خطبه 032-روزگار و مردمان
قال الرضى رحمه الله: و هذه الخطبه ربما نسبها من لاعلم له الى معاويه و هى من كلام اميرالمومنين (ع) الذى لايشك فيه، و اين الذهب من الرغام! و اين العذب من الاجاج! و قد دل على ذلك الدليل الخريت، و نقده الناقد البصير، عمرو بن بحر الجاحظ، فانه ذكر هذه الخطبه فى كتاب "البيان و التبيين" و ذكر من نسبها الى معاويه.ثم تكلم من بعدها بكلام فى معناها، جملته انه قال: و هذا الكلام بكلام على (ع) اشبه و بمذهبه فى تصنيف الناس و فى الاخبار عماهم عليه من القهر و الاذلال، و من التقيه و الخوف اليق.قال: و متى وجدنا معاويه فى حال من الاحوال يسلك فى كلامه مسلك الزهاد، و مذاهب العباد.الشرح:
دهر عنود: جائر عند عن الطريق.يعند بالضم اى عدل و جار.و يمكن ان يكون من عند يعند بالكسر، اى خالف ورد الحق و هو يعرفه الا ان اسم الفاعل المشهور فى ذلك عاند و عنيد، و اما عنود فهو اسم فاعل، من عند يعند بالضم.قوله: (و زمن شديد) اى بخيل، و منه قوله تعالى: "و انه لحب الخير لشديد "اى و انه لبخيل لاجل حب الخير، و الخير: المال و قد روى: (و زمن كنود) و هو الكفور، قال تعالى: "ان الانسان لربه لكنود".و القارعه: الخطب الذى يقرع، اى يصيب.قوله: (و نضيض وفره) اى قله ماله، و كان الاصل و (نضاضه وفره) ليكون المصدر فى مقابله المصدر الاول و هو (كلاله حده) لكنه اخرجه على باب اضافه الصفه الى الموصوف، كقولهم: عليه سحق عمامه، و جرد قطيفه، و اخلاق ثياب.قوله: (و المجلب بخيله و رجله) المجلب: اسم فاعل من اجلب عليهم، اى اعان عليهم.و الرجل: جمع راجل، كالركب جمع راكب، و الشرب جمع شارب، و هذا من الفاظ الكتاب العزيز: "و اجلب عليهم بخيلك و رجلك".و اشرط نفسه، اى هياها و اعدها للفساد فى الارض.و اوبق دينه: اهلكه.و الحطام: المال، و اصله ما تكسر من اليبيس.ينتهزه: يختلسه.و المقنب: خيل ما بين الثلاثين الى الاربعين.و يفرعه: يعلوه.و طامن من شخصه، اى خفض.و قارب من خطوه.لم يسرع و مشى رويدا.و شمر من ثوبه: قصره.و زخرف من نفسه: حسن و نمق و زين، و الزخرف: الذهب فى الاصل.و ضئوله نفسه: حقارتها.و الناد المنفرد.و المكعوم، من كعمت البعير، اذا شددت فمه.و الاجاج: الملح.و افواههم ضامزه، بالزاى اى ساكنه، قال بشر بن ابى خازم: لقد ضمزت بجرتها سليم مخافتنا كما ضمز الحمار و القرظ: ورق السلم، يدبغ به، و حثالته: ما يسقط منه.و الجلم: المقص تجز به اوبار الابل.و قراضت
ه: ما يقع من قرضه و قطعه.فان قيل: بينوا لنا تفصيل هذه الاقسام الاربعه.قيل: القسم الاول من يقعد به عن طلب الامره قله ماله و حقارته فى نفسه.و القسم الثانى: من يشمر و يطلب الاماره و يفسد فى الارض و يكاشف.و القسم الثالث: من يظهر ناموس الدين و يطلب به الدنيا.و القسم الرابع: من لا مال له اصلا، و لايكاشف، و يطلب الملك و لايطلب الدنيا بالرياء و الناموس، بل تنقطع اسبابه كلها فيخلد الى القناعه، و يتحلى بحليه الزهاده فى اللذات الدنيويه، لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركه فيها، و ليس بزاهد على الحقيقه.فان قيل: فهاهنا قسم خامس، قد ذكره (ع) و هم الابرار الاتقياء الذين اراق دموعهم خوف الاخره.قيل: انه (ع) انما قال: (ان الناس على اربعه اصناف) و عنى بهم من عدا المتقين و لهذا قال لما انقضى التقسيم: (و بقى رجال غض ابصارهم ذكر المرجع) فابان بذلك عن ان هولاء خارجون عن الاقسام الاربعه.فصل فى ذكر الايات و الاخبار الوارده فى ذم الرياء و الشهره و اعلم ان هذه الخطبه تتضمن الذم الكثير لمن يدعى الاخره من اهل زماننا، و هم اهل الرياء و النفاق، و لابسوا الصوف و الثياب المرقوعه لغير وجه الله.و قد ورد فى ذم الرياء شى ء كثير، و قد
ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم.و من الايات الوارده فى ذلك قوله تعالى: "يراءون الناس و لايذكرون الله الا قليلا".و منها قوله تعالى: "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لايشرك بعباده ربه احدا".و منها قوله تعالى: "انما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء و لا شكورا".و منها قوله تعالى: "الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون و يمنعون الماعون".و من الاخبار النبويه قوله (ص) و قد ساله رجل: يا رسول الله، فيم النجاه؟ فقال: (الا تعمل بطاعه الله و تريد بها الناس).و فى الحديث: (من راءى راءى الله به و من سمع سمع الله به).و فى الحديث: (ان الله تعالى يقول للملائكه: ان هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهى فاجعلوه فى سجين).و قال (ص): (ان اخوف ما اخاف عليكم الشرك الاصغر) قالوا: و ما الشرك الاصغر يا رسول الله؟ قال: (الرياء يقول الله تعالى اذا جازى العباد باعمالهم: اذهبوا الى الذين كنتم تراءونهم فى الدنيا فاطلبوا جزاءكم منهم).و فى حديث شداد بن اوس: رايت النبى (ص) يبكى فقلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: انى تخوفت على امتى الشرك اما انهم لايعبدون صنما و لا شمسا و لا قمرا و لكنهم يراءون باعمالهم.و راى عمر رجلا يتخشع و يطاطى ء
رقبته فى مشيته، فقال له: يا صاحب الرقبه، ارفع رقبتك، ليس الخشوع فى الرقاب.و راى ابوامامه رجلا فى المسجد يبكى فى سجوده، فقال له: انت انت لو كان هذا فى بيتك! و قال على (ع): للمرائى اربع علامات: يكسل اذا كان وحده، و ينشط اذا كان فى الناس و يزيد فى العمل اذا اثنى عليه، و ينقص منه اذا لم يثن عليه.و قال رجل لعباده بن الصامت: اقاتل بسيفى فى سبيل الله اريد به وجهه و محمده الناس قال: لا شى ء لك فساله ثلاث مرات كل ذلك يقول: لا شى ء لك.ثم قال: فى الثالثه: يقول الله تعالى: انا اغنى الاغنياء عن الشرك... الحديث.و ضرب عمر رجلا بالدره، ثم ظهر له انه لم يات جرما، فقال له: اقتص منى، فقال: بل ادعها لله و لك قال: ما صنعت شيئا اما ان تدعها لى فاعرف ذلك لك او تدعها لله وحده.و قال الحسن: لقد صحبت اقوما، ان كان احدهم لتعرض له الكلمه لو نطق بها لنفعته و نفعت اصحابه، ما يمنعه منها الا مخافه الشهره، و ان كان احدهم ليمر فيرى الاذى على الطريق فما يمنعه ان ينحيه الا مخافه الشهره.و قال الفضيل: كانوا يراءون بما يعملون، و صاروا اليوم يراءون بما لايعملون.و قال عكرمه: ان الله تعالى يعطى العبد على نيته ما لايعطيه على عمله، لان النيه لا
رياء فيها.و قال الحسن: المرائى يريد ان يغلب قدر الله تعالى، هو رجل سوء، يريد ان يقول الناس: هذا صالح، و كيف يقولون و قد حل من ربه محل الاردئاء، فلا بد لقلوب المومنين ان تعرفه.و قال قتاده: اذا راءى العبد قال الله تعالى لملائكته: انظروا الى عبدى يستهزى ء بى.و قال الفضيل: من اراد ان ينظر مرائيا فلينظر الى.و قال محمد بن المبارك الصورى: اظهر السمت بالليل، فانه اشرف من سمتك بالنهار، فان سمت النهار للمخلوقين، و سمت الليل لرب العالمين.و قال ابراهيم بن ادهم: ما صدق الله من احب ان يشتهر.و من الكلام المعزو الى عيسى بن مريم (ع): اذا كان يوم صوم احدكم فليدهن راسه و لحيته، و ليمسح شفتيه، لئلا يعلم الناس انه صائم.و اذا اعطى بيمينه، فليخف عن شماله و اذا صلى فليرخ ستر بابه فان الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.و من كلام بعض الصالحين: آخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرياسه.و روى انس بن مالك عن رسول الله (ص) انه قال: (يحسب المرء من الشر- الا من عصمه الله من السوء- ان يشير الناس اليه بالاصابع فى دينه و دنياه، ان الله لاينظر الى صوركم و لكن ينظر الى قلوبكم و اعمالكم.و قال على (ع): تبذل لاتشتهر و لاترفع شخصك لتذكر بعلم و
اسكت و اصمت تسلم تسر الابرار و تغيظ الفجار.و كان خالد بن معدان اذا كثرت حلقته قام مخافه الشهره.و راى طلحه بن مصرف قوما يمشون معه نحو عشره فقال: فراش نار، و ذبان طمع.و قال سليمان بن حنظله: بينا نحن حوالى ابى بن كعب نمشى، اذ رآه عمر فعلاه بالدره، و قال له: انظر من حولك! ان الذى انت فيه ذله للتابع فتنه للمتبوع.و خرج عبدالله بن مسعود من منزله، فاتبعه قوم، فالتفت اليهم و قال: علام تتبعوننى؟ فو الله لو تعلمون منى ما اغلق عليه بابى لما تبعنى منكم اثنان.و قال الحسن: خفق النعال حول الرجال مما يثبت عليهم قلوب الحمقى.و روى ان رجلا صحب الحسن فى طريق، فلما فارقه قال: اوصنى رحمك الله! قال: ان استطعت ان تعرف و لاتعرف، و تمشى و لايمشى اليك، و تسال و لا تسال فافعل.و خرج ايوب السختيانى فى سفر، فشيعه قوم، فقال: لولا انى اعلم ان الله يعلم من قلبى انى لهذا كاره لخشيت المقت من الله.و عوتب ايوب على تطويل قميصه، فقال: ان الشهره كانت فيما مضى فى طوله، و هى اليوم فى قصره.و قال بعضهم: كنت مع ابى قلابه، اذ دخل رجل عليه كساء، فقال: اياكم و هذا الحمار الناهق- يشير به الى طالب شهره.و قال رجل لبشر بن الحارث: اوصنى فقال: اخمل ذكرك
و طيب مطعمك.و كان حوشب يبكى و يقول: بلغ اسمى المسجد الجامع.و قال بشر: ما اعرف رجلا احب ان يعرف الا ذهب دينه و افتضح.و قال ايضا: لايجد حلاوه الاخره رجل يحب ان يعرفه الناس.فهذه الاثار قليل مما ورد عن الصالحين رحمهم الله فى ذم الرياء و كون الشهره طريقا الى الفتنه.فصل فى مدح الخمول و الجنوح الى العزله و قد صرح اميرالمومنين (ع) فى مدح الابرار- و هم القسم الخامس- بمدح الخمول، فقال: (قد اخملتهم التقيه) يعنى الخوف.و قد ورد فى الاخبار و الاثار شى ء كثير فى مدح الخمول.قال رسول الله (ص): (رب اشعث اغبر ذى طمرين لا يوبه له، لو اقسم على الله لابر قسمه).و فى روايه ابن مسعود: (رب ذى طمرين لا يوبه له، و لو سال الجنه لاعطيها).و فى الحديث ايضا عنه (ص): (الا ادلكم على اهل الجنه؟ كل ضعيف مستضعف، لو اقسم على الله لابره، الا ادلكم على اهل النار؟ كل متكبر جواظ).و عنه (ص): (ان اهل الجنه الشعث الغبر الذين اذا استاذنوا على الامراء لم يوذن لهم و اذا خطبوا لم ينكحوا و اذا قالوا لم ينصت لهم حوائج احدهم تتلجلج فى صدره لو قسم نورهم يوم القيامه على الناس لوسعهم).و روى ان عمر دخل المسجد، فاذا بمعاذ بن جبل يبكى عند قبر رسول الل
ه (ص) فقال: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: (ان اليسير من الرياء لشرك و ان الله يحب الاتقياء الاخفياء، الذين اذا غابوا لم يفتقدوا، و اذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمه).و قال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى احلاس البيوت.سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب، تعرفون عند اهل السماء و تخفون عند اهل الارض.و فى حديث ابى امامه، يرفعه: (قال الله تعالى: ان اغبط اوليائى لعبد مومن، خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاه، و قد احسن عباده ربه، و اطاعه فى السر، و كان غامضا فى الناس، لا يشار اليه بالاصابع).و فى الحديث: (السعيد من خمل صيته، و قل تراثه و سهلت منيته، و قلت بواكيه.و قال الفضيل: روى لى ان الله تعالى يقول فى بعض ما يمن به على عبده: الم انعم عليك! الم استرك! الم اخمل ذكرك! و كان الخليل بن احمد يقول فى دعائه: اللهم اجعلنى عندك من ارفع خلقك، و اجعلنى عند نفسى من اوضع خلقك و اجعلنى عند الناس من اوسط خلقك.و قال ابراهيم بن ادهم: ما قرت عينى ليله قط فى الدنيا الا مره بت ليله فى بعض مساجد قرى الشام و كان بى عله البطن، فجرنى الموذن برجلى حتى اخرجنى من المسجد.و قال الفضيل: ان قدرت
على الا تعرف، فافعل، و ما عليك الا تعرف، و ما عليك الا يثنى عليك! و ما عليك ان تكون مذموما عند الناس، اذا كنت محمودا عند الله تعالى.فان قيل: فما قولك فى شهره الانبياء و الائمه (ع) و اكابر الفقهاء المجتهدين؟ قيل: ان المذموم طلب الشهره، فاما وجودها من الله تعالى من غير تكلف من العبد و لاطلب فليس بمذموم، بل لابد من وجود انسان يشتهر امره، فان بطريقه ينصلح العالم و مثال ذلك الغرقى الذين بينهم غريق ضعيف الاولى به الا يعرفه احد منهم، لئلا يتعلق به فيهلك و يهلكوا معه، فان كان بينهم سابح قوى مشهور بالقوه، فالاولى الا يكون مجهولا بل ينبغى ان يعرف ليتعلقوا به، فينجو هو و يتخلصوا من الغرق بطريقه.