حج او عمره، فكان عمر و عثمان و ابن عمر لفا، و كنت انا و ابن الزبير فى شببه معنا لفا، فكنا نت
مازح و نترامى بالحنظل، فما يزيدنا عمر على ان يقول لنا، كذاك لا تذعروا علينا، فقلنا لرياح بن العترف: لو نصبت لنا نصب العرب! فقال: (اقول) مع عمر فقلنا: افعل و ان نهاك فانته، ففعل و لم يقل عمر شيئا، حتى اذا كان فى وجه السحر ناداه: يا رياح، اتها، اكفف فانها ساعه ذكر! قال: لفا، اى حزبا و فرقه.

و شببه: جمع شاب، مثل كاتب و كتبه، و كاذب و كذبه، و كافر و كفره.

و قوله: (كذاك) اى حسبكم.

و قوله: (لا تذعروا علينا)، اى لاتنفروا ابلنا.

و نصب العرب: غناء لهم يشبه الحداء، الا انه ارق منه.

و فى حديثه: انه كتب فى الصدقه الى بعض عماله كتابا فيه: (و لاتحبس الناس اولهم على آخرهم، فان الرجن للماشيه عليها شديد، و لها مهلك، و اذا وقف الرجل عليك غنمه فلاتعتم من غنمه، و لاتاخذ من ادناها، و خذ الصدقه من اوسطها، و اذا وجب على الرجل سن لم تجدها فى ابله فلاتاخذ الا تلك السن من شروى ابله او قيمه عدل، و انظر ذوات الدر و الماخض، فتنكب عنها، فانها ثمال حاضريهم).

قال: الرجن: الحبس، رجن بالمكان: اقام به، و مثله دجن، بالدال.

و لاتعتم: لاتختر، اعتام اعتياما، اى اختار.

من شروى ابله، اى من مثلها و ذوات الدر: ذوات اللبن.

و الماخض: الحامل.

و ثمال حاض
ريهم: عصمتهم و غياثهم، و حاضريهم: من يسكن الحضر.

و فى حديثه: انه كان يلقط النوى من الطريق و النكث، فاذا مر بدار قوم القاها فيها، و قال: (لياكل هذا داجنتكم و انتفعوا بباقيه).

قال: الداجنه ما يعلفه الناس فى منازلهم، من الشاه و الدجاج و الطير.

و النكث: الخيوط الخلق من صوف او شعر او وبر.

و فى حديثه: (ثلاث من الفواقر: جار مقامه، ان راى حسنه دفنها، و ان راى سيئه اذاعها، و امراه ان دخلت عليها لسنتك، و ان غبت عنها لم تامنها، و امام ان احسنت لم يرض عنك، و ان اسات قتلك).

قال: الفواقر: الدواهى، واحدتها فاقره، لانها تكسر فقار الظهر.

و لسنتك: اخذتك بلسانها.

و فى حديثه فى خطبه له: (من اتى هذا البيت لا ينهره اليه غيره، رجع و قد غفر له).

قال: ينهره: يدفعه، يريد من حج لا ينوى بالحج الا الطاعه غفر له.

و فى حديثه: (اللبن لايموت).

قال: قيل فى معناه: ان اللبن اذا اخذ من ميته لم يحرم، و كل شى ء اخذ من الحى فلم يحرم فانه ان اخذ من الميت لم يحرم.

و قيل فى معناه: ان رضع الطفل من امراه ميته حرم عليه من اولادها و قرابتها من يحرم عليها منها لو كانت حيه.

و قيل: معناه: ان اللبن اذا انفصل من الضرع فاوجر به الصبى او ادم به او ديف له فى دوا
ء و سقيه، فانه ان لم يسم فى اللغه رضاعا، الا انه يحرم به ما يحرم بالرضاع، فقال: اللبن لايموت، اى لا يبطل عمله بمفارقه الثدى.

و فى حديثه: (من حظ المرء نفاق ايمه و موضع خفه).

قال: الايم التى لا بعل لها، و الخف: الابل، كما تسمى الحمر و البغال حافرا، و البقر و الغنم ظلفا، يريد من حظ الانسان ان يخطب اليه و يتزوج بناته و اخواته و اشباههن، فلا يبرن، و من حظه ايضا ان ينفق ابله، حتى ينتابه التجار و غيرهم فيبتاعوها فى مواضعها، يستطرقونه لايحتاج ان يعرضها عليهم.

و فى حديثه: ان العباس بن عبدالمطلب ساله عن الشعراء، فقال: امرو القيس سابقهم، خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور اصح بصر.

قال: خسف لهم، من الخسيف، و هى البئر تحفر فى حجاره، فيخرج منها ماء كثير، و جمعها خسف.

و قوله: (افتقر) اى فتح، و هو من الفقير، و الفقير: فم القناه.

و قوله: (عن معان عور) يريد ان امرا القيس من اليمن، و اليمن ليست لهم فصاحه نزار، فجعل معانيهم عورا، و فتح امرو القيس عنها اصح بصر.

(ذكر الاحاديث الوارده فى فضل عمر) فاما الحديث الوارد فى فضل عمر، فمنه ما هو مذكور فى الصحاح، و منه ما هو غير مذكور فيها.

فمما ذكر فى المسانيد الصحيحه من ذلك، ماروت
عائشه ان رسول الله (ص) قال: (كان فى الامم محدثون، فان يكن فى امتى فعمر).

اخرجاه فى الصحيحين.

و روى سعد بن ابى وقاص، قال: استاذن عمر على رسول الله (ص)، و عنده نساء من قريش يكلمنه، عاليه اصواتهن، فلما استاذن قمن يبتدرن الحجاب، فدخل و رسول الله (ص) يضحك، قال: اضحك الله سنك يا رسول الله! قال: عجبت من هولاء اللواتى كن عندى فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.

فقال عمر: انت احق ان يهبن، ثم قال: اى عدوات انفسهن، اتهبننى و لا تهبن رسول الله (ص) ؟ قلن: نعم، انت اغلظ و افظ، فقال رسول الله (ص): (و الذى نفسى بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا الا سلك فجا غير فجك)، اخرجاه فى الصحيحين.

و قد روى فى فضله من غير الصحاح احاديث: منها: (ان السكينه لتنطق على لسان عمر).

و منها: (ان الله تعالى ضرب بالحق على لسان عمر و قلبه).

و منها: (ان بين عينى عمر ملكا يسدده و يوفقه).

و منها: (لو لم ابعث فيكم لبعث عمر).

و منها: (لو كان بعدى نبى لكان عمر).

و منها: (لو نزل الى الارض عذاب لما نجا منه الا عمر).

و منها: (ما ابطا عنى جبريل الا ظننت انه بعث الى عمر).

و منها: (سراج اهل الجنه عمر).

و منها: ان شاعرا انشد النبى (ص) شعرا، فدخل عمر، فاشار النبى (ص)
الى الشاعر ان اسكت، فلما خرج عمر، قال له: عد فعاد، فدخل عمر فاشار النبى (ص) بالسكوت مره ثانيه، فلما خرج عمر سال الشاعر رسول الله (ص) عن الرجل، فقال: (هذا عمر بن الخطاب، و هو رجل لايحب الباطل).

و منها: ان النبى (ص) قال: (وزنت بامتى فرجحت، و وزن ابوبكر بها فرجح، و وزن عمر بها فرجح، ثم رجح، ثم رجح).

و قد رووا فى فضله حديثا كثيرا غير هذا، و لكنا ذكرنا الاشهر.

و قد طعن اعداوه و مبغضوه فى هذه الاحاديث، فقالوا: لو كان محدثا و ملهما لما اختار معاويه الفاسق لولايه الشام، و لكن الله تعالى قد الهمه و حدثه بما يواقع من القبائح و المنكرات و البغى و التغلب على الخلافه، و الاستئثار بمال الفى ء، و غير ذلك من المعاصى الظاهره.

قالوا: و كيف لايزال الشيطان يسلك فجا غير فجه، و قد فر مرارا من الزحف فى احد و حنين و خيبر، و الفرار من الزحف من عمل الشيطان و احدى الكبائر الموبقه! قالوا: و كيف يدعى له ان السكينه تنطق على لسانه! اترى كانت السكينه تلاحى رسول الله (ص) يوم الحديبيه، حتى اغضبه! قالوا: و لو كان ينطق على لسانه ملك او بين عينيه ملك يسدده و يوفقه، او ضرب الله بالحق على لسانه و قلبه، لكان نظيرا لرسول الله (ص)، بل كان افضل منه،
لانه (ص) كان يودى الرساله الى الامه عن ملك من الملائكه، و عمر قد كان ينطق على لسانه ملك، و زيد ملكا آخر بين عينيه يسدده و يوفقه، فهذا الملك الثانى مما قد فضل به على رسول الله (ص)، و قد كان حكم فى اشياء فيخطى ء فيها حتى يفهمه اياها على بن ابى طالب و معاذ بن جبل و غيرهما، حتى قال: لو لا على لهلك عمر، و لولا معاذ لهلك عمر.

و كان يشكل عليه الحكم، فيقول لابن عباس: غص يا غواص، فيفرج عنه، فاين كان الملك الثانى المسدد له! و اين الحق الذى ضرب به على لسان عمر؟ و معلوم ان رسول الله (ص) كان ينتظر فى الوقائع نزول الوحى.

و عمر على مقتضى هذه الاخبار لا حاجه به الى نزول ملك عليه، لان الملكين معه فى كل وقت و كل حال، ملك ينطق على لسانه و ملك آخر بين عينيه يسدده و يوفقه.

و قد عززا بثالث و هى السكينه، فهو اذا افضل من رسول الله (ص)! و قالوا: و الحديث الذى مضمونه: لو لم ابعث فيكم لبعث عمر، فيلزم ان يكون رسول الله (ص) عذابا على عمر، و اذى شديدا له، لانه لو لم يبعث لبعث عمر نبيا و رسولا، و لم تعلم رتبه اجل من رتبه الرساله، فالمزيل لعمر عن هذه الرتبه التى ليس ورائها رتبه، ينبغى الا يكون فى الارض احد ابغض اليه منه! قالوا: و اما كونه
سراج اهل الجنه، فيقتضى انه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنه مظلمه لا سراج لها.

قالوا: و كيف يجوز ان يقال: لو نزل العذاب لم ينج منه الا عمر، و الله تعالى يقول: (و ما كان الله ليعذبهم و انت فيهم).

قالوا: و كيف يجوز ان يقال: ان النبى (ص) كان يسمع الباطل و يحبه و يشهده، و عمر لايسمع الباطل و لايشهده و لايحبه! اليس هذا تنزيها لعمر عما لم ينزه عنه رسول الله (ص)! قالوا: و من العجب ان يكون النبى (ص) ارجح من الامه يسيرا، و كذلك ابوبكر، و يكون عمر ارجح منهما كثيرا! فان هذا بقتضى ان يكون فضله ابين و اظهر من فضل ابى بكر و من فضل رسول الله (ص)! و الجواب انه ليس يحب فيمن كان محدثا ملهما ان يكون محدثا ملهما فى كل شى ء بل الاعتبار باكثر افعاله و ظنونه و آرائه، و لفد كان عمر كثير التوفيق، مصيب الراى فى جمهور امره، و من تامل سيرته علم صحه ذلك، و لايقدح فى ذلك ان يختلف ظنه فى القليل من الامور.

و اما الفرار من الزجف، فانه لم يفر الا متحيزا الى فئه، و قد استثنى الله تعالى ذالك فخرج به عن الاثم.

و اما باقى الاخبار فالمراد بالملك فيها الاخبار عن صحه ظنه، و صدق فراسته، و هو كلام يجرى مجرى المثل، فلايقدح فيه ما ذكروه.

و اما قوله (ص): (لو نزل الى الارض عذاب لما نجامنه الا عمر)، فهو كلام قاله عقيب اخذ الفدايه من اسارى بدر، فان عمر لم يشر عليه، و نهاه عنه، فانزل الله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم).

و اذا كان القرآن قد نطق بذلك و شهد، لم يلتفت الى طعن من طعن فى الخبر.

و اما قوله (ع): (سراج اهل الجنه)، عمر فمعناه سراج القوم الذين يستحقون الجنه من اهل الدنيا ايام كونهم فى الدنيا مع عمر، اى يستضيئون بعلمه، كما يستضاء بالسراج.

و اما حديث منع الشاعر، فان رسول الله (ص) خاف ان يذكر فى شعره ما يقتضى الانكار فيعنف به عمر، و كان شديد الغلظه، فاراد النبى (ص) ان ينكر هو على الشاعر ان قال فى شعره ما يقتضى ذلك على وجه اللطف و الرفق، و كان (ع) رئوفا رحيما، كما قال الله تعالى.

و اما حديث الرجحان، فالمراد به الفتوح و ملك البلاد، و تاويله انه (ع) ارى فى منامه ما يدل على انه يفتح الله عليه بلادا و على ابى بكر مثله، و يفتح على عمر اضعاف ذلك، و هكذا وقع.

و اعلم ان من تصدى للعيب وجده، و من قصر همته على الطعن على الناس انفتحت له ابواب كثيره، و السعيد من انصف من نفسه، و رفض الهوى، و تزود التقوى، و بالله التوفيق! (ذكر ما ورد من الخبر عن
اسلام عمر) و اما اسلام عمر، فانه اسلم، فكان تمام اربعين انسانا فى اظهر الروايات، و ذلك فى السنه السادسه من النبوه، و سنه اذ ذاك ست و عشرون سنه، و كان عمر ابنه عبدالله يومئذ ست سنين.

و اصح ما روى فى اسلامه روايه انس بن مالك عنه، قال: خرجت متقلدا سيفى، فلقيت رجلا من بنى زهره، فقال: اين تعمد؟ قلت: اقتل محمدا، قال: و كيف تامن فى بنى هاشم و بنى زهره؟ فقلت: ما اراك الا صبوت! قال: افلا ادلك على العجب! ان اختك و زوجها قد صبوا.

فمشى عمر فدخل عليهما ذامرا، و عندهما رجل من اصحاب رسول الله (ص)، يقال له: خباب بن الارت، فلما سمع خباب حس عمر توارى، فقال عمر: ما هذه الهينمه التى سمعتها عندكم؟ و كانوا يقرئون (طه) على خباب، فقال: ما عندنا شى ء، انما هو حديث كنا نتحدثه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتما فقال له ختنه: ارايت يا عمر ان كان الحق فى غير دينك! فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا، فجائت اخته فدفعته عن زوجها، فنفحها بيده، فادمى وجهها، فجاهرته، فقالت: ان الحق فى غير دينك، و انا اشهد ان لا اله الا الله، و ان محمدا رسول الله، فاصنع ما بدا لك! فلما يئس قال: اعطونى هذا الكتاب الذى عندكم فاقروه- و كان عمر يقرا الخط- فقالت له اخ
ته: انك رجس، و ان هذا الكتاب لايمسه الا المطهرون، فقم فتوضا، فقام فاصاب ماء، ثم اخذ الكتاب، فقرا (طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى الا تذكره لمن يخشى) الى قوله: (اننى انا الله لا اله الا انا فاعبدنى و اقم الصلاه لذكرى)، فقال عمر: دلونى على محمد، فلما سمع خباب قول عمر، و راى منه الرقه، خرج من البيت، فقال: ابشر يا عمر، فانى لارجو ان تكون دعوه رسول الله (ص) ليله الخميس لك، سمعته يقول: (اللهم اعز الاسلام بعمر بن الخطاب او بعمرو بن هشام)- قال: و رسول الله (ص) فى الدار التى فى اصل الصفا- فانطلق عمر حتى اتى الدار، و على الباب حمزه بن عبدالمطلب و طلحه بن عبيدالله و ناس من اهل رسول الله (ص)، فلما راى الناس عمر قد اقبل، كانهم وجدوا، و قالوا: قد جاء عمر، فقال حمزه: قد جاء عمر، فان يرد الله به خيرا يسلم، و ان يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا، قال: و النبى (ص) من داخل البيت يوحى اليه، فسمع رسول الله (ص) كلام القوم، فخرج مسرعا حتى انتهى الى عمر، فاخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه، و قال: ما انت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك- يعنى من الخزى و النكال- ما انزل بالوليد بن المغيره.

ثم قال: اللهم هذا عمر، اللهم اعز الاسلام بعمر! فقال: ا
شهد ان لا اله الا الله، و اشهد انك رسول الله.

فكبر اهل الدار، و من كان على الباب، تكبيره سمعها من كان فى المسجد من المشركين.

و قد روى ان عمر كان موعودا و مبشرا بما وصل اليه من قبل ان يظهر امر الاسلام.

قرات فى كتاب من تصانيف ابى احمد العسكرى رحمه الله، ان عمر خرج عسيفا مع الوليد بن المغيره الى الشام فى تجاره للوليد، و عمر يومئذ ابن ثمانى عشره سنه، فكان يرعى للوليد ابله، و يرفع احماله، و يحفظ متاعه، فلما كان بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم، فجعل ينظر اليه، و يطيل النظر لعمر، ثم قال: اظن اسمك يا غلام (عامرا) او (عمران) او نحو ذلك؟ قال: اسمى (عمر)، قال: اكشف عن فخذيك، فكشف فاذا على احدهما شامه سوداء فى قدر راحه الكف، فساله ان يكشف عن راسه، فكشف فاذا هو اصلع، فساله ان يعتمل بيده، فاعتمل فاذا اعسر ايسر، فقال له: انت ملك العرب، و حق مريم البتول! قال: فضحك عمر مستهزئا، قال: او تضحك! و حق مريم البتول انك ملك العرب، و ملك الروم، و ملك الفرس! فتركه عمر و انصرف مستهينا بكلامه، و كان عمر يحدث بعد ذلك، و يقول: تبعنى ذلك الرومى و هو راكب حمارا، فلم يزل معى حتى باع الوليد متاعه، و ابتاع بثمنه عطرا و ثيابا، و قفل الى الحجاز
، و الرومى يتبعنى، لايسالنى حاجه، و يقبل يدى كل يوم اذا اصبحت كما تقبل يد الملك، حتى خرجنا من حدود الشام، و دخلنا فى ارض الحجاز راجعين الى مكه، فودعنى و رجع.

و كان الوليد يسالنى عنه فلا اخبره، و لا اراه الا هلك، و لو كان حيا لشخص الينا.

(تاريخ موت عمر و الاخبار الوارده فى ذلك) فاما تاريخ موته، فان ابالولوه طعنه يوم الاربعاء، لاربع بقين من ذى الحجه من سنه ثلاث و عشرين، و دفن يوم الاحد صباح هلال المحرم سنه اربع و عشرين، و كانت ولايته عشر سنين و سته اشهر، و هو ابن ثلاث و ستين فى اظهر الاقوال، و قد كان قال على المنبر يوم جمعه، و قد ذكر رسول الله (ص) و ابابكر: انى قد رايت رويا، اظنها لحضور اجلى، رايت كان ديكا نقرنى نقرتين، فقصصتها على اسماء بنت عميس، فقالت: يقتلك رجل من العجم، و انى افكرت فيمن استخلف، ثم رايت ان الله لم يكن ليضيع دينه و خلافته التى بعث بها رسوله.

و روى ابن شهاب، قال: كان عمر لا ياذن لصبى قد احتلم فى دخول المدينه، حتى كتب المغيره، و هو على الكوفه، يذكر له غلاما صنعا عنده، و يستاذنه فى دخول المدينه، و يقول: ان عنده اعمالا كثيره فيها منافع للناس، انه حداد نقاش نجار.

فاذن له ان يرسل به الى المدين
ه، و ضرب عليه المغيره مائه درهم فى كل شهر، فجاء الى عمر يوما يشتكى اليه الخراج، فقال له عمر: ماذا تحسن من الاعمال؟ فعد له الاعمال التى يحسن، فقال له: ليس خراجك بكثير فى كنه عملك.

هذا هو الذى رواه اكثر الناس من قوله له، و من الناس من يقول: انه جهر بكلام غليظ، و اتفقوا كلهم على ان العبد انصرف ساخطا يتذمر، فلبث اياما ثم مر بعمر فدعاه، فقال: قد حدثت انك تقول: لو اشاء لصنعت رحا تطحن بالريح، فالتفت العبد عابسا ساخطا الى عمر، و مع عمر رهط من الناس، فقال: لاصنعن لك رحا يتحدث الناس بها، فلما ولى اقبل عمر على الرهط، فقال: الا تسمعون الى العبد! ما اظنه الا اوعدنى آنفا! فلبث ليالى، ثم اشتمل ابولولوه على خنجر ذى راسين، نصابه فى وسطه، فكمن فى زاويه من زوايا المسجد فى غلس السحر، فلم يزل هنالك حتى جاء عمر يوقظ الناس لصلاه الفجر، كما كان يفعل فلما دنا منه وثب عليه، فطعنه ثلاث طعنات: احداهن تحت السره، قد خرقت الصفاق- و هى التى قتلته- ثم انحاز الى اهل المسجد، فطعن فيهم من يليه حتى طعن احد عشر رجلا سوى عمر، ثم انتحر بخنجره، فقال عمر حين ادركه النزف: قولوا لعبدالرحمن بن عوف، فليصل بالناس، ثم غلبه النزف فاغمى عليه، فاحتمل حتى ادخ
ل بيته، ثم صلى عبدالرحمن بالناس، قال ابن عباس: فلم ازل عند عمر و هو مغمى عليه لم يزل فى غشيه واحده، حتى اسفر، فلما اسفر افاق، فنظر فى وجوه من حوله، و قال: اصلى الناس؟ فقيل: نعم فقال لا اسلام لمن ترك الصلاه، ثم دعا بوضوء فتوضا وصلى، ثم قال: اخرج يابن عباس، فاسال من قتلنى؟ فجئت حتى فتحت باب الدار، فاذا الناس مجتمعون، فقلت: من طعن اميرالمومنين؟ قالوا: طعنه ابولولوه غلام المغيره، قال ابن عباس: فدخلت فاذا عمر ينظر الى الباب يستانى خبر ما بعثنى له، فقلت: يا اميرالمومنين، زعم الناس انه عدو الله ابولولوه غلام المغيره بن شعبه، و انه طعن رهطا ثم قتل نفسه، فقال: الحمد لله الذى لم يجعل قاتلى يحاجنى عند الله بسجده سجدها له قط، ما كانت العرب لتقتلنى، ثم قال: ارسلوا الى طبيب ينظر جرحى، فارسلوا الى طبيب من العرب، فسقاه نبيذا فخرج من الجرح، فاشتبه عليهم الدم بالنبيذ، ثم دعوا طبيبا آخر فسقاه لبنا، فخرج اللبن من الطعنه صلدا ابيض، فقال الطبيب: اعهد يا اميرالمومنين عهدك، فقال: لقد صدقنى، و لو قال غير ذلك لكذب، فبكى عليه القوم حتى اسمعوا من خارج الدار، فقال: لاتبكوا علينا، الا و من كان باكيا فليخرج، فان النبى (ص) قال: (ان الميت لي
عذب ببكاء اهله عليه).

و روى عن عبدالله بن عمر، انه قال: سمعت ابى يقول: لقد طعننى ابولولوه طعنتين، و ما اظنه الا كلبا حتى طعننى الثالثه.

و روى ان عبدالرحمن بن عوف طرح على ابى لولوه بعد ان طعن الناس خميصه كانت عليه، فلما حصل فيها نحر نفسه، فاحتز عبدالرحمن راسه و اجتمع البدريون و اعيان المهاجرين و الانصار بالباب، فقال عمر لابن عباس: اخرج اليهم، فاسالهم اعن ملا منكم كان هذا الذى اصابنى؟ فخرج يسالهم، فقال القوم: لا و الله، و لوددنا ان الله زاد فى عمره من اعمارنا! و روى عبدالله بن عمر، قال: كان ابى يكتب الى امراء الجيوش: لاتجلبوا الينا من العلوج احدا جرت عليه المواسى، فلما طعنه ابولولوه، قال: من بى؟ قالوا: غلام المغيره، قال: الم اقل لكم: لاتجلبوا الينا من العلوج احدا، فغلبتمونى! و روى محمد بن اسماعيل البخارى فى صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال: انى لقائم ما بينى و بين عمر الا عبدالله بن عباس غداه اصيب، و كان اذا مر بين الصفين، قال: استووا، حتى اذا لم ير بيننا خللا تقدم فكبر، و ربما قرا سوره يوسف او النحل فى الركعه الاولى (او نحو ذلك فى الركعه الثانيه) حتى يجتمع الناس، فما هو الا ان كبر، فسمعته يقول: قتلنى- او اكلنى- ال
كلب، و ذلك حين طعنه العلج بسكين ذات طرفين، لا يمر على احد يمينا و لا شمالا الا طعنه، حتى طعن ثلاثه عشر رجلا، مات منهم سته، فلما راى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج انه ماخوذ نحر نفسه، و تناول عمر بيده عبدالرحمن بن عوف، فقدمه، فمن يلى عمر، فقد راى الذى راى، و اما نواحى المسجد فانهم لايدرون غير انهم فقدوا صوت عمر، فهم يقولون: سبحان الله! فصلى عبدالرحمن صلاه خفيفه، فلما انصرفوا قال: يابن عباس، انظر من قتلنى؟ فجال ساعه، ثم جاء فقال: غلام المغيره، قال: الصنع! قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد امرت به معروفا، الحمد لله الذى لم يجعل منيتى بيد رجل يدعى الاسلام، و قد كنت انت و ابوك تحبان ان يكثر العلوج- و كان العباس اكثرهم رقيقا- فقال: ان شئت فعلنا، اى قتلناهم، قال: كذبت بعد ان تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم، و حجوا حجكم! فاحتمل الى بيته، و انطلقنا معه، و كان الناس لم تصبهم مصيبه قبل يومئذ، فقائل: يقول: لا باس عليه، و قائل يقول: اخاف عليه، فاتى بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم اتى بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعلموا انه ميت، فدخل الناس يثنون عليه، و جاء (رجل) شاب، فقال: ابشر يا اميرالمومنين ببشرى الله، لك صحبه ب
رسول الله و قدم فى الاسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهاده.

فقال عمر: وددت ان ذلك كله كان كفافا، لا على و لالى، فلما ادبر اذا رداوه يمس الارض، فقال: ردوا على الغلام، فردوه، فقال: يابن اخى، ارفع ثوبك، فانه ابقى لثوبك، و اتقى لربك، يا عبدالله بن عمر، انظر ما على من دين، فحسبوه فوجدوه سته و ثمانين الفا او نحوه، فقال: ان وفى به مال آل عمر فاده من اموالهم، و الا فسل فى بنى عدى بن كعب، فان لم تف به اموالهم، فسل فى قريش و لاتعدهم الى غيرهم، و ادعنى هذا المال، انطلق الى عائشه، فقل لها: يقرا عليك السلام عمر- و لاتقل (اميرالمومنين)، فانى اليوم لست للمومنين اميرا- و قل: يستاذن عمر بن الخطاب ان يدفن مع صاحبيه، فمضى و سلم، و استاذن و دخل عليها فوجدها قاعده تبكى، فقال: يقرا عليك عمر السلام و يستاذن ان يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت اريده لنفسى- يعنى الموضع- و لاوثرنه اليوم على نفسى.

فلما اقبل قيل: هذا عبدالله قد جاء، قال: ارفعونى، فاسندوه الى رجل منهم، قال: يا عبدالله ما لديك؟ قال: الذى تحب يا اميرالمومنين، قد اذنت، قال: الحمد لله، ما كان شى ء اهم الى من ذلك، اذا انا قبضت فاحملنى، ثم سلم عليها، و قل: يستاذن عمر بن الخطا
ب، فان اذنت لى فادخلونى، و ان ردتنى فردونى الى مقابر المسلمين، و ادفنونى بين المسلمين.

و جائت ابنته حفصه، و النساء معها، قال: فلما رايناها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعه، و استاذن الرجال فولجت بيتا داخلا لهم، فسمعنا بكائها من البيت الداخل فقال: اوص يا اميرالمومنين و استخلف، فقال: ما اجد احق بهذا الامر من هولاء النفر- او قال: الرهط- الدين توفى رسول الله (ص) و هو عنهم راض، فسمى عليا و عثمان و الزبير و طلحه و سعدا و عبدالرحمن، و قال: يشهدكم عبدالله بن عمر، و ليس له من الامر شى ء- كهيئه التعزيه له- فان اصابت الاماره سعدا، فهو اهل لذلك، و الا فليستعن به ايكم امر، فانى لم اعزله عن عجز و لا عن خيانه، ثم قال: اوصى الخليفه من بعدى بالمهاجرين الاولين، ان يعرف لهم حقهم، و يحفظ لهم حرمتهم، و اوصيه بالانصار خيرا الذين تبوئوا الدار و الايمان من قبلهم، ان يقبل من محسنهم و ان يعفو عن مسيئهم، و اوصيه باهل الامصار خيرا، فانهم ردء الاسلام و جباه الاموال، و غيظ العدو، الا ياخذ منهم الا فضلهم، عن رضاهم، و اوصيه بالاعراب خيرا، فانهم اصل العرب، و ماده الاسلام، ان يوخذ من حواشى اموالهم، و يرد على فقرائهم، و اوصيه بذمه الله و ذمه رس
وله ان يوفى لهم بعهدهم، و ان يقاتل من ورائهم، و الا يكلفوا الا طاقتهم.

قال: فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشى، فسلم عبدالله بن عمر، و قال: يستاذن عمر ابن الخطاب، فقالت: ادخلوه، فادخل، فوضع هنالك مع صاحبيه.

و قال ابن عباس: انا اول من اتى عمر حين طعن، فقال: احفظ عنى ثلاثا، فانى اخاف الا يدركنى الناس، اما انا فلم اقض فى الكلاله، و لم استخلف على الناس، و كل مملوك لى عتيق، فقلت له: ابشر بالجنه، صاحبت رسول الله (ص) فاطلت صحبته، و وليت امر المسلمين فقويت عليه، و اديت الامانه.

قال: اما تبشيرك لى بالجنه، فو الله الذى لا اله الا هو، لو ان لى الدنيا بما فيها لافتديت به من هول ما امامى قبل ان اعلم ما الخبر، و اما ما ذكرت من امر المسلمين فلوددت ان ذلك كان كفافا لا على و لا لى، و اما ما ذكرت من صحبه رسول الله (ص) فهو ذلك.

و روى معمر، عن الزهرى، عن سالم عن عبدالله، قال: دخلت على ابى، فقلت: سمعت الناس يقولون مقاله- و آليت ان اقولها لك- زعموا انك غير مستخلف، و انه لو كان لك راعى ابل او غنم ثم جائك و تركها رايت انه قد ضيع، فرعايه الناس اشد، فوضع راسه ثم رفعه، فقال: ان الله تعالى يحفظ دينه، ان لم استخلف فان رسول الله (ص) لم يستخ
لف، و ان استخلفت فان ابابكر قد استخلف.

فو الله ما هو الا ان ذكر رسول الله و ابابكر، فعلمت انه لم يكن يعدل برسول الله (ص) احدا، و انه غير مستخلف.

و روى انه قال: و قد اذنت له عائشه فى ان يدفن فى بيتها: اذا مت فاستاذنوها مره ثانيه، فان اذنت، و الا فاتركوها، فانى اخشى ان تكون اذنت لى لسلطانى، فاستاذنوها بعد موته فاذنت.

و روى عمر بن ميمون، قال: لما طعن عمر، دخل عليه كعب الاحبار: فقال: (الحق من ربك فلاتكونن من الممترين)، قد انباتك انك شهيد، فقال: من اين لى بالشهاده و انا بجزيره العرب! و روى ابن عباس، قال: لما طعن عمر و جئته بخبر ابى لولوه اتيته و البيت ملان.

فكرهت ان اتخطى رقابهم- و كنت حديث السن- فجلست و هو مسجى، و جاء كعب الاحبار، و قال: لئن دعا اميرالمومنين ليبقيه الله لهذه الامه حتى يفعل فيها كذا و كذا! حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر، فقلت: ابلغه ما تقول: قال: ما قلت الا و انا اريد ان تبلغه، فتشجعت و قمت، فتخطيت رقابهم، حتى جلست عند راسه، و قلت: انك ارسلتنى بكذا، ان عبدالمغيره قتلك و اصاب معك ثلاثه عشر انسانا، و ان كعبا هاهنا و هو يحلف بكذا، فقال: ادعو الى كعبا، فدعى فقال: ما تقول؟ قال: اقول كذا، قال: لا و الله لا
ادعو، و لكن شقى عمر ان لم يغفر الله له.

و روى المسور بن مخرمه، ان عمر لما طعن اغمى عليه طويلا، فقيل انكم لم توقظوه بشى ء مثل الصلاه ان كانت به حياه! فقالوا! الصلاه: يا اميرالمومنين، الصلاه قد صليت! فانتبه، فقال: الصلاه، لاها الله لااتركها، لا حظ فى الاسلام لمن ترك الصلاه! فصلى، و ان جرحه لينثعب دما.

و روى المسور ابن مخرمه، ايضا، قال: لما طعن عمر، جعل يالم و يجزع، فقال ابن عباس: و لا و كل ذلك يا اميرالمومنين، لقد صحبت رسول الله (ص)، فاحسنت صحبته، ثم فارقته و هو عنك راض، و صحبت ابابكر و احسنت صحبته، و فارقك و هو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فاحسنت اليهم و فارقتهم و هم عنك راضون.

قال: اما ما ذكرت من صحبه رسول الله (ص) و ابى بكر فذلك، مما من الله به على، و اما ما ترى من جزعى فو الله لو ان لى بما فى الارض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل ان اراه- و فى روايه لافتديت به من هول المطلع.

و فى روايه: المغرور من غررتموه! لو ان لى ما على ظهرها من صفراء و بيضاء لافتديت به من هول المطلع.

و فى روايه: فى الاماره على تثنى يابن عباس! قلت: و فى غيرها، قال: و الذى نفسى بيده لوددت انى خرجت منها كما دخلت فيها، لا حرج و لا وزر.

و فى ر
وايه: لو كان لى ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من كرب ساعه- يعنى الموت- كيف و لم ارد الناس بعد! و فى روايه: لو ان لى الدنيا و ما فيها لافتديت به من هول ما امامى، قبل ان اعلم ما الخبر.

قال ابن عباس: فسمعنا صوت ام كلثوم: و اعمراه! و كان معها نسوه يبكين، فارتج البيت بكاء، فقال عمر: ويلم عمر، ان الله لم يغفر له! فقلت: و الله انى لارجو الا تراها الا مقدار ما قال الله تعالى: (و ان منكم الا واردها)، ان كنت- ما علمنا- لاميرالمومنين، و سيد المسلمين، تقضى بالكتاب، و تقسم بالسويه.

فاعجبه قولى، فاستوى جالسا فقال: اتشهد لى بهذا يابن عباس؟ فكععت- اى جبنت- فضرب على (ع) بين كتفى، و قال: اشهد.

و فى روايه لم تجزع يا اميرالمومنين؟ فو الله لقد كان اسلامك عزا و امارتك فتحا، و لقد ملات الارض عدلا فقال: اتشهد لى بذلك يابن عباس؟ قال: فكانه كره الشهاده، فتوقف، فقال له على (ع): قل: نعم، و انا معك، فقال: نعم.

و فى روايه انه قال: مسست جلده و هو ملقى، فقلت: جلد لا تمسه النار ابدا، فنظر الى نظره جعلت ارثى له منها، قال: و ما علمك بذلك؟ قلت: صحبت رسول الله (ص) فاحسنت صحبته... الحديث، فقال: لو ان لى ما فى الارض لافتديت به من عذاب الله قبل ان
القاه او اراه.

و فى روايه، قال: فانكرنا الصوت، و اذا عبدالرحمن بن عوف، و قيل: طعن اميرالمومنين.

فانصرف الناس و هو فى دمه مسجى، لم يصل الفجر بعد، فقيل: يا اميرالمومنين: الصلاه! فرفع راسه، و قال: لاها الله اذن، لا حظ لامرى ء فى الاسلام ضيع صلاته.

ثم وثب ليقوم فانثعب جرحه دما، فقال: هاتوا لى عمامه، فعصب بها جرحه، ثم صلى و ذكر، ثم التفت الى ابنه عبدالله، و قال: ضع خدى الى الارض يا عبدالله، قال عبدالله: فلم اعج بها، و ظننت انها اختلاس من عقله، فقالها مره اخرى: ضع خدى الى الارض يا بنى فلم افعل، فقال الثالثه: ضع خدى الى الارض، لا ام لك! فعرفت انه مجتمع العقل، و لم يمنعه ان يضعه هو الا مابه من الغلبه، فوضعت خده الى الارض، حتى نظرت الى اطراف شعر لحيته خارجه من اضعاف التراب، و بكى حتى نظرت الى الطين قد لصق بعينه، فاصغيت اذنى لاسمع ما يقول، فسمعته يقول: يا ويل عمر! و ويل ام عمر، ان لم يتجاوز الله عنه! و قد جاء فى روايه، ان عليا (ع) جاء حتى وقف عليه، فقال: ما احد احب الى ان القى الله بصحيفته من هذا المسجى! و روى عن حفصه ام المومنين، قالت: سمعت ابى يقول فى دعائه: اللهم قتلا فى سبيلك، و وفاه فى بلد نبيك! قلت: و انى يكون هذ
ا؟ قال: ياتى به الله اذا شاء.

و يروى ان كعبا كان يقول له: نجدك فى كتبنا تموت شهيدا، فيقول: كيف لى بالشهاده و انا فى جزيره العرب! و روى المقدام بن معد يكرب، قال: لما اصيب عمر دخلت عليه حفصه ابنته، فنادت: يا صاحب رسول الله، و يا صهر رسول الله، و يا اميرالمومنين! فقال لابنه عبدالله: اجلسنى، فلاصبر لى على ما اسمع، فاسنده الى صدره، فقال لها: انى احرج عليك بما لى عليك من الحق ان تندبينى بعد مجلسك هذا، فاما عينك فلن املكها، انه ليس من ميت يندب عليه بما ليس فيه، الا الملائكه تمقته! و روى الاحنف، قال: سمعت عمر يقول: ان قريشا رئوس الناس، ليس احد منهم يدخل من باب الا دخل معه طائفه من الناس، فلما اصيب عمر امر صهيبا ان يصلى بالناس ثلاثه ايام و يطعمهم، حتى يجتمعوا على رجل، فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس بن عبدالمطلب: ايها الناس، ان رسول الله (ص) مات فاكلنا بعده، و مات ابوبكر فاكلنا بعده و انه لابد للناس من الاكل، ثم مد يده فاكل من الطعام، فعرفت قول عمر.

و يروى كثير من الناس الشعر المذكور فى الحماسه، و يزعم ان هاتفا من الجن هتف به و هو: جزيت عن الاسلام خيرا و باركت يد الله فى ذاك الاديم الممزق فمن ي
سع او يركب جناحى نعامه ليدرك ما قدمت بالامس يسبق قضيت امورا ثم غادرت بعدها بوائق فى اكمامها لم تفتق ابعد قتيل بالمدينه اظلمت له الارض تهتز العضاه باسوق! و ما كنت اخشى ان تكون وفاته بكفى سبنتى ازرق العين مطرق تظل الحصان البكر يلقى جنينها نثا خبر فوق المطى معلق و الاكثرون يروونها لمزرد اخى الشماخ، و منهم من يرويها للشماخ نفسه.

(فصل فى ذكر ما طعن به على عمر، و الجواب عنه) و نذكر فى هذا الموضع ما طعن به على عمر فى "المغنى" من المطاعن، و ما اعترض به الشريف المرتضى على قاضى القضاه، و ما اجاب به قاضى القضاه، فى كتابه المعروف "بالشافى"، و نذكر ما عندنا فى البعض من ذلك.

الطعن الاول قال قاضى القضاه: اول ما طعن به عليه قول من قال: انه بلغ من قله علمه انه لم يعلم ان الموت يجوز على النبى (ص)، و انه اسوه الانبياء فى ذلك، حتى قال: و الله ما مات محمد، و لايموت حتى تقطع ايدى رجال و ارجلهم، فلما تلا عليه ابوبكر قوله تعالى: (انك ميت و انهم ميتون)، و قوله: (و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم...) الايه، قال: ايقنت بوفاته، و كانى لم اسمع هذه الايه، فلو كان يحفظ ا
لقرآن او يفكر فيه لما قال ذلك، و هذا يدل على بعده من حفظ القرآن و تلاوته، و من هذا حاله لايجوز ان يكون اماما.

قال قاضى القضاه: و هذا لايصح لانه قد روى عنه انه قال: كيف يموت، و قد قال الله تعالى: (ليظهره على الدين كله) و قال: (و ليبدلنهم من بعد خوفهم امنا)، و لذلك نفى موته (ع)، لانه حمل الايه على انها خبر عنه فى حال حياته حتى قال له ابوبكر: ان الله وعده بذلك و سيفعله، و تلا عليه ماتلا، فايقن عند ذلك بموته، و انما ظن ان موته يتاخر عن ذلك الوقت، لا انه منع من موته.

ثم سال قاضى القضاه نفسه، فقال: فان قيل: فلم قال لابى بكر عند قرائه الايه: كانى لم اسمعها، و وصف نفسه بانه ايقن بالوفاه! و اجاب بان قال: لما كان الوجه فى ظنه ما ازال ابوبكر الشبهه فيه، جاز ان يتيقن.

ثم سال نفسه عن سبب يقينه فيما لايعلم الا بالمشاهده.

و اجاب بان قرينه الحال عند سماع الخبر افادته اليقين، و لو لم يكن فى ذلك الا خبر ابى بكر و ادعاوه لذلك، و الناس مجتمعون، لحصل اليقين.

و قوله: كانى لم اقرا هذه الايه، او لم اسمعها، تنبيه على ذهوله عن الاستدلال بها، لا انه على الحقيقه لم يقراها و لم يسمعها، و لايجب فيمن ذهب عن بعض احكام الكتاب الا يعرف القرآ
ن، لان ذلك لو دل، لوجب الا يحفظ القرآن الا من يعرف جميع احكامه.

ثم ذكر ان حفظ القرآن كله غير واجب، و لايقدح الاخلال به فى الفضل.

و حكى عن الشيخ ابى على ان اميرالمومنين (ع) لم يحط علمه بجميع الاحكام، و لم يمنع ذلك من فضله، و استدل بما روى من قوله: كنت اذا سمعت من رسول الله (ص) حديثا نفعنى الله به ما شاء ان ينفعنى، و اذا حدثنى غيره احلفته، فان حلف لى صدقته، و حدثنى ابوبكر و صدق ابوبكر.

و ذكر انه لم يعرف اى موضع يدفن فيه رسول الله (ص)، حتى رجع الى ما رواه ابوبكر، و ذكر قصه الزبير فى موالى صفيه، و ان اميرالمومنين (ع) اراد ان ياخذ ميراثهم، كما ان عليه ان يحمل عقلهم حتى اخبره عمر بخلاف ذلك من ان الميراث للاب، و العقل على العصبه.

ثم سال نفسه فقال: كيف يجوز ما ذكرتم على اميرالمومنين (ع)، مع قوله: (سلونى قبل ان تفقدونى)، و قوله: ان هاهنا علما جما، يومى ء الى قلبه، و قوله: (لو ثنيت لى الوساده لحكمت بين اهل التوراه بتوراتهم)، و بين اهل الانجيل بانجيلهم، و بين اهل الزبور بزبورهم، و بين اهل القرآن بقرآنهم).

و قوله: (كنت اذا سئلت اجبت و اذا سكت ابتديت).

و اجاب عن ذلك بان هذا انما يدل على عظم المحل فى العلم، من غير ان يدل
على الاحاطه بالجميع.

و حكى عن ابى على استبعاده ما روى من قوله: (لو ثنيت الوساده)، قال: لانه لايجوز ان يصف نفسه بانه يحكم بما لايجوز، و معلوم انه (ع) لايحكم بين الجميع الا بالقرآن، ثنيت له الوساده او لم تثن، و هذا يدل على ان الخبر موضوع.

فاعترض الشريف المرتضى، فقال: ليس يخلو خلاف عمر فى وفاه رسول الله (ص) من ان يكون على سبيل الانكار لموته على كل حال، و الاعتقاد بان الموت لايجوز عليه على كل وجه، او يكون منكرا لموته فى تلك الحال، من حيث لم يظهر دينه على الدين كله، و ما اشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب: انها كانت شبهه فى تاخر موته عن تلك الحال.

فان كان الوجه الاول، فهو مما لايجوز خلاف العقلاء فى مثله، و العلم بجواز الموت على سائر البشر لايشك فيه عاقل، و العلم من دينه (ع) بانه سيموت كما مات من قبله ضرورى، و ليس يحتاج فى مثل هذا الى الايات التى تلاها ابوبكر، من قوله تعالى: (انك ميت و انهم ميتون)، و ما اشبهها.

و ان كان خلافه على الوجه الثانى، تاول ما فيه ان هذا الخلاف لايليق بما احتج به ابوبكر من قوله تعالى: (انك ميت و انهم ميتون)، لانه لم ينكر على هذا جواز الموت، و انما خالف فى تقدمه، و قد كان يجب ان يقول له: و اى حجه
فى هذه الايات على من جوز عليه (ص) الموت فى المستقبل، و انكره فى هذه الحال! و بعد، فكيف دخلت الشبهه البعيده على عمر من بين سائر الخلق! و من اين زعم انه لايموت حتى يقطع ايدى رجال و ارجلهم! و كيف حمل معنى قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) و قوله: (و ليبدلنهم من بعد خوفهم امنا) على ان ذلك لايكون فى المستقبل بعد الوفاه! و كيف لم يخطر هذا الا لعمر وحده، و معلوم ان ضعف الشبهه انما يكون من ضعف الفكره، و قله التامل و البصيره! و كيف لم يوقن بموته لما راى ما عليه اهل الاسلام من اعتقاد موته، و ما ركبهم من الحزن و الكابه لفقده! و هلا دفع بهذا اليقين ذلك التاويل البعيد، فلم يحتج الى موقف و معرف! و قد كان يجب- ان كانت هذه شبهه- ان يقول فى حال مرض رسول الله (ص)، و قد راى جزع اهله و اصحابه و خوفهم عليه من الوفاه، حتى يقول اسامه بن زيد معتذرا من تباطئه عن الخروج فى الجيش الذى كان رسول الله (ص) يكرر و يردد الامر حينئذ بتنفيذه: لم اكن لاسال عنك الركب-: ما هذا الجزع و الهلع، و قد امنكم الله من موته بكذا فى وجه كذا، و ليس هذا من احكام الكتاب التى يعذر من لايعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب.

قلت: الذى قراناه و رويناه من كتب التواريخ،
يدل على ان عمر انكر موت رسول الله (ص) من الوجهين المذكورين، انكر اولا ان يموت الى يوم القيامه، و اعتقد عمر انه يعمر كما يعتقد كثير من الناس فى الخضر، فلما حاجه ابوبكر بقوله تعالى: (انك ميت و انهم ميتون)، و بقوله: (افان مات او قتل).

رجع عن ذلك الاعتقاد.

و ليس يرد على هذا ما اعترض به المرتضى، لان عمر ما كان يعتقد استحاله الموت عليه كاستحاله الموت على البارى ء تعالى- اعنى الاستحاله الذاتيه- بل اعتقد استمرار حياته الى يوم القيامه، مع كون الموت جائزا فى العقل عليه، و لا تناقض فى ذلك، فان ابليس يبقى حيا الى يوم القيامه، مع كون موته جائزا فى العقل، و ما اورده ابوبكر عليه لازم على ان يكون نفيه للموت على هذا اوجه.

و اما الوجه الثانى، فهو انه لما دفعه ابوبكر عن ذلك الاعتقاد وقف مع شبهه اخرى، اقتضت عنده ان موته يتاخر، و ان لم يكن الى يوم القيامه، و ذلك انه تاول قوله تعالى: (هو الذى ارسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله)، فجعل الضمير عائدا على الرسول لا على الدين، و قال: ان رسول الله (ص) لم يظهر بعد على سائر الاديان، فوجب ان تستمر حياته الى ان يظهر على الاديان بمقتضى الوعد الذى لايجوز عليه الخلف و الكذب، فحا
جه ابوبكر من هذا المقام، فقال له: انما اراد: ليظهر دينه و سيظهره فيما بعد، و لم يقل: (ليظهره الان)، فمن ثم قال له: و لو اراد ليظهر الرسول (ص) على الدين كله لكان الجواب واحدا، لانه اذا ظهر دينه فقد اظهره هو.

فاما قول المرتضى رحمه الله: (و كيف دخلت هذه الشبهه على عمر من بين الخلق؟)، فهكذا تكون الخراطر و الشبه! و الاعتقادات تسبق الى ذهن واحد دون غيره، و كيف دخلت الشبهه على جماعه منعوا الزكاه، و احتجوا بقوله تعالى: (وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم) دون غيرهم من قبائل العرب! و كيف دخلت الشبهه على اصحاب الجمل و صفين دون غيرهم! و كيف دخلت الشبهه على خوارج النهروان دون غيرهم! و هذا باب واسع.

فاما قوله: (و من اين زعم انه لايموت حتى تقطع ايدى رجال و ارجلهم)، فان الذى ذكره المورخون انه قال: ما مات رسول الله (ص)، و انما غاب عنا كما غاب موسى عن قومه، و سيعود فتقطع ايدى رجال و ارجلهم ممن ارجف بموته، و هذه الروايه تخالف ما ذكره المرتضى.

فاما قوله: و كيف حمل معنى قوله: (ليظهره على الدين كله)، و قوله: (و ليبدلنهم من بعد خوفهم امنا) على ان ذلك لايكون فى المستقبل! فقد بينا الشبهه الداخله عليه فى ذلك، و كونه ظن ان ذلك، يكون معجلا عل
ى الفور، و كذلك قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الارض كما استخلف الذين من قبلهم و ليبدلنهم من يعد خوفهم امنا)، فانه ظن ان هذا العموم يدخل فيه رسول الله (ص)، لانه سيد المومنين، و سيد الصالحين، او انه لفظ عام، و المراد به رسول الله وحده، كما ورد فى كثير من آيات القرآن مثل ذلك، فظن ان هذا الاستخلاف فى جميع الارض، و تبديل الخوف بالامن انما هو على الفور لا على التراخى، و ليست هذه الشبهه بضعيفه جدا كما ظن المرتضى، بل هى موضع نظر.

فاما قوله: (كيف لم يومن بموته لما راى من كابه الناس و حزنهم!) فلان الناس يبنون الامر على الظاهر، و عمر نظر فى امر باطن دقيق، فاعتقد ان الرسول لم يمت، و انما القى شبهه على غيره، كما القى شبه عيسى على غيره، فصلب، و عيسى قد رفع و لم يصلب.

و اعلم ان اول من سن لاهل الغيبه من الشيعه القول بان الامام لم يمت و لم يقتل، و ان كان فى الظاهر و فى مراى العين قد قتل او مات، انما هو عمر، و لقد كان يجب على المرتضى و طائفته ان يشكروه على ما اسس لهم من هذا الاعتقاد.

فاما قوله: فهلا قال فى مرض رسول الله (ص) لما راى جزعهم لموته: (قد امنكم الله من موته)! فغير لازم، لان الشبهه ل
اتجب ان تخطر بالبال فى كل الاوقات، فلعله قد كان فى ذلك الوقت غافلا عنها مشغول الذهن بغيرها، و لو صح للمرتضى هذا لوجب ان يدفع و يبطل كل ما يتجدد و يطرا على الناس من الشبهه فى المذاهب و الاراء، فنقول: كيف طرات عليهم هذه الشبهات الان، و لم تطرا عليهم من قبل؟ و هذا من اعتراضات المرتضى الضعيفه، على انا قد ذكرنا نحن فى الجزء الاول من هذا الكتاب ما قصده عمر بقوله: (ان رسول الله لم يمت)، و قلنا فيه قولا شافيا لم نسبق اليه، فليعاود.

ثم قال المرتضى: فاما ما روى عن اميرالمومنين (ع) من خبر الاستحلاف فى الاخبار، فلا يدل على عدم علم اميرالمومنين بالحكم، لانه يجوز ان يكون استحلافه ليرهب المخبر و يخوفه من الكذب على النبى (ص)، لان العلم بصحه الحكم الذى يتضمنه الخبر لايقتضى صدق المخبر، و ايضا فلا تاريخ لهذا الحديث، و يمكن ان يكون استحلافه (ع) للرواه انما كان فى حياه رسول الله (ص)، و فى تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الاحكام.

فاما حديث الدفن و ادخاله فى باب احكام الدين التى يجب معرفتها فطريف، و قد يجوز ان يكون اميرالمومنين (ع) سمع من النبى (ص) فى باب الدفن مثل ما سمعه ابوبكر، و كان عازما على العمل به، حتى روى ابوبكر ما رواه فعمل
بما كان يعلمه لا من طريق ابى بكر، و ظن الناس ان العمل لاجله.

و يجوز ان يكون رسول الله (ص) خير وصيه (ع) فى موضع دفنه، و لم يعين له موضعا بعينه، فلما روى ابوبكر ما رواه راى موافقته، فليس فى هذا دلاله على انه (ع) استفاد حكما لم يكن عنده.

و اما موالى صفيه فحكم الله فيهم ما افتى به اميرالمومنين (ع)، و ليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما افتى به، و لكنه كسكوته عن كثير من الحق تقيه و مداراه للقوم.

و اما قوله (ع): (سلونى قبل ان تفقدونى)، و قوله: (ان هاهنا لعلما جما)، الى غير ذلك، فانه لايدل على عظم المحل فى العلم فقط، على ما ظنه صاحب الكتاب، بل هو قول واثق بنفسه، آمن من ان يسال عما لايعلمه، و كيف يجوز ان يقول مثله على رئوس الاشهاد و ظهور المنابر: (سلونى قبل ان تفقدونى)، و هو يعلم ان كثيرا من احكام الدين يعزب عنه! و اين كان اعداوه و المنتهزون لفرصته و زلته عن سواله عن مشكل المسائل، و غوامض الاحكام! و الامر فى هذا ظاهر.

فاما استبعاد ابى على لما روى عنه (ع) من قوله: (لو ثنيت لى الوساده) للوجه الذى ظنه فهو البعيد، فانه لم يفطن لغرضه (ع)، و انما اراد: انى كنت اقاضيهم الى كتبهم الداله على البشاره بنبينا (ص) و صحه شرعه، فا
كون حاكما حينئذ عليهم بما تقتضيه كتبهم من هذه الشريعه و احكام هذا القرآن، و هذا من جليل الاغراض و عظيمها.

الطعن الثانى انه امر برجم حامل حتى نبهه معاذ، و قال: ان يكن لك عليها سبيل فلاسبيل لك على ما فى بطنها، فرجع عن حكمه، و قال: لولا معاذ لهلك عمر.

و من يجهل هذا القدر لايجوز ان يكون اماما، لانه يجرى مجرى اصول الشرع، بل العقل يدل عليه، لان الرجم عقوبه، و لايجوز ان يعاقب من لايستحق.

اعتذر قاضى القضاه عن هذا، فقال: انه ليس فى الخبر انه امر برجمها، مع علمه بانها حامل، لانه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر، و هو ان الحامل لا ترجم حتى تضع، و انما ثبت عنده زناها، فامر برجمها على الظاهر، و انما قال ما قال فى معاذ لانه نبهه على انها حامل.

ثم سال نفسه فقال: فان قيل: اذا لم تكن منه معصيه، فكيف يهلك لولا معاذ! و اجاب بانه لم يرد: لهلك من جهه العذاب، و انما اراد: انه كان يجرى بقوله قتل من لايستحق القتل.

و يجوز ان يريد بذلك تقصيره فى تعرف حالها، لان ذلك لايمتنع ان يكون بخطيئه و ان صغرت.

اعترض المرتضى على هذا الاعتذار، فقال: لو كان الامر على ما ظننته لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه، بل كان يجب ان ينبهه بان يقول له: هى حا
مل، و لايقول له: ان كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما فى بطنها، لان هذا قول من عنده انه امر برجمها مع العلم بحملها، و اقل ما يجب لو كان الامر كما ظنه صاحب الكتاب ان يقول لمعاذ: ما ذهب على ان الحامل لا ترجم، و انما امرت برجمها لفقد علمى بحملها، فكان ينفى بهذا القول عن نفسه الشبهه! و فى امساكه عنه مع شده الحاجه اليه دليل على صحه قولنا.

و قد كان يجب ايضا ان يسال عن الحمل، لانه احد الموانع من الرجم، فاذا علم انتفائه و ارتفاعه امر بالرجم، و صاحب الكتاب قد اعترف بان ترك المساله عن ذلك تقصير و خطيئه، و ادعى انها صغيره، و من اين له ذلك و لا دليل يدل عنده فى غير الانبياء (ع) ان معصيه بعينها صغيره.

فاما اقراره بالهلاك لولا تنبيه معاذ، فانه يقتضى التعظيم و التفخيم لشان الفعل، و لايليق ذلك الا بالتقصير الواقع، اما فى الامر برجمها مع العلم بانها حامل، او ترك البحث عن ذلك و المساله عنه، و اى لوم عليه فى ان يجرى بقوله قتل من لايستحق القتل اذا لم يكن ذلك عن تفريط منه و لا تقصير! قلت: اما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى، و لم يمتنع ان يكون عمر لم يعلم انها حامل و ان معاذا قد كان من الادب ان يقول له: حامل يا اميرالموم
نين، فعدل عن هذا اللفظ بمقتضى اخلاق العرب و خشونتهم، فقال له: ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما فى بطنها، فنبهه على العله و الحكم معا، و كان الادب ان ينبهه على العله فقط.

و اما عدول عمر عن ان يقول: انا اعلم ان الحامل لا ترجم، و انما امرت برجمها، لانى لم اعلم انها حامل، فلانه انما يجب ان يقول مثل هذا من يخاف من اضطراب حاله، او نقصان ناموسه و قاعدته ان لم يقله، و عمر كان اثبت قدما فى ولايته، و اشد تمكنا من ان يحتاج الى الاعتذار بمثل هذا.

و اما قول المرتضى: كان يجب ان يسال عن الحمل، لانه احد الموانع من الرجم، فكلام صحيح لازم، و لاريب ان ترك السوال عن ذلك نوع من الخطا، و لكن المرتضى قد ظلم قاضى القضاه، لانه زعم انه ادعى ان ذلك صغيره، ثم انكر عليه ذلك، و من اين له ذلك! و اى دليل دل على ان هذه المعصيه صغيره، و قاضى القضاه ما ادعى ان ذلك صغيره! بل قال: لايمتنع ان يكون ذلك خطيئه و ان صغرت.

و العجب انه حكى لفظ قاضى القضاه بهذه الصوره، ثم قال: انه ادعى انها صغيره، و بين قول القائل: (لايمتنع ان يكون صغيره)، و قوله: (هى صغيره) لا محاله فرق عظيم.

و اما قول عمر: لولا معاذ لهلك عمر، فان ظاهر اللفظ يشعر بما يريده المرت
ضى، و ينحو اليه، و لايمتنع ان يكون المقصود به ما ذكره قاضى القضاه و ان كان مرجوحا، فان القائل خطا قد يقول: هلكت ليس يعنى به العقاب يوم القيامه، بل لوم الناس و تعنيفهم اياه على ترك الاحتراس و اهمال التثبت.

الطعن الثالث خبر المجنونه التى امر برجمها، فنبهه اميرالمومنين (ع)، و قال: ان القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق.

فقال: لولا على لهلك عمر! و هذا يدل على انه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعه.

اجاب قاضى القضاه فقال: ليس فى الخبر انه عرف جنونها، فيجوز ان يكون الذى نبه عليه هو جنونها دون الحكم، لانه كان يعلم ان الحد لايقام فى حال الجنون، و انما قال: لولا على لهلك عمر، لا من جهه المعصيه و الاثم، لكن لان حكمه لو نفذ لعظم غمه، و يقال فى شده الغم: انه هلاك، كما يقال فى الفقر و غيره، و ذلك مبالغه منه لما كان يلحقه من الغم الذى زال بهذا التنبيه.

على ان هذا الوجه مما لايمتنع فى الشرع ان يكون صحيحا، و ان يقال: اذا كانت مستحقه للحد، فاقامته عليها تصح، و ان لم يكن لها عقل، لانه لايخرج الحد من ان يكون واقعا موقعه، و يكون قوله (ع): (رفع القلم عن ثلاث)، يراد به زوال التكليف عنهم دون زوال اجراء الحكم عليهم، و من هذه حاله لايمتن
ع ان يكون مشتبها، فرجع فيه الى غيره، و لايكون الخطا فيه مما يعظم فيمنع من صحه الامامه.

اعترض الشريف المرتضى هذا فقال: لو كان امر برجم المجنونه من غير علم بجنونها لما قال له اميرالمومنين: اما علمت ان القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق! بل كان يقول له بدلا من ذلك: هى مجنونه، و كان ينبغى ان يقول عمر متبرئا من الشبهه: ما علمت بجنونها، و لست ممن يذهب عليه ان المجنون لايرجم، فلما رايناه استعظم ما امر به، و قال: لولا على لهلك عمر، دلنا على انه كان تاثم و تحرج بوقوع الامر بالرجم، و انه مما لايجوز و لايحل، و الا فلا معنى لهذا الكلام.

و اما ذكر الغم، فاى غم كان يلحقه اذا فعل ماله ان يفعله! و لم يكن منه تفريط و لا تقصير، لانه اذا كان جنونها لم يعلم به، فكانت المساله عن حالها و البحث لايجبان عليه، فاى وجه لتالمه و توجعه و استعظامه لما فعله! و هل هذا الا كرجم المشهود عليه بالزنا فى انه: لو ظهر للامام بعد ذلك برائه ساحته لم يجب ان يندم على فعله و يستعظمه، لانه وقع صوابا مستحقا.

و اما قوله: انه كان لايمتنع فى الشرع ان يقام الحد على المجنون، و تاوله الخبر المروى على انه يقتضى زوال التكليف دون الاحكام، فان اراد انه لايمتنع فى ا
لعقل ان يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف و لا اهانه، فذلك صحيح، كما يقام على التائب و اما الحد فى الحقيقه، و هو الذى تضمنه الاستخفاف و الاهانه فلايجوز الا على المكلفين و مستحقى العقاب، و بالجنون قد ازيل التكليف، فزال استحقاق العقاب الذى تبعه الحد.

و قوله: لايمتنع ان يرجع فيما هذه حاله من المشتبه الى غيره، فليس هذا من المشتبه الغامض، بل يجب ان يعرفه العوام فضلا عن العلماء، على انا قد بينا انه لايجوز ان يرجع الامام فى جلى و لا مشتبه من احكام الدين الى غيره.

و قوله: ان الخطا فى ذلك لايعظم فيمنع من صحه الامامه، اقتراح بغير حجه لانه اذا اعترف بالخطا فلا سبيل للقطع على انه صغير.

قلت: لو كان قد نقل ان اميرالمومنين قال له: (اما علمت)، لكان قول المرتضى قويا ظاهرا، الا انه لم ينقل هذه الصيغه بعينها، و المعروف المنقول: انه قال له: قال رسول الله (ص): (رفع القلم عن ثلاث)، فرجع عن رجمها، و يجوز ان يكون اشعره بالعله و الحكم معا، لان هذا الموضع اكثر اشتباها من حديث رجم الحامل، فغلب على ظن اميرالمومنين انه لو اقتصر على قوله: انها مجنونه لم يكن ذلك دافعا لرجمها، فاكده بروايه الحديث.

و اعتذار قاضى القضاه بالغم ج
يد، و قول المرتضى: اى غم كان يلحقه اذا فعل ماله ان يفعله! ليس بانصاف و لا مثل هذا يقال فيه انه فعل ماله ان يفعله، و لايقال فى العرف لمن قتل انسانا خطا: انه فعل ماله ان يفعله، و المرجوم فى الزنا اذا ظهر للامام بعد قتله برائه ساحته قد يغتم بقتله غما كثيرا بالطبع البشرى، و يتالم و ان لم يكن آثما، و ليس من توابع الاثم و لوازمه.

و قول المرتضى: لم يجب ان يندم على ما فعله كلام خارج عما هو بصدده، لانه لم يجر ذكر للندم، و انما الكلام فى الغم و لايلزم ان يكون كل مغتم نادما.

و اما اعتراضه على قاضى القضاه فى قوله: لايمتنع فى الشرع ان ترجم المجنونه، فلما اشتبه على عمر الامر سال غيره عنه بقوله: (ان اردت الحد الحقيقى فمعلوم، و ان اردت ما هو جنس الحد فمسلم) فليس بجيد، لان هذا انما يكون طعنا على عمر بتقدير ثلاثه امور: احدها ان يكون النبى (ص) قد قال: (اقيموا الحد على الزانى) بهذا اللفظ، اعنى ان يكون فى لفظ النص ذكر الحد، و ثانيها ان يكون الحد فى اللغه العربيه او فى عرف الشرع الذى يتفاهمه الصحابه هو العقوبه المخصوصه التى يقارنها الاستخفاف و الاهانه.

و ثالثها الا يصح اهانه المجنون و الاستخفاف به، و ان يعلم عمر ذلك، فاذا اجتمعت ه
ذه الامور الثلاثه ثم امر عمر بان يقام الحد على المجنونه فقد توجه الطعن، و معلوم انه لم تجتمع هذه الامور الثلاثه، فانه ليس فى القرآن و لا فى السنه ذكر الحد بهذا اللفظ، و لا الحد فى اللغه العربيه هو العقوبه التى يقارنها الاستخفاف و الاهانه و لاعرف الشرع و مواضعه الصحابه يشتمل على ذلك، و انما هذا شى ء استنبطه المتكلمون المتاخرون باذهانهم و افكارهم، ثم بتقدير تسليم هذين المقامين لم قال: ان المجنون لايصح عليه الاستخفاف و الاهانه؟ فمن الجائز ان يصح ذلك عليه و ان لم يتالم بالاستخفاف و الاهانه كما يتالم بالعقوبه، و اذا صح عليه ان يالم بالعقوبه صح عليه ان يالم بالاستخفاف و الاهانه، لان الجنون لايبلغ- و ان عظم- مبلغا يبطل تصور الانسان لاهانته و لاستخفافه، و بتقدير الا يصح على المجنون الاستخفاف و الاهانه، من اين لنا ان عمر علم ان ذلك لايصح عليه! فمن الممكن ان يكون ظن ان ذلك يصح عليه، لان هذا مقام اشتباه و التباس.

فاما قوله: (قد بينا انه لايجوز ان يرجع الامام اصلا الى غيره)، فهو مبنى على مذهبهم و قواعدهم.

و قوله معترضا على كلام قاضى القضاه: ان الخطا فى ذلك قد لايعظم ليمنع من صحه الامامه ان هذا اقتراح بغير حجه، لانه اذا
اعترف بالخطا فلا سبيل الى القطع على انه صغير غير لازم، لان قاضى القضاه لم يقطع بانه صغير، بل قال: لايمتنع، و اذا جاز ان يكون صغيرا لم نكن قاطعين على فساد الامامه به.

فان قال المرتضى: كما انكم لاتقطعون على انه صغير، فتكون الامامه مشكوكا فيها، قيل له: الاصل عدم الكبير، فاذا حصل الشك فى امر: هل هو صغير ام كبير؟ تساقط التعارض، و رجعنا الى الاصل، و هو عدم كون ذلك الخطا كبيرا، فلا يمنع ذلك من صحه الامامه.

الطعن الرابع حديث ابى العجفاء، و ان عمر منع من المغالاه فى صدقات النساء، اقتداء بما كان من النبى (ص) فى صداق فاطمه، حتى قامت المراه و نبهته بقوله تعالى: (و آتيتم احداهن قنطارا)، على جواز ذلك، فقال: كل النساء افقه من عمر! و بما روى انه تسور على قوم، و وجدهم على منكر، فقالوا له: انك اخطات من جهات: تجسست، و قال الله تعالى: (و لاتجسسوا)، و دخلت بغير اذن، و لم تسلم.

اجاب قاضى القضاه، فقال: علمنا بتقدم عمر فى العلم و فضله فيه ضرورى، فلايجوز ان يقدح فيه باخبار احاديث غير مشهوره، و انما اراد فى المشهور ان المستحب الاقتداء برسول الله (ص)، و ان المغالاه فيها ليس بمكرمه، ثم عند التنبيه، علم ان ذلك مبنى على طيب النفس، فق
ال ما قاله على جهه التواضع، لان من اظهر الاستفاده من غيره- و ان قل علمه- فقد تعاطى الخضوع، و نبه على ان طريقته اخذ الفائده اينما وجدها، و صير نفسه قدوه فى ذلك و اسوه، و ذلك حسن من الفضلاء.

و اما حديث التجسس فان كان فعله فقد كان له ذلك، لان للامام ان يجتهد فى ازاله المنكر بهذا الجنس من الفعل، و انما لحقه- على ما يروى فى الخبر- الخجل، لانه لم يصادف الامر على ما القى اليه فى اقدامهم على المنكر.

اعترض المرتضى على هذا الجواب، فقال له: اما تعويلك على العلم الضرورى بكونه من اهل العلم و الاجتهاد، فذلك اذا صح لم ينفعك، لانه قد يذهب على من هو بهذه الصفه كثير من الاحكام حتى ينبه عليها و يجتهد فيها، و ليس العلم الضرورى ثابتا بانه عالم بجميع احكام الدين، فيكون قاضيا على هذه الاخبار.

فاما تاوله الحديث و حمله على الاستحباب فهو دفع للعيان، لان المروى انه منع من ذلك و حظره حتى قالت المراه ما قالت، و لو كان غير حاظر للمغالاه لما كان فى الايه حجه، و لا كان لكلام المراه موقع، و لا كان يعترف لها بانها افقه منه، بل كان الواجب ان يرد عليها و يوبخها و يعرفها انه ما حظر لذلك، و انما تكون الايه حجه عليه لو كان حاظر مانعا، فاما التواض
ع فلايقتضى اظهار القبيح و تصويب الخطا.

و لو كان الامر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب و المراه مخطئه، فكيف يتواضع بكلام يوهم انه المخطى ء، و هى المصيبه! فاما التجسس فهو محظور بالقرآن و السنه، و ليس للامام ان يجتهد فيما يودى الى مخالفه الكتاب و السنه، و قد كان يجب ان كان هذا عذرا صحيحا ان يعتذر به الى من خطاه فى وجهه و قال له: انك اخطات السنه من وجوه، فانه بمعاذير نفسه اعلم من صاحب الكتاب، و تلك الحال حال تدعو الى الاحتجاج و اقامه العذر.

قلت: قصارى هذا الطعن ان عمر اجتهد فى حكم او احكام فاخطا، فلما نبه عليها رجع، و هذا عند المعتزله و اكثر المسلمين غير منكر، و انما ينكر امثال هذا من يبطل الاجتهاد، و يوجب عصمه الامام، فاذا هذا البحث ساقط على اصول المعتزله، و الجواب عنه غير لازم علينا.

الطعن الخامس انه كان يعطى من بيت المال ما لايجوز، حتى انه كان يعطى عائشه و حفصه عشره آلاف درهم فى كل سنه، و منع اهل البيت خمسهم الذى يجرى مجرى الواصل اليهم من قبل رسول الله (ص).

و انه كان عليه ثمانون الف درهم من بيت المال على سبيل القرض.

اجاب قاضى القضاه، بان دفعه الى الازواج جائز من حيث ان لهن حقا فى بيت المال، و للام
ام ان يدفع ذلك على قدر ما يراه، و هذا الفعل قد فعله من قبله و من بعده، و لو كان منكرا لما استمر عليه اميرالمومنين (ع)، و قد ثبت استمراره عليه، و لو كان ذلك طعنا لوجب- اذا كان يدفع الى الحسن و الحسين و الى عبدالله بن جعفر و غيرهم من بيت المال شيئا- ان يكون فى حكم الخائن، و كل ذلك يبطل ما قالوه، لان بيت المال انما يراد لوضع الاموال فى حقوقها ثم الاجتهاد و الى المتولى للامر فى الكثره و القله.

فاما امر الخمس فمن باب الاجتهاد، و قد اختلف الناس فيه، فمنهم من جعله حقا لذوى القربى و سهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الايه، و منهم من جعله حقا لهم من جهه الفقر، و اجراهم مجرى غيرهم، و ان كانوا قد خصوا بالذكر، كما اجرى الايتام- و ان خصوا بالذكر- مجرى غيرهم فى انهم يستحقون بالفقر.

و الكلام فى ذلك يطول، فلم يخرج عمر بما حكم به عن طريقه الاجتهاد، و من قدح فى ذلك فانما يقدح فى الاجتهاد الذى هو طريقه الصحابه.

فاما اقتراضه من بيت المال، فان صح فهو غير محظور، بل ربما كان احوط، اذا كان على ثقه من رده بمعرفه الوجه الذى يمكنه منه الرد، و قد ذكر الفقهاء ذلك، و قال اكثرهم: ان الاحتياط فى مال الايتام و غيرهم ان يجعل فى ذمه الغنى الما
مون، لبعده عن الخطر، و لا فرق بين ان يقرض الغير او يقترضه لنفسه.

و من بلغ فى امره ان يطعن على عمر بمثل- هذه الاخبار- مع ما يعلم من سريرته و تشدده فى ذات الله و احتياطه فيما يتصل بملك الله، و تنزهه عنه، حتى فعل بالصبى الذى اكل من تمر الصدقه واحده ما فعل، و حتى كان يرفع نفسه عن الامر الحقير و يتشدد على كل احد، حتى على ولده- فقد ابعد فى القول.

اعترض المرتضى، فقال: اما تفصيل الازواج، فانه لايجوز، لانه لا سبب فيهن يقتضى ذلك، و انما يفضل الامام فى العطاء ذوى الاسباب المقتضيه لذلك، مثل الجهاد و غيره من الامور العام نفعها للمسلمين.

و قوله: ان لهن حقا فى بيت المال صحيح، الا انه لايقتضى تفضيلهن على غيرهن، و ما عيب بدفع حقهن اليهن، و انما عيب بالزياده عليه، و ما يعلم ان اميرالمومنين (ع) استمر على ذلك- و ان كان صحيحا كما ادعى- فالسبب الداعى الى الاستمرار عليه، هو السبب الداعى الى الاستمرار على جميع الاحكام، فاما تعلقه بدفع اميرالمومنين الى الحسن و الحسين و غيرهما شيئا من بيت المال فعجب! لانه لم يفضل هولاء فى العطيه فيشبه ما ذكرناه فى الازواج، و انما اعطاهم حقوقهم، و سوى بينهم و بين غيرهم.

فاما الخمس، فهو للرسول و لاقربا
ئه، على ما نطق به القرآن، و انما عنى تعالى بقوله: (و لذى القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل) من كان من آل الرسول خاصه، لادله كثيره لا حاجه بنا الى ذكرها هاهنا.

و قد روى سليم بن قيس الهلالى، قال: سمعت اميرالمومنين (ع) يقول: نحن و الله الذين عنى الله بذى القربى، قرنهم الله بنفسه و نبيه (ص)، فقال: (ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله و للرسول و لذى القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل)، كل هولاء منا خاصه، و لم يجعل لناسهما فى الصدقه، اكرم الله تعالى نبيه و اكرمنا ان يطعمنا او ساخ ما فى ايدى الناس.

و روى يزيد بن هرم، قال: كتب نجده الى ابن عباس، يساله عن الخمس لمن هو؟ فكتب اليه: كتبت تسالنى عن الخمس لمن هو؟ و انا كنا نزعم انه لنا، فابى قومنا علينا ذلك، فصبرنا عليه.

قال: و اما الاجتهاد الذى عول عليه، فليس عذرا فى اخراج الخمس عن اهله فقد ابطلناه.

و اما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعو الى الريبه، و من كان من التشدد و التحفظ و التقشف على الحد الذى ذكره، كيف تطيب نفسه بالاقتراض من بيت المال، و فيه حقوق و ربما مست الحاجه الى الاخراج منها، و اى حاجه لمن كان جشب الماكل، خشن الملبس، يتبلغ بالقوت الى اقتر
اض الاموال! فاما حكايته عن الفقهاء، ان الاحتياط ان يحفظ مال الايتام فى ذمه الغنى المامون، فذلك اذا صح لم يكن نافعا له، لان عمر لم يكن غنيا، و لو كان غنيا لما اقترض، فقد خرج اقتراضه عن ان يكون من باب الاحتياط، و انما اشترط الفقهاء مع الامانه الغنى، لئلا تمس الحاجه اليه، فلايمكن ارتجاعه، و لهذا قلنا: ان اقتراضه لحاجته الى المال لم يكن صوابا و حسن نظر للمسلمين.

قلت: اما قوله: لايجوز للامام ان يفضل فى العطاء الا لسبب يقتضى ذلك كالجهاد، فليست اسباب التفضيل مقصوره على الجهاد وحده، فقد يستحق الانسان التفضيل فى العطاء على غيره لكثره عبادته، او لكثره علمه، او انتفاع الناس به، فلم لايجوز ان يكون عمر فضل الزوجات لذلك! و ايضا: فان الله تعالى فرض لذوى القربى من رسول الله (ص) نصيبا فى الفى ء و الغنيمه، ليس الا لانهم ذوو قرابته فقط، فما المانع من ان يقيس عمر على ذلك ما فعله فى العطاء، فيفضل ذوى قرابه رسول فى ذلك على غيرهم، ليس الا لانهم ذوو قرابته، و الزوجات و ان لم يكن لهن قربى النسب فلهن قربى الزوجيه! و كيف يقول المرتضى: ما جاز ان يفضل احدا الا بالجهاد! و قد فضل الحسن و الحسين على كثير من اكابر المهاجرين و الانصار و هما ص
بيان، ما جاهدا و لابلغا الحلم بعد، و ابوهما اميرالمومنين موافق على ذلك، راض به، غير منكر له! و هل فعل عمر ذلك الا لقربهما من رسول الله (ص)! و نحن نذكر ما فعله عمر فى هذا الباب مختصرا نقلناه من كتاب ابى الفرج عبدالرحمن بن على بن الجوزى المحدث فى (اخبار عمر و سيرته).

روى ابوالفرج، عن ابى سلمه بن عبدالرحمن، قال: استشار عمر الصحابه بمن يبدا فى القسم و الفريضه، فقالوا: ابدا بنفسك، فقال: بل ابدا بال رسول الله (ص) و ذوى قرابته، فبدا بالعباس.

قال ابن الجوزى: و قد وقع الاتفاق على انه لم يفرض لاحد اكثر مما فرض له.

و روى انه فرض له اثنى عشر الفا، و هو الاصح، ثم فرض لزوجات رسول الله (ص) لكل واحده عشره آلاف، و فضل عائشه عليهن بالفين فابت، فقال: ذلك بفضل منزلتك عند رسول الله (ص)، فاذا اخذت فشانك.

و استثنى من الزوجات جويريه و صفيه و ميمونه، ففرض لكل واحده منهن سته آلاف، فقالت عائشه: ان رسول الله (ص) كان يعدل بيننا، فعدل عمر بينهن، و الحق هولاء الثلاث بسائرهن، ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسه آلاف، و لمن شهدها من الانصار لكل واحد اربعه آلاف.

و قد روى انه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين او من الانصار او
من غيرهم من القبائل خمسه آلاف، ثم فرض لمن شهد احدا و ما بعدها الى الحديبيه اربعه آلاف، ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبيه ثلاثه آلاف، ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد وفاه رسول الله (ص) الفين و خمسمائه، و الفين، و الفا و خمسمائه، و الفا واحدا الى مائتين، و هم اهل هجر، و مات عمر على ذلك.

قال ابن الجوزى: و ادخل عمر فى اهل بدر ممن لم يحضر بدرا اربعه، و هم الحسن، و الحسين، و ابوذر، و سلمان، ففرض لكل واحد منهم خمسه آلاف.

قال ابن الجوزى: و روى السدى ان عمر كسا اصحاب النبى (ص)، فلم يرتض فى الكسوه ما يستصلحه للحسن و الحسين (ع)، فبعث الى اليمن، فاتى لهما بكسوه فاخره، فلما كساهما قال: الان طابت نفسى.

قال ابن الجوزى: فاما ما اعتمده فى النساء فانه جعل نساء اهل بدر على خمسمائه، و نساء من بعد بدر الى الحديبيه على اربعمائه، و نساء من بعد ذلك على ثلاثمائه، و جعل نساء اهل القادسيه على مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك.

و لو لم يدل على تصويب عمر فيما فعله الا اجماع الصحابه و اتفاقهم عليه و ترك الانكار لذلك كان كافيا.

فاما الخمس و الخلاف فيه فانها مساله اجتهاديه، و الذى يظهر لنا فيه و يغلب عندنا من امرها، ان الخمس حق ص
حيح ثابت، و انه باق الى الان على ما يذهب اليه الشافعى، و انه لم يسقط بموت رسول الله (ص)، و لكنا لانرى ما يعتقده المرتضى من ان الخمس لال الرسول (ص)، و ان الايتام ايتامهم، و المساكين مساكينهم و ابن السبيل منهم، لانه على خلاف ما يقتضيه ظاهر الايه و العطف، و يمكن ان يحتج على ذلك بان قوله تعالى فى سوره الحشر: (للفقراء المهاجرين) يبطل هذا القول، لان هذه اللام لابد ان تتعلق بشى ء، و ليس قبلها ما تتعلق به اصلا، الا ان تجعل بدلا من اللام التى قبلها فى قوله: (ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله و للرسول و لذى القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل).

و ليس يجوز ان تكون بدلا من اللام فى (لله)، و لا من اللام فى قوله: (و للرسول) فبقى ان تكون بدلا من اللام فى قوله (و لذى القربى)، اما الاول فتعظيما له سبحانه، و اما الثانى فلانه تعالى قد اخرج رسوله من الفقراء بقوله: (و ينصرون الله و رسوله)، و لانه يجب ان يرفع رسول الله (ص) عن التسميه بالفقير.

و اما الثالث، فاما ان يفسر هذا البدل و ما عطف عليه المبدل منه، او يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه، و الاول لايصح لان المعطوف على هذا البدل ليس من اهل القرى و هم ال
انصار، الا ترى كيف قال سبحانه: (للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم...) الايه، ثم قال سبحانه: (و الذين تبوئوا الدار و الايمان من قبلهم) و هم الانصار.

و ان كان الثانى صار تقدير الايه ان الخمس لله و للرسول و لذى القربى الذين وصفهم الله و نعتهم بانهم هاجروا و اخرجوا من ديارهم، و للانصار، فيكون هذا مبطلا لما يذهب اليه المرتضى فى قصر الخمس على ذوى القربى.

و يمكن ان يعترض هذا الاحتجاج، فيقال: لم لايجوز ان يكون قوله: (و الذين تبوئوا الدار و الايمان)، ليس بعطف، و لكنه كلام مبتدا، و موضع (الذين) رفع بالابتداء و خبره (يحبون) ؟ و ايضا فان هذه الحجه لايمكن التمسك بها فى آيه الانفال، و هو قوله تعالى: (و اعلموا انما غنمتم من شى ء).

فاما روايه سليم بن قيس الهلالى، فليست بشى ء، و سليم معروف المذهب، و يكفى فى رد روايته كتابه المعروف بينهم المسمى (كتاب سليم).

على انى قد سمعت من بعضهم من يذكر ان هذا الاسم على غير مسمى، و انه لم يكن فى الدنيا احد يعرف بسليم بن قيس الهلالى، و ان الكتاب المنسوب اليه منحول موضوع لا اصل له، و ان كان بعضهم يذكره فى اسم الرجال، و الروايه المذكوره عن ابن عباس فى كتابه الى نجده الحرورى صحيحه ثابته
، و ليس فيها ما يدل على مذهب المرتضى من ان الخمس كله لذوى القربى، لان نجده انما ساله عن خمس الخمس لا عن الخمس كله: و ينبغى ان يذكر فى هذا الموضع اختلاف الفقهاء فى الخمس: اما ابوحنيفه فعنده ان قسمه الخمس كانت فى عهد رسول الله (ص) على خمسه اسهم: سهم لرسول الله (ص)، و سهم لذوى قرباه من بنى هاشم و بنى المطلب دون بنى عبدشمس و نوفل، استحقوه حينئذ بالنصره و المظاهره، لما روى عن عثمان بن عفان و جبير بن مطعم انهما قالا لرسول الله (ص): هولاء اخوتك من بنى هاشم لاننكر فضلهم، لمكانك الذى جعلك الله منهم، ارايت اخواننا بنى المطلب اعطيتهم و حرمتنا! و انما نحن و هم بمنزله واحده.

فقال (ص): (انهم لم يفارقونا فى جاهليه و لا اسلام، انما بنوهاشم و بنوالمطلب شى ء واحد) و شبك بين اصابعه.

و ثلاثه اسهم ليتامى المسلمين و مساكينهم و ابناء السبيل منهم، و اما بعد رسول الله (ص) فسهمه ساقط بموته، و كذلك سهم ذوى القربى، و انما يعطون لفقرهم، فهم اسوه سائر الفقراء، و لايعطى اغنياوهم، فيقسم الخمس اذن على ثلاثه اسهم: اليتامى، و المساكين و ابن السبيل.

و اما الشافعى فيقسم الخمس عنده بعد وفاه رسول الله (ص) على خمسه اسهم: سهم لرسول الله (ص) يصرف الى
ما كان يصرفه اليه رسول الله (ص) ايام حياته من مصالح المسلمين، كعده الغزاه من الكراع و السلاح و نحو ذلك، و سهم لذوى القربى من اغنيائهم و فقرائهم، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الانثيين من بنى هاشم و بنى المطلب، و الباقى للفرق الثلاث.

و اما مالك بن انس، فعنده ان الامر فى هذه المساله مفوض الى اجتهاد الامام، ان راى قسمه بين هولاء، و ان راى اعطاه بعضهم دون بعض، و ان راى الامام غيرهم اولى و اهم، فغيرهم.

و بقى الان البحث عن معنى قوله سبحانه و تعالى: (فلله و للرسول)، و ما المراد بسهم الله سبحانه؟ و كيف يقول الفقهاء: الخمس مقسوم خمسه اقسام، و ظاهر الايه يدل على سته اقسام؟ فنقول: يحتمل ان يكون معنى قوله سبحانه: (لله و للرسول) لرسول الله، كقوله: (و الله و رسوله احق ان يرضوه)، اى و رسول الله احق، و مذهب ابى حنيفه و الشافعى يجى ء على هذا الاحتمال.

و يحتمل ان يريد بذكره ايجاب سهم سادس يصرف الى وجه من وجوه القرب، و مذهب ابى العاليه يجى ء على هذا الاحتمال، لانه يذهب الى ان الخمس يقسم سته اقسام: احدها سهمه تعالى يصرف الى رتاج الكعبه، و قد روى ان رسول الله (ص) كان ياخذ الخمس فيضرب بيده فيه فياخذ منه قبضه فيجعلها للكعبه، و يقول: سهم
الله تعالى، ثم يقسم ما بقى على خمسه اقسام.

و قال: قوم سهم الله لبيت الله.

و يحتمل احتمالا ثالثا، و هو ان يراد بقوله: (فان لله خمسه) ان من حق الخمس ان يكون متقربا به اليه سبحانه لا غير، ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسه، تفضيلا لها على غيرها، كقوله: (و جبريل و ميكال).

و مذهب مالك يجى ء على هذا الاحتمال.

و قد روى عن ابن عباس رضى الله عنه انه كان على سته: لله و للرسول سهمان، و سهم لاقاربه، و ثلاثه اسهم للثلاثه، حتى قبض (ع)، فاسقط ابوبكر ثلاثه اسهم، و قسم الخمس كله على ثلاثه اسهم، و كذلك فعل عمر.

و روى ان ابابكر منع بنى هاشم الخمس، و قال: انما لكم ان نعطى فقيركم، و نزوج ايمكم، و نخدم من لا خادم له منكم، و اما الغنى منكم فهو بمنزله ابن سبيل غنى، لايعطى شيئا، و لا يتيم موسر.

و قد روى عن زيد بن على (ع) مثل ذلك، قال: ليس لنا ان نبنى منه القصور، و لا ان نركب منه البراذين.

فاما مذهب الاماميه، فان الخمس كله للقرابه.

و يروون عن اميرالمومنين (ع)، انه قال: ايتامنا و مساكيننا! فان صح عنه ذلك، فقوله عندنا اولى بالاتباع، و انما الكلام فى صحته.

فاما اقتراض عمر من بيت المال ثمانين الفا، فليس بمعروف، و المعروف المشهور انه كان يظلف
نفسه عن الدرهم الواحد منه.

و قد روى ابن سعد فى كتاب "الطبقات" ان عمر خطب، فقال: ان قوما يقولون: ان هذا المال حلال لعمر، و ليس كما قالوا، لاها الله اذن! انا اخبركم بما استحل منه، يحل لى منه حلتان: حله فى الشتاء، و حله فى القيظ، و ما احج عليه و اعتمر من الظهر، و قوتى و قوت اهلى كقوت رجل من قريش، ليس باغناهم و لا افقرهم، ثم انا بعد رجل من المسلمين يصيبنى ما اصابهم.

و روى ابن سعد ايضا ان عمر كان اذا احتاج اتى الى صاحب بيت المال فاستقرضه، فربما عسر عليه القضاء، فياتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيحتال له، و ربما خرج عطاوه فقضاه، و لقد اشتكى مره فوصف له الطبيب العسل، فخرج حتى صعد المنبر، و فى بيت المال عكه، فقال: ان اذنتم لى فيها اخذتها، و الا فهى على حرام، فاذنوا له فيها، ثم قال: ان مثلى و مثلكم كقوم سافروا، فدفعوا نفقاتهم الى رجل منهم لينفق عليهم، فهل يحل له ان يستاثر منها بشى ء! و روى ابن سعد ايضا، قال: مكث عمر زمانا لا ياكل من مال المسلمين شيئا، حتى اصابته خصاصه، فارسل الى اصحاب رسول الله (ص)، فاستشارهم فقال لهم: قد شغلت نفسى بامركم، فما الذى يصلح ان اصيبه من مالكم؟ فقال عثمان: كل و اطعم، و كذلك قال سعيد بن زيد ب
ن عمرو بن نفيل، فتركهما و اقبل على على (ع)، فقال: ما تقول انت؟ قال: غداء و عشاء، قال: اصبت، و اخذ بقوله.

و روى ابوالفرج بن الجوزى فى كتاب "سيره عمر" عن نائله عن ابن عمر، قال: جمع عمر الناس لما انتهى اليه فتح القادسيه و دمشق، فقال: انى كنت امرا تاجرا يغنى الله عيالى بتجارتى، و قد شغلتمونى عن التجاره بامركم، فما ترون انه يحل لى من هذا المال؟ فقال القوم فاكثروا، و على (ع) ساكت، فقال عمر: ما تقول انت يا اباالحسن؟ قال: ما اصلحك و اصلح عيالك بالمعروف، و ليس لك من هذا المال غيره، فقال: القول ما قاله ابوالحسن، و اخذ به.

و روى عبدالله بن زيد بن اسلم، عن ابيه، عن جده ان عبدالله و عبيدالله ابنى عمر مرا بابى موسى، و هو على العراق و هما مقبلان من ارض فارس، فقال: مرحبا بابنى اخى، لو كان عندى شى ء، و بلى قد اجتمع هذا المال عندى: فخذاه و اشتريا به متاعا، فاذا قدمتما فبيعاه و لكما ربحه، و اديا الى اميرالمومنين راس المال، ففعلا، فلما قدما على عمر بالمدينه اخبراه، فقال: اكل اولاد المهاجرين يصنع بهم ابوموسى مثل ذلك! فقالا: لا، قال: فان عمر يابى ان يجيز ذلك و جعل قرضا.

و روى عن قتاده، قال: كان معيقيب على بيت المال لعمر، فكسح عمر
بيت المال يوما، و اخرجه الى المسلمين، فوجد معيقيب فيه درهما، فدفعه الى ابن عمر، قال معيقيب: ثم انصرفت الى بيتى، فاذا رسول عمر قد جاء يدعونى، فجئت فاذا الدرهم فى يده، فقال، ويحك يا معيقيب! اوجدت على فى نفسك شيئا! قلت: و ما ذاك؟ قال: اردت ان تخاصمنى امه محمد فى هذا الدرهم يوم القيامه! و روى عمر بن شبه، عن عبدالله بن الارقم- و كان خازن عمر- فقال: ان عندنا حليه من حليه جلولاء و آنيه من فضه، فانظر ما تامر فيها؟ قال: اذا رايتنى فارغا فاذنى، فجائه يوما فقال: انى اراك اليوم فارغا، فما تامر بتلك الحليه؟ قال: ابسط لى نطعا، فبسطه ثم اتى بذلك المال، فصب عليه، فرفع يديه و قال: اللهم انك ذكرت هذا المال، فقلت: (زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطره من الذهب و الفضه) ثم قلت: (لكيلا تاسوا على ما فاتكم و لاتفرحوا بما آتاكم) اللهم انا لانستطيع الا ان نفرح بما زينت لنا.

اللهم انى اسالك ان تضعه فى حقه، و اعوذ بك من شره، ثم ابتدا فقسمه بين الناس، فجائه ابن بنت له، فقال: يا ابتاه! هب لى منه خاتما، فقال: اذهب الى امك تسقك سويقا، فلم يعطه شيئا.

و روى الطبرى فى تاريخه ان عمر خطب ام كلثوم بنت ابى بكر، فارسل فيها ا
لى عائشه، فقالت: الامر اليها، فقالت ام كلثوم: لا حاجه لى فيه، قالت لها عائشه: ويلك! اترغبين عن اميرالمومنين؟ قالت: نعم، انه يغلق بابه، و يمنع خيره، و يدخل عابسا، و يخرج عابسا، فارسلت عائشه الى عمرو بن العاص، فاخبرته، فقال: انا اكفيك، فاتى عمر، فقال: يا اميرالمومنين، بلغنى خبر اعيذك بالله منه! قال: ما هو؟ قال: خطبت ام كلثوم بنت ابى بكر؟ قال: نعم، افترغب بى عنها ام ترغب بها عنى؟ قال: لا واحده، و لكنها حدثه، نشات تحت كنف ام المومنين فى لين و رفق، و فيك غلظه و نحن نهابك، و لانستطيع ان نردك عن خلق من اخلاقك، فكيف بها ان خالفتك فى شى ء فسطوت بها! كنت قد خلفت ابابكر فى ولده بغير ما يحق عليك، قال: فكيف لى بعائشه و قد كلمتها فيها؟ قال: انا لك بها، و ادلك على خير منها، ام كلثوم بنت على بن ابى طالب، تعلق منها بسبب من رسول الله.

فصرفه عنها الى ام كلثوم بنت فاطمه.

و روى عاصم بن عمر، قال: بعث الى عمر عند الهاجره- او قال عند صلاه الصبح- فاتيته، فوجدته جالسا فى المسجد فقال: يا بنى، انى لم اكن ارى شيئا من هذا المال يحل لى قبل ان الى الا بحقه، و ما كان احرم على منه حين وليته، فعاد امانتى، و انى كنت انفقت عليك من مال الله شهرا
، و لست بزائدك عليه، و قد اعطيتك تمرى بالعاليه، فبعه و خذ ثمنه، ثم ائت رجلا من تجار قومك، فكن الى جانبه، فاذا ابتاع شيئا فاستشركه، و انفق ما تربحه عليك و على اهلك.

قال: فذهبت ففعلت.

و روى الحسن البصرى ان عمر كان يمشى يوما فى سكه من سكك المدينه، اذ صبيه تطيش على وجه الارض، تقعد مره، و تقوم اخرى من الضعف و الجهد، فقال عمر: ما بال هذه؟ قال عبدالله ابنه: اما تعرف هذه؟ قال: لا، قال انها احدى بناتك، فانكر عمر ذلك، فقال: هذه ابنتى من فلانه! قال: ويحك و ما صيرها الى ما ارى؟ قال: منعك (ما عندك)، قال: انا منعتك ما عندى، فما الذى منعك ان تطلب لبناتك ما يكسب الاقوام لبناتهم! انه و الله ما لك عندى غير سهمك فى المسلمين، وسعك او عجز عنك، و كتاب الله بينى و بينك.

و روى سعيد بن المسيب، قال.

كتب عمر لما قسم العطاء و فضل من فضل للمهاجرين الذين شهدوا بدرا خمسه آلاف، و كتب لمن لم يشهد بدرا اربعه آلاف، فكان منهم عمر بن ابى سلمه المخزومى، و اسامه بن زيد بن حارثه، و محمد بن عبدالله بن جحش، و عبدالله بن عمر بن الخطاب.

فقال عبدالرحمن بن عوف- و هو الذى كان يكتب: يا اميرالمومنين، ان عبدالله بن عمر، ليس من هولاء، انه و انه... يطريه و يث
نى عليه، فقال له عمر: ليس له عندى الا مثل واحد منهم، فتكلم عبدالله و طلب الزياده، و عمر ساكت، فلما قضى كلامه، قال عمر لعبدالرحمن: اكتبه على خمسه آلاف، و اكتبنى على اربعه آلاف، فقال عبدالله: لا اريد هذا، فقال عمر: و الله لااجتمع انا و انت على خمسه آلاف، قم الى منزلك، فقام عبدالله كئيبا.

و قال ابووائل: استعملنى ابن زياد على بيت المال بالكوفه، فاتانى رجل بصك يقول فيه: اعط صاحب المطبخ ثمانمائه درهم، فقلت له: مكانك.

و دخلت على ابن زياد، فقلت له: ان عمر استعمل عبدالله بن مسعود بالكوفه على القضاء و بيت المال، و استعمل عثمان بن حنيف على سقى الفرات، و استعمل عمار بن ياسر على الصلاه و الجند، فرزقهم كل يوم شاه واحده، فجعل نصفها و سقطها و اكارعها لعمار، لانه كان على الصلاه و الجند، و جعل لابن مسعود ربعها، و لابن حنيف ربعها، ثم قال: ان مالا يوخذ منه كل يوم شاه، ان ذلك فيه لسريع، فقال ابن زياد: ضع المفتاح فاذهب حيث شئت.

و روى ابوجعفر الطبرى فى التاريخ، ان عمر بعث سلمه بن قيس الاشجعى الى طائفه من الاكراد، كانوا على الشرك، فخرج اليهم فى جيش سرحه معه من المدينه، فلما انتهى اليهم، دعاهم الى الاسلام او الى اداء الجزيه، فابوا،
فقاتلهم، فنصره الله عليهم، فقتل المقاتله و سبى الذريه، و جمع الرثه، و وجد حليه و فصوصا و جواهر، فقال لاصحابه: اتطيب انفسكم ان نبعث بهذا الى اميرالمومنين؟ فانه غير صالح لكم، و ان على اميرالمومنين لمونه و اثقالا! قالوا: نعم، قد طابت انفسنا، فجعل تلك الجواهر فى سفط، و بعث به مع واحد من اصحابه، و قال له: سر، فاذا اتيت البصره، فاشتر راحلتين فاوقرهما زادا لك و لغلامك، و سر الى اميرالمومنين.

قال: ففعلت، فاتيت عمر و هو يغدى الناس، قائما متكئا على عصا كما يصنع الراعى، و هو يدور على القصاع، فيقول: يا يرفازد هولاء لحما، زد هولاء خبزا، زد هولاء مرقه، فجلست فى ادنى الناس فاذا طعام فيه خشونه، طعامى الذى معى اطيب منه، فلما فرغ ادبر فاتبعته، فدخل دارا فاستاذنت، و لم اعلم حاجبه من انا، فاذن لى، فوجدته فى صفه جالسا على مسح، متكئا على و سادتين من ادم محشوتين ليفا، و فى الصفه عليه ستر من صوف، فنبذ الى احدى الوسادتين، فجلست عليها، فقال: يا ام كلثوم، الا تغدوننا! فاخرج اليه خبزه بزيت فى عرضها ملح لم يدق، فقال: يا ام كلثوم، الا تخرجين الينا تاكلين معنا؟ فقالت: انى اسمع عندك حس رجل، قال: نعم، و لا اراه من اهل هذا البلد- قال: فذاك حي
ن عرفت انه لم يعرفنى- فقالت: لو اردت ان اخرج الى الرجال لكسوتنى كما كسا الزبير امراته، و كما كسا طلحه امراته، قال: او ما يكفيك انك ام كلثوم ابنه على بن ابى طالب و زوجه اميرالمومنين عمر بن الخطاب! قالت: ان ذاك عنى لقليل الغناء، قال: كل، فلو كانت راضيه لاطعمتك اطيب من هذا، فاكلت قليلا، و طعامى الذى معى اطيب منه، و اكل فما رايت احدا احسن اكلا منه، ما يتلبس طعامه بيده و لا فمه.

ثم قال: اسقونا، فجائوا بعس من سلت، فقال: اعط الرجل، فشربت قليلا، و ان سويقى الذى معى لاطيب منه، ثم اخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته، ثم قال: الحمد لله الذى اطعمنا فاشبعنا، و سقانا فاروانا، انك يا هذا لضعيف الاكل، ضعيف الشرب، فقلت: يا اميرالمومنين، ان لى حاجه، قال: ما حاجتك؟ قلت: انا رسول سلمه بن قيس، فقال: مرحبا بسلمه و رسوله! فكانما خرجت من صلبه، حدثنى عن المهاجرين كيف هم؟ قلت: كما تحب يا اميرالمومنين، من السلامه و الظفر و النصر على عدوهم، قال: كيف اسعارهم؟ قلت: ارخص اسعار، قال: كيف اللحم فيهم، فانه شجره العرب، و لاتصلح العرب الا على شجرتها؟ قلت: البقره فيهم بكذا، و الشاه فيهم بكذا، ثم سرنا يا اميرالمومنين حتى لقينا عدونا من المشركين، فدعو
ناهم الى الذى امرت به من الاسلام فابوا، فدعوناهم الى الخراج فابوا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتله، و سبينا الذريه و جمعنا الرثه، فراى سلمه فى الرثه حليه، فقال للناس: ان هذا لايبلغ فيكم شيئا، افتطيب انفسكم ان ابعث به الى اميرالمومنين؟ قالوا: نعم، ثم استخرجت سفطى ففتحته.

فلما نظر الى تلك الفصوص، من بين احمر و اخضر و اصفر، وثب و جعل يده فى خاصرته يصيح صياحا عاليا، و يقول: لااشبع الله اذن بطن عمر! يكررها، فظن النساء انى جئت لاغتاله، فجئن الى الستر فكشفنه، فسمعنه يقول: لف ما جئت به يا يرفا جا عنقه، قال: فانا اصلح سفطى، و يرفا يجا عنقى.

ثم قال: النجاء النجاء! قلت: يا اميرالمومنين انزع بى فاحلمنى، فقال: يا يرفا، اعطه راحلتين من ابل الصدقه، فاذا لقيت افقر اليهما منك فادفعهما اليه، و قال: اظنك ستبطى ء، اما و الله لئن تفرق المسلمون فى مشاتيهم قبل ان يقسم هذا فيهم، لافعلن بك و بصاحبك الفاقره.

قال: فارتحلت حتى اتيت الى سلمه بن قيس، فقلت: ما بارك الله فيما اختصصتنى به، اقسم هذا فى الناس قبل ان تصيبنى و اياك فاقره، فقسمه فيهم.

فان الفص ليباع بخمسه دراهم و بسته، و هو خير من عشرين الفا.

و جمله الامر ان عمر لاي
جوز ان يطعن فيه بمثل هذا، و لا ينسب الى شره و حب للمال، فان طريقته فى التعفف و التقشف و خشونه العيش و الزهد اظهر من كل ظاهر، و اوضح من كل واضح، و حاله فى ذلك معلومه، و على كل تقدير، سواء كان يفعل ذلك دينا او ورعا- كما هو الظاهر من حاله- او كان يفعل ذلك ناموسا و صناعه و رياء و حيله،- كما تزعم الشيعه- فانه عظيم، لانه اما ان يكون على غايه الدين و التقى، او يكون اقوى الناس نفسا، و اشدهم عزما، و كلا الامرين فضيله.

و الذى ذكره المحدثون و ارباب السير ان عمر لما طعن و احتمل فى دمه الى بيته، و اوصى بما اوصى، قال لابنه عبدالله: انظروا ما على من دين، فحسبوه فوجدوه ستمائه و ثمانين الف درهم، هكذا ورد فى الاخبار انها كانت ديونا للمسلمين، و لم تكن من بيت المال.

فقال عمر: انظر يا عبدالله، فان وفى به مال آل عمر، فاده من اموالهم، و الا فسل فى بنى عدى بن كعب، فان لم تف به اموالهم، فسل فى قريش، و لاتعدهم الى غيرهم.

فهكذا وردت الروايه، فلذلك قال قاضى القضاه: فان صح فالعذر كذا و كذا، لانه لم يثبت عنده صحه اقتراضه هذا المقدار من بيت المال.

و قد روى ان عمر كان له نخل بالحجاز غلته كل سنه اربعون الفا، يخرجها فى النوائب و الحقوق، و يص
رفها الى بنى عدى بن كعب الى فقرائهم و اراملهم و ايتامهم، روى ذلك ابن جرير الطبرى فى التاريخ.

فاما قول المرتضى: اى حاجه بخشن العيش و جشب الماكل الى اقتراض الاموال؟ فجوابه ان المتزهد المتقشف قد يضيق على نفسه.

و يوسع على غيره، اما من باب التكرم و الاحسان، او من باب الصدقه و ابتغاء الثواب، و قد يصل رحمه و ان قتر على نفسه.

و قد روى الطبرى ان عمر دفع الى ام كلثوم بنت اميرالمومنين (ع) صداقها يوم تزوجها اربعين الف درهم، فلعل هذا الاقتراض من الناس كان لهذا الوجه و لغيره من الوجوه التى قل ان يخلو احد منها.

الطعن السادس انه عطل حد الله فى المغيره بن شعبه، لما شهد عليه بالزنا، و لقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهاده، اتباعا لهواه، فلما فعل ذلك عاد الى الشهود فحدهم و ضربهم، فتجنب ان يفضح المغيره، و هو واحد، و فضح الثلاثه مع تعطيله لحكم الله، و وضعه فى غير موضعه.

اجاب قاضى القضاه، فقال: انه لم يعطل الحد الا من حيث لم تكمل الشهاده و باراده الرابع، لئلا يشهد لاتكمل البينه، و انما تكمل بالشهاده.

و قال: ان قوله: (ارى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين)، يجرى فى انه سائغ صحيح مجرى ما روى عن النبى (ص) من انه اتى بسارق،
فقال: (لاتقر).

و قال (ع) لصفوان بن اميه لما اتاه بالسارق، و امر بقطعه، فقال: هو له- يعنى ما سرق: هلا قبل ان تاتينى به! فلايمتنع من عمر الا يحب ان تكمل الشهاده و ينبه الشاهد على الا يشهد، و قال: انه جلد الثلاثه من حيث صاروا قذفه، و انه ليس حالهم- و قد شهدوا- كحال من لم تتكامل الشهاده عليه لان الحيله فى ازاله الحد عنه- و لما تتكامل الشهاده عليه- ممكنه بتلقين و تنبيه غيره، و لا حيله فيما قد وقع من الشهاده، فلذلك حدهم.

قال: و ليس فى اقامه الحد عليهم من الفضيحه ما فى تكامل الشهاده على المغيره، لانه يتصور بانه زان، و يحكم بذلك، و ليس كذلك حال الشهود، لانهم لايتصورون بذلك، و ان وجب فى الحكم ان يجعلوا فى حكم القذفه.

و حكى عن ابى على ان الثلاثه، كان القذف قد تقدم منهم للمغيره بالبصره، لانهم صاحوا به من نواحى المسجد: بانا نشهد انك زان، فلو لم يعيدوا الشهاده لكان يحدهم لا محاله، فلم يمكن فى ازاله الحد عنهم ما امكن فى المغيره.

و حكى عن ابى على فى جواب اعتراضه عن نفسه بما روى عن عمر انه كان اذا رآه يقول: لقد خفت ان يرمينى الله عز و جل بحجاره من السماء، ان هذا الخبر غير صحيح، و لو كان حقا لكان تاويله التخويف، و اظهار قوه
الظن، لصدق القوم الذين شهدوا عليه، ليكون ردعا له.

و ذكر انه غير ممتنع ان يحب الا يفتضح لما كان متوليا للبصره من قبله.

ثم اجاب عن سوال من ساله عن امتناع زياد من الشهاده، و هل يقتضى الفسق ام لا؟ فان قال: لانعلم انه كان يتمم الشهاده، و لو علمنا ذلك لكان حيث ثبت فى الشرغ ان له السكوت، لايكون طعنا، و لو كان ذلك طعنا، و قد ظهر امره لاميرالمومنين (ع) لما ولاه فارس، و لما ائتمنه على اموال الناس و دمائهم.

اعترض المرتضى فقال: انما نسب الى تعطيل الحد من حيث كان فى حكم الثابت، و انما بتلقينه لم تكمل الشهاده، لان زيادا ما حضر الا ليشهد بما شهد به اصحابه، و قد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم، و لو لم يكن هذا لما شهد القوم قبله و هم لايعلمون: هل حاله فى ذلك الحكم كحالهم، لكنه احجم فى الشهاده لما راى كراهيه متولى الامر لكمالها، و تصريحه بانه لايريد ان يعمل بموجبها.

و من العجائب ان يطلب الحيله فى دفع الحد عن واحد، و هو لايندفع الا بانصرافه الى ثلاثه، فان كان درء الحد و الاحتيال فى دفعه من السنن المتبعه، فدروه عن ثلاثه اولى من درئه عن واحد! و قوله: ان دفع الحد عن المغيره ممكن و دفعه عن ثلاثه- و قد شهدوا- غير ممكن، طريف، لانه لو
لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهاده لاندفع الحد عن الثلاثه، و كيف لاتكون الحيله ممكنه فيما ذكره! و قوله: ان المغيره يتصور بصوره زان لو تكاملت الشهاده، و فى هذا من الفضيحه ما ليس فى حد الثلاثه غير صحيح، لان الحكم فى الامرين واحد، لان الثلاثه اذا حدوا يظن بهم الكذب، و ان جوز ان يكونوا صادقين، و المغيره لو تكاملت الشهاده عليه بالزنا لظن به ذلك مع التجويز لان يكون الشهود كذبه، و ليس فى احد الا ما فى الاخر.

و ما روى عنه (ع) من انه اتى بسارق، فقال له: (لاتقر) ان كان صحيحا لايشبه ما نحن فيه، لانه ليس فى دفع الحد عن السارق ايقاع غيره فى المكروه.

و قصه المغيره تخالف هذا لما ذكرناه.

فاما قوله (ع): (هلا قبل ان تاتينى به!) فلا يشبه كل ما نحن فيه، لانه بين ان ذلك القول يسقط الحد لو تقدم، و ليس فيه تلقين يوجب اسقاط الحد.

فاما ما حكاه عن ابى على من ان القذف من الثلاثه كان قد تقدم، و انهم لو لم يعيدوا الشهاده لكان يحدهم لا محاله، فغير معروف، و الظاهر المروى خلافه، و هو انه حدهم عند نكول زياد عن الشهاده، و ان ذلك كان السبب فى ايقاع الحد بهم.

و تاوله عليه: لقد خفت ان يرمينى الله بحجاره من السماء، لايليق بظاهر الكلام، لا
نه يقتضى التندم و التاسف على تفريط وقع، و لم يخاف ان يرمى بالحجاره و هو لم يدرا الحد عن مستحق له! و لو اراد الردع و التخويف للمغيره لاتى بكلام يليق بذلك، و لايقتضى اضافه التفريط الى نفسه.

و كونه واليا من قبله لايقتضى ان يدرا عنه الحد، و يعدل به الى غيره.

و اما قوله: انا ما كنا نعلم ان زيادا كان يتمم الشهاده، فقد بينا ان ذلك كان معلوما بالظاهر، و من قرا ما روى فى هذه القصه علم بلا شك ان حال زياد كحال الثلاثه، فى انه انما حضر للشهاده، و انما عدل عنها لكلام عمر.

و قوله: ان الشرع يبيح السكوت، ليس بصحيح، لان الشرع قد حظر كتمان الشهاده.

فاما استدلاله على ان زيادا لم يفسق بالامساك عن الشهاده بتوليه اميرالمومنين (ع) له فارس، فليس بشى ء يعتمد، لانه لايمتنع ان يكون قد تاب بعد ذلك، و اظهر توبته لاميرالمومنين (ع)، فجاز ان يوليه.

و قد كان بعض اصحابنا يقول فى قصه المغيره شيئا طيبا، و ان كان معتملا فى باب الحجه، كان يقول: ان زيادا انما امتنع من التصريح بالشهاده المطلوبه فى الزنا، و قد شهد بانه شاهده بين شعبها الاربع، و سمع نفسا عاليا، فقد صح على المغيره بشهاده الاربع جلوسه منها مجلس الفاحشه، الى غير ذلك من مقدمات الزنا و ا
سبابه.

فهلا ضم عمر الى جلد الثلاثه تعزير هذا الذى قد صح عنده بشهاده الاربعه ما صح من الفاحشه، مثل تعريك اذنه، او ما يجرى مجراه من خفيف التعزير و يسيره! و هل فى العدول عن ذلك- حتى عن لومه و توبيخه و الاستخفاف- به الا ما ذكروه من السبب الذى يشهد الحال به! قلت: اما المغيره فلا شك عندى انه زنى بالمراه، و لكنى لست اخطى ء عمر فى درء الحد، عنه و انما اذكر اولا قصته من كتابى ابى جعفر محمد بن جرير الطبرى، و ابى الفرج على بن الحسن الاصفهانى، ليعلم ان الرجل زنى بها لا محاله، ثم اعتذر لعمر فى درء الحد عنه.

قال الطبرى فى تاريخه: و فى هذه السنه- يعنى سنه سبع عشره- ولى عمر اباموسى البصره، و امره ان يشخص اليه المغيره بن شعبه، و ذلك لامر بلغه عنه.

قال الطبرى: حدثنى محمد بن يعقوب بن عتبه، قال: حدثنى ابى، قال: كان المغيره يخالف الى ام جميل، امراه من بنى هلال بن عامر، و كان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك، يقال له الحجاج بن عبيد، و كان المغيره- و كان امير البصره- يختلف اليها سرا، فبلغ ذلك اهل البصره، فاعظموه، فخرج المغيره يوما من الايام الى المراه، فدخل عليها و قد وضعوا عليهما الرصد، فانطلق القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر، فر
اوه قد واقعها، فكتبوا بذلك الى عمر، و اوفدوا اليه بالكتاب ابابكره.

فانتهى ابوبكره الى المدينه، و جاء الى باب عمر فسمع صوته و بينه و بينه حجاب، فقال: ابوبكره! فقال: نعم، قال: لقد جئت لشر! قال: انما جاء به المغيره، ثم قص عليه القصه، و عرض عليه الكتاب، فبعث اباموسى عاملا، و امره ان يبعث اليه المغيره، فلما دخل ابوموسى البصره، و قعد فى الاماره، اهدى اليه المغيره عقيله، و قال: اننى قد رضيتها لك، فبعث ابوموسى بالمغيره الى عمر.

و قال الطبرى: و روى الواقدى، قال: حدثنى عبدالرحمن بن محمد بن ابى بكر بن عمرو بن حزم الانصارى، عن ابيه، عن مالك بن اوس بن الحدثان، قال: قدم المغيره على عمر، فتزوج فى طريقه امراه من بنى مره، فقال له عمر: انك لفارغ القلب، شديد الشبق.

طويل الغرمول، ثم سال عن المراه فقيل له- يقال لها الرقطاء: كان زوجها من ثقيف و هى من بنى هلال.

قال الطبرى: و كتب الى السرى، عن شعيب، عن سيف، ان المغيره كان يبغض ابابكره و كان ابوبكره يبغضه، و يناغى كل واحد منهما صاحبه و ينافره عند كل ما يكون منه، و كانا متجاورين بالبصره، بينهما طريق، و هما فى مشربتين متقابلتين، فهما فى داريهما فى كل واحده منهما كوه مقابله الاخرى، فاج
تمع الى ابى بكره نفر يتحدثون فى مشربته، فهبت ريح ففتحت باب الكوه، فقام ابوبكره ليصفقه، فبصر بالمغيره و قد فتحت الريح باب الكوه التى فى مشربته، و هو بين رجلى امراه، فقال للنفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: و من هذه؟ قال: ام جميل، احدى نساء بنى عامر بن صعصعه، فقالوا: انما راينا اعجازا و لاندرى الوجوه! فلما قامت صمموا، و خرج المغيره الى الصلاه، فحال ابوبكره بينه و بين الصلاه، و قال: لاتصل بنا.

و كتبوا الى عمر بذلك، و كتب المغيره اليه ايضا، فارسل عمر الى ابى موسى، فقال: يا اباموسى، انى مستعملك، و انى باعثك الى الارض التى قد باض بها الشيطان و فرخ، فالزم ما تعرف، و لاتستبدل فيستبدل الله بك.

فقال: يا اميرالمومنين، اعنى بعده من اصحاب رسول الله (ص) من المهاجرين و الانصار، فانى وجدتهم فى هذه الامه و هذه الاعمال كالملح لايصلح الطعام الا به.

قال عمر: فاستعن بمن احببت، فاستعان بتسعه و عشرين رجلا، منهم انس بن مالك، و عمران بن حصين، و هشام بن عامر.

و خرج ابوموسى بهم حتى اناخ بالبصره فى المربد، و بلغ المغيره ان اباموسى قد اناخ بالمربد، فقال: و الله ما جاء ابوموسى زائرا، و لا تاجرا، و لكنه جاء اميرا.

فانهم لفى ذلك اذ جاء ابوموسى، حتى دخل عليهم، فدفع الى المغيره كتابا من عمر، انه لاوجز كتاب كتب به احد من الناس، اربع كلم، عزل فيها و عاتب، و استحث و امر: (اما بعد، فانه بلغنى نبا عظيم، فبعثت اباموسى، فسلم ما فى يديك اليه، و العجل).

كتب الى اهل البصره: (اما بعد، فانى قد بعثت اباموسى اميرا عليكم، لياخذ لضعيفكم من قويكم، و ليقاتل بكم عدوكم و ليدفع عن ذمتكم، و ليجبى لكم فيئكم، و ليقسم فيكم، و ليحمى لكم طرقكم).

فاهدى اليه المغيره وليده من مولدات الطائف تدعى عقيله، و قال: انى قد رضيتها لك- و كانت فارهه- و ارتحل المغيره، و ابوبكره، و نافع بن كلده، و زياد، و شبل بن معبد البجلى، حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم و بين المغيره، فقال المغيره: يا اميرالمومنين، سل هولاء الاعبد: كيف راونى؟ مستقبلهم ام مستدبرهم! و كيف راوا المراه و عرفوها فان كانوا مستقبلى فكيف لم استتر! و ان كانوا مستدبرى فباى شى ء استحلوا النظر الى فى منزلى على امراتى! و الله ما اتيت الا امراتى، فبدا بابى بكره فشهد عليه انه رآه بين رجلى ام جميل، و هو يدخله و يخرجه، قال عمر: كيف رايتهما؟ قال: مستدبرهما، قال: كيف استثبت راسها؟ قال: تجافيت.

فدعا بشبل بن معبد، فش
هد مثل ذلك، و قال: استقبلتهما و استدبرتهما.

و شهد نافع بمثل شهاده ابى بكره، و لم يشهد زياد بمثل شهادتهم.

قال: رايته جالسا بين رجلى امراه، و رايت قدمين مرفوعتين تخفقان، و استين مكشوفتين، و سمعت حفزا شديدا، قال عمر: فهل رايته فيها كالميل فى المكحله؟ قال: لا، قال: فهل تعرف المراه؟ قال: لا، و لكن اشبهها، فامر عمر بالثلاثه فجلدوا الحد، و قرا: (فاذ لم ياتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون).

فقال المغيره: الحمد لله الذى اخزاكم! فصاح به عمر: اسكت اسكت الله نامتك! اما و الله لو تمت الشهاده لرجمتك باحجارك.

فهذا ما ذكره الطبرى.

و اما ابوالفرج على بن الحسين الاصفهانى، فانه ذكر فى كتاب الاغانى ان احمد بن عبدالعزيز الجوهرى، حدثه عن عمر بن شبه، عن على بن محمد، عن قتاده، قال: كان المغيره بن شعبه- و هو امير البصره- يختلف سرا الى امراه من ثقيف، يقال لها الرقطاء، فلقيه ابوبكره يوما، فقال له: اين تريد؟ قال: ازور آل فلان، فاخذ بتلابيبه، و قال: ان الامير يزار و لا يزور.

قال ابوالفرج: و حدثنى بحديثه جماعه- ذكر اسمائهم باسانيد مختلفه، لانرى الاطاله بذكرها- ان المغيره كان يخرج من دار الاماره وسط النهار، فكان ابوبكره يلقاه، فيقو
ل له: اين يذهب الامير؟ فيقول له: الى حاجه، فيقول: حاجه ماذا؟ ان الامير يزار و لا يزور! قالوا: و كانت المراه التى ياتيها جاره لابى بكره، فقال: فبينا ابوبكره فى غرفه له مع اخويه: نافع و زياد و رجل آخر يقال له شبل بن معبد- و كانت غرفه جارته تلك محاذيه غرفه ابى بكره- فضربت الريح باب غرفه المراه، ففتحته، فنظر القوم فاذا هم بالمغيره ينكحها، فقال ابوبكره: هذه بليه قد ابتليتم بها، فانظروا، فنظروا حتى اثبتوا، فنزل ابوبكره، فجلس حتى خرج عليه المغيره من بيت المراه، فقال له ابوبكره: انه قد كان من امرك ما قد علمت، فاعتزلنا.

فذهب المغيره و جاء ليصلى بالناس الظهر، فمنعه ابوبكره و قال: لا و الله لاتصلى بنا، و قد فعلت ما فعلت! فقال الناس: دعوه فليصل، انه الامير! و اكتبوا الى عمر، فكتبوا اليه، فورد كتابه ان يقدموا عليه جميعا، المغيره و الشهود.

قال ابوالفرج: و قال المدائنى فى حديثه: فبعث عمر بابى موسى، و عزم عليه الا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيره.

قال ابوالفرج: و قال على بن هاشم فى حديثه: ان اباموسى قال لعمر لما امره ان يرحل المغيره من وقته: او خير من ذلك يا اميرالمومنين؟ نتركه فيتجهز ثلاثا ثم يخرج.

قالوا: فخرج ابوموسى حتى
صلى صلاه الغداه بظهر المربد، و اقبل انسان فدخل على المغيره، فقال: انى رايت اباموسى قد دخل المسجد الغداه، و عليه برنس، و ها هو فى جانب المسجد، فقال المغيره: انه لم يات زائرا و لا تاجرا.

قالوا: و جاء ابوموسى، حتى دخل على المغيره و معه صحيفه مل ء يده، فلما رآه قال: امير! فاعطاه ابوموسى الكتاب، فلما ذهب يتحرك عن سريره قال له: مكانك! تجهز ثلاثا.

قال ابوالفرج: و قال آخرون: ان اباموسى امره ان يرحل من وقته، فقال المغيره: قد علمت ما وجهت له، فالا تقدمت و صليت! فقال: ما انا و انت فى هذا الامر الا سواء، فقال المغيره: انى احب ان اقيم ثلاثا لاتجهز، فقال ابوموسى: قد عزم على اميرالمومنين الا اضع عهدى من يدى، اذا قراته حتى ارحلك اليه.

قال: ان شئت شفعتنى، و ابررت قسم اميرالمومنين بان توجلنى الى الظهر، و تمسك الكتاب فى يدك.

قالوا: فلقد رئى ابوموسى مقبلا و مدبرا، و ان الكتاب فى يده معلق بخيط، فتجهز المغيره، و بعث الى ابى موسى بعقيله، جاريه عربيه من سبى اليمامه، من بنى حنيفه، و يقال: انها مولده الطائف، و معها خادم، و سار المغيره حين صلى الظهر، حتى قدم على عمر.

قال ابوالفرج: فقال محمد بن عبدالله بن حزم فى حديثه: ان عمر قال له لم
ا قدم عليه: لقد شهد عليك بامر، ان كان حقا لان تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك! قال ابوالفرج: قال ابوزيد عمر بن شبه: فجلس له عمر، و دعابه و بالشهود، فتقدم ابوبكره، فقال: ارايته بين فخذيها؟ قال: نعم و الله، لكانى انظر الى تشريم جدرى بفخذيها، قال المغيره: لقد الطفت النظر.

قال ابوبكره: لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به! فقال عمر: لا و الله حتى تشهد: لقد رايته يلج فيها كما يلج المرود فى المكحله، قال: نعم اشهد على ذلك، فقال عمر: اذهب عنك مغيره، ذهب ربعك.

قال ابوالفرج: و يقال ان عليا (ع) هو قائل هذا القول.

ثم دعا نافعا فقال: علام تشهد؟ قال: على مثل شهاده ابى بكره، فقال عمر: لا حتى تشهد انك رايته يلج فيها ولوج المرود فى المكحله، قال: نعم، حتى بلغ قذذه فقال: اذهب عنك مغيره، ذهب نصفك، ثم دعا الثالث و هو شبل بن معبد، فقال: علام تشهد؟ قال: على مثل شهاده صاحبى، فقال: اذهب عنك مغيره، ذهب ثلاثه ارباعك.

قال: فجعل المغيره يبكى الى المهاجرين، و بكى الى امهات المومنين حتى بكين معه، قال: و لم يكن زياد حضر ذلك المجلس، فامر عمر ان ينحى الشهود الثلاثه، و الا يجالسهم احد من اهل المدينه، و انتظر قدوم زياد، فلما قدم جلس فى المسجد، و اجتمع رئ
وس المهاجرين و الانصار.

قال المغيره: و كنت قد اعددت كلمه اقولها، فلما راى عمر زيادا مقبلا، قال: انى لارى رجلا لن يخزى الله على لسانه رجلا من المهاجرين.

قال ابوالفرج: و فى حديث ابى زيد بن عمر بن شبه، عن السرى، عن عبدالكريم ابن رشيد، عن ابى عثمان النهدى، انه لما شهد الشاهد الاول عند عمر، تغير الثالث لذلك لون عمر، ثم جاء الثانى فشهد، فانكسر لذلك انكسارا شديدا، ثم جاء فشهد، فكان الرماد نثر على وجه عمر، فلما جاء زياد، جاء شاب يخطر بيديه، فرفع عمر راسه اليه و قال: ما عندك انت يا سلح العقاب- و صاح ابوعثمان النهدى صيحه تحكى صيحه عمر- قال عبدالكريم بن رشيد: لقد كدت ان يغشى على لصيحته.

قال ابوالفرج: فكان المغيره يحدث، قال: فقمت الى زياد، فقلت: لا مخبا لعطر بعد عروس يا زياد، اذكرك الله و اذكرك موقف القيامه و كتابه و رسوله، ان تتجاوز الى ما لم تر! ثم صحت: يا اميرالمومنين ان هولاء قد احتقروا دمى فالله الله فى دمى! قال: فترنقت عينا زياد و احمر وجهه، و قال: يا اميرالمومنين، اما ان احق ما حق القوم، فليس عندى، و لكنى رايت مجلسا قبيحا، و سمعت نفسا حثيثا، و انتهارا، و رايته متبطنها، فقال عمر: ارايته يدخل و يخرج كالميل فى المكح
له؟ قال: لا! قال ابوالفرج: و روى كثير من الرواه انه قال: رايته رافعا برجليها، و رايت خصيتيه مترددتين بين فخذيها، و سمعت حفزا شديدا، و سمعت نفسا عاليا، فقال عمر: ارايته يدخله و يخرجه كالميل فى المكحله؟ قال: لا، فقال عمر: الله اكبر! قم يا مغيره اليهم فاضربهم، فجاء المغيره الى ابى بكره فضربه ثمانين و ضرب الباقين.

و روى قوم ان الضارب لهم الحد لم يكن المغيره، و اعجب عمر قول زياد، و درا الحد عن المغيره، فقال ابوبكره بعد ان ضرب: اشهد ان المغيره فعل كذا و كذا! فهم عمر بضربه، فقال له على (ع): ان ضربته رجمت صاحبك! و نهاه عن ذلك.

قال ابوالفرج: يعنى ان ضربه تصير شهادته شهادتين، فيوجب بذلك الرجم على المغيره.

قال: فاستتاب عمر ابابكره، فقال: انما تستنيبنى لتقبل شهادتى، قال: اجل! قال: فانى لااشهد بين اثنين ما بقيت فى الدنيا! قال: فلما ضربوا الحد قال المغيره: الله اكبر، الحمد لله الذى اخزاكم! فقال عمر: اسكت اخزى الله مكانا راوك فيه! قال: و اقام ابوبكره على قوله، و كان يقول: و الله ما انسى قط فخذيها، و تاب الاثنان، فقبل شهادتهما، و كان ابوبكره بعد ذلك اذا طلب الى شهاده قال: اطلبوا غيرى، فان زيادا افسد على شهادتى.

و قال ابوالف
رج: و روى ابراهيم بن سعيد، عن ابيه، عن جده، قال: لما ضرب ابوبكره امرت امه بشاه فذبحت و جعل جلدها على ظهره، قال ابراهيم: فكان ابى يقول: ما ذاك الا من ضرب شديد.

قال ابوالفرج: فحدثنا الجوهرى، عن عمر بن شبه، عن على بن محمد عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبى، قال: كانت الرقطاء التى رمى بها المغيره تختلف اليه فى ايام امارته الكوفه، فى خلافه معاويه فى حوائجها، فيقضيها لها.

قال ابوالفرج: و حج عمر بعد ذلك مره، فوافق الرقطاء بالموسم، فرآها، و كان المغيره يومئذ هناك، فقال عمر للمغيره: ويحك! اتتجاهل على! و الله ما اظن ابابكره كذب عليك، و ما رايتك الا خفت ان ارمى بحجاره من السماء! قال: و كان على (ع) بعد ذلك يقول: ان ظفرت بالمغيره لاتبعته الحجاره.

قال ابوالفرج: فقال حسان بن ثابت يهجو المغيره و يذكر هذه القصه: لو ان اللوم ينسب كان عبدا قبيح الوجه اعور من ثقيف تركت الدين و الاسلام لما بدت لك غدوه ذات النصيف و راجعت الصبا و ذكرت لهوا مع القينات فى العمر اللطيف قال ابوالفرج: و روى المدائنى ان المغيره لما شخص الى عمر فى هذه الوقعه، راى فى طريقه جاريه فاعجبته، فخطبها الى ابيها، فقال له: و انت على هذه الحال! قال: و ما عليك! ان ابق فهو الذى تريد، و ان اقتل ترثنى.

فزوجه.

و قال ابوالفرج: قال الواقدى: كانت امراه من بنى مره، تزوجها بالرقم، فلما قدم بها على عمر، قال: انك لفارغ القلب، طويل الشبق.

فهذه الاخبار كما تراها تدل متاملها على ان الرجل زنى بالمراه لا محاله، و كل كتب التواريخ و السير تشهد بذلك، و انما اقتصرنا نحن منها على ما فى هذين الكتابين.

و قد روى المدائنى ان المغيره كان ازنى الناس فى الجاهليه، فلما دخل فى الاسلام قيده الاسلام، و بقيت عنده منه بقيه ظهرت فى ايام ولايته البصره.

و روى ابوالفرج فى كتاب الاغانى عن الجاحظ ابى عثمان عمرو بن بحر، قال: كان المغيره بن شعبه و الاشعث بن قيس و جرير بن عبدالله البجلى يوما متوافقين بالكناسه فى نفر، و طلع عليهم اعرابى، فقال لهم المغيره: دعونى احركه، قالوا: لاتفعل، فان للاعراب جوابا يوثر، قال: لابد، قالوا: فانت اعلم، فقال له: يا اعرابى، اتعرف المغيره ابن شعبه؟ قال: نعم اعرفه، اعور زانيا، فوجم ثم تجلد، فقال: اتعرف الاشعث بن قيس؟ قال: نعم ذاك رجل لايعرى قومه، قال: و كيف ذاك؟ قال: لانهم حاكه.

قال: فهل تعرف جرير بن عبدالله؟ قال: كيف لااعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته! فقالوا: قبحك الله،
فانك شر جليس، هل تحب ان يوقر لك بعيرك هذا مالا و تموت اكرم العرب موته؟ قال: فمن يبلغه اذن اهلى؟ فانصرفوا عنه فتركوه.

قال ابوالفرج: و روى على بن سليمان الاخفس، قال: خرج المغيره بن شعبه و هو يومئذ على الكوفه، و معه الهيثم بن التيهان النخعى غب مطر يسير، فى ظهر الكوفه و النجف، فلقى ابن لسان الحمره، احد بنى تيم الله بن ثعلبه، و هو لايعرف المغيره و لايعرفه المغيره، فقال له: من اين اقبلت يا اعرابى؟ قال: من السماوه؟ قال: كيف تركت الارض خلفك؟ قال: عريضه اريضه، قال: فكيف كان المطر؟ قال: عفى الاثر، و ملا الحفر، قال: فمن انت؟ قال: من بكر بن وائل، قال: كيف علمك بهم؟ قال: ان جهلتهم لم اعرف غيرهم، قال: فما تقول فى بنى شيبان؟ قال: سادتنا و ساده غيرنا، قال: فما تقول فى بنى ذهل؟ قال: ساده نوكى، قال: فقيس بن ثعلبه؟ قال: ان جاورتهم سرقوك، و ان ائتمنتهم خانوك، قال: فبنو تيم الله بن ثعلبه؟ قال: رعاء النقد و عراقيب الكلاب، قال فبنى يشكر؟ قال: صريح تحسبه مولى.

قال هشام بن الكلبى: لان فى الوانهم حمره.

قال: فعجل؟ قال: احلاس الخيل، قال: فعبد القيس؟ قال: يطعمون الطعام و يضربون الهام، قال: فعنزه؟ قال: لاتلتقى بهم الشفتان لوما، قال: فضبي
عه اضجم؟ قال: جدعا و عقرا! قال: فاخبرنى عن النساء، قال: النساء اربع: ربيع مربع، و جميع مجمع، و شيطان سمعمع، و غل لايخلع، قال فسر، قال: اما الربيع المربع، فالتى اذا نظرت اليها سرتك، و اذا اقسمت عليها برتك، و اما التى هى جميع مجمع، فالمراه تتزوجها و لها نسب فيجتمع نسبها الى نسبك، و اما الشيطان السمعمع فالكالحه فى وجهك اذا دخلت، المولوله فى اثرك اذا خرجت، و اما الغل الذى لايخلع، فبنت عمك السوداء القصيره، الفوهاء الدميمه، التى قد نثرت لك بطنها، ان طلقتها ضاع ولدك، و ان امسكتها فعلى جدع انفك.

قال المغيره: بل انفك.

قال: فما تقول فى اميرك المغيره بن شعبه؟ قال: اعور زان، فقال الهيثم بن الاسود: فض الله فاك! ويلك انه الامير المغيره! قال: انها كلمه تقال.

فانطلق به المغيره الى منزله، و عنده يومئذ اربع نسوه و ستون- او سبعون- امه، و قال: ويحك! هل يزنى الحر و عنده مثل هولاء! ثم قال لهن: ارمين اليه بحليكن، ففعلن، فخرج بمل ء كسائه ذهبا و فضه.

و انما اوردنا هذين الخبرين ليعلم السامع ان الخبر بزناه كان شائعا مشهورا مستفيضا بين الناس، و لانهما يتضمنان ادبا، و كتابنا هذا موضوع للادب.

و انما قلنا: ان عمر لم يخطى ء فى درء الحد عنه
، لان الامام يستحب له ذلك، و ان غلب على ظنه انه قد وجب الحد عليه، روى المدائنى ان اميرالمومنين عليا (ع) اتى برجل قد وجب عليه الحد، فقال: اهاهنا شهود؟ قالوا: نعم، قال: فاتونى بهم اذا امسيتم، و لا تاتونى الا معتمين، فلما اعتموا جائوه، فقال لهم: نشدت الله رجلا ما لى عنده مثل هذا الحد الا انصرف! قال: فما بقى منهم احد.

فدرا عنه الحد ذكر هذا الخبر ابوحيان فى كتاب "البصائر" فى الجزء السادس منه.

و الخبر المشهور الذى كاد يكون متواترا ان رسول الله (ص) قال: (ادرئوا الحدود بالشبهات).

و من تامل المسائل الفقهيه فى باب الحدود، علم انها بنيت على الاسقاط عند ادنى سبب و اضعفه، الا ترى انه لو اقر بالزنا ثم رجع عن اقراره قبل اقامه الحد، او فى وسطه قبل رجوعه و خلى سبيله! و قال ابوحنيفه و اصحابه: يستحب للامام ان يلقن المقر الرجوع، و يقول له: تامل ما تقول، لعلك مسستها، او قبلتها.

و يجب على الامام ان يسال الشهود: ما الزنا؟ و كيف هو؟ و اين زنى؟ و بمن زنى؟ و متى زنى؟ و هل راوه وطئها فى فرجها كالميل فى المكحله، فاذا ثبت كل ذلك سال عنهم، فلا يقيم الحد حتى يعدلهم القاضى فى السر و العلانيه، و لا يقام الحد باقرار الانسان على نفسه، حتى يقر
اربع مرات فى اربعه مجالس، كلما اقر رده القاضى، و اذا تم اقراره ساله القاضى عن الزنا؟ ما هو؟ و كيف هو؟ و اين زنى؟ و بمن زنى؟ و متى زنى؟ قال الفقهاء: و يجب ان يبتدى ء الشهود برجمه اذا تكاملت الشهاده، فان امتنعوا من الابتداء برجمه سقط الحد.

قالوا: و لا حد على من وطى ء جاريه ولده، او ولد ولده، و ان قال: علمت انها على حرام، و ان وطى ء جاريه ابيه او امه او اخته، و قال: ظننت انها تحل لى فلا حد عليه، و من اقر اربع مرات فى مجالس مختلفه بالزنا بفلانه، فقالت هى: بل تزوجنى، فلا حد عليه، و كذلك ان اقرت المراه بانه زنى بها فلان، فقال الرجل: بل تزوجتها، فلا حد عليها، قالوا: و اذا شهد الشهود بحد متقادم من الزنا لم يمنعهم عن اقامته بعدهم عن الامام، لم تقبل شهادتهم اذا كان حد الزنا، و ان شهدوا انه زنى بامراه و لايعرفونها لم يحد، ان شهد اثنان انه زنى بامراه بالكوفه، و آخران انه زنى بالبصره درى ء الحد عنهما جميعا، و ان شهد اربعه على رجل انه زنى بامراه بالنخيله عند طلوع الشمس من يوم كذا و كذا، و اربعه شهدوا بهذه المراه عند طلوع الشمس ذلك اليوم بدير هند درى ء الحد عنه و عنها و عنهم جميعا، و ان شهد اربعه على شهاده اربعه بالزنا لم ي
حد المشهود عليه.

و هذه المسائل كلها مذهب ابى حنيفه، و يوافقه الشافعى فى كثير منها، و من تاملها علم ان مبنى الحدود على الاسقاط بالشبهات، و ان ضعفت.

فان قلت: كل هذا لايلزم المرتضى، لان مذهبه فى فروع الفقه مخالف لمذهب الفقهاء.

قلت: ذكر محمد بن النعمان- و هو شيخ المرتضى، الذى قرا عليه فقه الاماميه- فى كتاب "المقنعه" ان الشهود الاربعه ان تفرقوا فى الشهاده بالزنا و لم ياتوا بها مجتمعين فى وقت فى مكان واحد، سقط الحد عن المشهود عليه، و وجب عليهم حد القذف.

قال: و اذا اقر الانسان على نفسه بالزنا اربع مرات على اختيار منه للاقرار وجب عليه الحد، و ان اقر مره او مرتين او ثلاثا لم يجب عليه الحد بهذا الاقرار، و للامام ان يودبه باقراره على نفسه حسب ما يراه، فان كان اقر على امراه بعينها جلد حد القذف.

قال: و ان جعل فى الحفره ليرجم و هو مقر على نفسه بالزنا ففر منها، ترك و لم يرد، لان فراره رجوع عن الاقرار، و هو اعلم بنفسه.

قال: و لايجب الرجم على المحصن الذى يعده الفقهاء محصنا، و هو من وطى ء امراه فى نكاح صحيح، و انما الاحصان عندنا من له زوجه او ملك يمين يستغنى بها عن غيرها، و يتمكن من وطئها، فان كانت مريضه لايصل اليها بنكاح، او
صغيره لا يوطا مثلها، او غائبه عنه او محبوسه لم يكن محصنا بها، و لايجب عليه الرجم.

قال: و نكاح المتعه لايحصن عندنا، و اذا كان هذا مذهب الاماميه، فقد اتفق قولهم و اقوال الفقهاء فى سقوط الرجم بادنى سبب، و الذى رواه ابوالفرج الاصفهانى: ان زيادا لم يحضر فى المجلس الاول، و انه حضر فى مجلس ثان، فلعل اسقاط الحد كان لهذا.

ثم نعود الى تصفح ما اعترض به المرتضى كلام قاضى القضاه.

اما قوله: كان الحد فى حكم الثابت، فان الله تعالى لم يوجب الحد الا اذا كان ثابتا، و لم يوجبه اذا كان فى حكم الثابت، و يسال عن معنى قوله: (فى حكم الثابت): هل المراد بذلك انه قريب من الثبوت، و ان لم يثبت حقيقه، ام المراد انه قد ثبت و تحقق؟ فان اراد الثانى، قيل له: لانسلم انه ثبت، لان الشهاده لم تتم، و قد اعترف المرتضى بذلك، و اقر بان الشهاده لم تكمل، و لكنه نسب ذلك الى تلقين عمر، و ان اراد الاول قيل له: ليس يكفى فى وحوب الحد ان يكون قريبا الى الثبوت، لانه لو كفى ذلك لحد الانسان بشهاده ثلاثه من الشهود.

و اما قوله: ان عمر لقنه و كره ان يشهد، فلا ريب ان الامر وقع كذلك، و قد قلنا: ان هذا جائز بل مندوب اليه، و روينا عن اميرالمومنين ما رويناه، و ذكرنا قو
ل الفقهاء فى ذلك و انهم استحبوا ان يقول القاضى للمقر بالزنا: تامل ما تقوله، لعلك مسستها او قبلتها! فاما قول المرتضى: انه درا الحد عن واحد، و كان دروه عن ثلاثه اولى، فقد اجاب قاضى القضاه عنه بانه ما كان يمكن دفعه عنهم.

فاما قول المرتضى: بل قد كان يمكن دفعه عنهم، بالا يلقن الرابع الامتناع من الشهاده، فقد اجاب قاضى القضاه عنه: بان الزنا و وسم الانسان به اعظم و اشنع و افحش من ان يوسم بالكذب و الافتراء، و عقوبه الزانى اعظم من عقوبه الكاذب القاذف عند الله تعالى فى دار التكليف، يبين ذلك ان الله تعالى اوجب جلد ثلاثه من المسلمين، لتخليص واحد شهد الثلاثه عليه بالزنا، فلو لم يكن هذا المعنى ملحوظا فى نظر الشارع لما اوجبه، فكيف يقول المرتضى: ليس لاحد الامرين الا ما فى الاخر! و اما خبر السارق الذى رواه قاضى القضاه، و قول المرتضى فى الاعتراض عليه: ليس فى دفع الحد عن السارق ايقاع غيره فى المكروه، و قصه المغيره تخالف هذا، فليس بجيد لان فى دفع الحد عن السارق اضاعه مال المسلم الذى سرق السارق فى زمانه.

و فيه ايضا اغراء اهل الفساد بالسرقه، لانهم اذا لم يقم الحد عليهم لمكان الجحود اقدموا على سرقه الاموال، فلو لم يكن عنايه الشارع
بالدماء اكثر من عنايته بغيره من الاموال و الابشار لما قال للمكلف: لاتقر بالسرقه و لا بالزنا، و لما رجح واحدا على ثلاثه، و هان فى نظره ان تضرب ابشارهم بالسياط، و هم ثلاثه حفظا لدم واحد.

و اما حديث صفوان و قول المرتضى فلايشبه كل ما نحن فيه، لان الرسول (ص) بين ان ذلك القول يسقط الحد لو تقدم، و ليس فيه تلقين يوجب اسقاط الحد.

فجوابه ان قاضى القضاه لم يقصد بايراد هذا الخبر الا تشييد قول عمر: ارى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين، لان عمر كره فضيحه المغيره، كما كره رسول الله (ص) فضيحه السارق الذى قال صفوان: (هو له)، و قال (ع): (هلا قبل ان تاتينى به!) اى هلا قلت ذلك قبل ان تحضره، فلم يفتضح بين الناس! فان قولك: (هو له)، و ان درا الحد الا انه لا يدرا الفضيحه! فاما ما حكاه قاضى القضاه عن ابى على، من ان القذف قد كان تقدم منهم و هم بالبصره، فقد ذكرنا فى الخبر ما يدل على ذلك، فبطل قول المرتضى: ان ذلك غير معروف، و ان الظاهر المروى خلافه.

و اما قول عمر للمغيره: ما رايتك الا خفت ان يرمينى الله بحجاره من السماء، فالظاهر ان مراده ما ذكره قاضى القضاه من التخويف و اظهار قوه الظن بصدق الشهود، ليكون ردعا له، و لذلك ورد فى ال
خبر: ما اظن ابابكره كذب عليك، تقديره: اظنه لم يكذب، و لو كان كما قال المرتضى ندما و تاسفا على تفريط وقع، لاقام الحد عليه، و لو بعد حين، و من الذى كان يمنعه من ذلك لو اراده! و قوله: لم يخاف ان يرمى بالحجاره و هو لم يدرا الحد عن مستحق له؟ جوابه ان هذا القول يجرى مجرى التهويل و التخويف للمغيره، كيلا يقدم على ان يعرض نفسه لشبهه فيما بعد.

فاما قول قاضى القضاه: انه غير ممتنع ان يحب الا يفتضح لما كان متوليا للبصره من قبله، و قول المرتضى معترضا عليه: ان كونه واليا من قبله لايقتضى ان يدرا عنه الحد، فغير لازم، لان قاضى القضاه ما جعل كونه واليا من قبله مقتضيا ان يدرا عنه الحد، و انما قاله فى جواب من انكر على عمر محبته لدرء الحد عنه، فقال: انه غير قبيح، و لايحرم محبه درء الحد عنه لانه وال من قبله! فجعل الولايه للبصره مسوغه لمحبه عمر لدفع الحد عنه، لامسوغه لدفع الحد عنه، و بين الامرين فرق واضح.

و اما قول المرتضى: ان الشرع حظر كتمان الشهاده، فصحيح فيما عدا الحدود، فاما فى الحدود فلا، و قد ورد فى الخبر الصحيح: (من راى على اخيه شيئا من هذه القاذورات و ستر، ستره الله يوم يفتضح المجرمون).

فاما قول المرتضى: هب ان الحد سقط، اما
اقتضت الحال تاديب المغيره بنوع من انواع التعزير و ان خف! فكلام لازم لا جواب عنه، و لو فعله عمر لبرى ء من التهمه برائه الذئب من دم يوسف، و ما ادرى كيف فاته ذلك مع تشدده فى الدين و صلابته فى السياسه! و لعله كان له مانع عن اعتماد ذلك لانعلمه! الطعن السابع انه كان يتلون فى الاحكام، حتى روى انه قضى فى الجد بسبعين قضيه- و روى مائه قضيه- و انه كان يفضل فى القسمه و العطاء و قد سوى الله تعالى بين الجميع، و انه قال فى الاحكام من جهه الراى و الحدس و الظن.

اجاب قاضى القضاه عن ذلك، فقال: مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف و الرجوع عن راى الى راى، بحسب الامارات و غالب الظن، و قد ذكر ان ذلك طريقه اميرالمومنين (ع) فى امهات الاولاد، و مقاسمه الجد مع الاخوه، و مساله الحرام.

قال: و انما الكلام فى اصل القياس و الاجتهاد، فاذا ثبت ذلك خرج من ان يكون طعنا، و قد ثبت ان اميرالمومنين (ع) كان يولى من يرى خلاف رايه، كابن عباس و شريح، و لايمنع زيدا و ابن مسعود من الفتيا مع الاختلاف بينه و بينهما.

فاما ما روى من السبعين قضيه، فالمراد به فى مسائل من الجد، لان مساله واحده لايوجد فيها سبعون قضيه مختلفه، و ليس فى ذلك عيب، بل يدل على سعه ع
لمه.

و قال: قد صح فى زمان الرسول (ص) مثل ذلك، لانه لما شاور فى امر الاسرى ابابكر اشار الا يقتلهم، و اشار عمر بقتلهم، فمدحهما جميعا، فما الذى يمنع من كون القولين صوابا من المجتهدين، و من الواحد فى حالين؟ و بعد، فقد ثبت ان اجتهاد الحسن (ع) فى طلب الامامه كان بخلاف اجتهاد الحسين (ع)، لانه سلم الامر و تمكنه اكثر من تمكن الحسين (ع)، و لم يمنع ذلك من كونهما (ع) مصيبين.

اعترض المرتضى هذا الجواب، فقال: لا شك ان التلون فى الاحكام و الرجوع من قضاء الى قضاء، انما يكون عيبا و طعنا اذا ابطل الاجتهاد الذى يذهبون اليه فاما لو ثبت لم يكن ذلك عيبا، فاما الدعوى على اميرالمومنين (ع) انه تنقل فى الاحكام و رجع من مذهب الى آخر، فانها غير صحيحه، و لانسلمه، و نحن ننازعه فيها، و هو لا ينازعنا فى تلون صاحبه و تنقله، فلم يشتبه الامران.

و اظهر ما روى فى ذلك خبر امهات الاولاد، و قد بينا فيما سلف من الكتاب ما فيه، و قلنا: ان مذهبه فى بيعهن كان واحدا غير مختلف، و ان كان قد وافق عمر فى بعض الاحوال لضرب من الراى، فاما توليته لمن يرى خلاف رايه، فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد الذى يذهبون اليه، بل لما بيناه من قبل، انه (ع) كان غير متمكن من اختياره،
و انه يجرى اكثر الامور مجراها المتقدم للسياسه و التدبير، و هذا السبب فى انه لم يمنع من خالفه فى الفتيا.

فاما قوله: ان السبعين قضيه لم تكن فى مساله واحده، و انما كانت فى مسائل من الجد، فكلا الامرين واحد فيما قصدناه، لان حكم الله تعالى لايختلف فى المساله الواحده و المسائل، فاما امر الاسارى فان صح فانه لا يشبه احكام الدين المبنيه على العلم و اليقين، لانه لا سبيل لابى بكر و عمر الى المشوره فى امر الاسارى الا من طريق الظن و الحسبان، و احكام الدين معلومه و الى العلم بها سبيل.

و ما ادعاه من اجتهاد الحسن بخلاف اجتهاد الحسين ليس على ما ظنه، لان ذلك لم يكن عن اجتهاد و ظن، بل كان عن علم و يقين، فمن اين له انهما عملا على الظن! فما نراه اعتمد على حجه! و من اين له ان تمكن الحسن كان اكثر من تمكن الحسين! على ان هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من هذا التسليم و من ذاك القتال، لان المقاتل قد يكون مغررا ملقيا بيديه الى التهلكه، و المسالم مضيعا للامر مفرطا، و اذا كان عند صاحب الكتاب التسليم و القتال انما كانا عن ظن و امارات فليس يجوز ان يغلب على الظن بان الراى فى القتال مع ارتفاع امارات التمكن، و لا ان يغلب فى الظن المسالمه مع قو
ه امارات التمكن.

قلت: اما القول فى صحه الاجتهاد و بطلانه: فله مواضع غير هذا الموضع، و كذلك القول فى تقيه الامام و استصلاحه و فعله ما لا يسوغ لضرب من السياسه و التدبير.

و اما مسائل الجد فلم يعترض المرتضى قول قاضى القضاه فيها، و اما قاضى القضاه فقد استبعد، بل احال ان تكون مساله واحده بعينها تحتمل سبعين حكما مختلفه، فحمل الحديث على ان عمر افتى فى باب ميراث الاجداد و الجدات بسبعين فتيا فى سبعين مساله مختلفه الصور، و ذلك دليل على علمه و فقهه، و تمكنه من البحث فى تفاريع المسائل الشرعيه.

هذا هو جواب قاضى القضاه، فكيف يعترض بقوله: كلا الامرين واحد فيما قصدناه، لان حكم الله لايختلف فى المساله الواحده و المسائل المتعدده، اليس هذا اعتراض من ظن ان قاضى القضاه قد اعترض بتناقض احكامه، و لكن لا فى مساله بعينها، بل فى مسائل من باب ميراث الجد! و لم يقصد قاضى القضاه ما ظنه، و الوجه ان يعترض قاضى القضاه فيقال: ان الرواه كلهم اتفقوا على ان عمر تلون تلونا شديدا فى الجد مع الاخوه كيف يقاسمهم؟ و هى مساله واحده، فقضى فيها بسبعين قضيه، فاخرجوا الروايه مخرج التعجب من تناقض فتاويه، و لم يخرج احد من المحدثين الروايه مخرج المدح له بسعه ت
فريعه فى الفقه و المسائل، فلايجوز صرف الروايه عن الوضع الذى وردت عليه.

و قول قاضى القضاه: كيف تحتمل مساله واحده سبعين وجها! جوابه انه لم يقع الامر بموجب ما توهمه، بل المراد ان قوما تحاكموا اليه فى هذه المساله مثلا اليوم، فافتى فيها بفتيا، نحو ان يقول فى جد و بنت و اخت: للبنت النصف و الباقى بين الجد و الاخت، للذكر مثل حظ الانثيين، و هو قول زيد بن ثابت، ثم يتحاكم اليه بعد ايام فى هذه المساله بعينها، قد وقعت لقوم آخرين، فيقول: للبنت النصف و للجد السدس، و الباقى للاخت، و هو المذهب المحكى عن على (ع)، و ذلك بان يتغلب على ظنه ترجيح هذه الفتيا على ما كان افتى به من قبل، ثم تقع هذه المساله بعينها بعد شهر آخر، فيفتى فيها بفتيا اخرى، فيقول: للبنت النصف و الباقى بين الجد و الاخت نصفين، و هو مذهب ابن مسعود، ثم تقع المساله بعينها بعد شهر آخر، فيقضى فيها بالفتيا الاولى، و هى مذهب زيد، بان يعود ظنه مترجحا متغلبا لمذهب زيد، ثم تقع المساله بعينها بعد وقت آخر، فيفتى فيها بقول على (ع)، و هكذا لاتزال المساله بعينها تقع، و اقواله فيها تختلف، و هى ثلاثه لا مزيد عليها، الا انه لايزال يفتى فيها فتاوى مختلفه، الى ان توفى فاحصيت، فكان
ت سبعين فتيا.

فاما احتجاج قاضى القضاه بقصه اسرى بدر فجيد، و اما ما اعترض به المرتضى فليس بجيد، لان المساله من باب الشرع، و هو قتل الاسرى او تخليتهم بالفداء، و القتل و اراقه الدم من اهم المسائل الشرعيه، و قد علم من الشارع شده العنايه بامر الدنيا، فان كانت احكام الشرع لايجوز ان تتلقى، و ان يفتى فيها الا بطريق معلومه، و ان الظن و الاجتهاد لامدخل له فى الشرع- كما يذهب اليه المرتضى- فكيف جاز من رسول الله (ص) ان يشاور فى احكام شرعيه من لا طريق له الى العلم، و انما قصارى امره الظن و الاجتهاد و الحسبان! و كيف مدحهما جميعا، و قد اختلفا، و لابد ان يكون احدهما مخطئا! و اما قول المرتضى: من اين لقاضى القضاه ان ما اعتمده الحسن و الحسين من الكف و الاقدام كان عن الاجتهاد! فجيد، و جواب صحيح على اصول الاماميه، لانه ليس بمستحيل ان يعتمدا ذلك بوصيه سابقه من ابيهما (ع).

و اما قوله لقاضى القضاه: كلامك مضطرب، لانك اسندت ما اعتمداه الى الاجتهاد، ثم قلت: و قد كان تمكن الحسن اكثر من تمكن الحسين (ع)، و هذا يودى الى ان احدهما غرر بنفسه و الاخر فرط فى تسليم حقه، فليس بجيد.

و الذى اراده قاضى القضاه الدلاله على جواز الاجتهاد، و انه طريقه
المسلمين كلهم، و اهل البيت (ع)، و اوما الى ما اعتمده الحسن من تسليم الامر الى معاويه، و ما اعتمده الحسين من منازعه يزيد الخلافه، فعملا فيها بموجب اجتهادهما، و ما غلب على ظنونهما من المصلحه، و قد كان تمكن الحسن (ع) فى الحال الحاضره، اكثر من تمكن الحسين (ع) فى حاله الحاضره لان جند الحسن كان حوله و مطيفا به- و هم كما روى مائه الف سيف- و لم يكن مع الحسين (ع) ممن يحيط به و يسير بمسيره الى العراق الا دون مائه فارس، و لكن ظنهما فى عاقبه الامر و مستقبل الحال كان مختلفا، فكان الحسن يظن خذلان اصحابه عند اللقاء و الحرب، و كان الحسين (ع) يظن نصره اصحابه عند اللقاء و الحرب، فلذلك احجم احدهما و اقدم، الاخر فقد بان ان قول قاضى القضاه غير مضطرب و لا متناقض.

الطعن الثامن ما روى عن عمر من قوله: (متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص)، انا انهى عنهما و اعاقب عليهما)، و هذا اللفظ قبيح لو صح المعنى، فكيف اذ فسد! لانه ليس ممن يشرع فيقول هذا القول، و لانه يوهم مساواه الرسول (ص) فى الامر و النهى، و ان اتباعه اولى من اتباع رسول الله (ص).

اجاب قاضى القضاه، فقال: انه انما عنى بقوله: (و انا انهى عنهما و اعاقب عليهما) كراهته لذلك، و تشد
ده فيه، من حيث نهى رسول الله (ص) عنهما بعد ان كانتا فى ايامه، منبها بذلك على حصول النسخ فيهما و تغير الحكم، لانا نعلم انه كان متبعا للرسول، متدينا بالاسلام، فلايجوز ان نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله.

و حكى عن ابى على ان ذلك بمنزله ان يقول: انى اعاقب من صلى الى بيت المقدس، و ان كان صلى الى بيت المقدس فى حياه رسول الله (ص).

و اعتمد فى تصويبه على كف الصحابه عن النكير عنه.

و ادعى ان اميرالمومنين (ع) انكر على ابن عباس احلال المتعه، و روى عن النبى (ص) تحريمهما، فاما متعه الحج فانما اراد ما كانوا يفعلون من فسخ الحج، لانه كان يحصل لهم عنده التمتع، و لم يرد بذلك التمتع الذى يجرى مجرى تقدم العمره و اضافه الحج اليها بعد ذلك، لانه جائز لم يقع فيه قبح.

اعترض المرتضى هذا الكلام فقال: ظاهر الخبر المروى عن عمر فى المتعتين يبطل هذا التاويل، لانه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) انا انهى عنهما و اعاقب عليهما)، فاضاف النهى الى نفسه، و لو كان الرسول نهى عنهما لاضاف النهى اليه، فكان آكد و اولى، فكان يقول: فنهى عنهما او نسخهما و انا من بعده انهى عنهما و اعاقب عليهما.

و ليس يشبه ما ذكره من الصلاه الى بيت المقدس لان نسخ
الصلاه الى بيت المقدس معلوم ضروره من دينه (ص)، و ليس كذلك المتعه، على انه لو قال: ان الصلاه الى بيت المقدس كانت فى ايام النبى (ص) جائزه و انا الان انهى عنها لكان قبيحا شنيعا، مثل ما استقبحنا من القول الاول، و ليس هذا القول منه ردا على الرسول (ص)، لانه لايمتنع ان يكون استحسن حظرها فى ايامه لوجه لم يكن فيما تقدم، و اعتقد ان الاباحه فى ايام رسول الله (ص) كان لها شرط لم يوجد فى ايامه، و قد روى عنه انه صرح بهذا المعنى، فقال: انما احل الله المتعه للناس على عهد رسول الله (ص)، و النساء يومئذ قليله، و لذلك روى عنه فى متعه الحج انه قال: قد علمت ان رسول الله (ص) فعلها و اصحابه، و لكن كرهت ان يظلوا بها معرسين تحت الاراك، ثم يرجعوا بالحج تقطر رئوسهم.

و اما اعتماده على الكف عن النكير، فقد تقدم انه ليس بحجه الا على شرائط شرحناها، على انه قد روى ان عمر قال بعد نهيه عن المتعه: لا اوتى باحد تزوج متعه الا عذبته بالحجاره، و لو كنت تقدمت فيها لرجمت.

و ما وجدنا احدا انكر عليه هذا القول، لان المتمتع عندهم لايستحق الرجم، و لم يدل ترك النكير على صوابه.

فاما ادعاوه على اميرالمومنين (ع) انه انكر على ابن عباس احلالها، فالامر بخلافه و ع
كسه، فقد روى عنه (ع) من طرق كثيره انه كان يفتى بها، و ينكر على محرمها و الناهى عنها، و روى عمر بن سعد الهمدانى، عن حبيش بن المعتمر، قال: سمعت عليا (ع) يقول: لو لا ما سبق من ابن الخطاب فى المتعه ما زنى الا شقى.

و روى ابوبصير، قال: سمعت اباجعفر محمد بن على الباقر (ع) يروى عن جده اميرالمومنين (ع): لو لا ما سبقنى به ابن الخطاب ما زنى الا شقى.

و قد افتى بالمتعه جماعه من الصحابه و التابعين كعبد الله بن عباس، و عبدالله بن مسعود، و جابر بن عبدالله الانصارى، و سلمه بن الاكوع، و ابى سعيد الخدرى، و سعيد بن جبير، و مجاهد، و غير ما ذكرناه ممن يطول ذكره، فاما ساده اهل البيت (ع) و علماوهم فامرهم واضح فى الفتيا بها، كعلى بن الحسين زين العابدين، و ابى جعفر الباقر (ع)، و ابى عبدالله الصادق (ع)، و ابى الحسن موسى الكاظم، و على بن موسى الرضا (ع).

و ما ذكرنا من فتيا من اشرنا اليه من الصحابه بها يدل على اوضح بطلان ما ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها، لان مقامهم على الفتيا بها نكير.

فاما متعه الحج فقد فعلها النبى (ص) و الناس اجمع من بعده، و الفقهاء فى اعصارنا هذه لايرونها خطا بل صوابا.

فاما قول صاحب الكتاب: ان عمر انما ان
كر فسخ الحج فباطل، لان ذلك اولا لايسمى متعه، و لان ذلك ما فعل فى ايام النبى (ص)، و لافعله احد من المسلمين بعده، و انما هو من سنن الجاهليه، فكيف يقول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص)، و كيف يغلظ و يشدد فيما لم يفعل، و لافعل! قلت: لا شبهه ان الظاهر من كلام عمر اضافه النهى الى نفسه، لكنا يجب علينا ان نترك ظاهر اللفظ اذا علمنا من قائله ما يوجب صرف اللفظ عن الظاهر كما يعتمده كل احد فى القرائن المقترنه بالالفاظ، و المعلوم من حال عمر انه لم يكن يدعى انه ناسخ لشريعه الرسول (ص)، و انه كان متدينا بالاسلام و تابعا للرسول الذى جاء به، فوجب ان يحمل كلامه على انه اراد انهما كانتا ثم حرمتا، ثم انا الان اعاقب من فعلهما، لانه قد كان بلغه عن قوم من المسلمين بعد علمهم بالتحريم.

و قول المرتضى: لعله كان اعتقد ان الاباحه ايام رسول الله (ص) كانت مشروطه بشرط لم يوجد فى ايامه، قول يبطل طعنه فى عمر، و يمهد له عذرا و يصير المساله اجتهاديه.

و اما طعنه فى الاحتجاج على تصويب عمر بترك الانكار عليه و قوله: فهلا انكروا عليه قوله: لاارى احدا يستمتع الا رجمته، فليس بطعن مستقيم، و انما يكون طعنا صحيحا لو كان اتى بمتمتع فامر برجمه، فاما
ان ينكروا عليه وعيده و تهديده، لا لانسان معين، بل كلاما مطلقا، و قولا كليا يقصد به حسم الماده فى المتعه، و تخويف فاعلها، فانه ليس بمحل للانكار عليه، و ما زالت الائمه و الصالحون يتوعدون بامر ليس فى نفوسهم فعله، على طريق التاديب و التهذيب، على ان قوما من الفقهاء قد اوجبوا اقامه الحد على المتمتع، فلا يمتنع ان يكون عمر ذاهبا الى هذا المذهب.

فاما ما رواه عن اميرالمومنين (ع) و عن الطاهرين من اولاده، من تحليل المتعه، فلسنا فى هذا المقام نناكره فى ذلك و ننازعه فيها، و المساله فقهيه من فروع الشريعه، و ليس كتابنا موضوعا لذكره، و لا الموضع الذى نحن فيه يقتضى الحجاج فيها، و البحث فى تحليلها و تحريمها، و انما الموضع موضع الكلام فى حال عمر، و ما نقل عنه من الكلمه، هل يقتضى ذلك الطعن فى دينه ام لا؟ فاما متعه الحج فقد اعتذر لنفسه، و قال ما قدمنا ذكره، من ان الحج بهاء من بهاء الله، و ان التمتع يكسفه و يذهب نوره و رونقه، و انهم يظلون معرسين تحت الاراك، ثم يهلون بالحج و رئوسهم تقطر، و اذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مونه الاعتذار.

الطعن التاسع ما روى عنه من قصه الشورى، و كونه خرج بها عن الاختيار و النص جميعا، و انه ذم كل
واحد، بان ذكر فيه طعنا ثم اهله للخلافه بعد ان طعن فيه، و انه جعل الامر الى سته، ثم الى اربعه، ثم الى واحد، قد وصفه بالضعف و القصور، و قال: ان اجتمع على و عثمان فالقول ما قالاه، و ان صاروا ثلاثه و ثلاثه فالقول للذين فيهم عبدالرحمن، و ذلك لعلمه بان عليا و عثمان لايجتمعان، و ان عبدالرحمن لا يكاد يعدل بالامر عن ختنه و ابن عمه، و انه امر بضرب اعناقهم ان تاخروا عن البيعه فوق ثلاثه ايام، و انه امر بقتل من يخالف الاربعه منهم او الذين فيهم عبدالرحمن.

اجاب قاضى القضاه عن ذلك، فقال: الامور الظاهره لايجوز ان يعترض عليها باخبار غير صحيحه، و الامر فى الشورى ظاهر، و ان الجماعه دخلت فيها بالرضا، و لا فرق بين من قال فى احدهم: انه دخل فيها لا بالرضا و بين من قال ذلك فى جميعهم، و لذلك جعلنا دخول اميرالمومنين (ع) فى الشورى احد ما يعتمد عليه فى ان لانص يدل عليه، انه المختص بالامامه، لانه قد كان يجب عليه ان يصرح بالنص على نفسه، بل يحتاج الى ذكر فضائله و مناقبه، لان الحال حال مناظره، و لم يكن الامر مستقرا لواحد، فلايمكن ان يتعلق بالتقيه، و المتعالم من حاله انه لو امتنع من هذا الامر فى الشورى اصلا لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره، و معلو
م ان دلاله الفعل احسن من دلاله القول، من حيث كان الاحتمال فيه اقل، و المروى ان عبدالرحمن اخذ الميثاق على الجماعه بالرضا بمن يختاره، و لايجب القدح فى الافعال بالظنون، بل يجب حملها على ظاهر الصحه دون الاحتمال، كما يجب مثله فى غيرها، و يجب اذا تقدمت للفاعل حاله تقتضى حسن الظن به، ان يحمل فعله على ما يطابقها، و قد علمنا ان حال عمر و ما كان عليه من النصيحه للمسلمين، منع من صرف امره فى الشورى الى الاغراض التى يظنها اعداوه، فلايصح لهم ان يقولوا: كان مراده فى الشورى بان يجعل الامر الى الفرقه التى فيها عبدالرحمن عند الخلاف، ان يتم الامر لعثمان، لانه لو كان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه من النص على عثمان، كما لم يمنع ذلك ابابكر، لان امره ان لم يكن اقوى من امر ابى بكر لم ينقص عنه، و ليس ذلك بدعه، لانه اذا جاز فى غير الامام اذا اختار ان يفعل ذلك، بان ينظر فى اماثل القوم فيعلم انهم عشره، ثم ينظر فى العشره، فيعلم ان امثلهم خمسه، ثم ينظر فى واحد من الخمسه، فما الذى يمنع من مثله فى الامام، و هو فى هذا الباب اقوى اختيارا، لان له ان يختار واحدا بعينه! ثم ذكر انه انما حصره فى الجماعه الذين انتهى اليهم الفضل، و جعله شورى بينهم
، ثم بين ان الانتقال من السته الى الاربعه، و من الاربعه الى الثلاثه، لايكون متناقضا، لان الاقوال مختلفه، و ليست واحده، و لو كانت ايضا واحده لكان كالرجوع، و للامام ان يرجع فى مثل ذلك، لانه فى حكم الوصيه.

قال: و قولهم: انه كان يعلم ان عثمان و عليا لايجتمعان، و ان عبدالرحمن يميل الى عثمان، قله دين، لان الامور المستقبله، لاتعلم و انما يحصل فيها اماره.

قال: و الامارات توجب انه لم يكن فيهم حرص شديد على الامامه، بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق و الائتلاف و الاسترواح الى قيام الغير بذلك.

و انما جعل عمر الامر الى عبدالرحمن عند الاختلاف، لعلمه بزهده فى الامر، و انه لاجل ذلك اقرب ان يتثبت، لان الراغب عن الشى ء يحصل له من التثبت ما لايحصل للراغب فيه، و من كانت هذه حاله كان القوم الى الرضا به اقرب.

و حكى عن ابى على ان المخادعه انما تظن بمن قصده فى الامور طريق الفساد، و عمر برى ء من ذلك.

قال: و الضعف الذى وصف به عبدالرحمن، انما اراد به الضعف عن القيام بالامامه، لا ضعف الراى، و لذلك رد الاختيار و الراى اليه.

و حكى عن ابى على ضعف ما روى من امره بضرب اعناق القوم اذا تاخروا عن البيعه، و ان ذلك لو صح لانكره القوم، و لم يدخلوا ف
ى الشورى بهذا الشرط، ثم تاوله اذ سلم صحته، على انهم ان تاخروا عن البيعه على سبيل شق العصا و طلب الامر من غير وجهه.

و قال: و لايمتنع ان يقول ذلك على طريق التهديد، و ان بعد عنده ان يقدموا عليه، كما قال تعالى: (لئن اشركت ليحبطن عملك).

اعترض المرتضى هذا الكلام، فقال: ان الذى رتبه عمر فى قصه الشورى، من ترتيب العدد و اتفاقه و اختلافه، يدل اولا على بطلان مذهب اصحاب الاختيار فى عدد العاقدين للامامه، و انه يتم بعقد واحد لغيره برضا اربعه، و انه لا يتم بدون ذلك، فان قصه الشورى تصرح بخلاف هذا الاعتبار، فهذا احد وجوه المطاعن فيها.

و من جملتها انه وصف كل واحد منهم بوصف زعم انه يمنع من الامامه، ثم جعل الامر فيمن له تلك الاوصاف، و قد روى محمد بن سعد، عن الواقدى، عن محمد بن عبدالله الزهرى، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبه، عن ابن عباس، قال: قال عمر: لاادرى ما اصنع بامه محمد (ص)؟ و ذلك قبل ان يطعن فقلت: و لم تهتم و انت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: اصاحبكم؟ يعنى عليا، قلت: نعم، هو لها اهل فى قرابته من رسول الله (ص)، و صهره و سابقته و بلائه، قال: ان فيه بطاله و فكاهه، فقلت: فاين انت من طلحه؟ قال: فاين الزهو و النخوه! قلت: عبدالرحمن
؟ قال: هو رجل صالح على ضعف فيه، قلت: فسعد، قال: ذاك صاحب مقنب و قتال لايقوم بقريه لو حمل امرها، قلت: فالزبير، قال: وعقه لقس مومن الرضا، كافر الغضب، شحيح، و ان هذا الامر لايصلح الا لقوى فى غير عنف، رفيق فى غير ضعف، و جواد فى غير سرف، قلت: فاين انت من عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بنى ابى معيط على رقاب الناس، و لو فعلها لقتلوه.

و قد يروى من غير هذا الطريق ان عمر قال لاصحاب الشورى: روحوا الى، فلما نظر اليهم قال: قد جائنى كل واحد منهم يهز عفريته، يرجو ان يكون خليفه، اما انت يا طلحه، افلست القائل: ان قبض النبى (ص) انكح ازواجه من بعده؟ فما جعل الله محمدا احق ببنات اعمامنا منا، فانزل الله تعالى فيك: (و ما كان لكم ان توذوا رسول الله و لا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابدا).

و اما انت يا زبير، فو الله ما لان قلبك يوما و لا ليله.

و ما زلت جلفا جافيا، و اما انت يا عثمان، فو الله لروثه خير منك، و اما انت يا عبدالرحمن، فانك رجل عاجز تحب قومك جميعا، و اما انت يا سعد، فصاحب عصبيه و فتنه، و اما انت يا على، فو الله لو وزن ايمانك بايمان اهل الارض لرجحهم، فقام على موليا يخرج، فقال عمر: و الله انى لاعلم مكان رجل لو وليتموه امركم لحملكم
على المحجه البيضاء، قالوا: من هو؟ قال: هذا المولى من بينكم، قالوا: فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس الى ذلك سبيل.

و فى خبر آخر، رواه البلاذرى فى تاريخه، ان عمر لما خرج اهل الشورى من عنده، قال: ان ولوها الاجلح سلك بهم الطريق، فقال عبدالله بن عمر: فما يمنعك منه يا اميرالمومنين؟ قال: اكره ان اتحملها حيا و ميتا.

فوصف كما ترى كل واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الامامه، ثم جعلها فى جملتهم، حتى كان تلك الاوصاف تزول فى حال الاجتماع، و نحن نعلم ان الذى ذكره ان كان مانعا من الامامه فى كل واحد على الانفراد، فهو مانع من الاجتماع، مع انه وصف عليا (ع) بوصف لايليق به، و لا ادعاه عدو قط، بل هو معروف بضده، من الركانه و البعد عن المزاح و الدعابه، و هذا معلوم ضروره لمن سمع اخباره (ع)، و كيف يظن به ذلك، و قد روى عن ابن عباس انه قال: كان اميرالمومنين على (ع) اذا اتى هبنا ان نبتدئه بالكلام، و هذا لايكون الا من شده التزمت و التوقر، و ما يخالف الدعابه و الفكاهه.

و مما تضمنته قصه الشورى من المطاعن، انه قال: لااتحملها حيا و ميتا، و هذا ان كان عله عدوله عن النص الى واحد بعينه، فهو قول متلمس متخلص، لايفتات على الناس فى آرائهم، ثم نقض هذا بان
نص على سته من بين العالم كله، ثم رتب العدد ترتيبا مخصوصا، يوول الى ان اختيار عبدالرحمن هو المقدم، و اى شى ء يكون من التحمل اكثر من هذا! و اى فرق بين ان يتحملها، بان ينص على واحد بعينه، و بين ان يفعل ما فعله من الحصر و الترتيب! و من جمله المطاعن انه امر بضرب الاعناق ان تاخروا عن البيعه اكثر من ثلاثه ايام، و معلوم انهم بذلك لايستحقون القتل، لانهم اذا كانوا انما كلفوا ان يجتهدوا آرائهم فى اختيار الامام، فربما طال زمان الاجتهاد، و ربما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض، فاى معنى للامر بالقتل اذا تجاوزوا الايام الثلاثه! ثم انه امر بقتل من يخالف الاربعه، و من يخالف العدد الذى فيه عبدالرحمن، و كل ذلك مما لايستحق به القتل.

فاما تضعيف ابى على لذكر القتل فليس بحجه، مع ان جميع من روى قصه الشورى روى ذلك، و قد روى الطبرى (ذلك) فى تاريخه و غيره.

فاما تاوله الامر بالقتل على ان المراد به اذا تاخروا على طريق شق العصا، و طلب الامر من غير وجهه، فبعيد من الصواب، لانه ليس فى ظاهر الخبر ذلك، و لانهم اذا شقوا العصا، و طلبوا الامر من غير وجهه من اول يوم، وجب ان يمنعوا و يقاتلوا، فاى معنى لضرب الايام الثلاثه اجلا! فاما تعلقه بالتهديد،
فكيف يجوز ان يتهدد الانسان على فعل بما لايستحقه، و ان علم انه لايعزم عليه! فاما قوله تعالى: (لئن اشركت ليحبطن عملك)، فيخالف ما ذكر، لان الشرك يستحق به احباط الاعمال، و ليس يستحق بالتاخير عن البيعه القتل.

فاما ادعاء صاحب الكتاب ان الجماعه دخلوا فى الشورى على سبيل الرضا، و ان عبدالرحمن اخذ عليهم العهد ان يرضوا بما يفعله، فمن قرا قصه الشورى على وجهها، و عدل عما تسوله النفس من بناء الاخبار على المذاهب، علم ان الامر بخلاف ما ذكر.

و قد روى الطبرى فى تاريخه عن اشياخه من طرق مختلفه، ان اميرالمومنين (ع) قال حين خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعه بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من بنى هاشم: ان طمع فيكم قومكم لم تومروا ابدا.

و تلقاه العباس بن عبدالمطلب، فقال: يا عم عدلت عنا! قال: و ما علمك؟ قال: قرن بى عثمان، و قال: كونوا مع الاكثر، و ان رضى رجلان رجلا، و رجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن، فسعد لايخالف ابن عمه عبدالرحمن، و عبدالرحمن صهر عثمان لايختلفان، فيوليها عبدالرحمن عثمان، او يوليها عثمان عبدالرحمن، فلو كان الاخران معى لم ينفعانى بله انى لاارجو الا احدهما.

فقال له العباس: لم ادفعك عن شى ء الا رجعت الى مستاخرا!اشرت عليك عند وفاه رسول الله (ص) ان تساله فيمن هذا الامر؟ فابيت، و اشرت عليك عند وفاته ان تعاجل الامر فابيت، و اشرت عليك حين سماك عمر فى الشورى الا تدخل معهم، فابيت! فاحفظ على واحده، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، الا ان يولوك، و احذر هولاء الرهط، فانهم لايبرحون يدفعوننا عن هذا الامر، حتى يقوم لنا به غيرنا و غيرهم، و ايم الله لاتناله الا بشر لاينفع معه خير.

فقال على (ع): اما و الله لئن بقى عمر لاذكرنه ما اتى الينا، و لئن مات ليتداولنها بينهم، و لئن فعلوا ليجدننى حيث يكرهون، ثم تمثل: حلفت برب الراقصات عشيه غدون خفافا فابتدرن المحصبا ليحتلبن رهط ابن يعمر مارئا نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا فالتفت فراى اباطلحه الانصارى فكره مكانه، فقال ابوطلحه: لاترع اباحسن.

قال المرتضى: فان قال قائل: اى معنى لقول العباس: انى دعوتك الى ان تسال رسول الله (ص) فيمن هذا الامر من قبل وفاته؟ اليس هذا مبطلا لما تدعونه من النص! قلنا: غير ممتنع ان يريد العباس سواله عمن يصير الامر اليه، و ينتقل الى يديه، لانه قد يستحقه من لايصل اليه، و قد يصل الى من لايستحقه، و ليس يمتنع ان يريد: انما كنا نساله (ص) اعاده النص قبل الموت، ليتجدد و يتاك
د، و يكون لقرب العهد اليه بعيدا من ان يطرح.

فان قيل: اليس قد انكرتم على صاحب الكتاب من التاويل بعينه فيما استعمله من الروايه عن ابى بكر من قوله: ليتنى كنت سالت رسول الله (ص) هل للانصار فى هذا الامر حق؟ قلنا: انما انكرناه فى ذلك الخبر، لانه لايليق به من حيث قال، فكنا لا ننازعه اهله، و هذا قول من لاعلم له بانه ليس للانصار حق فى الامامه، و من كان يرجع فى ان لهم حقا فى الامر او لا حق لهم فيه، الى ما يسمعه مستانفا، و ليس هذا فى الخبر الذى ذكرناه.

و روى العباس بن هشام الكلبى، عن ابيه، عن جده، فى اسناده، ان اميرالمومنين (ع) شكا الى العباس ما سمع من قول عمر: كونوا مع الثلاثه الذين فيهم عبدالرحمن ابن عوف، و قال: و الله لقد ذهب الامر منا، قال: و كيف قلت ذلك يابن اخى! قال: ان سعدا لايخالف ابن عمه عبدالرحمن، و عبدالرحمن نظير عثمان و صهره، فاحدهما يختار لصاحبه لا محاله، و ان كان الزبير و طلحه معى، فلن انتفع بذلك اذا كان ابن عوف فى الثلاثه الاخرين.

قال ابن الكلبى: عبدالرحمن زوج ام كلثوم بنت عقبه بن ابى معيط، و امها اروى بنت كريز، و اروى ام عثمان، فلذلك قال: صهره.

و فى روايه الطبرى ان عبدالرحمن دعا عليا (ع)، فقال: عليك عهد
الله و ميثاقه لتعملن بكتاب الله و سنه رسوله، و سيره الخليفتين؟ فقال: ارجو ان افعل و اعمل بمبلغ علمى و طاقتى.

و فى خبر آخر عن ابى الطفيل، ان عبدالرحمن قال لعلى (ع): هلم يدك خذها بما فيها، على ان تسير فينا بسيره ابى بكر و عمر، فقال: آخذها بما فيها، على ان اسير فيكم بكتاب الله و سنه نبيه جهدى.

فترك يده، و قال: هلم يدك يا عثمان، اتاخذها بما فيها على ان تسير فينا بسيره ابى بكر و عمر؟ قال: نعم، قال هى لك يا عثمان.

و فى روايه الطبرى انه قال لعثمان مثل قوله لعلى، فقال: نعم، فبايعه، فقال على (ع): ختونه حنت دهرا.

و فى خبر آخر: نفعت الختونه يابن عوف! ليس هذا اول يوم تظاهرتم فيه علينا! (فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون)، و الله ما وليت عثمان الا ليرد الامر اليك، و الله كل يوم هو فى شان.

و فى غير روايه الطبرى ان عبدالرحمن قال له: لقد قلت ذلك لعمر، فقال (ع): اولم يكن ذلك كما قلت! و روى الطبرى ان عبدالرحمن قال: لاتجعلن يا على على نفسك سبيلا، فانى نظرت و شاورت الناس، فاذا هم لايعدلون بعثمان، فقام على (ع)، و هو يقول: سيبلغ الكتاب اجله.

و فى روايه الطبرى ان الناس لما بايعوا عثمان تلكا على (ع)، فقال عثمان: (فمن نكث فانما
ينكث على نفسه و من اوفى بما عاهد عليه الله فسيوتيه اجرا عظيما).

فرجع على (ع) حتى بايعه، و هو يقول: خدعه و اى خدعه! و روى البلاذرى فى كتابه، عن ابن الكلبى، عن ابيه، عن ابى مخنف، فى اسناد له، ان عليا (ع) لما بايع عبدالرحمن عثمان كان قائما، فقال له عبدالرحمن: بايع و الا ضربت عنقك، و لم يكن يومئذ مع احد سيف غيره، فخرج على مغضبا، فلحقه اصحاب الشورى، فقالوا له: بايع و الا جاهدناك.

فاقبل معهم يمشى حتى بايع عثمان.

قال المرتضى: فاى رضا هاهنا، و اى اجماع! و كيف يكون مختارا من تهدد بالقتل و بالجهاد! و هذا المعنى و هو حديث ضرب العنق لو روته الشيعه لتضاحك المخالفون منه و تغامزوا، و قالوا: هذا من جمله ما تدعونه من المحال، و تروونه من الاحاديث، و قد انطق الله به رواتهم، و اجراه على افواه ثقاتهم، و لقد تكلم المقداد فى ذلك اليوم بكلام طويل، يفند فيه ما فعلوه من بيعه عثمان، و عدولهم بالامر عن اميرالمومنين الى ان قال له عبدالرحمن: يا مقداد، اتق الله، فانى خائف عليك الفتنه.

ثم ان المقداد قام فاتى عليا، فقال: اتقاتل فنقاتل معك؟ فقال على: فبمن اقاتل! و تكلم ايضا عمار- فيما رواه ابومخنف- فقال: يا معشر قريش، اين تصرفون هذا الامر عن
بيت نبيكم؟ تحولونه هاهنا مره و هاهنا مره! اما و الله ما انا بامن ان ينزعه الله منكم فيضعه فى غيركم كما انتزعتموه من اهله، و وضعتموه فى غير اهله.

فقال له هشام بن الوليد: يابن سميه، لقد عدوت طورك، و ما عرفت قدرك، و ما انت و ما راته قريش لانفسها انك لست فى شى ء من امرها و امارتها، فتنح عنها.

و تكلمت قريش باجمعها، و صاحت بعمار و انتهرته، فقال: الحمد لله ما زال اعوان الحق قليلا.

روى ابومخنف ايضا ان عمارا قال هذا البيت ذلك اليوم: يا ناعى الاسلام قم فانعه قد مات عرف و اتى منكر! اما و الله لو ان لى اعوانا لقاتلتهم، و قال اميرالمومنين (ع): لئن قاتلتهم بواحد لاكونن ثانيا، فقال: و الله ما اجد عليهم اعوانا، و لااحب ان اعرضكم لما لاتطيقون.

و روى ابومخنف، عن عبدالرحمن بن جندب، عن ابيه، قال: دخلت على على (ع)، و كنت حاضرا بالمدينه يوم بويع عثمان، فاذا هو واجم كئيب، فقلت: ما اصاب قوم صرفوا هذا الامر عنكم! فقال صبر جميل! فقلت: سبحان الله! انك لصبور! قال: فاصنع ماذا؟ قلت: تقوم فى الناس خطيبا فتدعوهم الى نفسك، و تخبرهم انك اولى بالنبى (ص) بالعمل و السابقه، و تسالهم النصر على هولاء المتظاهرين عليك، فان اجابك عشره من مائه شدد
ت بالعشره على المائه، فان دانوا لك كان ما احببت، و ان ابوا قاتلتهم، فان ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه نبيه (ص)، و كنت اولى به منهم اذ ذهبوا بذلك، فرده الله اليك، و ان قتلت فى طلبه فقتلت شهيدا، و كنت اولى بالعذر عند الله تعالى فى الدنيا و الاخره.

فقال (ع): او تراه كان تابعى من كل مائه عشره! قلت: لارجو ذلك، قال: لكنى لاارجو و لا و الله من المائه اثنين، و ساخبرك من اين ذلك! ان الناس انما ينظرون الى قريش، فيقولون: هم قوم محمد (ص) و قبيلته، و ان قريشا تنظر الينا فتقول: ان لهم بالنبوه فضلا على سائر قريش، و انهم اولياء هذا الامر دون قريش و الناس، و انهم ان ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم الى احد ابدا، و متى كان فى غيرهم تداولتموه بينكم، فلا و الله لاتدفع قريش الينا هذا السلطان طائعه.

ابدا.

قلت: افلا ارجع الى المصر فاخبر الناس بمقالتك هذه، و ادعو الناس اليك! فقال: يا جندب، ليس هذا زمان ذلك، فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل على زبرونى و نهرونى، حتى رفع ذلك من امرى للوليد بن عقبه، فبعث الى فحبسنى.

قال: و هذه الجمله التى اوردناها قليل من كثير، فى ان الخلاف كان واقما، و الرضا كان مرتفعا، و الامر انما تم بالحيله و المكر
و الخداع، و اول شى ء مكر به عبدالرحمن انه ابتدا فاخرج نفسه من الامر، ليتمكن من صرفه الى من يريد، و ليقال: انه لو لا ايثاره الحق، و زهده فى الولايه لما اخرج نفسه منها، ثم عرض على اميرالمومنين (ع) ما يعلم انه لايجيب اليه، و لا تلزمه الاجابه اليه، من السير فيهم بسيره الرجلين، و علم انه (ع) لايتمكن من ان يقول: ان سيرتهما لا تلزمنى، لئلا ينسب الى الطعن عليهما.

و كيف يلزم سيرتهما، و كل واحد منهما لم يسر بسيره الاخر! بل اختلفا و تباينا فى كثير من الاحكام، هذا بعد ان قال لاهل الشورى: وثقوا الى من انفسكم بانكم ترضون باختيارى اذا اخرجت نفسى، فاجابوه- على ما رواه ابومخنف باسناده- الى ما عرض عليهم، الا اميرالمومنين (ع)، فانه قال: انظر، لعلمه بما يجر هذا المكر، حتى اتاهم ابوطلحه، فاخبره عبدالرحمن بما عرض و ما جاء به القوم اياه الا عليا، فاقبل ابوطلحه على على (ع)، فقال: يا اباالحسن، ان ابامحمد ثقه لك و للمسلمين، فما بالك تخافه و قد عدل بالامر عن نفسه، فلن يتحمل الماثم لغيره! فاحلف على (ع) عبدالرحمن بما عرض الا يميل الى الهوى و ان يوثر الحق و يجتهد للامه، و لايحابى ذا قرابه، فحلف له، و هذا غايه ما يتمكن منه اميرالمومنين (ع)
فى الحال، لان عبدالرحمن لما اخرج نفسه من الامر، و ظنت به الجماعه الخير، و فوضت اليه الاختيار لم يقدر اميرالمومنين (ع) على ان يخالفهم و ينقض ما اجتمعوا عليه، فكان اكثر ما تمكن منه ان احلفه، و صرح بما يخافه من جهته، من الميل الى الهوى، و ايثار القرابه، غير ان ذلك كله لم يغن شيئا! قال: و اما قول صاحب الكتاب: ان دخوله فى الشورى دلاله على انه لا نص عليه بالامامه، و لو كان عليه نص لصرح به فى تلك الحال، و كان ذكره اولى من ذكر الفضائل و المناقب، فان المانع من ذكر النص كونه يقتضى تضليل من تقدم عليه و تفسيقهم، و ليس كذلك تعديد المناقب و الفضائل.

و اما دخوله (ع) فى الشورى، فلو لم يدخل فيها الا ليحتج بما احتج به من مقاماته و فضائله و درايته و وسائله الى الامامه و بالاخبار الداله عندنا عليها على النص و الاشاره بالامامه اليه، لكان غرضا صحيحا، و داعيا قويا.

و كيف لايدخل فى الشورى و عندهم ان واضعها قد احسن النظر للمسلمين، و فعل ما لم يسبق اليه من التحرز للدين! فاول ما كان يقال له لو امتنع منها: انك مصرح بالطعن على واضعها و على جماعه المسلمين بالرضا بها، و ليس طعنك الا لانك ترى ان الامر لك، و انك احق به! فيعود الامر الى ما ك
ان (ع) يخافه، من تفرق الكلمه و وقوع الفتنه.

قال: و فى اصحابنا القائلين بالنص من يقول: انه (ع) انما دخل فى الشورى لتجويزه ان ينال الامر منها، و عليه ان يتوصل الى ما يلزمه القيام به من كل وجه يظن ان يوصله اليه.

قال: و قول صاحب الكتاب ان التقيه لايمكن ان يتعلق بها، لان الامر لم يكن استقر لواحد طريف، لان الامر و ان لم يكن فى تلك الحال مستقرا لاحد، فمعلوم ان الاظهار بما يطعن فى المتقدمين من ولاه الامر لايمكن منه، و لايرضى به، و كذلك الخروج مما يتفق اكثرهم عليه، و يرضى جمهورهم به، و لايقرون احدا عليه، بل يعدونه شذوذا عن الجماعه، و خلافا على الامه.

فاما قوله: ان الافعال لا يقدح فيها بالظنون، بل يجب ان تحمل على ظاهر الصحه، و ان الفاعل اذا تقدمت له حاله تقتضى حسن الظن به، يجب ان تحمل افعاله على ما يطابقها، فانا متى سلمنا له بهذه المقدمه لم يتم قصده فيها، لان الفعل اذا كان له ظاهر وجب ان يحمل على ظاهره، الا بدليل يعدل بنا عن ظاهره، كما يجب مثله فى الالفاظ، و قد بينا ان ظاهر الشورى و ما جرى فيها، يقتضى ما ذكرناه للامارات اللائحه، و الوجوه الظاهره، فما عدلنا عن ظاهر الى محتمل، بل المخالف هو الذى يسومنا ان نعدل عن الظاهر
، فاما الفاعل و ما تقدم له من الاحوال، فمتى تقدم للفاعل حاله تقتضى ان يظن به الخير من غير علم و لايقين، فلا بد ان يوثر فيها، و يقدح ان يرى له حاله اخرى تقتضى ظن القبيح به، لدلاله ظاهرها على ذلك و ليس لنا ان نقضى بالاولى على الثانيه، و هما جميعا مظنونتان، لان ذلك بمنزله ان يقول قائل: اقضوا بالثانيه على الاولى، و ليس كذلك اذا تقدمت للفاعل حاله تقتضى بالخير منه، ثم تليها حاله تقتضى ظن القبيح به، لانا حينئذ نقتضى بالعلم على الظن، و نبطل حكمه لمكان العلم، و اذا صحت هذه الجمله فما تقدمت لمن ذكر حاله تقتضى العلم بالخير، و انما تقدم ما يقتضى حسن الظن، فليس لنا الا نسى ء الظن به عند ظهور امارات سوء الظن، لان كل ذلك مظنون غير معلوم.

و قوله: لو اراد ذلك ما منعه من ان ينص على عثمان مانع، كما لم يمنع ذلك ابابكر من النص عليه، فليس بشى ء، لانه قد فعل ما يقوم مقام النص على من اراد ايصاله اليه، و صرفه عمن اراد ان يصرفه عنه، من غير شناعه التصريح، و حتى لا يقال فيه ما قيل فى ابى بكر، و يراجع فى قصته كما روجع ابوبكر، و لم يتعسف ابعد الطريقين و غرضه يتم من اقربهما! قال: فاما بيان صاحب الكتاب ان الانتقال من السته الى الاربعه فى ا
لشورى، و من الاربعه الى الثلاثه، لايكون تناقضا، فهو رد على من زعم ان ذلك تناقض، و ليس من هذا الوجه طعنا، بل قد بينا وجوه المطاعن و فصلناها.

و اما قوله: ان الامور المستقبله لاتعلم، و انما يحصل فيها اماره ردا على من قال: ان عمر كان يعلم ان عليا (ع) و عثمان لايجتمعان، و ان عبدالرحمن يميل الى عثمان، فكلام فى غير موضعه، لان المراد بذلك الظن لا العلم، و ان عبر عن الظن بالعلم على طريقه فى الاستعمال معروفه، لايتناكرها المتكلمون.

و لعل صاحب الكتاب قد استعمل العلم فى موضع الظن فيما لايحصى كثره من كتابه هذا و غيره، و قد بينا فيما ذكرناه من روايه الكلبى عن ابى مخنف، ان اميرالمومنين (ع) اول من سبق الى هذا المعنى فى قوله للعباس شاكيا اليه: ذهب و الله الامر منا، لان سعدا لايخالف ابن عمه عبدالرحمن و عبدالرحمن صهر عثمان، فاحدهما مختار لصاحبه لا محاله، و ان كان الزبير و طلحه معى، فلن انتفع بذلك اذا كان ابن عوف فى الثلاثه الاخرين.

فاما قوله: ان عبدالرحمن كان زاهدا فى الامر، و الزاهد اقرب الى التثبت، فقد بينا وجه اظهاره الزهد فيه، و انه جعله الذريعه الى مراده.

فاما قول صاحب الكتاب: ان الضعف الذى وصفه به انما اراد به الضعف عن الق
يام بالامامه لاضعف الراى، فهب ان الامر كذلك، اليس قد جعله احد من يجوز ان يختار للامامه، و يفوض اليه مع ضعفه عنها! و هذا بمنزله ان يصفه بالفسق، ثم يدخله فى جمله القوم، لان الضعف عن الامامه مانع منها، كما ان الفسق كذلك.

قلت الكلام فى الشورى و المطاعن فيها طويل جدا، و قد ذكرت من ذلك فى كتبى الكلاميه و تعليقاتى ما قاله الناس و ما لم اسبق اليه، و لايحتمل هذا الكتاب الاطاله باستقصاء ذلك، لانه ليس بكتاب حجاج و نظر، و لكنى اذكر منه نكتا يسيره، فاقول: ان كانت افعال عمر و اقواله قد تناقضت فى واقعه الشورى- كما زعم المرتضى رحمه الله- فكذلك افعال اميرالمومنين- ان كان منصوصا عليه كما تقوله الاماميه- قد تناقضت ايضا.

اما اولا فان كان منصوصا عليه، فكيف ادخل نفسه فى الشورى المبنيه على صحه الاختيار و عدم النص! اليس هذا ايهاما ظاهرا لاكثر المسلمين، خصوصا الضعفه منهم، و من لانظر له فى دقائق الامور عنده انه غير منصوص عليه! فكيف يجوز له اضلال المكلفين و ان يوقع فى نفوسهم عدم النص مع كون النص كان حاصلا! و اما عذر المرتضى عن هذا، بانه دخل فى الشورى، ليتمكن من الاحتجاج على اهل الشورى بمقاماته و فضائله، فيقال له: قد كان الدهر الاطول م
خالطا لاهل الشورى و غيرهم، مجتمعا معهم فى المسجد و غيره من مواطن كل يوم بل كل ساعه، فلايجوز ان يقال: دخل ليضمه و اياهم او يظلهم سقف، فيتمكن بذلك من ذكر مقاماته و فضائله بينهم، لان العاقل لايجوز ان يرتكب امرا يوهم القبيح، ليفعل فعلا قد كان من قبله بثلاث عشره سنه متمكنا من ان يفعله من غير ان يرتكب ذلك الامر الموهم للقبيح، و ليت شعرى من الذى كان يمنعه ايام ابى بكر و عمر من ان يذكر مقاماته و فضائله و يفتخر بها! و لم انفك (ع) من ذكر فضائله و الفخر بمناقبه فى تلك المده الطويله و قد كان عمر و هو المعروف المشهور بالغلظه و الفظاظه يذكر فضائله و يعترف بها! فلست ارى لعذر المرتضى اصلا بهذا الوجه او معنى! فاما عذره الثانى عن دخوله فى الشورى بقوله: لو لم يدخل فيها لقيل له: انك قد طعنت على واضع الشورى، و ليس ذلك الا لانك ترى الامر لك، فليس بعذر جيد، لانه لو امتنع من الدخول فيها على وجه الزهد و قله الالتفات الى الولايه و الاعراض عن السلطان و الامره لما نسبه احد الى ما ذكره المرتضى اصلا، و لقال الناس: رجل زاهد لايريد الدنيا، و لايرغب فى الرياسه، ثم ما المانع من ان يقول لعمر و هو حى: نشدتك الله لاتدخلنى فيها، فانى لااريدها و
لا اوثرها! اتراه كان فى جواب هذا الكلام يامر بقتله، و يقول له: انما امتناعك لانك تدعى ان رسول الله (ص) نص عليك، فلا ترى اخذ الامر من جهتى و توليه من طريقى، و انما تريده بمحض النص الاول لا غير! ما اظن ان عاقلا يخطر له ان ذلك كان يكون، فهذا العذر بارد لا معنى له كالعذر الاول! فاما عذره الثالث، و هو قوله: انه كان يجب عليه ان يتوصل الى القيام بالامر بكل طريق، لانه يلزمه القيام به، فعذر جيد لا باس به.

و اما ثانيا فيقال للمرتضى: هب انا نزلنا عن الدخول فى الشورى، هلا عرض للجماعه و هم مجتمعون، و هو يعد لهم مناقبه و فضائله بذكر النص، و ذلك بان يكنى عنه كنايه لطيفه، فيقول لهم: قد كان من رسول الله (ص) بالامس فى حقى ما تعلمون! اتراهم كانوا فى جواب هذه الكلمه يقتلونه! ما اظن انهم كانوا يجتمعون على ذلك.

و لا بد لو عرض بشى ء من ذلك كان من كلام يدور بينهم فى المعنى، نحو ان يقولوا: ان ذلك النص رجع عنه رسول الله (ص)، او يقولوا: راى المسلمون تركه للمصلحه، او يجرى بينه و بينهم جدال و نزاع، و لم يكن هناك خليفه يخاف جانبه، و انما كان مجلس مناظره و بحث، و لم يستقر الامر لاحد.

و قول المرتضى: انه و ان كان كذلك، الا انهم كانوا لايرضون
ان يطعن فى المتقدمين منهم، و يكرهون منه ذلك، و لايقرونه عليه، و يعدونه شذوذا له عن الجماعه، و خلافا للامه قول صحيح، اذا كان القائل يقوله على وجه شق العصا و المنابذه، و كشف القناع، و اذا قاله على وجه الاستعطاف لهم، و الاذكار بما عساهم نسوه، و حسن التلطف و الرفق بهم، و الاستماله لهم، و تذكيرهم حقوق رسول الله (ص)، و ميثاقه الذى واثقهم به، فانه لايقع منهم فى مقابله ذلك قتله، و لاقطع عضو من اعضائه، و لا اقامه الحد عليه.

و اقصى ما فى الباب انهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه، و يجيبونه بجواب يناسب جوابه، و يدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع، ان كانوا مقيمين على الاصرار على غصب الحق منه.

و اما ثالثا، فان كان (ع)- كما تقوله الاماميه- منصوصا عليه، فما الذى منعه لما قال له عبدالرحمن: ابايعك على ان تسير فينا بسيره الشيخين، ان يقول: نعم! فانه لو قال: نعم، لبايعه عبدالرحمن، و وصل الى الامر الذى يلزمه القيام به، و الى الحال التى كان يتوصل بكل طريق الى الوصول اليها.

و قول المرتضى: ان سيرتهما كانت مختلفه، لان احدهما حكم بكثير مما حكم الاخر بضده ليس بجيد، لان السيره التى كان عبدالرحمن يطلبها ذلك اليوم، هو الامر الكلى
فى اياله الرعيه و سياستهم، و جبايه الفى ء، و ظلف الوالى نفسه و اهله عنه و صرفه الى المسلمين، و رم الامور، و جمع العمال، و قهر الظلمه و انصاف المظلومين، و حمايه البيضه، و تسريب الجيوش الى بلاد الشرك، هذه هى السيره التى كان عبدالرحمن يشترطها، و هى التى طلبها الناس بعد ذلك، فقالوا لمعاويه فى آخر ايامه، و لعبدالملك و لغيرهما و صاحوا بهم تحت المنابر: نطلب سيره العمرين، و لم يريدوا فى الاحكام و الفتاوى الشرعيه، نحو القول فى الجد مع الاخوه، و القول فى الكلاله، و القول فى امهات الاولاد، فما اعلم الذى منع اميرالمومنين (ع) من ان يقول لعبدالرحمن: نعم، فياخذها! ثم كان اذا اخذها اقدر الناس على هذه السيره، و اقواهم عليها.

فوا عجبا! بينا هو يطلب الخلافه اشد الطلب، فاذا هو ناكص عنها، و قد عرضت عليه على امر هو قيم به! و لهذا كان الراى عندى ان يدخل فيها حينئذ، و من الذى كان يناظره بعد ذلك و يجادله، فيقول: قد اخللت بشى ء من سيره ابى بكر و عمر! كلا ان السيف لضاربه، و الامر لمالكه، و الرعيه اتباع، و الحكم لصاحب السلطان منهم! و من العجب ان يقول المرتضى: انه لاجل التقيه وافق على الرضا بالشورى! فهلا اتقى القوم، و قد ذكروا له سيره ا
لشيخين فاباها و كرهها! و من كان يخاف على نفسه ان لو اظهر الزهد فى الخلافه و الرغبه عن الدخول فى امر الشورى! كيف لم يخف على نفسه، و قد ذكرت له سيره الشيخين فتركها، و لم يوافق عليها، و قال: لا بل على ان اجتهد رايى! و اما قول المرتضى: انه وصف القوم بصفات تمنع من الامامه، ثم عينهم للامامه، فنقول فى جوابه: ان تلك الصفات لاتمنع من الامامه بالكليه، بل هى صفات تنقص فى الجمله، اى لو لم تكن هذه الصفات فيهم، لكانوا اكمل، الا ترى انه قال فى عبدالرحمن: رجل صالح على ضعف فيه! فذكر ان فيه ضعفا يسيرا، لانه لو كان يرى ضعفه مانعا من الامامه لقال: ضعيف عنها جدا، او لايصلح لها لضعفه.

و كذلك قوله فى اميرالمومنين: فيه فكاهه، لان ذلك لايمنع من الامامه، و لا زهو طلحه و نخوته، و لا ما وصف به الزبير من انه شديد السخط وقت غضبه، و انه بخيل، و لا توليه الاقارب على رقاب الناس اذا لم يكونوا فساقا و اقوى عيب ذكره ما عاب به سعدا فى قوله: صاحب مقنب و قتال، لايقوم بقريه لو حمل امرها.

و يجوز ان يكون قال ذلك على سبيل المبالغه فى استصلاحه، لان يكون صاحب جيش يقاتل به بين يدى الامام، و انه ليس له دربه و نظر فى تدبير البلاد و الاطراف، و جبايه امواله
ا، الا تراه كيف قال: لايقوم بقريه! و يجوز ان يلى الخلافه من هذه حاله، و يستعين فى امر العباد و البلاد و جبايه الاموال بالكفاه الامناء.

فاما الروايه الاخرى التى قال فيها لعثمان: لروثه خير منك! فهى من روايات الشيعه، و لسنا نعرفها من كتب غيرهم.

فاما قوله: كيف قال: لااتحملها حيا و ميتا، فحصر الخلافه فى العدد المخصوص، ثم رتبها ذلك الترتيب، الى ان آلت الى (اختيار) عبدالرحمن وحده! فنقول فى جوابه: انه كان يحب الا يستقل وحده بامر الخلافه، و ان يشاركه فى ذلك غيره من صلحاء المهاجرين، ليكون اعذر عند الله تعالى و عند الناس، و اذا كان قد وضع الشورى على ذلك الوضع المخصوص، فلم يتحملها استقلالا، بل شركه فيها غيره، فهو اقل، لتحمله امرها لو كان عين على واحد بعينه.

و اما حديث القتل، فليس مراده الا شق العصا، و مخالفه الجماعه، و التوثب على الامر مغالبه.

و قول المرتضى: لو كان ذلك من اول يوم لوجب ان يمنع فاعله و يقاتل، فاى معنى لضرب الايام الثلاثه اجلا! فانه يقال له: ان الاجل المذكور لم يضرب لقتل من يشق العصا، و انما ضرب لابرامهم الامر و فصله قبل ان تتطاول الايام بهم، و يتسامع من بعد عن دار الهجره ان الخليفه قد قتل، و انهم مضطربون ا
لى الان، لم يقيموا لانفسهم خليفه بعده، فيطمع اهل الفساد و الدعاره، و لايومن وقوع الفتن، و لايومن ايضا ان يسترد الروم و فارس بلادا قد كان الاسلام استولى عليها، لان عدم الرئيس مطمع للعدو فى ملكه و رعيته.

فاما الاخبار و الاثار التى ذكرها المرتضى فى مبايعه على (ع) لعثمان، و انه كان مكرها عليها او كالمكره، و ان الرضا كان مرتفعا، و الخلاف كان واقعا، فكلام فى غير موضعه، لان قاضى القضاه لم ينح بكلامه هذا النحو، و لا قصد هذا القصد، ليناقضه بما رواه و اسنده من الاخبار و الاثار، و لا هذا الموضع من كتاب "المغنى" موضع الكلام فى بيعه عثمان و صحتها و وقوع الرضا بها، فيطعن المرتضى فى ذلك بما رواه من الاخبار و الاثار الداله على تهضم القوم لاميرالمومنين (ع) و اصحابه و شيعته و تهددهم، و انما الرضا الذى اشار اليه قاضى القضاه، فهو رضا اميرالمومنين (ع) بان يكون فى جمله اهل الشورى، لان هذا الباب من كتاب "المغنى" هو باب نفى المطاعن عن عمر، و قد تقدم ذكر كثير منها.

ثم انتهى الى هذا الطعن، و هو حديث الشورى، فذكر قاضى القضاه ان الشورى مما طعن بها عليه، و ادعى انها كانت خطا من افعاله، لانها لا نص و لا اختيار، الا تراه كيف قال فى اول ال
طعن: فخرج بها عن النص و الاختيار! فنقول فى الجواب: لو كانت خطا لما دخل على (ع) فيها، و لارضى بها، فدخوله فيها و رضاه بها دليل على انها لم تكن خطا، و اين هذا من بيعه عثمان، حتى يخلط احد البابين بالاخر! فاما دعواه ان عمر عمل هذا الفعل حيله، ليصرف الامر عن على (ع) من حيث علم ان عبدالرحمن صهر عثمان، و ان سعدا ابن عم عبدالرحمن فلايخالفه، فجعل الصواب فى الثلاثه الذين يكون فيهم عبدالرحمن، فنقول فى جوابه: ان عمر لو فعل ذلك و قصده لكان احمق الناس و اجهلهم، لانه من الجائز الا يوافق سعد ابن عمه لعداوه تكون بينهما، خصوصا من بنى العم، و يمكن ان يستميل على (ع) سعدا الى نفسه، بطريق آمنه بنت وهب، و بطريق حمزه بن عبدالمطلب، و بطريق الدين و الاسلام، و عهد الرسول (ص)، و من الجائز ان يعطف عبدالرحمن على على (ع) لوجه من الوجوه، و يعرض عن عثمان، او يبدو من عثمان فى الايام الثلاثه امر يكرهه عبدالرحمن، فيتركه و يميل الى على (ع).

و من الجائز ان يموت عبدالرحمن فى تلك الايام، او يموت سعد، او يموت عثمان، او يقتل واحد منهم فيخلص الامر لعلى (ع)، و من الجائز ان يخالف ابوطلحه امره له ان يعتمد على الفرقه التى فيها عبدالرحمن، و لايعمل بقوله،
و يميل الى جهه على (ع)، فتبطل حيلته و تدبيره! ثم هب ان هذا كله قد اسقطناه، من الذى اجبر عمر و اكرهه و قسره على ادخال على (ع) فى اهل الشورى؟ و ان كان مراده- كما زعم المرتضى- صرف الامر بالحيله، فقد كان يمكنه ان يجعل الشورى فى خمسه، و لايذكر عليا (ع) فيهم، اتراه كان يخاف احدا لو فعل ذلك! و من الذى كان يجسر ان يراجعه فى هذا او غيره! و حيث ادخله من الذى اجبره على ان يقول: ان وليها ذلك لحملهم على المحجه البيضاء، و حملهم على الصراط المستقيم، و نحو ذلك من المدح! قد كان قادرا الا يقول ذلك، و الكلام الغث البارد لااحبه.

فاما قوله: ان عبدالرحمن فعل ما فعل من اخراج نفسه من الامامه حيله ليسلم الامر الى عثمان، و يصرفه عن على (ع)، فكلام بعضه صحيح و بعضه غير صحيح.

اما الصحيح منه فميل عبدالرحمن الى جهه عثمان، و انحرافه عن على (ع) قليلا، و ليس هذا بمخصوص بعبدالرحمن، بل قريش قاطبه كانت منحرفه عنه.

و اما الذى هو غير صحيح، فقوله: انه اخرج نفسه منها لذلك، فان هذا عندى غير صحيح، لانه قد كان يمكنه الا يخرج نفسه منها، و يبلغ غرضه، بان يتجاوز هو و ابن عمه الى عثمان، و يدع عليا و طلحه و الزبير طائفه اخرى، فيولى المسلمون الامر الطائفه ا
لتى فيها عبدالرحمن، بمقتضى نص عمر على ذلك، ثم يعتمد عبدالرحمن بعد ذلك ما يشاء، ان شاء وليها هو او احد الرجلين، فاى حاجه كانت به الى ان يخرج نفسه منها ليبلغ غرضا قد كان يمكنه الوصول اليه بدون ذلك! و ايضا فان كان غرضه ذلك، فانه من رجال الدنيا قد كان لا محاله، و لم يكن من رجال الاخره، و من هو من رجال الدنيا و محبيها كيف تسمح نفسه بترك الخلافه ليعطيها غيره! و هلا واطا سعدا ابن عمه، و طلحه صديقه، على ان يولياه الخلافه، و قد قال عمر: كونوا مع الثلاثه الذين فيهم عبدالرحمن، لا سيما و طلحه منحرف عن على (ع) و عثمان، لانهما ابنا عبدمناف، و كذلك سعد و عبدالرحمن منحرفان عنهما لذلك ايضا، و لما اختصا به من صهر رسول الله (ص).

و الصحيح ان عبدالرحمن اخرج نفسه منها، لانه استضعف نفسه عن تحمل اثقالها و كلفها، و كره ان يدخل فيها، فيقصر عن عمر، و يراه الناس بعين النقص، و لايستطيع ان يقوم بما كان عمر يقوم به، و كان عبدالرحمن غنيا موسرا كثير المال، و شيخا قد ذهب عنه ترف الشباب، فنفض عنها يده استغناء عنها، و كراهيه لخلل يدخل عليه ان وليها.

و اما ميله عن على (ع)، فقد كان منه بعض ذلك، و الطباع لاتملك، و الحسد مستقر فى نفوس البشر، لا سيم
ا اذا انضاف اليه ما يقتضى الازدياد فى الامور.

فاما تنزيه المرتضى لعلى (ع) عن الفكاهه و الدعابه فحق، و لقد كان (ع) على قدم عظيمه من الوقار و الجد و السمت العظيم، و الهدى الرصين، و لكنه كان طلق الوجه، سمح الاخلاق، و عمر كان يريد مثله من ذوى الفظاظه و الخشونه، لان كل واحد يستحسن طبع نفسه، و لا يستحسن طبع من يباينه فى الخلق و الطبع.

و انا اعجب من لفظه عمر- ان كان قالها: (ان فيه بطاله)، و حاش لله ان يوصف على (ع) بذلك! و انما يوصف به اهل الدعابه و اللهو، و ما اظن عمر- ان شاء الله- قالها، و اظنها زيدت فى كلامه، و ان الكلمه هاهنا لداله على انحراف شديد.

فاما قول اميرالمومنين (ع) للعباس و لغيره: ذهب الامر منا، ان عبدالرحمن لايخالف ابن عمه، فليس معناه ان عمر قصد ذلك، و انما معناه ان من سوء الاتفاق ان وقع الامر هكذا، و يوشك الا يصل الينا حيث قد اتفق فيه هذه النكته.

فاما قول قاضى القضاه: اذا تقدمت للفاعل حاله تقتضى حسن الظن، وجب ان يحمل فعله على ما يطابقها، و اعتراض المرتضى عليه بقوله: ان ذلك انما يجب اذا كان الخير معلوما منه فيما تقدم لا مظنونا، و متى كان مظنونا ثم وجدنا له فعلا يظن به القبيح لم يكن لنا ان نقضى بالسابق
على اللاحق، فنقول فى جوابه: ان الانسان اذا كان مشهورا بالصلاح و الخير، و تكرر منه فعل ذلك مده طويله، ثم رايناه قد وقعت منه حركه تنافى ذلك فيما بعد، فانه يجب علينا ان نحملها على ما يطابق احواله الاولى ما وجدنا لها محملا، لان احواله الاولى كثيره، و هذه حاله مفرده شاذه، و الحاق القليل بالكثير و حمله عليه اولى من نقض الكثير بالقليل، و قد كانت احوال عمر مده عشرين سنه منتظمه فى اصلاح الرعيه و مناصحه الدين، و هذا معلوم منه ضروره- اعنى ظاهر احواله- فاذا وقعت عنه حاله واحده، و هى قصه الشورى فيها شبهه ما، وجب ان نتاولها ما وجدنا لها فى الخير محملا، و نلحقها بتلك الاحوال الكثيره التى تكررت منه فى الازمان الطويله، و لايجوز ان نضع اليد عليها و نقول: هذه لا غيرها، و نقبحها، و نهجنها، و نسد ابواب هذه التاويلات عنها، ثم نحمل افعاله الكثيره المتقدمه كلها عليها فى التقبيح و التهجين، فهذا خلاف الواجب، فقد بان صحه ما ذكره قاضى القضاه، لانه لا حاجه بنا فى القضاء بالسابق على اللاحق، الا ان يكون خيره معلوما، و علم علما يقينا، فان الظن الغالب كاف فى هذا المقام على الوجه الذى ذكرناه.

و اما قوله عن عمر: انه بلغ ما فى نفسه من ايصال ال
امر الى من اراد، و صرفه عمن اراد، من غير شناعه بالتصريح، و حتى لايقال فيه ما قيل فى ابى بكر، او يراجع فى نصه كما روجع ابوبكر، و لاى حال يتعسف ابعد الطريقين، و غرضه يتم من اقربهما، فقد قلنا فى جوابه ما كفى، و بينا ان عمر لو اراد ما ذكر لصرف الامر عمن يريد صرفه عنه، و نص على من يريد ايصال الامر اليه، و لم يبال باحد، فقد عرف الناس كلهم كيف كانت هيبته و سطوته و طاعه الرعيه له، حتى ان المسلمين اطاعوه اعظم من طاعتهم رسول الله (ص) فى حياته، و نفوذ امره فيهم اعظم من نفوذ امره (ع)، فمن الذى كان يجسر او يقدر ان يراجعه فى نصه، او يراده، او يلفظ عنده او غائبا عنه بكلمه تنافى مراده! و اى شى ء ضر ابابكر من مراجعه طلحه له حيث نص، ليقول المرتضى: خاف عمر من ان يراجع كما روجع ابوبكر، و قد سمع الناس ما قال ابوبكر لطلحه لما راجعه، فانه اخزاه و جبهه، حتى دخل فى الارض، و قام من عنده و هو لايهتدى الى الطريق! و اين كانت هيبه الناس لابى بكر من هيبتهم لعمر! فلقد كان ابوبكر و هو خليفه يهابه و هو رعيه و سوقه بين يديه، و كل افاضل الصحابه كان يهابه، و هو بعد لم يل الخلافه، حتى ان الشيعه تقول: ان النبى (ص) يهابه، فمن كانت هذه حاله و هو رع
يه و سوقه، فكيف يكون و هو خليفه، قد ملك مشارق الارض و مغاربها، و خطب له على مائه الف منبر! و لو اراد عمر ان يخطب بالخلافه لابى هريره لما خالفه احد من الناس ابدا! فكيف يقول المرتضى: لماذا يتعسف عمر ابعد الطريقين، و غرضه يتم من اقربهما! و العجب منه كيف يقول: خاف شناعه التصريح، فمن لم يخف عندهم شناعه المخالفه لرسول الله (ص) و هو يعلم ان المسلمين يعلمون انه مخالف لله تعالى و لرسوله قائم فى مقام لم يجعله الله تعالى له، كيف يخاف شناعه التصريح باسم عثمان لو كان يريد استخلافه! ان هذا لاعجب من العجب! الطعن العاشر قولهم: انه ابدع فى الدين ما لايجوز، كالتراويح، و ما عمله فى الخراج الذى وضعه على السواد، و فى ترتيب الجزيه، و كل ذلك مخالف للقرآن و السنه، لانه تعالى جعل الغنيمه للغانمين، و الخمس منها لاهل الخمس، فخالف القرآن، و كذلك السنه تنطق فى الجزيه ان على كل حالم دينارا، فخالف فى ذلك السنه، و ان الجماعه لاتكون الا فى المكتوبات، فخالف السنه.

اجاب قاضى القضاه عن ذلك، بان قيام شهر رمضان، قد روى عن النبى (ص) انه عمله ثم تركه، و اذا علم ان الترك ليس بنسخ، صار سنه يجوز ان يعمل بها، و اذا كان ما لاجله تركه من التنبيه بذلك
على انه ليس بفرض، و من تخفيف التعبد ليس بقائم فى فعل عمر لم يمتنع ان يدوم عليه، و اذا كان فيه الدعاء الى الصلاه و التشدد فى حفظ القرآن، فما الذى يمنع ان يعمل به! فاما امر الخراج، فاصله السنه، لان النبى (ص) بين ان لمن يتولى الامر ضربا من الاختيار فى الغنيمه، و لذلك فصل بين الرجال و الاموال، فجعل الاختيار فى الرجال الى الامام فى القتل و الاسترقاق و المفاداه، و فصل بينه و بين المال، و ان كان الجميع غنيمه.

ثم ذكر ان الغنيمه لم تضف الى الغانمين اضافه الملك، و انما المراد ان لهم فى ذلك من الاختصاص و الحق ما ليس لغيرهم، فاذا عرض ما يقتضى تقديم امر آخر، جاز للامام ان يفعله، و راى عمر فى امر السواد الاحتياط للاسلام، بان يقر فى ايديهم على الخراج الذى وضعه، و ان كان فى الناس من يقول: فعل ذلك برضا الغانمين، و بان عوض.

و يدل على صحه فعله اجماع الامه و رضاهم به، و لما افضى الامر الى اميرالمومنين (ع) تركه على جملته، و لم يغيره.

ثم ذكر فى الجزيه ان طريقها الاجتهاد، فان الخبر المروى فى هذا الباب ليس بمقطوع به، و لا معناه معلوم.

اعترض المرتضى هذا الجواب، فقال: اما التراويح فلا شبهه انها بدعه، و قد روى عن النبى (ص) انه قال: (ا
يها الناس، ان الصلاه بالليل فى شهر رمضان من النافله جماعه بدعه و صلاه الضحى بدعه، الا فلاتجتمعوا ليلا فى شهر رمضان فى النافله، و لاتصلوا صلاه الضحى فان قليلا فى سنه خير من كثير فى بدعه، الا و ان كل بدعه ضلاله، و كل ضلاله سبيلها فى النار).

و قد روى: ان عمر خرج فى شهر رمضان ليلا، فراى المصابيح فى المسجد، فقال: ما هذا؟ فقيل له: ان الناس قد اجتمعوا لصلاه التطوع، فقال: بدعه، فنعمت البدعه! فاعترف كما ترى بانها بدعه، و قد شهد الرسول (ص) ان كل بدعه ضلاله.

و قد روى ان اميرالمومنين (ع) لما اجتمعوا اليه بالكوفه، فسالوه ان ينصب لهم اماما يصلى بهم نافله شهر رمضان، زجرهم و عرفهم ان ذلك خلاف السنه، فتركوه و اجتمعوا لانفسهم، و قدموا بعضهم، فبعث اليهم ابنه الحسن (ع)، فدخل عليهم المسجد، و معه الدره، فلما راوه تبادروا الابواب، و صاحوا: وا عمراه! قال: فاما ادعاوه ان قيام شهر رمضان كان فى ايام الرسول (ص)، ثم تركه فمغالطه منه، لانا لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد، و انما انكرنا الاجتماع على ذلك، فان ادعى ان الرسول (ص) صلاها جماعه فى ايامه، فانها مكابره ما اقدم عليها احد، و لو كان كذلك ما قال عمر: انها بدعه، و ان
اراد غير ذلك فهو مما لاينفعه، لان الذى انكرناه غيره! قال: و الذى ذكره من ان فيه التشدد فى حفظ القرآن، و المحافظه على الصلاه، ليس بشى ء، لان الله تعالى و رسوله بذلك اعلم، و لو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاه، و يامران بها، و ليس لنا ان نبدع فى الدين بما نظن ان فيه مصلحه، لانه لاخلاف فى ان ذلك لايسوغ و لايحل.

و اما امر الخراج فهو خلاف لنص القرآن، لان الله تعالى جعل الغنيمه فى وجوه مخصوصه، فمن خالفها فقد ابدع، و ليس للامام و لا لغيره ان يجتهد فيخالف النص، فبطل قوله: انه راى من الاحتياط للاسلام ان يقر فى ايديهم على الخراج، لان خلاف النص لايكون من الاحتياط و رسوله اعلم بالاحتياط منه، و لو كان لرضا الغانمين عن ذلك او عوضهم منه على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب ان يظهر ذلك و يعلم، و ما عرفنا فى ذلك شيئا، و لانقله الناقلون.

و اما ما ادعاه من الاجماع، فمعوله فيه على ترك النكير، و قد تقدم الكلام عليه و تكرر، و كذلك قد تقدم الكلام فى وجه اقرار اميرالمومنين (ع) ما اقره من احكام القوم، و ما ادعاه ان خبر الجزيه غير معلوم و لامقطوع به، فهب ان ذلك مسلم على ما فيه، اليس من مذهبه ان اخبار الاحاد فى الشريعه يعمل بها، و ان لم ت
كن معلومه! فهلا عمل عمر بالخبر المروى فى هذا الباب، و عدل عن اجتهاده الذى اداه الى مخالفه الله تعالى! اما كون صلاه التراويح بدعه و اطلاق عمر عليها هذا اللفظ، فان لفظ البدعه يطلق على مفهومين: احدهما ما خولف به الكتاب و السنه، مثل صوم يوم النحر و ايام التشريق، فانه و ان كان صوما الا انه منهى عنه.

و الثانى ما لم يرد فيه نص، بل سكت عنه، ففعله المسلمون بعد وفاه رسول الله (ص).

فان اريد بكون صلاه التراويح بدعه المفهوم الاول، فلا نسلم انها بدعه بهذا التفسير، و الخبر الذى رواه المرتضى غير معروف، و لايمكنه ان يسنده الى كتاب من كتب المحدثين، و لو قدر على ذلك لاسنده، و لعله من اخبار اصحابه من محدثى الاماميه و الاخباريين منهم، و الالفاظ التى فى آخر الحديث، و هى: (كل بدعه ضلاله، و كل ضلاله فى النار) مرويه مشهوره، و لكن على تفسير البدعه بالمفهوم الاول.

و قول عمر: (انها لبدعه) خبر مروى مشهور، و لكن اراد به البدعه بالتفسير الثانى، و الخبر الذى رواه اميرالمومنين (ع) ينفرد هو و طائفته بنقله، و المحدثون لايعرفون ذلك و لايثبتونه.

فاما انكاره ان تكون نافله شهر رمضان صلاها رسول الله (ص) فى جماعه، فانكار لست ارتضيه لمثله، فان كتب ا
لمحدثين مشحونه بروايه ذلك، و قد ذكره احمد بن حنبل فى مسنده غير مره بعده طرق، و رواه الفقهاء، ذكره الطحاوى فى كتاب "اختلاف الفقهاء"، و ذكره ابوالطيب الطبرى الشافعى فى شرحه كتاب المزنى، و قد ذكره المتاخرون ايضا، ذكره الغزالى فى كتاب "احياء علوم الدين "و قال: ان رسول الله (ص) صلى التراويح فى شهر رمضان فى جماعه ليلتين او ثلاثا، ثم ترك، و قال: اخاف ان يوجب عليكم.

و اجاز لى الشيخ ابوالفرج عبدالرحمن بن على بن الجوزى، بروايته عن شيخه محمد بن ناصر، عن شيوخه و رجاله، ان رسول الله (ص) صلى نافله شهر رمضان فى جماعه ياتمون به ليالى ثم لم يخرج و قام فى بيته، و صلى الناس فرادى بقيه ايامه و ايام ابى بكر و صدرا من خلافه عمر، فخرج عمر ليله، فراى الناس اوزاعا يصلون فى المسجد، فقال: لو جمعتهم على امام! فامر ابى بن كعب ان يصلى بهم، فصلى بهم تلك الليله ثم خرج، فرآهم مجتمعين الى ابى بن كعب يصلى بهم، فقال: بدعه و نعمه البدعه! اما انها لفضل، و التى ينامون عنها افضل.

قال: يعنى قيام آخر الليل، فانه افضل من قيام اوله.

و اما قول قاضى القضاه ان فى التراويح فائده و هى التشدد فى حفظ القرآن و الدعاء الى الصلاه، و اعتراض المرتضى اياه بقوله: ال
له اعلم بالمصلحه، و ليس لنا ان نسن ما لم يسنه الله و رسوله، فانه يقال له: اليس يجوز للانسان ان يخترع من النوافل صلوات مخصوصه بكيفيات مخصوصه، و اعداد ركعات مخصوصه، و لايكون ذلك مكروها و لا حراما، نحو ان يصلى ثلاثين ركعه بتسليمه واحده، و يقرا فى كل ركعه منها سوره من قصار المفصل! افيقول احد: ان هذا بدعه، لانه لم يرد فيه نص و لا سبق اليه المسلمون من قبل! فان قال: هذا يسوغ، فانه داخل تحت عموم ما ورد فى فضل صلاه النافله، قيل له: و التراويح جائزه و مسنونه لانها داخله تحت عموم ما ورد فى فضل صلاه الجماعه.

فان قال: كيف تكون نافله، و هى جماعه! قيل له: قد راينا كثيرا من النوافل تصلى جماعه، نحو صلاه العيد، و صلاه الكسوف، و صلاه الاستسقاء، و صلاه الجنازه، اذا لم يتعين للمصلى بان يقوم غيره مقامه فيها.

فاما ما اشار اليه قاضى القضاه من التشدد فى حفظ القرآن، فهو انه روى ان عمر اتى بسارق، فامر بقطعه، فقال: لم اعلم ان الله اوجب القطع فى السرقه، و لو علمت لم اسرق، فاحلفه على ذلك.

و سن التراويح جماعه ليتكرر سماع القرآن على اسماع المسلمين.

و قد اختلف الفقهاء ايما افضل فى نافله شهر رمضان؟ الاجتماع عليها ام صلاتها فرادى؟ فقال قوم: ا
لجماعه افضل لان الاجتماع بركه و له فضيله، و لو لافضيلته لم يسن فى المكتوبه، و لانه ربما يكسل فى الانفراد، و ينشط عند مشاهده الجمع.

و قال قوم: الانفراد افضل، لانها سنه ليست من الشعائر كالعيدين فالحاقها بتحيه المسجد اولى، و قد جرت العاده بان يدخل المسجد جمع معا، ثم لم يصلوا التحيه بالجماعه.

و روى القائلون بهذا القول عن النبى (ص) انه قال: (فضل صلاه المتطوع فى بيته على صلاه المتطوع فى المسجد، كفضل صلاه المكتوبه فى المسجد على صلاته فى البيت).

و قد روى عنه (ع)، ان افضل النوافل ركعتان يصليهما المسلم فى زاويه بيته لايعلمهما الا الله وحده.

قالوا: و لانها اذا صليت فرادى كانت الصلاه ابعد من الرياء و التصنع.

و بالجمله الاختلاف فى ايهما افضل، فاما تحريم الصلاه و لزوم الاثم بفعلها، فمما لم يذهب اليه الا الاماميه، و قد روى الرواه ان عليا (ع) خرج ليلا فى شهر رمضان فى خلافه عثمان بن عفان، فراى المصابيح فى المساجد، و المسلمون يصلون التراويح، فقال: نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا! و الشيعه يروون هذا الخبر، و لكن بحمل اللفظ على معنى آخر.

فاما حديث الخراج فقد ذكره ارباب علم الخراج و الكتاب، و ذكره الفقهاء ايضا فى كتبهم، و ذكره
ارباب السيره و اصحاب التاريخ.

قال قدامه بن جعفر فى كتاب "الخراج" اختلف الفقهاء فى ارض العنوه، فقال بعضهم: تخمس، ثم تقسم اربعه اخماس على الذين افتتحوها، و قال بعضهم: ذلك الى الامام، ان راى ان يجعلها غنيمه ليخمسها و يقسم الباقى كما فعل رسول الله (ص) بخيبر فذلك اليه، و ان راى ان يجعلها فيئا فلايخمسها و لايقسمها، بل تكون موقوفه على سائر المسلمين، كما فعل عمر بارض السواد و ارض مصر و غيرهما، مما افتتحه عنوه، فعلى الوجهين جميعا، فيهما قدوه و متبع، لان النبى (ص) قسم خيبر و صيرها غنيمه، و اشار الزبير بن العوام على عمر فى مصر و بلاد الشام بمثل ذلك، و هو مذهب مالك بن انس، و جعل عمر السواد و غيره فيئا موقوفا على المسلمين، من كان منهم حاضرا فى وقته، و من اتى بعده و لم يقسمه، و هو راى رآه على بن ابى طالب (ع) و معاذ ابن جبل، و اشارا عليه، و به كان ياخذ سفيان بن سعيد، و ذلك راى من جعل الخيار الى الامام فى تصيير ارض العنوه غنيمه او فيئا راجعا للمسلمين فى كل سنه.

قال قدامه رحمه الله: فاما ما فعله رسول الله (ص) من تصييره خيبر غنيمه، فانه (ع) اتبع فيه آيه محكمه، و هى قوله تعالى: (و اعلموا ان ما غنمتم من شى ء فان لله خمسه و للرس
ول و لذى القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل) فهذه آيه الغنيمه و هى لاهلها دون الناس، و بها عمل رسول الله (ص)، و اما الايه التى عمل بها عمر و ذهب اليها على (ع) و معاذ بن جبل فيما اشارا عليه به، فهى قوله تعالى: (ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله و للرسول و لذى القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل) الى قوله: (للفقراء المهاجرين) (و الذين تبوئوا الدار و الايمان من قبلهم) (و الذين جائوا من بعدهم).

انتهت الفاظ قدامه.

و روى محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه، ان عمر هم ان يقسم ارض السواد بين الغانمين، كما يقسم الغنائم، ثم قال: فكيف بالاجام و مناقع المياه و الغياض و الهضب المرتفع و الغائط المنخفض؟ و كيف يصنع هولاء بالماء و قسمته بينهم؟ اخاف ان يضرب بعضهم وجوه بعض! ثم جمع الغانمين فقال لهم: ذلك فرضوا ان تقر الارض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه، ثم يقتسمون غلتها كل عام، فقال عمر: اللهم انى قد اجتهدت، و قد قضيت ما على، اللهم انى اشهدك عليهم فاشهد.

فاما قول قاضى القضاه: ان النبى (ص) جعل لمتولى امر الامه ضربا من الاختيار فى الغنيمه، و ما ذكره من الفرق بين الرجال و الاموال، و ما ذكره من ان الغانمين ليسوا مالكى
الغنيمه ملكا صريحا، و انما هو ضرب من الاختصاص، فكله جيد لا كلام عليه، و لم يعترضه المرتضى بشى ء و لا تعرض له.

و اما قول قاضى القضاه: انه روى ان عمر فعل ما فعل برضا الغانمين، و بان عوضهم عنه، و انكار المرتضى وقوع ذلك، و قوله: انه لم ينقل، فقد بينا ان الطبرى ذكر فى تاريخه ان عمر فعل ذلك برضا الغانمين، و بعد ان جمعهم و قال لهم ما استصلحه، و ما ادى اليه اجتهاده، فرضوا به، و اشهدوا الله عليهم و الحاضرين.

و قد ذكر كثير من الفقهاء ان عمر عوض الغانمين عن ارض السواد، و وقفه على مصالح المسلمين، و هذا ما رواه الشافعى، و ذكر حديث التعريض ابوالحسن على بن حبيب الماوردى فى كتاب "الحاوى" فى الفقه، و ذكره ايضا ابوالطيب طاهر بن عبدالله الطبرى فى "شرح المزنى".

و اما تعلق قاضى القضاه باجماع المسلمين، فتعلق صحيح، و طعن المرتضى فيه بالتقيه و موافقه الامام المعصوم على الباطل طعن يسمج التعلق به، و للبحث فيه سبح طويل.

و اما امر الجزيه، فطريقه الاجتهاد، و للامام ان يرى فيه رايه بمشاوره الصلحاء و الفقهاء، و قد قال قاضى القضاه: ان الخبر الذى ذكره المرتضى، و ذكر انه مرفوع، و هو (على كل حالم دينار) خبر مظنون غير معلوم و اعتراض المرتضى عل
يه بقوله: هب ان الامر كذلك، الستم تزعمون ان خبر الواحد معمول عليه فى الفروع! فهلا عمل عمر بهذا الخبر، و ان كان خبر واحد- اعتراض ليس بلازم، لانه اذا كان خبر واحد عندنا لم يلزم ان يكون ايضا خبر واحد عند عمر، بل من الجائز ان يكون مفتعلا بعد وفاه عمر، و لو كان قد ثبت ان عمر سمع هذا الخبر من واحد او اثنين من الصحابه، ثم لم يعمل به، كان الاعتراض لازما، و لكن ذلك مما لم يثبت.

/ 614