خطبه 027-در فضيلت جهاد
الشرح:
هذه الخطبه من مشاهير خطبه (ع)، قد ذكرها كثير من الناس، و رواها ابوالعباس المبرد فى اول "الكامل" و اسقط من هذه الروايه الفاظا و زاد فيها الفاظا، و قال فى اولها: (انه انتهى الى على (ع) ان خيلا وردت الانبار لمعاويه، فقتلوا عاملا له يقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضبا يجر رداءه، حتى اتى النخيله، و اتبعه الناس فرقى رباوه من الارض فحمد الله و اثنى عليه، و صلى على نبيه (ص) ثم قال: اما بعد فان الجهاد باب من ابواب الجنه، فمن تركه رغبه عنه البسه الله الذل و سيما الخسف).و قال فى شرح ذلك: قوله: (و سيما الخسف)، هكذا حدثونا به و اظنه (سيم الخسف) من قوله تعالى: "يسومونكم سوء العذاب" و قال: فان نصرنا ما سمعناه فسيما الخسف تاويله علامه الخسف قال الله تعالى: "سيماهم فى وجوههم" و قال: "يعرف المجرمون بسيماهم" و سيما مقصور و فى معناه (سيمياء) ممدود قال الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر و نحن نقول: ان السماع الذى حكاه ابوالعباس غير مرضى، و الصحيح ما تضمنه (نهج البلاغه) و هو (سيم الخسف) فعل ما لم يسم فاعله، و (الخسف) منصوب، لانه مفعول و تاويله: اولى الخسف و كلف اياه، و الخسف: الذل و المشقه.و ايضا فان فى "نهج البلاغه" لايمكن ان يكون الا كما اخترناه، لانه بين افعال متعدده بنيت للمفعول به، و هى: (ديث) و (ضرب) و (اديل) و (منع) و لايمكن ان يكون ما بين هذه الافعال معطوفا عليها الا مثلها، و لايجوز ان يكون اسما.و اما قوله (ع): (و هو لباس التقوى) فهو لفظه ماخوذه من الكتاب العزيز، قال الله سبحانه: "قد انزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم و ريشا و لباس التقوى".و الجنه: ما يجتن به، اى يستتر، كالدرع و الحجفه.و تركه رغبه عنه، اى زهدا فيه، رغبت عن كذا، ضد رغبت فى كذا.و ديث بالصغار اى ذلل بعير مديث اى مذلل و منه الديوث: الذى لا غيره له كانه قد ذلل حتى صار كذلك.و الصغار: الذل و الضيم.و القماء، بالمد: مصدر قمو الرجل قماء و قماءه، اى صار قميئا، و هو الصغير الذليل، فاما قما بفتح الميم فمعناه سمن، و مصدره القموء و القموءه.و روى الراوندى: (و ديث بالصغار و القما)، بالقصر و هو غير معروف.و قوله (ع): (و ضرب على قلبه بالاسهاب) فالاسهاب هاهنا هو ذهاب العقل و يمكن ان يكون من الاسهاب الذى هو كثره الكلام.كانه عوقب بان يكثر كلامه فيما لافائده تحته.قوله: (و اديل الحق منه بتضييع الجهاد) قد يظن ظان انه يريد (
ع): و اديل الحق منه بان اضيع جهاده، كالباءات المتقدمه و هى قوله: (و ديث بالصغار) و (ضرب على قلبه بالاسهاب).و ليس كما ظن، بل المراد: و اديل الحق منه لاجل تضييعه الجهاد، فالباء هاهنا للسببيه، كقوله تعالى: "ذلك جزيناهم ببغيهم".و النصف: الانصاف.و عقر دارهم، بالضم: اصل دارهم و العقر: الاصل و منه العقار للنخل كانه اصل المال.و تواكلتم، من وكلت الامر اليك و وكلته الى، اى لم يتوله احد منا و لكن احال به كل واحد على الاخر و منه رجل وكل، اى عاجز يكل امره الى غيره و كذلك و كله.استطراد بذكر كلام لابن نباته فى الجهاد و اعلم ان التحريض على الجهاد و الحض عليه قد قال فيه الناس فاكثروا، و كلهم اخذوا من كلام اميرالمومنين (ع) فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباته الخطيب: ايها الناس، الى كم تسمعون الذكر فلا تعون و الى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون كان اسماعكم تمج ودائع الوعظ، و كان قلوبكم بها استكبار عن الحفظ و عدوكم يعمل فى دياركم عمله، و يبلغ بتخلفكم عن جهاده امله، و صرخ بهم الشيطان الى باطله فاجابوه و ندبكم الرحمن الى حقه فخالفتموه و هذه البهائم تناضل عن ذمارها، و هذه الطير تموت حميه دون اوكارها بلا كتاب انزل عليها و لا رسول ا
رسل اليها.و انتم اهل العقول و الافهام و اهل الشرائع و الاحكام تندون من عدوكم نديد الابل و تدرعون له مدارع العجز و الفشل و انتم و الله اولى بالغزو اليهم و احرى بالمغار عليهم لانكم امناء الله على كتابه و المصدقون بعقابه و ثوابه، خصكم الله بالنجده و الباس و جعلكم خير امه اخرجت للناس.فاين حميه الايمان؟ و اين بصيره الايقان؟ و اين الاشفاق من لهب النيران؟ و اين الثقه بضمان الرحمن؟ فقد قال الله عز و جل فى القرآن: "بلى ان تصبروا و تتقوا" فاشترط عليكم التقوى و الصبر و ضمن لكم المعونه و النصر افتتهمونه فى ضمانه ام تشكون فى عدله و احسانه فسابقوا رحمكم الله الى الجهاد بقلوب نقيه و نفوس ابيه و اعمال رضيه و وجوه مضيه و خذوا بعزائم التشميز و اكشفوا عن رءوسكم عار التقصير و هبوا نفوسكم لمن هو املك بها منكم، و لاتركنوا الى الجزع فانه لايدفع الموت عنكم "لاتكونوا كالذين كفروا و قالوا لاخوانهم اذا ضربوا فى الارض او كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا".فالجهاد الجهاد ايها الموقنون، و الظفر الظفر ايها الصابرون و الجنه الجنه ايها الراغبون و النار النار ايها الراهبون فان الجهاد اثبت قواعد الايمان و اوسع ابواب الرضوان و ارف
ع درجات الجنان و ان من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما، مجمع على تفضيلهما: اما السعاده بالظفر فى العاجل و اما الفوز بالشهاده فى الاجل.و اكره المنزلتين اليكم اعظمهما نعمه عليكم فانصروا الله فان نصره حرز من الهلكات حريز، "و لينصرن الله من ينصره ان الله لقوى عزيز".هذا آخر خطبه ابن نباته، فانظر اليها و الى خطبته (ع) بعين الانصاف تجدها بالنسبه اليها كمخنث بالنسبه الى فحل، او كسيف من رصاص بالاضافه الى سيف من حديد.و انظر ما عليها من اثر التوليد و شين التكلف و فجاجه كثير من الالفاظ، الا ترى الى فجاجه قوله: (كان اسماعكم تمج ودائع الوعظ و كان قلوبكم بها استكبار عن الحفظ)! و كذلك ليس يخفى نزول قوله: (تندون من عدوكم نديد الابل، و تدرعون له مدارع العجز و الفشل).و فيها كثير من هذا الجنس، اذا تامله الخبير عرفه، و مع هذا فهى مسروقه من كلام اميرالمومنين (ع) الا ترى ان قوله (ع) (اما بعد، فان الجهاد باب من ابواب الجنه) قد سرقه ابن نباته.فقال: (فان الجهاد اثبت قواعد الايمان، و اوسع ابواب الرضوان، و ارفع درجات الجنان)! و قوله (ع): (من اجتماع هولاء على باطلهم، و تفرقكم عن حقكم) سرقه ايضا، فقال: (صرخ بهم الشيطان الى باطله
فاجابوه و ندبكم الرحمن الى حقه فخالفتموه).و قوله (ع) (قد دعوتكم الى قتال هولاء القوم...) الى آخره، سرقه ايضا فقال: (كم تسمعون الذكر فلا تعون و تقرعون بالزجر فلا تقلعون)! و قوله (ع): (حتى شنت عليكم الغارات و ملكت عليكم الاوطان) سرقه ايضا و قال: (و عدوكم يعمل فى دياركم عمله و يبلغ بتخلفكم عن جهاده امله).و اما باقى خطبه ابن نباته فمسروق من خطب لاميرالمومنين (ع) اخر، سياتى ذكرها.و اعلم انى اضرب لك مثلا تتخذه دستورا فى كلام اميرالمومنين (ع)، و كلام الكتاب و الخطباء بعده كابن نباته و الصابى و غيرهما، انظر نسبه شعر ابى تمام و البحترى و ابى نواس و مسلم الى شعر امرى ء القيس و النابغه و زهير و الاعشى، هل اذا تاملت اشعار هولاء و اشعار هولاء تجد نفسك حاكمه بتساوى القبيلين او بتفضيل ابى نواس و اصحابه عليهم؟ ما اظن ان ذلك مما تقوله انت و لاقاله غيرك، و لايقوله الا من لايعرف علم البيان و ماهيه الفصاحه و كنه البلاغه و فضيله المطبوع على المصنوع، و مزيه المتقدم على المتاخر فاذا اقررت من نفسك بالفرق و الفضل و عرفت فضل الفاضل و نقص الناقص فاعلم ان نسبه كلام اميرالمومنين (ع) الى هولاء هذه النسبه، بل اظهر لانك تجد فى شعر امرى
ء القيس و اصحابه من التعجرف و الكلام الحوشى، و اللفظ الغريب المستكره شيئا كثيرا.و لاتجد من ذلك فى كلام اميرالمومنين (ع) شيئا، و اكثر فساد الكلام و نزوله انما هو باستعمال ذلك.فان شئت ان تزداد استبصارا، فانظر القرآن العزيز- و اعلم ان الناس قد اتفقوا على انه فى اعلى طبقات الفصاحه- و تامله تاملا شافيا و انظر الى ما خص به من مزيه الفصاحه و البعد عن التقعير و التقعيب و الكلام الوحشى الغريب و انظر كلام اميرالمومنين (ع) فانك تجده مشتقا من الفاظه، و مقتضبا من معانيه و مذاهبه، و محذوا به حذوه، و مسلوكا به فى منهاجه فهو و ان لم يكن نظيرا و لا ندا، يصلح ان يقال انه ليس بعده كلام افصح منه و لااجزل، و لا اعلى و لاافخم و لاانبل، الا ان يكون كلام ابن عمه (ع) و هذا امر لايعلمه الا من ثبتت له قدم راسخه فى علم هذه الصناعه، و ليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر، بل و لا لانتقاد الذهب، و لكل صناعه اهل و لكل عمل رجال.و من خطب ابن نباته التى يحرض فيها على الجهاد: (الا و ان الجهاد كنز وفر الله منه اقسامكم، و حرز طهر الله به اجسامكم، و عز اظهر الله به اسلامكم، فان تنصروا الله ينصركم و يثبت اقدامكم، فانفروا رحمكم الله جميعا و ثبات، و
شنوا على اعدائكم الغارات و تمسكوا بعصم الاقدام و معاقل الثبات و اخلصوا فى جهاد عدوكم حقائق النيات، فانه و الله ما غزى قوم فى عقر دارهم الا ذلوا، و لاقعدوا عن صون ديارهم الا اضمحلوا.و اعلموا انه لايصلح الجهاد بغير اجتهاد، كما لايصلح السفر بغير زاد، فقدموا مجاهده القلوب قبل مشاهده الحروب و مغالبه الاهواء قبل محاربه الاعداء، و بادروا باصلاح السرائر فانها من انفس العدد و الذخائر، و اعتاضوا من حياه لابد من فنائها بالحياه التى لاريب فى بقائها، و كونوا ممن اطاع الله و شمر فى مرضاته و سابقوا بالجهاد الى تملك جناته، فان للجنه بابا حدوده تطهير الاعمال و تشييده انفاق الاموال، و ساحته زحف الرجال، و طريقه غمغمه الابطال و مفتاحه الثبات فى معترك القتال، و مدخله من مشرعه الصوارم و النبال.فلينظر الناظر فى هذا الكلام، فانه و ان كان قد اخذ من صناعه البديع بنصيب، الا انه فى حضيض الارض و كلام اميرالمومنين (ع) فى اوج السماء، فانه لاينكر لزومه فيه لما لايلزمه اقتدارا و قوه و كتابه نحو قوله: (كنز) فانه بازاء (حرز) و (عز) و قوله: (مشاهده) بازاء قوله: (مجاهده) و (مغالبه) بازاء (محاربه) و (حدوده) بازاء (تشييده)، لكن مثله بالقياس الى
كلام اميرالمومنين (ع) كدار مبنيه من اللبن و الطين، مموهه الجدران بالنقوش و التصاوير، مزخرفه بالذهب من فوق الجص و الاسفيداج، بالقياس الى دار مبنيه بالصخر الاصم الصلد المسبوك بينه عمد الرصاص و النحاس المذاب، و هى مكشوفه غير مموهه و لا مزخرفه.فان بين هاتين الدارين بونا بعيدا، و فرقا عظيما.و انظر قوله: (ما غزى قوم فى عقر دارهم الا ذلوا) كيف تصيح من بين الخطبه صياحا، و تنادى على نفسها نداء فصيحا، و تعلم سامعها انها ليست من المعدن الذى خرج باقى الكلام منه، و لا من الخاطر الذى صدر ذلك السجع عنه، و لعمر الله لقد.جملت الخطبه و حسنتها و زانتها، و ما مثلها فيها الا كايه من الكتاب العزيز يتمثل بها فى رساله او خطبه، فانها تكون كاللولوه المضيئه تزهر و تنير، و تقوم بنفسها و تكتسى الرساله بها رونقا، و تكتسب بها ديباجه.و اذا اردت تحقيق ذلك فانظر الى السجعه الثانيه التى تكلفها ليوازنها بها، و هى قوله: (و لا قعدوا عن صون ديارهم الا اضمحلوا) فانك اذا نظرت اليها وجدت عليها من التكلف و الغثاثه ما يقوى عندك صدق ما قلته لك.على ان فى كلام ابن نباته فى هذا الفصل ما ليس بجيد، و هو قوله: (و حرز طهر الله به اجسامكم) فانه لايقال فى
الحرز: انه يطهر الاجسام، و لو قال عوض (طهر): حصن الله به اجسامكم لكان اليق، لكنه اراد ان يقول: (طهر) ليكون بازاء (وفر) و بازاء (اظهر) فاداه حب التقابل الى ما ليس بجيد.