الشرح:
سمى السواد سوادا لخضرته بالزروع و الاشجار و النخل، و العرب تسمى الاخضر اسود، قال سبحانه: (مدهامتان) يريد الخضره.و قوله: (لو اطردت مقالتك)، اى اتبعت الاول قولا ثانيا! من قولهم اطرد النهر، اذا تتابع جريه.و قوله: (من حيث افضيت) اصل افضى خرج الى الفضاء، فكانه شبهه (ع) حيث سكت عما كان يقوله، بمن خرج من خباء او جدار الى فضاء من الارض، و ذلك لان النفس و القوى و الهمه عند ارتجال الخطب و الاشعار تجتمع الى القلب، فاذا قطع الانسان و فرغ، تفرقت و خرجت عن حجر الاجتماع و استراحت.و الشقشقه، بالسكر فيهما: شى ء يخرجه البعير من فيه اذا هاج، و اذا قالوا للخطيب: ذو شقشقه فانما شبهوه بالفحل.و الهدير: صوتها.و اما قول ابن عباس: (ما اسفت على كلام.) الى آخره، فحدثنى شيخى ابوالخير مصدق بن شبيب الواسطى فى سنه ثلاث و ستمائه، قال: قرات على الشيخ ابى محمد عبداللهبن احمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبه، فلما انتهيت الى هذا الموضع، قال لى: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: و هل بقى فى نفس ابن عمك امر لم يبلغه فى هذه الخطبه لتتاسف الا يكون بلغ من كلامه ما اراد! و الله ما رجع عن الاولين و لا عن الاخرين، و لابقى فى نفسه احد لم يذكره الا رسول الله (ص).قال مصدق: و كان ابن الخشاب صاحب دعابه و هزل.قال: فقلت له: اتقول انها منحوله! فقال: لا و الله، و انى لاعلم انها كلامه، كما اعلم انك مصدق.قال: فقلت له: ان كثيرا من الناس يقولون انها من كلام الرضى رحمه الله تعالى.فقال: انى للرضى و لغير الرضى هذا النفس و هذا الاسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضى، و عرفنا طريقته و فنه فى الكلام المنثور، و ما يقع مع هذا الكلام فى خل و لاخمر.ثم قال: و الله لقد وقفت على هذه الخطبه فى كتب صنفت قبل ان يخلق الرضى بمائتى سنه، و لقد وجدتها مسطوره بخطوط اعرفها، و اعرف خطوط من هو من العلماء و اهل الادب قبل ان يخلق النقيب ابواحمد والد الرضى.قلت: و قد وجدت انا كثيرا من هذه الخطبه فى تصانيف شيخنا ابى القاسم البلخى امام البغداديين من المعتزله، و كان فى دوله المقتدر قبل ان يخلق الرضى بمده طويله.و وجدت ايضا ك
ثيرا منها فى كتاب ابى جعفر بن قبه احد متكلمى الاماميه و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب "الانصاف".و كان ابوجعفر هذا من تلامذه الشيخ ابى القاسم البلخى رحمه الله تعالى، و مات فى ذلك العصر قبل ان يكون الرضى رحمه الله تعالى موجودا.
خطبه 004-اندرز به مردم
الشرح:
هذه الكلمات و الامثال ملتقطه من خطبه طويله منسوبه اليه (ع)، قد زاد فيها قوم اشياء حملتهم عليها اهواوهم، لا توافق الفاظها طريقته (ع) فى الخطب، و لا تناسب فصاحتها فصاحته، و لاحاجه الى ذكرها فهى شهيره.و نحن نشرح هذه الالفاظ، لانها كلامه (ع)، لايشك فى ذلك من له ذوق و نقد و معرفه بمذاهب الخطباء و الفصحاء فى خطبهم و رسائلهم، و لان الروايه لها كثيره، و لان الرضى رحمه الله تعالى عليه قد التقطها و نسبها اليه (ع)، و صححها و حذف ما عداها.و اما قوله (ع): (بنا اهتديتم فى الظلماء)، فيعنى بالظلماء الجهاله، و تسنمتم العلياء: ركبتم سنامها، و هذه استعاره.قوله: (و بنا انفجرتم عن السرار)، اى دخلتم فى الفجر، و السرار: الليله و الليلتان يستتر فيهما القمر فى آخر الشهر فلا يظهر.و روى (افجرتم)، و هو افصح و اصح، لان (انفعل) لايكون الا مطاوع (فعل)، نحو كسرته فانكسر، و حطمته فانحطم، الا ماشذ من قولهم: اغلقت الباب فانغلق و ازعجته فانزعج.و ايضا فانه لايقع الا حيث يكون علاج و تاثير، نحو انكسر و انحطم، و لهذا قالوا: ان قولهم: انعدم خطا، و اما (افعل) فيجى ء لصيروره الشى ء على حال و امر، نحو اغد البعير، اى صار ذاغده، و اجرب الرجل، اذا صار ذا ابل جربى، و غير ذلك.فافجرتم، اى صرتم ذوى فجر.و اما (عن) فى قوله: (عن السرار) فهى للمجاوزه على حقيقه معناها الاصلى، اى منتقلين عن السرار و متجاوزين له.و قوله (ع): (وقر سمع) هذا دعاء على السمع الذى لم يفقه الواعيه بالثقل و الصمم، وقرت اذن زيد، بضم الواو فهى موقوره، و الوقر، بالفتح: الثقل فى الاذن، و قرت اذنه- بفتح الواو و كسر القاف- توقر وقرا اى صمت، و المصدر فى هذا الموضع جاء بالسكون، و هو شاذ، و قياسه التحريك بالفتح، نحو ورم ورما.و الواعيه: الصارخه، من الوعاء، و هو الجلبه و الاصوات، و المراد العبر و المواعظ.قوله: (كيف يراعى النباه)، هذا مثل آخر، يقول: كيف يلاحظ و يراعى العبر الضعيفه من لم ينتفع بالعبر الجليه الظاهره، بل فسد عندها و شبه ذلك بمن اصمته الصيحه القويه، فانه محال ان يراعى بعد ذلك الصوت الضعيف.و النباه: هى الصوت الخفى.فان قيل: هذا يخالف قولكم: ان الاستفساد لايجوز على الحكيم سبحانه، فان كلامه (ع) صريح فى ان بعض المكلفين يفسد عند العبر و المواعظ.قيل: ان لفظه (افعل) قد تاتى لوجود الشى ء على صفه، نحو احمدته، اذا اصبته محمودا.و قالوا: احييت الارض، اذا وجدتها حيه ال
نبات، فقوله: (اصمته الصيحه)، ليس معناه ان الصيحه كانت عله لصممه، بل معناه صادفته اصم، و بهذا تاول اصحابنا قوله تعالى: (و اضله الله على علم).قوله: (ربط جنان لم يفارقه الخفقان)، هذا مثل آخر، و هو دعاء لقلب لايزال خائفا من الله يخفق بالثبوت و الاستمساك.قوله: (ما زلت انتظر بكم)، يقول: كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر، و هو الغفله.و قيل: ان هذه الخطبه خطبها بعد مقتل طلحه و الزبير، مخاطبا بها، لهما و لغيرهما من امثالهما، كما قال النبى (ص) يوم بدر، بعد قتل من قتل من قريش: (يا عتبه بن ربيعه، يا شيبه بن ربيعه، يا عمرو بن هشام)، و هم جيف منتنه قد جروا الى القليب.قوله: (سترنى عنكم)، هذا يحتمل وجوها، اوضحها ان اظهاركم شعار الاسلام عصمكم منى مع علمى بنفاقكم، و انما ابصرت نفاقكم و بواطنكم الخبيثه بصدق نيتى.كما يقال: المومن يبصر بنور الله.و يحتمل ان يريد: سترنى عنكم جلباب دينى، و منعنى ان اعرفكم نفسى و ما اقدر عليه من عسفكم، كما تقول لمن استهان بحقك: انت لاتعرفنى و لو شئت لعرفتك نفسى.و فسر القطب الراوندى قوله (ع): (و بصرنيكم صدق النيه)، قال: معناه انكم اذا صدقتم نياتكم، و نظرتم باعين لم تطرف بالحسد و الغش و انصفتمونى، ابصرتم عظيم منزلتى.و هذا ليس بجيد، لانه لو كان هو المراد لقال: و بصركم اياى صدق النيه، و لم يقل ذلك، و انما قال: (بصرنيكم)، فجعل صدق النيه مبصرا له لا لهم.و ايضا فانه حكم بان صدق النيه هو عله التبصير، و اعداوه لم يكن فيهم صادق النيه
، و ظاهر الكلام الحكم و القطع، لا التعليق بالشرط.قوله: (اقمت لكم على سنن الحق)، يقال: تنح عن سنن الطريق و سنن الطريق بفتح السين و ضمها، فالاول مفرد و الثانى جمع سنه، و هى جاده الطريق و الواضح منها.و ارض مضله و مضله، بفتح الضاد و كسرها: يضل سالكها.و اماه المحتفر يميه، انبط الماء.يقول: فعلت من ارشادكم و امركم بالمعروف و نهيكم عن المنكر ما يجب على مثلى، فوقفت لكم على جاده الحق و منهجه، حيث طرق الضلال كثيره مختلفه من سائر جهاتى، و انتم تائهون فيها تلتقون، و لا دليل لكم، و تحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به غلتكم فلا تظفرون بالماء، و هذه كلها استعارات.قوله: (اليوم انطق)، هذا مثل آخر.و العجماء: التى لانطق لها، و هذا اشاره الى الرموز التى تتضمنها هذه الخطبه، يقول: هى خفيه غامضه، و هى مع غموضها جليه لاولى الالباب، فكانها تنطق كما ينطق ذوو الالسنه، كما قيل: ما الامور الصامته الناطقه؟ فقيل: الدلائل المخبره و العبر الواعظه.و فى الاثر: سل الارض: من شق انهارك، و اخرج ثمارك؟ فان لم تجبك حوارا، اجابتك اعتبارا.قوله: (عزب راى امرى ء تخلف عنى) هذا كلام آخر، عزب، اى بعد، و العازب: البعيد.و يحتمل ان يكون هذا الكلام اخبارا و
ان يكون دعاء، كما ان قوله تعالى: (حصرت صدورهم) يحتمل الامرين.قوله: (ما شككت فى الحق مذ رايته)، هذا كلام آخر، يقول: معارفى ثابته لايتطرق اليها الشك و الشبهه.قوله: (لم يوجس موسى)، هذا كلام شريف جدا، يقول: ان موسى لما اوجس الخيفه، بدلاله قوله تعالى: (فاوجس فى نفسه خيفه موسى)، لم يكن ذلك الخوف على نفسه، و انما خاف من الفتنه و الشبهه الداخله على المكلفين عند القاء السحره عصيهم، فخيل اليه من سحرهم انها تسعى، و كذلك انا لااخاف على نفسى من الاعداء الذين نصبوا لى الحبائل، و ارصدوا لى المكائد، و سعروا على نيران الحرب، و انما اخاف ان يفتتن المكلفون بشبههم و تمويهاتهم، فتقوى دوله الضلال، و تغلب كلمه الجهال.قوله: (اليوم تواقفنا)، القاف قبل الفاء، تواقف القوم على الطريق، اى وقفوا كلهم عليها، يقول: اليوم اتضح الحق و الباطل، و عرفناهما نحن و انتم.قوله: (من وثق بماء لم يظما)، الظما الذى يكون عند عدم الثقه بالماء، و ليس يريد النفى المطلق، لان الواثق بالماء قد يظما، و لكن لايكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء، و عدم الوثوق بوجوده، و هذا كقول ابى الطيب: و ما صبابه مشتاق على امل من اللقاء كمشتاق بلا امل و الصائم
فى شهر رمضان يصبح جائعا تنازعه نفسه الى الغذاء، و فى ايام الفطر لايجد تلك المنازعه فى مثل ذلك الوقت، لان الصائم ممنوع، و النفس تحرص على طلب ما منعت منه، يقول: ان وثقتم بى و سكنتم الى قولى كنتم ابعد عن الضلال و اقرب الى اليقين و ثلج النفس، كمن وثق بان الماء فى اداوته، يكون عن الظماء و خوف الهلاك من العطش ابعد ممن لم يثق بذلك.