نامه 058-درباره جنگ صفين - شرح نهج البلاغه نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شرح نهج البلاغه - نسخه متنی

ابن ابی الحدید معتزلی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

نامه 058-درباره جنگ صفين

الشرح:

روى: (التقينا و القوم) بالواو، كما قال: قلت اذ اقبلت و زهر تهادى.

و من لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف.

قوله: (و الظاهر ان ربنا واحد)، كلام من لم يحكم لاهل صفين من جانب معاويه حكما قاطعا بالاسلام، بل قال: ظاهرهم الاسلام، و لا خلف بيننا و بينهم فيه، بل الخلف فى دم عثمان.

قال (ع): قلنا لهم: تعالوا فلنطفى ء هذه النائره الان يوضع الحرب، الى ان تتمهد قاعدتى فى الخلافه و تزول هذه الشوائب التى تكدر على الامر، و يكون للناس جماعه ترجع اليها، و بعد ذلك اتمكن من قتله عثمان باعيانهم فاقتص منهم، فابوا الا المكابره و المغالبه و الحرب.

قوله: (حتى جنحت الحرب و ركدت)، جنحت: اقبلت، و منه: قد جنح الليل، اى اقبل، و ركدت: دامت و ثبتت.

قوله: (و وقدت نيرانها)، اى التهبت.

قوله: (و حمشت)، اى استعرت و شبت.

و روى: (و استحشمت) و هو اصح، و من رواها (حمست) بالسين المهمله اراد اشتدت و صلبت.

قوله: (فلما ضرستنا و اياهم) اى عضتنا باضراسها، و يقال: ضرسهم الده، ر اى اشتد عليهم.

قال: لما اشتدت الحرب علينا و عليهم، و اكلت منا و منهم، عادوا الى ما كنا سالناهم ابتداء، و ضرعوا الينا فى رفع الحرب، و رفعوا المصاحف يسالون ا
لنزول على حكمها، و اغماد السيف، فاجبناهم الى ذلك.

قوله: (و سارعناهم الى ما طلبوا) كلمه فصيحه، و هى تعديه الفعل اللازم، كانها لما كانت فى معنى المسابقه، و المسابقه متعديه عدى المسارعه.

قوله: (حتى استبانت)، يقول: استمررنا على كف الحرب و وضعها، اجابه لسوالهم، الى ان استبانت عليهم حجتنا، و بطلت معاذيرهم و شبهتهم فى الحرب و شق العصا، فمن تم منهم على ذلك، اى على انقياده الى الحق بعد ظهوره له، فذاك الذى خلصه الله من الهلاك و عذاب الاخره، و من لج منهم على ذلك و تمادى فى ضلاله فهو الراكس، قال قوم: الراكس هنا بمعنى المركوس.

فهو مقلوب فاعل بمعنى مفعول.

كقوله تعالى: (فهو فى عيشه راضيه) اى مرضيه، و عندى ان اللفظه على بابها، يعنى ان من لج فقد ركس نفسه، فهو الراكس، و هو المركوس، يقال: ركسه و اركسه بمعنى، و الكتاب العزيز جاء بالهمز فقال: (و الله اركسهم بما كسبوا)، اى ردهم الى كفرهم، و يقول: ارتكس فلان فى امر كان نجا منه، و ران على قلبه، اى ران هو على قلبه، كما قلنا فى الراكس، و لايجوز ان يكون الفاعل- و هو الله- محذوفا، لان الفاعل لايحذف، بل يجوز ان يكون الفاعل كالمحذوف، و ليس بمحذوف، و يكون المصدر و هو الرين، و دل الفعل عليه
كقوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما راوا الايات) اى بدا لهم البداء.

و ران بمعنى غلب و غطى، و روى (فهو الراكس الذى رين على قلبه).

قال: و صارت دائره السوء على راسه، من الفاظ القرآن العزيز، قال الله تعالى: (عليهم دائره السوء) و الدوائر: الدول.

قال: و ان على الباغى تدور الدوائر.

و الدائره ايضا: الهزيمه، يقال: على من الدائره منهما، و الدوائر ايضا الدواهى.

نامه 059-به اسود بن قطبه

الشرح:

(الاسود بن قطبه) لم اقف الى الان على نسب الاسود بن قطبه، و قرات فى كثير من النسخ انه حارثى من بنى الحارث بن كعب، و لم اتحقق ذلك، و الذى يغلب على ظنى انه الاسود بن زيد بن قطبه بن غنم الانصارى من بنى عبيد بن عدى.

ذكره ابوعمر بن عبدالبر فى كتاب "الاستيعاب" و قال: ان موسى بن عقبه عده فيمن شهد بدرا.

قوله (ع): (اذا اختلف هوى الوالى منعه كثيرا من الحق) قول صدق، لانه متى لم يكن الخصمان عند الوالى سواء فى الحق جار و ظلم.

ثم قال له: فانه ليس فى الجور عوض من العدل، و هذا ايضا حق، و فى العدل كل العوض من الجور.

ثم امره باجتناب ما ينكر مثله من غيره، و قد تقدم نحو هذا.

و قوله: (الا كانت فرغته) كلمه فصيحه، و هى المره الواحده من الفراغ، و قد روى عن النبى (ص): (ان الله يبغض الصحيح الفارغ لا فى شغل الدنيا و لا فى شغل الاخره)، و مراد اميرالمومنين (ع) هاهنا الفراغ من عمل الاخره خاصه.

قوله: (فان الذى يصل اليك من ذلك افضل من الذى يصل بك)، معناه: فان الذى يصل اليك من ثواب الاحتساب على الرعيه، و حفظ نفسك من مظالمهم و الحيف عليهم، افضل من الذى يصل بك من حراسه دمائهم و اعراضهم و اموالهم، و لا شبهه فى ذلك، لان
احدى المنفعتين دائمه، و الاخرى منقطعه، و النفع الدائم افضل من المنقطع.

نامه 060-به فرماندارانى كه ارتش ...

الشرح:

روى (عن مضارتهم) بالراء المشدده.

و جباه الخراج: الذين يجمعونه، جبيت الماء فى الحوض، اى جمعته.

و الشذى: و الضرب و الشر، تقول: لقد اشذيت و آذيت.

و الى ذمتكم، اى الى اليهود و النصارى الذين بينكم، قال (ع): (من آذى ذميا فكانما آذانى)، و قال: انما بذلوا الجزيه لتكون دماوهم كدمائنا، و اموالهم كاموالنا، و يسمى هولاء ذمه، اى اهل ذمه، بحذف المضاف.

و المعره: المضره، قال: الجيش ممنوع من اذى من يمر به من المسلمين و اهل الذمه الا من سد جوعه المضطر منهم خاصه، لان المضطر تباح له الميته فضلا عن غيرها.

ثم قال: فنكلوا من تناول، و روى (بمن تناول) بالباء، اى عاقبوه.

و (عن) فى قوله: (عن ظلمهم)، يتعلق بنكلوا، لانها فى معنى (اردعوا)، لان النكال يوجب الردع.

ثم امرهم ان يكفوا ايدى احداثهم و سفهائهم عن منازعه الجيش و مصادمته، و التعرض لمنعه عما استثناه، و هو سد الجوعه عند الاضطرار، فان ذلك لايجوز فى الشرع، و ايضا فانه يفضى الى فتنه و هرج.

ثم قال: (و انا بين اظهر الجيش)، اى انا قريب منكم، و سائر على اثر الجيش، فارفعوا الى مظالمكم و ما عراكم منهم على وجه الغلبه و القهر، فانى مغير ذلك و منتصف لكم منهم.

نامه 061-به كميل بن زياد

الشرح:

(كميل بن زياد و نسبه) هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن وعله بن خالد بن مالك بن ادد.

كان من اصحاب على (ع) و شيعته و خاصته، و قتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعه.

و كان كميل بن زياد عامل على (ع) على هيت، و كان ضعيفا، يمر عليه سرايا معاويه تنهب اطراف العراق و لايردها، و يحاول ان يجبر ما عنده من الضعف بان يغير على اطراف اعمال معاويه مثل قرقيسيا و ما يجرى مجراها من القرى التى على الفرات، فانكر (ع) ذلك من فعله، و قال: ان من العجز الحاضر ان يهمل الوالى ما وليه، و يتكلف ما ليس من تكليفه.

و المتبر: الهالك، قال تعالى: (ان هولاء متبر ما هم فيه).

و المسالح: جمع مسلحه، و هى المواضع التى يقام فيها طائفه من الجند لحمايتها.

و راى شعاع، بالفتح، اى متفرق.

ثم قال له: (قد صرت جسرا) اى يعبر عليك العدو كما يعبر الناس على الجسور، و كما ان الجسر لايمنع من يعبر به و يمر عليه فكذاك انت.

و الثغره: الثلمه.

و مجز: كاف و مغن، و الاصل (مجزى ء) بالهمز، فخفف.

نامه 062-به مردم مصر

الشرح:

المهيمن: الشاهد، قال الله تعالى: (انا ارسلناك شاهدا و مبشرا)، اى تشهد بايمان من آمن و كفر من كفر و قيل: تشهد بصحه نبوه الانبياء قبلك.

و قوله: (على المرسلين)، يوكد صحه هذا التفسير الثانى، و اصل اللفظه من (آمن غيره من الخوف)، لان الشاهد يومن غيره من الخوف بشهادته، ثم تصرفوا فيها فابدلوا احدى همزتى (موامن) ياء فصار (مويمن)، ثم قلبوا الهمزه هاء كارقت و هرقت فصار (مهيمن).

و الروع: الخلد، و فى الحديث: (ان روح القدس نفت فى روعى)، قال: ما يخطر لى ببال ان العرب تعدل بالامر بعد وفاه محمد (ص) عن بنى هاشم، ثم من بنى هاشم عنى، لانه كان المتيقن بحكم الحال الحاضره و هذا الكلام يدل على بطلان دعوى الاماميه النص و خصوصا الجلى.

قال: (فما راعنى الا انثيال الناس)، تقول للشى ء يفجوك بغته: ما راعنى الا كذا، و الروع بالفتح، الفزع، كانه يقول: ما افزعنى شى ء بعد ذلك السكون الذى كان عندى، و تلك الثقه التى اطماننت اليها الا وقوع ما وقع من انثيال الناس- اى انصبابهم من كل وجه كما ينثاب التراب- على ابى بكر، و هكذا لفظ الكتاب الذى كتبه للاشتر، و انما الناس يكتبونه الان (الى فلان) تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون فى اول
الشقشقيه: (اما و الله لقد تقمصها فلان)، و اللفظ (اما و الله لقد تقمصها ابن ابى قحافه).

قوله: (فامسكت يدى)، اى امتنعت عن بيعته، حتى رايت راجعه الناس، يعنى اهل الرده كمسيلمه، و سجاح و طليحه بن خويلد و مانعى الزكاه، و ان كان مانعو الزكاه قد اختلف فى انهم اهل رده ام لا.

و محق الدين: ابطاله.

و زهق: خرج و زال.

تنهنه: سكن، و اصله الكف، تقول: نهنهت السبع فتنهنه، اى كف عن حركته و اقدامه، فكان الدين كان متحركا مضطربا فسكن و كف عن ذلك الاضطراب.

روى ابوجعفر محمد بن جرير الطبرى فى التاريخ الكبير ان رسول الله (ص) لما مات اجتمعت اسد و غطفان و طى ء على طليحه بن خويلد الا ما كان من خواص اقوام فى الطوائف الثلاث، فاجتمعت اسد بسميراء، و غطفان بجنوب طيبه و طى ء فى حدود ارضهم، و اجتمعت ثعلبه بن اسد و من يليهم من قيس بالابرق من الربذه، و تاشب اليهم ناس من بنى كنانه، و لم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين: اقامت احداهما بالابرق، و سارت الاخرى الى ذى القصه، و بعثوا وفودا الى ابى بكر يسالونه ان يقارهم على اقامه الصلاه و منع الزكاه، فعزم الله لابى بكر على الحق، فقال: لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه.

و رجع الوفود الى قومهم فاخبروهم بقله من
اهل المدينه، فاطمعوهم فيها و علم ابوبكر و المسلمون بذلك، و قال لهم ابوبكر: ايها المسلمون، ان الارض كافره، و قد راى و فدهم منكم قله، و انكم لاتدرون اليلا توتون ام نهارا، و ادناهم منكم على بريد، و قد كان القوم ياملون ان نقبل منهم و نوادعهم، و قد ابينا عليهم، و نبذنا اليهم، فاعدوا و استعدوا.

فخرج على (ع) بنفسه، و كان على نقب من انقاب المدينه، و خرج الزبير و طلحه و عبدالله بن مسعود و غيرهم فكانوا على الانقاب الثلاثه، فلم يلبثوا الا قليلا حتى طرق القوم المدينه غاره مع الليل، و خلفوا بعضهم بذى حسى ليكونوا ردئا لهم، فوافوا الانقاب و عليها المسلمون، فارسلوا الى ابى بكر بالخبر، فارسل اليهم ان الزموا مكانكم، ففعلوا، و خرج ابوبكر فى جمع من اهل المدينه على النواضح، فانتشر العدو بين ايديهم، و اتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغوا ذا حسى، فخرج عليهم الكمين بانحاء قد نفخوها، و جعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بارجلهم فى وجوه الابل، فتدهده كل نحى منها فى طوله فنفرت ابل المسلمين، و هم عليها- و لاتنفر الابل من شى ء نفارها من الانحاء- فعاجت بهم لايملكونها حتى دخلت بهم المدينه، و لم يصرع منهم احد و لم يصب، فبات المسلمون تلك الليله
يتهيئون، ثم خرجوا على تعبيه، فما طلع الفجر الا و هم و القوم على صعيد واحد، فلم يسمعوا للمسلمين حسا و لاهمسا حتى وضعوا فيهم السيف، فاقتتلوا اعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس الا و قد ولوا الادبار و غلبوهم على عامه ظهرهم، و رجعوا الى المدينه ظافرين.

قلت: هذا هو الحديث الذى اشار (ع) الى انه نهض فيه ايام ابى بكر.

و كانه جواب عن قول قائل: انه عمل لابى بكر، و جاهد بين يدى ابى بكر، فبين (ع) عذره فى ذلك، و قال: انه لم يكن كما ظنه القائل، و لكنه من باب دفع الضرر عن النفس و الدين، فانه واجب سواء كان للناس امام او لم يكن.

(ذكر ما طعن به الشيعه فى امامه ابى بكر و الجواب عنها) و ينبغى حيث جرى ذكر ابى بكر فى كلام اميرالمومنين (ع) ان نذكر ما اورده قاضى القضاه فى "المغنى" من المطاعن التى طعن بها فيه و جواب قاضى القضاه عنها، و اعتراض المرتضى فى "الشافى" على قاضى القضاه، و نذكر ما عندنا فى ذلك ثم نذكر مطاعن اخرى لم يذكرها قاضى القضاه.

(الطعن الاول) قال قاضى القضاه بعد ان ذكر ما طعن به فيه فى امر فدك، و قد سبق القول فيه.

و مما طعن به عليه قولهم: كيف يصلح للامامه من يخبر عن نفسه ان له شيطانا يعتريه و من يحذر الناس نفسه، و
من يقول: (اقيلونى) بعد دخوله فى الامامه، مع انه لايحل للامام ان يقول: اقيلونى البيعه!.

اجاب قاضى القضاه فقال: ان شيخنا اباعلى قال: لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول الله فى آدم و حواء: (فوسوس لهما الشيطان)، و قوله: (فازلهما الشيطان)، و قوله: (و ما ارسلنا من قبلك من رسول و لا نبى الا اذا تمنى القى الشيطان فى امنيته)، يوجب النقص فى الانبياء.

و اذا لم يجب ذلك، فكذلك ما وصف به ابوبكر نفسه، و انما اراد انه عند الغضب يشفق من المعصيه و يحذر منها، و يخاف ان يكون الشيطان يعتريه فى تلك الحال فيوسوس اليه، و ذلك منه على طريقه الزجر لنفسه عن المعاصى، و قد روى عن اميرالمومنين (ع) انه ترك مخاصمه الناس فى حقوقه اشفاقا من المعصيه، و كان يولى ذلك عقيلا، فلما اسن عقيل كان يوليها عبدالله بن جعفر.

فاما ما روى فى اقاله البيعه فهو خبر ضعيف، و ان صح فالمراد به التنبيه على انه لايبالى لامر يرجع اليه ان يقيله الناس البيعه، و انما يضرون بذلك انفسهم، و كانه نبه بذلك على انه غير مكره لهم، و انه قد خلاهم و ما يريدون الا ان يعرض ما يوجب خلافه.

و قد روى ان اميرالمومنين (ع) اقال عبدالله بن عمر البيعه حين استقاله، و المراد بذلك انه تركه و ما يختا
ر.

اعترض المرتضى رضى الله عنه فقال: اما قول ابى بكر: (وليتكم و لست بخيركم، فان استقمت فاتبعونى، و ان اعوججت فقومونى، فان لى شيطانا يعترينى عند غضبى، فاذا رايتمونى مغضبا فاجتنبونى لااوثر فى اشعاركم و ابشاركم)، فانه يدل على انه لايصلح للامامه من وجهين: احدهما ان هذا صفه من ليس بمعصوم، و لايامن الغلط على نفسه من يحتاج الى تقويم رعيته له اذا وقع فى المعصيه، و قد بينا ان الامام لابد ان يكون معصوما موفقا مسددا، و الوجه الاخر ان هذه صفه من لايملك نفسه، و لايضبط غضبه، و من هو فى نهايه الطيش و الحده و الخرق و العجله.

و لاخلاف ان الامام يجب ان يكون منزها عن هذه الاوصاف، غير حاصل عليها و ليس يشبه قول ابى بكر ما تلاه من الايات كلها.

لان ابابكر خبر عن نفسه بطاعه الشيطان عند الغضب، و ان عادته بذلك جاريه، و ليس هذا بمنزله من يوسوس اليه الشيطان و لايطيعه، و يزين له القبيح فلا ياتيه، و ليس وسوسه الشيطان بعيب على الموسوس له اذا لم يستزله ذلك عن الصواب، بل هو زياده فى التكليف، و وجه يتضاعف معه الثواب، و قوله تعالى: (القى الشيطان فى امنيته) قيل: معناه فى تلاوته، و قيل: فى فكرته، على سبيل الخاطر، و اى الامرين كان، فلا عار فى ذلك
على النبى (ص) و لانقص، و انما العار و النقص على من يطيع الشيطان و يتبع ما يدعو اليه.

و ليس لاحد ان يقول: هذا ان سلم لكم فى جميع الايات لم يسلم فى قوله تعالى: (فازلهما الشيطان) لانه قد خبر عن تاثير غوايته و وسوسته بما كان منهما من الفعل.

و ذلك ان المعنى الصحيح فى هذه الايه ان آدم و حواء كانا مندوبين الى اجتناب الشجره و ترك التناول منها، و لم يكن ذلك عليهما واجبا لازما، لان الانبياء لايخلون بالواجب، فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجره، فتركا مندوبا اليه، و حرما بذلك انفسهما الثواب، و سماه ازلالا، لانه حط لهما عن درجه الثواب و فعل الافضل، و قوله تعالى فى موضع آخر: (و عصى آدم ربه فغوى) لا ينافى هذا المعنى، لان المعصيه قد يسمى بها من اخل بالواجب و الندب معا.

قوله: (فغوى) اى خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب اليه.

على ان صاحب الكتاب يقول: ان هذه المعصيه من آدم كانت صغيره لايستحق بها عقابا و لا ذما، فعلى مذهبه ايضا تكون المفارقه بينه و بين ابى بكر ظاهره، لان ابابكر خبر عن نفسه ان الشيطان يعتريه حتى يوثر فى الاشعار و الابشار، و ياتى ما يستحق به التقويم، فاين هذا من ذنب صغير لا ذم و لا عقاب عليه، و هو يرجى من
وجه من الوجوه مجرى المباح، لانه لايوثر فى احوال فاعله و حط رتبته، و ليس يجوز ان يكون ذلك منه على سبيل الخشيه و الاشفاق على ما ظن، لان مفهوم خطابه يقتضى خلاف ذلك، الا ترى انه قال: (ان لى شيطانا يعترينى) و هذا قول من قد عرف عادته، و لو كان على سبيل الاشفاق و الخوف لخرج عن هذا المخرج، و لكان يقول: فانى آمن من كذا و انى لمشفق منه.

فاما ترك اميرالمومنين (ع) مخاصمه الناس فى حقوقه فكانه انما كان تنزها و تكرما، و اى نسبه بين ذلك و بين من صرح و شهد على نفسه بما لايليق بالائمه! و اما خبر استقاله البيعه و تضعيف صاحب الكتاب له فهو ابدا يضعف ما لايوافقه من غير حجه يعتمدها فى تضعيفه.

و قوله: انه ما استقال على التحقيق، و انما نبه على انه لايبالى بخروج الامر عنه، و انه غير مكره لهم عليه، فبعيد من الصواب، لان ظاهر قوله (اقيلونى) امر بالاقاله، و اقل احواله ان يكون عرضا لها و بذلا، و كلا الامرين قبيح و لو اراد ما ظنه لكان له فى غير هذا القول مندوحه، و لكان يقول: انى ما اكرهتكم و لاحملتكم على مبايعتى، و ما كنت ابالى الا يكون هذا الامر فى و لا الى، و ان مفارقته لتسرنى لولا ما الزمنيه الدخول فيه من التمسك به، و متى عدلنا عن ظواهر
الكلام بلا دليل، جر ذلك علينا ما لاقبل لنا به.

و اما اميرالمومنين (ع) فانه لم يقل ابن عمر البيعه بعد دخولها فيها و انما استعفاه من ان يلزمه البيعه ابتداء فاعفاه قله فكر فيه، و علما بان امامته لاتثبت بمبايعه من يبايعه عليها، فاين هذا من استقاله بيعه قد تقدمت و استقرت!.

قلت: اما قول ابى بكر: (وليتكم و لست بخيركم) فقد صدق عند كثير من اصحابنا، لان خيرهم على بن ابى طالب (ع)، و من لايقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصرى: و الله انه ليعلم انه خيرهم، و لكن المومن يهضم نفسه.

و لم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظه لنطيل القول فيها.

و اما قول المرتضى عنه انه قال: (فان لى شيطانا يعترينى عند غضبى)، فالمشهور فى الروايه: (فان لى شيطانا يعترينى)، قال المفسرون: اراد بالشيطان الغضب و سماه شيطانا على طريق الاستعاره، و كذا ذكره شيخنا ابوالحسين فى "الغرر".

قال معاويه لانسان غضب فى حضرته فتكلم بما لايتكلم بمثله فى حضره الخلفاء: اربع على ظلعك ايها الانسان، فانما الغضب شيطان، و انا لم نقل الا خيرا.

و قد ذكر ابوجعفر محمد بن جرير الطبرى فى "كتاب التاريخ الكبير" خطبتى ابى بكر عقيب بيعته بالسقيفه، و نحن نذكرهما نقلا من كتابه، اما الخطبه الاول
ى فهى: اما بعد ايها الناس، فانى وليتكم و لست بخيركم، فان احسنت فاعينونى، و ان اسات فقومونى، لان الصدق امانه، و الكذب خيانه، الضعيف منكم قوى عندى حتى اريح عليه حقه، و القوى منكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه، لايدع قوم الجهاد فى سبيل الله الا ضربهم الله بالذل، و لاتشيع الفاحشه فى قوم الا عمهم الله بالبلاء.

اطيعونى ما اطعت الله و رسوله، فاذا عصيت الله و رسوله فلا طاعه لى عليكم: قوموا الى صلاتكم رحمكم الله.

و اما الخطبه الثانيه فهى: ايها الناس انما انا مثلكم، و انى لاادرى لعلكم ستكلفوننى ما كان رسول الله (ص) يطيقه.

ان الله اصطفى محمدا (ص) على العالمين، و عصمه من الافات، و انما انا متبع و لست بمتبوع، فان استقمت فاتبعونى، و ان زغت فقومونى و ان رسول الله (ص) قبض و ليس احد من هذه الامه يطلبه بمظلمه ضربه سوط فما دونها.

الا و ان لى شيطانا يعترينى، فاذا غضبت فاجتنبونى لااوثر فى اشعاركم و ابشاركم.

الا و انكم تغدون و تروحون فى اجل قد غيب عنكم علمه، فان استطعتم الا يمضى هذا الاجل الا و انتم فى عمل صالح فافعلوا، و لن تستطيعوا ذلك الا بالله.

فسابقوا فى مهل آجالكم من قبل ان تسلمكم آجالكم الى انقطاع الاعمال، فان قوما نسوا آجاله
م، و جعلوا اعمالهم لغيرهم، فانهاكم ان تكونوا امثالهم.

الجد الجد! الوحا الوحا! فان ورائكم طالبا حثيثا، اجل مره سريع.

احذروا الموت، و اعتبروا بالاباء و الابناء و الاخوان، و لاتغبطوا الاحياء الا بما يغبط به الاموات.

ان الله لايقبل من الاعمال الا ما يراد به وجهه، فاريدوا وجه الله باعمالكم، و اعلموا ان ما اخلصتم لله من اعمالكم فلطاعه اتيتموها، و حظ ظفرتم به، و ضرائب اديتموها، و سلف قدمتموه من ايام فانيه لاخرى باقيه، لحين فقركم و حاجتكم، فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم، و تفكروا فيمن كان قبلكم، اين كانوا امس و اين هم اليوم! اين الجبارون؟ اين الذين كان لهم ذكر القتال و الغلبه فى مواطن الحرب! قد تضعضع بهم الدهر، و صاروا رميما، قد تركت عليهم القالات الخبيثات، و انما الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات.

و اين الملوك الذين اثاروا الارض و عمروها! قد بعدوا بسيى ء ذكرهم، و بقى ذكرهم و صاروا كلا شى ء.

الا ان الله قد ابقى عليهم التبعات، و قطع عنهم الشهوات و مضوا و الاعمال اعمالهم، و الدنيا دنيا غيرهم، و بقينا خلفا من بعدهم، فان نحن اعتبرنا بهم نجونا، و ان اغتررنا كنا مثلهم.

اين الوضاء الحسنه وجوههم، المعجبون بشبابهم! صارو
ا ترابا، و صار ما فرطوا فيه حسره عليهم، اين الذين بنوا المدائن و حصنوها بالحوائط، و جعلوا فيها العجائب، و تركوها لمن خلفهم! فتلك مساكنهم خاويه، و هم فى ظلم القبور، (هل تحس منهم من احد او تسمع لهم ركزا).

اين من تعرفون من آبائكم و اخوانكم! قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه، و اقاموا للشقوه و للسعاده.

الا ان الله لاشريك له، ليس بينه و بين احد من خلقه سبب يعطيه به خيرا، و لايصرف عنه به شرا الا بطاعته و اتباع امره، و اعلموا انكم عباد مدينون، و ان ما عنده لايدرك الا بتقواه و عبادته.

الا و انه لا خير بخير بعده النار و لا شر بشر بعد الجنه.

فهذه خطبتا ابى بكر يوم السقيفه، و اليوم الذى يليه، انما قال: (ان لى شيطانا يعترينى، و اراد بالشيطان الغضب، و لم يرد ان له شيطانا من مرده الجن يعتريه اذا غضب فالزياده فيما ذكره المرتضى فى قوله: (ان لى شيطانا يعترينى عند غضبى)، تحريف لامحاله، و لو كان له شيطان من الجن يعتاده و ينوبه لكان فى عداد المصروعين من المجانين، و ما ادعى احد على ابى بكر هذا لا من اوليائه و لا من اعدائه، و انما ذكرنا خطبته على طولها و المراد منها كلمه واحده، لما فيها من الفصاحه و الموعظه على عادتنا
فى الاعتناء بايداع هذا الكتاب ما كان ذاهبا هذا المذهب، و سالكا هذا السبيل.

فاما قول المرتضى: (فهذه صفه من ليس بمعصوم)، فالامر كذلك و العصمه عندنا ليست شرطا فى الامامه و لو لم يدل على عدم اشتراطها، الا انه قال على المنبر بحضور الصحابه هذا القول، و اقروه على الامامه- لكفى فى عدم كون العصمه شرطا، لانه قد حصل الاجماع على عدم اشتراط ذلك، اذ لو كان شرطا لانكر منكر امامته كما لو قال: انى لااصبر عن شرب الخمر و عن الزنى.

فاما قوله: (هذه صفه طائش لايملك نفسه)، فلعمرى ان ابابكر كان حديدا، و قد ذكره عمر بذلك، و ذكره غيره من الصحابه بالحده و السرعه، و لكن لابحيث ان تبطل به اهليته للامامه، لان الذى يبطل الامامه من ذلك و ما يخرج الانسان عن العقل، و اما ما هو دون ذلك فلا.

و ليس قوله: (فاجتنبونى لااوثر فى اشعاركم و ابشاركم) محمول على ظاهره، و انما اراد به المبالغه فى وصف القوه الغضبيه عنده، و الا فما سمعنا و لانقل ناقل من الشيعه و لا من غير الشيعه ان ابابكر فى ايام رسول الله (ص) و لا فى الجاهليه و لا فى ايام خلافته احتد على انسان فقام اليه فضربه بيده و مزق شعره.

فاما ما حكاه قاضى القضاه عن الشيخ ابى على من تشبيه هذه اللفظه بم
ا ورد فى القرآن، فهو على تقدير ان يكون ابوبكر عنى الشيطان حقيقه.

و ما اعترض به المرتضى ثانيه عليه غير لازم، لان الله تعالى قال: (فوسوس لهما الشيطان)، و تعقب ذلك قبولهما وسوسته، و اكلهما من الشجره، فكيف يقول المرتضى: ليس قول ابى بكر بمنزله من وسوس له الشيطان فلم يطعه! و كذلك قوله تعالى فى قصه موسى لما قتل القبطى: (هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين)، و كذلك قوله: (فازلهما الشيطان عنها)، و قوله: (القى الشيطان فى امنيته)، و ما ذهب اليه المرتضى من التاويلات مبنى على مذهبه فى العصمه الكليه، و هو مذهب يحتاج فى نصرته الى تكلف شديد و تعسف عظيم فى تاويل الايات، على انه اذا سلم ان الشيطان القى فى تلاوه الرسول (ص) ما ليس من القرآن حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول، فقد نقض دلاله التنفير المقتضيه عنده فى العصمه، لانه لاتنفير عنده ابلغ من تمكين الله الشيطان ان يخلط كلامه بكلامه، و رسوله يوديه الى المكلفين حتى يعتقد السامعون كلهم ان الكلامين كلام واحد.

و اما قوله: ان آدم كان مندوبا الى الا ياكل من الشجره لامحرم عليه اكلها، و لفظه (عصى) انما المراد بها خالف المندوب و لفظه (غوى)، انما المراد (خاب) من حيث لم يستحق الثوا
ب على اعتماد ما ندب اليه، فقول يدفعه ظاهر الايه، لان الصيغه صيغه النهى، و هى قوله: (و لاتقربا هذه الشجره) و النهى عند المرتضى يقتضى التحريم لا محاله، و ليس الامر الذى قد يراد به الندب، و قد يراد به الوجوب.

و اما قول شيخنا ابى على: ان كلام ابى بكر خرج مخرج الاشفاق و الحذر من المعصيه عند الغضب فجيد.

و اعتراض المرتضى عليه بانه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم، لان هذه عاده العرب، يعبرون عن الامر بما هو منه بسبب و سبيل، كقولهم: لاتدن من الاسد فياكلك، فليس انهم قطعوا على الاكل عند الدنو، و انما المراد الحذر و الخوف و التوقع للاكل عند الدنو.

و اما الكلام فى قوله: (اقيلونى)، فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه، لانه انما اراد فى اليوم الثانى اختبار حالهم فى البيعه التى وقعت فى اليوم الاول ليعلم وليه من عدوه منهم، و قد روى جميع اصحاب السير ان اميرالمومنين خطب فى اليوم الثانى من بيعته فقال: ايها الناس، انكم بايعتمونى على السمع و الطاعه، و انا اعرض اليوم عليكم ما دعوتمونى اليه امس، فان اجبتم قعدت لكم، و الا فلا اجد على احد.

و ليس بجيد قول المرتضى: انه لو كان يريد العرض و البذل لكان قد قال كذا و كذا، فان هذه مضايقه منه شديده
للالفاظ، و لو شرعنا فى مثل هذا لفسد اكثر ما يتكلم به الناس.

على انا لو سلمنا انه استقالهم البيعه حقيقه، فلم قال المرتضى: ان ذلك لايجوز؟ اليس يجوز للقاضى ان يستقيل من القضاء بعد توليته اياه، و دخوله فيه! فكذلك يجوز للامام ان يستقيل من الامامه اذا انس من نفسه ضعفا عنها، او انس من رعيته نبوه عنه، او احس بفساد ينشا فى الارض من جهه ولايته على الناس، و من يذهب الى ان الامامه تكون بالاختيار كيف يمنع من جواز استقاله الامام و طلبه الى الامه ان يختاروا غيره لعذر يعلمه من حال نفسه! و انما يمنع من ذلك المرتضى و اصحابه القائلون بان الامامه بالنص، و ان الامام محرم عليه الا يقوم بالامامه، لانه مامور بالقيام بها لتعينه خاصه دون كل احد من المكلفين.

و اصحاب الاختيار يقولون: اذا لم يكن زيد اماما كان عمرو اماما عوضه، لانهم لايعتبرون الشروط التى يعتبرها الاماميه من العصمه، و انه افضل اهل عصره و اكثرهم ثوابا و اعلمهم و اشجعهم، و غير ذلك من الشروط التى تقتضى تفرده و توحده بالامر، على انه اذا جاز عندهم ان يترك الامام الامامه فى الظاهر كما فعله الحسن، و كما فعله غيره من الائمه بعد الحسين (ع) للتقيه، جاز للامام على مذهب اصحاب الاختيا
ر ان يترك الامامه ظاهرا و باطنا لعذر يعلمه من حال نفسه او حال رعيته.

(الطعن الثانى) قال قاضى القضاه بعد ان ذكر قول عمر: (كانت بيعه ابى بكر فلته)- و قد تقدم منا القول فى ذلك فى اول هذا الكتاب: و مما طعنوا به على ابى بكر انه قال عند موته: ليتنى كنت سالت رسول الله (ص) عن ثلاثه، فذكر فى احدها: ليتنى كنت سالته، هل للانصار فى هذا الامر حق؟ قالوا، و ذلك يدل على شكه فى صحه بيعته، و ربما قالوا: قد روى انه قال فى مرضه: ليتنى كنت تركت بيت فاطمه لم اكشفه، و ليتنى فى ظله بنى ساعده كنت: ضربت على (يد) احد الرجلين، فكان هو الامير، و كنت الوزير.

قالوا: و ذلك يدل على ما روى من اقدامه على بيت فاطمه (ع) عند اجتماع على (ع) و الزبير و غيرهما فيه، و يدل على انه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه.

قال قاضى القضاه: و الجواب ان قوله: (ليتنى) لايدل على الشك فيما تمناه، و قول ابراهيم (ع): (رب ارنى كيف تحيى الموتى قال او لم تومن قال بلى و لكن ليطمئن قلبى) اقوى من ذلك فى الشبهه.

ثم حمل تمنيه على انه اراد سماع شى ء مفصل، او اراد: ليتنى سالته عند الموت، لقرب العهد، لان ما قرب عهده لاينسى و يكون اردع للانصار على ما حاولوه.

ثم قال: على انه ليس
فى ظاهره انه تمنى ان يسال: هل لهم حق فى الامامه ام لا؟ لان الامامه قد يتعلق بها حقوق سواها ثم دفع الروايه المتعلقه ببيت فاطمه (ع)، و قال: فاما تمنيه ان يبايع غيره، فلو ثبت لم يكن ذما لان من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه.

اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال: ليس يجوز ان يقول ابوبكر: (ليتنى كنت سالت عن كذا).

الا مع الشك و الشبهه، لان مع العلم و اليقين لايجوز مثل هذا القول، هكذا يقتضى الظاهر، فاما قول ابراهيم (ع)، فانما ساغ ان يعدل عن ظاهره لان الشك لايجوز على الانبياء، و يجوز على غيرهم، على انه (ع) قد نفى عن نفسه الشك بقوله: (بلى و لكن ليطمئن قلبى)، و قد قيل: ان نمرود قال له: اذا كنت تزعم ان لك ربا يحيى الموتى فاساله ان يحيى لنا ميتا ان كان على ذلك قادرا، فان لم تفعل ذلك قتلتك، فاراد بقوله: (و لكن ليطمئن قلبى)، اى لامن توعد عدوك لى بالقتل.

و قد يجوز ان يكون طلب ذلك لقومه و قد سالوه ان يرغب الى الله تعالى فيه فقال: ليطمئن قلبى الى اجابتك لى، و الى ازاحه عله قومى، و لم يرد: ليطمئن قلبى الى انك تقدر على ان تحيى الموتى، لان قلبه قد كان بذلك مطمئنا، و اى شى ء يريد ابوبكر من التفضيل اكثر من قوله: (ان هذا الا
مر لايصلح الا لهذا الحى من قريش)! و اى فرق بين ما يقال عند الموت و بين ما يقال قبله اذا كان محفوظا معلوما، لم ترفع كلمه و لم تنسخ!.

و بعد فظاهر الكلام لايقتضى هذا التخصيص، و نحن مع الاطلاق و الظاهر.

و اى حق يجوز ان يكون للانصار فى الامامه غير ان يتولاها رجل منهم حتى يجوز ان يكون الحق الذى تمنى ان يسال عنه غير الامامه! و هل هذا الا تعسف و تكلف!.

و اى شبهه تبقى بعد قول ابى بكر: ليتنى كنت سالته: هل للانصار فى هذا الامر حق فكنا لاننازعه اهله؟ و معلوم ان التنازع لم يقع بينهم الا فى الامامه نفسها، لا فى حق آخر من حقوقها.

فاما قوله: انا قد بينا انه لم يكن منه فى بيت فاطمه ما يوجب ان يتمنى انه لم يفعله، فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم.

فاما قوله: ان من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه، فليس بصحيح، لان ولايه ابى بكر اذا كانت هى التى اقتضاها الدين، و النظر للمسلمين فى تلك الحال و ما عداها كان مفسده، و موديا الى الفتنه، فالتمنى لخلافها لايكون الا قبيحا.

قلت: اما قول قاضى القضاه: ان هذا التمنى لايقتضى الشك فى ان الامامه لاتكون الا فى قريش، كما ان قول ابراهيم: (و لكن ليطمئن قلبى)، لايقتضى الشك فى انه تعالى قادر على ذلك فج
يد.

فاما قول المرتضى: انما ساغ ان يعدل عن الظاهر فى حق ابراهيم لانه نبى معصوم لايجوز عليه الشك، فيقال له: و كذلك ينبغى ان يعدل عن ظاهر كلام ابى بكر، لانه رجل مسلم عاقل، فحسن الظن به يقتضى صيانه افعاله و اقواله عن التناقض.

قوله: ان ابراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله: (بلى و لكن ليطمئن قلبى) قلنا: ان ابابكر قد نفى عن نفسه الشك بدفع الانصار عن الامامه و اثباتها فى قريش خاصه، فان كانت لفظه (بلى) دافعه لشك ابراهيم الذى يقتضيه قوله: (و لكن ليطمئن قلبى)، ففعل ابى بكر و قوله يوم السقيفه يدفع الشك الذى يقتضيه قوله: (ليتنى سالته)، و لا فرق فى دفع الشك بين ان يتقدم الدافع او يتاخر او يقارن.

ثم يقال للمرتضى: الست فى هذا الكتاب- و هو (الشافى)- بينت ان قصه السقيفه لم يجر فيها ذكر نص عن رسول الله (ص) بان الائمه من قريش، و انه لم يكن هناك الا احتجاج ابى بكر و عمر بان قريشا اهل النبى (ص) و عشيرته، و ان العرب لاتطيع غير قريش، و ذكرت عن الزهرى و غيره ان القول الصادر عن ابى بكر ان هذا الامر لايصلح الا لهذا الحى من قريش ليس نصا مرويا عن رسول الله (ص)، و انما هو قول قاله ابوبكر من تلقاء نفسه، و رويت فى ذلك الروايات، و نقلت من الكت
ب من تاريخ الطبرى و غيره صوره الكلام و الجدال الدائر بينه و بين الانصار! فاذا كان هذا قولك فلم تنكر على ابى بكر قوله: ليتنى كنت سالت رسول الله (ص): هل للانصار فى هذا الامر حق! لانه لم يسمع النص و لارواه و لاروى له، و انما دفع الانصار بنوع من الجدل، فلا جرم بقى فى نفسه شى ء من ذلك، و قال عند موته: ليتنى كنت سالت رسول الله (ص).

و ليس ذلك مما يقتضى شكه فى بيعته كما زعم الطاعن، لانه انما يشك فى بيعته لو كان قال قائل او ذهب ذاهب الى ان الامامه ليست الا فى الانصار، و لم يقل احد ذلك، بل النزاع كان فى: هل الامامه مقصوره على قريش خاصه، ام هى فوضى بين الناس كلهم؟ و اذا كانت الحال هذه لم يكن شاكا فى امامته و بيعته بقوله: (ليتنى سالت رسول الله (ص): (هل للانصار فى هذا حق؟) لان بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحه.

فاما قول قاضى القضاه: لعله اراد حقا للانصار غير الامامه نفسها، فليس بجيد، و الذى اعترضه به المرتضى جيد، فان الكلام لايدل الا على الامامه نفسها، و لفظه المنازعه توكد ذلك.

و اما حديث الهجوم على بيت فاطمه (ع) فقد تقدم الكلام فيه، و الظاهر عندى صحه ما يرويه المرتضى و الشيعه، و لكن لا كل ما يزعمونه، بل كان بعض ذلك، و
حق لابى بكر ان يندم و يتاسف على ذلك، و هذا يدل على قوه دينه و خوفه من الله تعالى، فهو بان يكون منقبه له اولى من كونه طعنا عليه.

فاما قول قاضى القضاه: ان من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه و اعتراض المرتضى عليه، فكلام قاضى القضاه اصح و اصوب، لان ابابكر- و ان كانت ولايته مصلحه و ولايه غير مفسده- فانه ما يتمنى ان يكون الامام غيره، مع استلزام ذلك للمفسده، بل تمنى ان يلى الامر غيره و تكون المصلحه بحالها، الا ترى ان خصال الكفاره فى اليمين كل واحده منها مصلحه، و ما عداها لايقوم مقامها فى المصلحه، و احدها يقوم مقام الاخرى فى المصلحه! فابوبكر تمنى ان يلى الامر عمر او ابوعبيده بشرط ان تكون المصلحه الدينيه التى تحصل من بيعته حاصله من بيعه كل واحد من الاخرين.

(الطعن الثالث) قالوا: انه ولى عمر الخلافه، و لم يوله رسول الله (ص) شيئا من اعماله البته الا ما ولاه يوم خيبر، فرجع منهزما و ولاه الصدقه، فلما شكاه العباس عزله.

اجاب قاضى القضاه بان تركه (ع) ان يوليه لايدل على انه لايصلح لذلك، و توليته اياه لايدل على صلاحيته للامامه، فانه (ص) قد ولى خالد بن الوليد و عمرو بن العاص، و لم يدل ذلك على صلاحيتهما للامامه، و كذلك ترك
ه ان يولى لايدل على انه غير صالح، بل المعتبر بالصفات التى تصلح للامامه، فاذا كملت صلح لذلك، ولى من قبل او لم يول، و قد ثبت ان النبى (ص) ترك ان يولى اميرالمومنين (ع) امورا كثيره و لم يجب الا من يصلح لها، و ثبت ان اميرالمومنين (ع) لم يول الحسين (ع) ابنه، و لم يمنع ذلك من ان يصلح للامامه.

و حكى عن ابى على ان ذلك انما كان يصح ان يتعلق به لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه، فاما و احواله معروفه فى قيامه بالامر حين يعجز غيره، فكيف يصح ما قالوه! و بعد فهلا دل ما روى من قوله: و ان تولوا عمر تجدوه قويا فى امر الله، قويا فى بدنه على جواز ذلك! و ان ترك النبى (ص) توليته، لان هذا القول اقوى من الفعل.

اعترض المرتضى رحمه الله فقال: قد علمنا بالعاده ان من ترشح لكبار الامور لابد من ان يدرج اليها بصغارها، لان من يريد بعض الملوك تاهيله للامر من بعده لابد من ان ينبه عليه بكل قول و فعل يدل على ترشيحه لهذه المنزله، و يستكفيه من امور ولاياته ما يعلم عنده او يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له.

و ان من يرى الملك مع حضوره و امتداد الزمان و تطاوله لايستكفيه شيئا من الولايات، و متى ولاه عزله، و انما يولى غيره و يستكفى سواه، لابد ان يغلب فى
الظن انه ليس باهل للولايه، و ان جوزنا انه لم يوله لاسباب كثيره سوى انه لايصلح للولايه، الا ان مع هذا التجويز لابد ان يغلب على الظن بما ذكرناه.

فاما خالد و عمرو فانما لم يصلحا للامامه لفقد شروط الامامه فيهما، و ان كانا يصلحان لما ولياه من الاماره، فترك الولايه مع امتداد الزمان و تطاول الايام، و جميع الشروط التى ذكرناها تقتضى غلبه الظن لفقد الصلاح، و الولايه لشى ء لاتدل على الصلاح لغيره اذا كانت الشرائط فى القيام بذلك الغير معلوما فقدها.

و قد نجد الملك يولى بعض اموره من لايصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه، و لايجوز ان يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده، ثم لايوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات.

فبان الفرق بين الولايه و تركها فيما ذكرناه.

فاما اميرالمومنين (ع) و ان يتول جميع امور النبى (ص) فى حياته، فقد تولى اكثرها و اعظمها و خلفه فى المدينه، و كان الامير على الجيش المبعوث الى خيبر، و جرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها، و كان المودى عنه سوره برائه بعد عزل من عزل عنها و ارتجاعها منه، الى غير ذلك من عظيم الولايات و المقامات بما يطول شرحه، و لو لم يكن الا انه لم يول عليه واليا قط لكفى.

فاما اعتراضه ب
ان اميرالمومنين (ع) لم يول الحسين فبعيد عن الصواب، لان ايام اميرالمومنين (ع) لم تطل فيتمكن فيها من مراداته، و كانت على قصرها منقسمه بين قتال الاعداء، لانه (ع) لما بويع لم يلبث ان خرج عليه اهل البصره فاحتاج الى قتالهم، ثم انكفا من قتالهم الى قتال اهل الشام، و تعقب ذلك قتال اهل النهروان، و لم تستقر به الدار و لاامتد به الزمان، و هذا بخلاف ايام النبى (ص) التى تطاولت و امتدت، على انه قد نص عليه بالامامه بعد اخيه الحسن، و انما تطلب الولايات لغلبه الظن بالصلاح للامامه.

فان كان هناك وجه يقتضى العلم بالصلاح لها كان اولى من طريق الظن، على انه لا خلاف بين المسلمين ان الحسين (ع) كان يصلح للامامه و ان لم يوله ابوه الولايات، و فى مثل ذلك خلاف من حال عمر، فافترق الامران.

فاما قوله: انه لم يعثر على عمر بتقصير فى الولايه، فمن سلم بذلك! او ليس يعلم ان مخالفته تعد تقصيرا كثيرا، و لو لم يكن الا ما اتفق عليه من خطئه فى الاحكام و رجوعه من قول الى غيره، و استفتائه الناس فى الصغير و الكبير، و قوله: كل الناس افقه من عمر، لكان فيه كفايه.

و ليس كل النهوض بالامامه يرجع الى حسن التدبير و السياسه الدنياويه و رم الاعمال و الاستظهار فى جب
ايه الاموال و تمصير الامصار و وضع الاعشار، بل حظ الامامه من العلم بالاحكام و الفتيا بالحلال و الحرام، و الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه اقوى، فمن قصر فى هذا لم ينفعه ان يكون كاملا فى ذلك.

فاما قوله: فهلا دل ما روى من قوله (ع): فان (وليتم عمر وجدتموه قويا فى امر الله قويا فى بدنه)، فهذا لو ثبت لدل، و قد تقدم القول عليه.

و اقوى ما يبطله عدول ابى بكر عن ذكره، و الاحتجاج به لما اراد النص على عمر، فعوتب على ذلك و قيل له: ما تقول لربك اذ وليت علينا فظا غليظا! فلو كان صحيحا لكان يحتج به و يقول: وليت عليكم من شهد النبى (ص) بانه قوى فى امر الله، قوى فى بدنه.

و قد قيل فى الطعن على صحه هذا الخبر: ان ظاهره يقتضى تفضيل عمر على ابى بكر، و الاجماع بخلاف ذلك، لان القوه فى الجسم فضل، قال الله تعالى: (ان الله اصطفاه عليكم و زاده بسطه فى العلم و الجسم).

و بعد، فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله (ع) عن ولايته- و هو امر معلوم- بهذا الخبر المردود المدفوع!.

قلت: اما ما ادعاه من عاده الملوك، فالامر بخلافه، فانا قد وقفنا على سير الاكاسره و ملوك الروم و غيرهم فما سمعنا ان احدا منهم رشح ولده للملك بعده باستعماله على طرف من الاطراف،
و لاجيش من الجيوش، و انما كانوا يثقفونهم بالاداب و الفروسيه فى مقار ملكهم لا غير، و الحال فى ملوك الاسلام كذلك، فقد سمعنا بالدوله الامويه، و راينا الدوله العباسيه، فلم نعرف الدوله التى ادعاها المرتضى، و انما قد يقع فى الاقل النادر شى ء مما اشار اليه، و الاغلب الاكثر خلاف ذلك.

على ان اصحابنا لايقولون ان عمر كان مرشحا للخلافه بعد رسول الله (ص) ليقال لهم: فلو كان قد رشحه للخلافه بعده لاستكفاه كثيرا من اموره، و انما عمر مرشح عندهم فى ايام ابى بكر للخلافه بعد ابى بكر، و قد كان ابوبكر استعمله على القضاء مده خلافته، بل كان هو الخليفه فى المعنى، لانه فوض اليه اكثر التدبير، فعلى هذا يكون قد سلمنا ان ترك استعمال النبى (ص) لعمر يدل على انه غير مرشح فى نظره للخلافه بعده، و كذلك نقول: و لايلزم من ذلك الا يكون خليفه بعد ابى بكر، على انا لانسلم انه ما استعمله، فقد ذكر الواقدى و ابن اسحاق انه بعثه فى سريه فى سنه سبع من الهجره الى الوادى المعروف ببرمه- بضم الباء و فتح الراء- و بها جمع من هوازن، فخرج و معه دليل من بنى هلال، و كانوا يسيرون الليل و يكمنون النهار، و اتى الخبر هوازن فهربوا، و جاء عمر محالهم، فلم يلق منهم احدا، فان
صرف الى المدينه.

ثم يعارض المرتضى بما ذكره قاضى القضاه من ترك توليه على ابنه الحسين (ع)، و قوله فى العذر عن ذلك: ان عليا (ع) كان ممنوا بحرب البغاه و الخوارج لايدفع المعارضه، لان تلك الايام التى هى ايام حروبه مع هولاء هى الايام التى كان ينبغى ان يولى الحسين (ع) بعض الامور فيها، كاستعماله على جيش ينفذه سريه الى بعض الجهات، و استعماله على الكوفه بعد خروجه منها الى حرب صفين، او استعماله على القضاء، و ليس اشتغاله بالحرب بمانع له عن ولايه ولده، و قد كان مشتغلا بالحرب، و هو يولى بنى عمه العباس الولايات و البلاد الجليله.

فاما قوله: على انه قد نص عليه بالامامه بعد اخيه الحسن، فهذا يغنى عن توليته شيئا من الاعمال، فلقائل ان يمنع ما ذكره من حديث النص، فانه امر تنفرد به الشيعه و اكثر ارباب السير و التواريخ لايذكرون ان اميرالمومنين (ع) نص على احد.

ثم ان ساغ له ذلك ساغ لقاضى القضاه ان يقول: ان قول النبى (ص): (اقتدوا باللذين من بعدى: ابى بكر و عمر)، يغنى عن توليه عمر شيئا من الولايات، لان هذا القول آكد من الولايه فى ترشحه للخلافه.

فاما قوله: على انه لا خلاف بين المسلمين فى صلاحيه الحسين للخلافه و ان لم يوله ابوه الولايات، و
فى عمر خلاف ظاهر بين المسلمين، فلقائل ان يقول له: اجماع المسلمين على صلاحيه الحسين للخلافه لايدفع المعارضه، بل يوكدها، لانه اذا كان المسلمون قد اجمعوا على صلاحيته للخلافه و لم يكن ترك توليه ابيه اياه الولايات قادحا فى صلاحيته لها بعده، جاز ايضا ان يكون ترك توليه رسول الله (ص) عمر الولايات فى حياته غير قادح فى صلاحيته للخلافه بعده.

ثم ما ذكره من تقصير عمر فى الخلافه بطريق اختلاف احكامه، و رجوعه الى فتاوى العلماء، فقد ذكرنا ذلك فيما تقدم لما تكلمنا فى مطاعن الشيعه على عمر و اجبنا عنه.

و اما قوله: لايغنى حسن التدبير و السياسه و رم الامور، مر القصور فى الفقه، فاصحابنا يذهبون الى انه اذا تساوى اثنان فى خصال الامامه الا انه كان احدهما اعلم و الاخر اسوس، فان الاسوس اولى بالامامه، لان حاجه الامامه الى السياسه و حسن التدبير آكد من حاجتها الى العلم و الفقه.

و اما الخبر المروى فى عمر- و هو قوله: و ان تولوها عمر- فيجوز الا يكون ابوبكر سمعه من رسول الله (ص)، و يكون الراوى له غيره، و يجوز ان يكون سمعه و شذ عنه ان يحتج به على طلحه لما انكر استخلاف عمر، و يجوز الا يكون شذ عنه و ترك الاحتجاج به استغناء عنه لعلمه ان طلحه لايع
تد بقوله عند الناس اذا عارض قوله.

و لعله كنى عن هذا النص بقوله: اذا سالنى ربى قلت له: استخلفت عليهم خير اهلك، على انا متى فتحنا باب (هلا احتج فلان بكذا) جر علينا ما لاقبل لنا به.

و قيل: هلا احتج على (ع) على طلحه و عائشه و الزبير بقول رسول الله (ص): (من كنت مولاه فهذا على مولاه)، و هلا احتج عليهم بقوله: (انت منى بمنزله هارون من موسى)، و لايمكن الشيعه ان يعتذروا هاهنا بالتقيه، لان السيوف كانت قد سلت من الفريقين، و لم يكن مقام تقيه.

و اما قوله: هذا الخبر لو صح لاقتضى ان يكون عمر افضل من ابى بكر، و هو خلاف اجماع المسلمين، فلقائل ان يقول: لم قلت ان المسلمين اجمعوا على ان ابابكر افضل من عمر، مع ان كتب الكلام و التصانيف المصنفه فى المقالات مشحونه بذكر الفرقه العمريه، و هم القائلون ان عمر افضل من ابى بكر، و هى طائفه عظيمه من المسلمين، يقال: ان عبدالله بن مسعود منهم، و قد رايت ان جماعه من الفقهاء يذهبون الى هذا، و يناظرون عليه، على انه لايدل الخبر على ما ذكره المرتضى، لانه و ان كان عمر افضل منه باعتبار قوه البدن، فلا يدل على انه افضل منه مطلقا، فمن الجائز ان يكون بازاء هذه الخصله خصال كثيره فى ابى بكر من خصال الخير يف
ضل بها على عمر، الا ترى انا نقول: ابودجانه افضل من ابى بكر بجهاده بالسيف فى مقام الحرب، و لايلزم من ذلك ان يكون افضل منه مطلقا، لان فى ابى بكر من خصال الفضل ما اذا قيس بهذه الخصله اربى عليها اضعافا مضاعفه.

(الطعن الرابع) قالوا ان ابابكر كان فى جيش اسامه، و ان رسول الله (ص) كرر حين موته الامر بتنفيذ جيش اسامه، فتاخره يقتضى مخالفه الرسول (ص).

فان قلتم: انه لم يكن فى الجيش، قيل لكم: لا شك ان عمر بن الخطاب كان فى الجيش، و انه حبسه و منعه من النفوذ مع القوم.

و هذا كالاول فى انه معصيه، و ربما قالوا: انه (ص) جعل هولاء القوم فى جيش اسامه ليبعدوا بعد وفاته عن المدينه، فلا يقع منهم توثب على الامامه، و لذلك لم يجعل اميرالمومنين (ع) فى ذلك الجيش، و جعل فيه ابابكر و عمر و عثمان و غيرهم، و ذلك من اوكد الدلاله على انه لم يرد ان يختاروا للامامه.

اجاب قاضى القضاه بان انكر اولا ان يكون ابوبكر فى جيش اسامه، و احال على كتب المغازى، ثم سلم ذلك و قال: ان الامر لايقتضى الفور، فلا يلزم من تاخر ابى بكر عن النفوذ ان يكون عاصيا.

ثم قال: ان خطابه (ص) بتنفيذ الجيش يجب ان يكون متوجها الى القائم بعده، لانه من خطاب الائمه، و هذا يقتضى
الا يدخل المخاطب بالتنفيذ فى الجمله، ثم قال، و هذا يدل على انه لم يكن هناك امام منصوص عليه، لانه لو كان لاقبل بالخطاب عليه، و خصه بالامر بالتنفيذ دون الجميع ثم ذكر ان امر رسول الله (ص) لابد ان يكون مشروطا بالمصلحه و بان لايعرض ما هو اهم منه، لانه لايجوز ان يامرهم بالنفوذ، و ان اعقب ضررا فى الدين، ثم قوى ذلك بانه لم ينكر على اسامه تاخره، و قوله: (لم اكن لاسال عنك الركب)، ثم قال: لو كان الامام منصوصا عليه لجاز ان يسترد جيش اسامه او بعضه لنصرته، و كذلك اذا كان بالاختيار، ثم حكى عن الشيخ ابى على استدلاله على ان ابابكر لم يكن فى جيش اسامه بانه ولاه الصلاه فى مرضه، مع تكريره امر الجيش بالنفوذ و الخروج.

ثم ذكر ان الرسول (ص) انما يامر بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب و نحوها عن اجتهاده، و ليس بواجب ان يكون ذلك عن وحى، كما يجب فى الاحكام الشرعيه، و ان اجتهاده يجوز ان يخالف بعد وفاته، و ان لم يجز فى حياته، لان اجتهاده فى الحياه اولى من اجتهاد غيره، ثم ذكر ان العله فى احتباس عمر عن الجيش حاجه ابى بكر اليه، و قيامه بما لايقوم به غيره، و ان ذلك احوط للدين من نفوذه.

ثم ذكر ان اميرالمومنين (ع) حارب معاويه بامر الله تعالى
و امر رسوله، و مع هذا فقد ترك محاربته فى بعض الاوقات، و لم يجب بذلك الا يكون متمثلا للامر.

و ذكر توليته (ع) اباموسى، و توليه الرسول (ص) خالد بن الوليد مع ما جرى منهما و ان ذلك يقتضى الشرط.

ثم ذكر ان من يصلح للامامه ممن ضمه جيش اسامه يجب تاخيره ليختار للامامه احدهم، فان ذلك اهم من نفوذهم، فاذا جاز لهذه العله التاخير قبل العقد جاز التاخير بعده للمعاضده و غيرها، و طعن فى قول من جعل ان اخراجهم فى الجيش على جهه الابعاد لهم عن المدينه بان قال: ان بعدهم عن المدينه لايمنع من ان يختاروا للامامه، و لانه (ع) لم يكن قاطعا على موته لا محاله، لانه لم يرد: نفذوا جيش اسامه فى حياتى.

ثم ذكر ان ولايه اسامه عليهما لاتقتضى فضله و انهما دونه، و ذكر ولايه عمرو بن العاص عليهما و ان لم يكونا دونه فى الفضل، و ان احدا لم يفضل اسامه عليهما.

ثم ذكر ان السبب فى كون عمر من جمله جيش اسامه ان عبدالله بن ابى ربيعه المخزومى قال عند ولايه اسامه: تولى علينا شاب حدث و نحن مشيخه قريش! فقال عمر: يا رسول الله، مرنى حتى اضرب عنقه، فقد طعن فى تاميرك اياه، ثم قال: انا اخرج فى جيش اسامه تواضعا و تعظيما لامره (ع).

اعترض المرتضى هذه الاجوبه، فقال: اما ك
ون ابى بكر فى جمله جيش اسامه فظاهر، قد ذكره اصحاب السير و التواريخ، و قد روى البلاذرى فى تاريخه و هو معروف بالثقه و الضبط، و برى ء من ممالاه الشيعه و مقاربتها، ان ابابكر و عمر معا كانا فى جيش اسامه، و الانكار لما يجرى هذا المجرى لايغنى شيئا، و قد كان يجب على من احال بذلك على كتب المغازى فى الجمله ان يومى ء الى الكتاب المتضمن لذلك بعينه ليرجع اليه، فاما خطابه (ع) بالتنفيذ للجيش فالمقصود به الفور دون التراخى، اما من حيث مقتضى الامر على مذهب من يرى ذلك لغه، و اما شرعا من حيث وجدنا جميع الامه من لدن الصحابه الى هذا الوقت يحملون اوامره على الفور، و يطلبون فى تراخيها الادله.

ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول اسامه: لم اكن لاسال عنك الركب، اوضح دليل على انه عقل من الامر الفور، لان سوال الركب عنه (ع) بعد وفاته لا معنى له.

و اما قول صاحب الكتاب: انه لم ينكر على اسامه تاخره فليس بشى ء، و اى انكار ابلغ من تكراره الامر، و ترداده القول فى حال يشغل عن المهم، و يقطع الفكر الا فيها! و قد كرر الامر على المامور تاره بتكرار الامر، و اخرى بغيره.

و اذا سلمنا ان امره (ع) كان متوجها الى القائم بعده بالامر لتنفيذ الجيش بعد الوفاه لم يل
زم ما ذكره من خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجمله، و كيف يصح ذلك و هو من جمله الجيش، و الامر متضمن تنفيذ الجيش! فلابد من نفوذ كل من كان فى جملته، لان تاخر بعضهم يسلب النافذين اسم الجيش على الاطلاق.

او ليس من مذهب صاحب الكتاب ان الامر بالشى ء امر بما لايتم الا معه! و قد اعتمد على هذا فى مواضع كثيره، فان كان خروج الجيش و نفوذه لايتم الا بخروج ابى بكر، فالامر بخروج الجيش امر لابى بكر بالنفوذ و الخروج، و كذلك لو اقبل عليه على سبيل التخصيص، و قال: نفذوا جيش اسامه، و كان هو من جمله الجيش، فلابد ان يكون ذلك امرا له بالخروج و استدلاله على انه لم يكن هناك امام منصوص عليه بعموم الامر بالتنفيذ، ليس بصحيح، لانا قد بينا ان الخطاب انما توجه الى الحاضرين، و لم يتوجه الى الامام بعده، على ان هذا لازم له، لان الامام بعده لايكون الا واحدا، فلم عمم الخطاب و لم يفرد به الواحد فيقول: لينفذ القائم من بعدى بالامر جيش اسامه، فان الحال لايختلف فى كون الامام بعده واحدا بين ان يكون منصوصا عليه او مختارا.

و اما ما ادعاه ان الشرط فى امره (ع) لهم بالنفوذ فباطل لان اطلاق الامر يمنع من اثبات الشرط، و انما يثبت من الشروط ما يقتضى الدليل اثباته من
التمكن و القدره، لان ذلك شرط ثابت فى كل امر ورد من حكيم، و المصلحه بخلاف ذلك لان الحكيم لايامر بشرط المصلحه، بل اطلاق الامر منه يقتضى ثبوت المصلحه و انتفاء المفسده، و ليس كذلك التمكن، و ما يجرى مجراه، و لهذا لايشترط احد فى اوامر الله تعالى و رسوله (ص) بالشرائع المصلحه و انتفاء المفسده.

و شرطوا فى ذلك التمكن و رفع التعذر، و لو كان الامام منصوصا عليه بعينه و اسمه لما جاز ان يسترد جيش اسامه، بخلاف ما ظنه، و لايعزل من ولاه (ع) و لايولى من عزله للعله التى ذكرناها.

فاما استدلال ابى على على ان ابابكر لم يكن فى الجيش بحديث الصلاه، فاول ما فيه انه اعتراف بان الامر بتنفيذ الجيش كان فى الحياه دون بعد الوفاه، و هذا ناقض لما بنى صاحب الكتاب عليه امره (ع).

ثم انا قد بينا انه (ع) لم يوله الصلاه و ذكرنا ما فى ذلك.

ثم ما المانع من ان يوليه تلك الصلاه ان كان ولاه اياها، ثم يامره بالنفوذ من بعد مع الجيش! فان الامر بالصلاه فى تلك الحال لايقتضى امره بها على التابيد.

و اما ادعاوه ان النبى (ص) يامر بالحروب و ما يتصل بها عن اجتهاد دون الوحى، فمعاذ الله ان يكون صحيحا، لان حروبه (ع) لم تكن مما يختص بمصالح امور الدنيا، بل للدين فيها ا
قوى تعلق، لما يعود على الاسلام و اهله بفتوحه من العز و القوه و علو الكلمه.

و ليس يجرى ذلك مجرى اكله و شربه و نومه، لان ذلك لاتعلق له بالدين، فيجوز ان يكون عن رايه، و لو جاز ان تكون مغازيه و بعوثه مع التعلق القوى لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك فى الاحكام.

ثم لو كان ذلك عن اجتهاد لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته، كما لاتسوغ فى حياته.

فكل عله تمنع من احد الامرين هى مانعه من الاخر.

فاما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش بما ذكره فباطل، لانا قد قلنا: ان ما يامر به (ع) لايسوغ مخالفته مع الامكان، و لامراعاه لما عساه يعرض فيه من راى غيره، و اى حاجه الى عمر بعد تمام العقد، و استقراره و رضا الامه به، على طريق المخالف و اجماعها عليه، و لم يكن هناك فتنه و لاتنازع و لااختلاف يحتاج فيه الى مشاورته و تدبيره! و كل هذا تعلل باطل.

فاما محاربه اميرالمومنين (ع) معاويه فانما كان مامورا بها مع التمكن و وجود الانصار، و قد فعل (ع) من ذلك ما وجب عليه لما تمكن منه، فاما مع التعذر و فقد الانصار فما كان مامورا بها.

و ليس كذلك القول فى جيش اسامه لان تاخر من تاخر عنه كان مع القدره و التمكن.

فاما توليه ابى موسى فلا ندرى كيف يشبه ما نحن فيه، لا
نه انما ولاه بان يرجع الى كتاب الله تعالى فيحكم فيه و فى خصمه بما يقتضيه، و ابوموسى فعل خلاف ما جعل اليه، فلم يكن ممتثلا لامر من ولاه، و كذلك خالد بن الوليد انما خالف ما امره به الرسول (ص) فتبرا من فعله، و كل هذا لايشبه امره (ع) بتنفيذ جيش اسامه امرا مطلقا، و تاكيده ذلك و تكراره له، فاما جيش اسامه فانه لم يضم من يصلح للامامه، فيجوز تاخرهم ليختار احدهم على ما ظنه صاحب الكتاب على ان ذلك لو صح ايضا لم يكن عذرا فى التاخر، لان من خرج فى الجيش يمكن ان يختار و ان كان بعيدا، و لايمنع بعده من صحه الاختيار، و قد صرح صاحب الكتاب.

بذلك ثم لو صح هذا العذر لكان عذرا فى التاخر قبل العقد، فاما بعد ابرامه فلا عذر فيه، و المعاضده التى ادعاها قد بينا ما فيها.

فاما ادعاء صاحب الكتاب رادا على من جعل اخراج القوم فى الجيش ليتم امر النص ان من ابعدهم لايمنع ان يختاروا للامامه فيدل على انه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته، لان الطاعن به لايقول! انه ابعدهم لئلا يختاروا للامامه، و انما يقول: انه ابعدهم حتى ينتصب بعده فى الارض من نص عليه، و لايكون هناك من ينازعه و يخالفه.

و اما قوله: لم يكن قاطعا على موته فلا يضر تسليمه، اليس كان مشفق
ا و خائفا! و على الخائف ان يتحرز ممن يخاف منه.

فاما قوله: فانه لم يرد: نفذوا الجيش فى حياتى فقد بينا ما فيه.

فاما ولايه اسامه على من ولى عليه، فلابد من اقتضائها لفضله على الجماعه فيما كان واليا فيه، و قد دللنا فيما تقدم من الكتاب على ان ولايه المفضول على الفاضل فيما كان افضل منه فيه قبيحه، فكذلك القول فى ولايه عمرو بن العاص عليها فيما تقدم، و القول فى الامرين واحد.

و قوله: ان احدا لم يدع فضل اسامه على ابى بكر و عمر، فليس الامر على ما ظنه، لان من ذهب الى فساد امامه المفضول لابد من ان يفضل اسامه عليهما فيما كان واليا فيه، فاما ادعاوه ما ذكره من السبب فى دخول عمر فى الجيش فما نعرفه، و لاوقفنا عليه الا من كتابه، ثم لو صح لم يغن شيئا، لان عمر لو كان افضل من اسامه لمنعه الرسول (ص) من الدخول فى امارته و المسير تحت لوائه، و التواضع لايقتضى فعل القبيح.

قلت: ان الكلام فى هذا الفصل قد تشعب شعبا كثيره، و المرتضى رحمه الله لايورد كلام قاضى القضاه بنصه، و انما يختصره و يورده مبتورا، و يومى ء الى المعانى ايماء لطيفا، و غرضه الايجاز، و لو اورد كلام قاضى القضاه بنصه لكان اليق، و كان ابعد عن الظنه، و ادفع لقول قائل من خصومه: ا
نه يحرف كلام قاضى القضاه، و يذكر على غير وجه، الا ترى ان من نصب نفسه لاختصار كلام فقد ضمن على نفسه انه قد فهم معانى ذلك الكلام حتى يصح منه اختصاره، و من الجائز ان يظن انه قد فهم بعض المواضع و لم يكن قد فهمه على الحقيقه، فيختصر ما فى نفسه، لا ما فى تصنيف ذلك الشخص، و اما من يورد كلام الناس بنصه فقد استراح من هذه التبعه، و عرض عقل غيره و عقل نفسه على الناظرين و السامعين.

ثم نقول: ان هذا الفصل ينقسم اقساما: منها قول قاضى القضاه: لانسلم ان ابابكر كان فى جيش اسامه.

و اما قول المرتضى: انه قد ذكره ارباب السير و التواريخ، و قوله ان البلاذرى ذكره فى تاريخه، و قوله: هلا عين قاضى القضاه الكتاب الذى ذكر انه يتضمن عدم كون ابى بكر فى ذلك الجيش! فان الامر عندى فى هذا الموضع مشتبه، و التواريخ مختلفه فى هذه القضيه، فمنهم من يقول: ان ابابكر كان فى جمله الجيش، و منهم من يقول: انه لم يكن، و ما اشار اليه قاضى القضاه بقوله فى كتب المغازى لاينتهى الى امر صحيح، و لم يكن ممن يستحل القول بالباطل فى دينه و لا فى رئاسته.

ذكر الواقدى فى كتاب المغازى ان ابابكر لم يكن فى جيش اسامه، و انما كان عمر، و ابوعبيده، و سعد بن ابى وقاص، و سعيد بن
زيد بن عمرو بن نفيل، و قتاده بن النعمان، و سلمه بن اسلم، و رجال كثير من المهاجرين، و الانصار، قال: و كان المنكر لاماره اسامه عياش بن ابى ربيعه.

و غير الواقدى يقول: عبدالله بن عياش، و قد قيل: عبدالله بن ابى ربيعه اخو عياش.

و قال الواقدى: و جاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله (ص) ليسير مع اسامه.

و قال: و جاء ابوبكر فقال: يا رسول الله، اصبحت مفيقا بحمد الله، و اليوم يوم ابنه خارجه، فاذن لى، فاذن له، فذهب الى منزله بالسنح و سار اسامه فى العسكر، و هذا تصريح بان ابابكر لم يكن فى جيش اسامه.

و ذكر موسى بن عقبه فى كتاب "المغازى" ان ابابكر لم يكن فى جيش اسامه و كثير من المحدثين يقولون: بل كان فى جيشه.

فاما ابوجعفر محمد بن جرير الطبرى فلم يذكر انه كان فى جيش اسامه الا عمر و قال ابوجعفر: حدثنى السدى باسناد ذكره ان رسول الله (ص) ضرب قبل وفاته بعثا على اهل المدينه و من حولهم و فيهم عمر بن الخطاب، و امر عليهم اسامه ابن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله (ص)، فوقف اسامه بالناس ثم قال لعمر: ارجع الى خليفه رسول الله (ص) فاستاذنه ياذن لى ارجع بالناس، فان معى وجوه الصحابه، و لاآمن على خليفه رسول الله (ص)، و ثقل رسول الل
ه (ص) و اثقال المسلمين ان يتخطفهم المشركون حول المدينه، و قالت الانصار لعمر سرا: فان ابى الا ان يمضى فابلغه عنا، و اطلب اليه ان يولى امرنا رجلا اقدم سنا من اسامه، فخرج عمر بامر اسامه فاتى ابابكر فاخبره بما قال اسامه، فقال ابوبكر: لو تخطفتنى الكلاب و الذئاب لم ارد قضاء قضى به رسول الله (ص).

قال: فان الانصار امرونى ان ابلغك انهم يطلبون اليك ان تولى امرهم رجلا اقدم سنا من اسامه، فوثب ابوبكر- و كان جالسا- فاخذ بلحيه عمر و قال: ثكلتك امك يابن الخطاب! ايستعمله رسول الله (ص) و تامرنى ان انزعه! فخرج عمر الى الناس، فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم امهاتكم! ما لقيت فى سبيلكم اليوم من خليفه رسول الله (ص)! ثم خرج ابوبكر حتى اتاهم فاشخصهم و شيعهم، و هو ماش و اسامه راكب، و عبدالرحمن بن عوف يقود دابه ابى بكر، فقال له اسامه بن زيد: يا خليفه رسول الله، لتركبن او لانزلن، فقال: و الله لاتنزل و لااركب، و ما على ان اغبر قدمى فى سبيل الله ساعه، فان للغازى بكل خطوه يخطوها سبعمائه حسنه تكتب له، و سبعمائه درجه ترفع له، و سبعمائه خطيئه تمحى عنه، حتى اذا انتهى قال لاسامه: ان رايت ان تعيننى بعمر فافعل، فاذن له، ثم قال: ايها الناس
، قفوا حتى اوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لاتخونوا و لاتغدروا و لاتغلوا و لاتمثلوا و لاتقتلوا طفلا صغيرا، و لاشيخا كبيرا، و لاامراه، و لاتعقروا نخلا و لاتحرقوه، و لاتقطعوا شجره مثمره، و لاتذبحوا شاه و لابعيرا و لا بقره الا لماكله، و سوف تمرون باقوام قد فرغوا انفسهم للعباده فى الصوامع، فدعوهم فيما فرغوا انفسهم له، و سوف تقدمون على اقوام ياتونكم بصحاف فيها الوان الطعام، فلا تاكلوا من شى ء حتى تذكروا اسم الله عليه، و سوف تلقون اقواما قد حصوا اوساط رئوسهم و تركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيوف خفقا، افناهم الله بالطعن و الطاعون، سيروا على اسم الله.

و اما قول الشيخ ابى على فانه يدل على انه لم يكن فى جيش اسامه، امره اياه بالصلاه.

و قول المرتضى: هذا اعتراف بان الامر بتنفيذ الجيش كان فى الحال دون ما بعد الوفاه، و هذا ينقض ما بنى عليه قاضى القضاه امره، فلقائل ان يقول: انه لاينقض ما بناه، لان قاضى القضاه ما قال ان الامر بتنفيذ الجيش ما كان الا بعد الوفاه بل قال انه امر و الامر على التراخى فلو نفذ الجيش فى الحال لجاز و لو تاخر الى بعد الوفاه لجاز.

فاما انكار المرتضى ان تكون صلاه ابى بكر بالناس كانت عن امر رسول الله (ص)
فقد ذكرنا ما عندنا فى هذا فيما تقدم.

و اما قوله: يجوز ان يكون امر بصلاه واحده او صلاتين، ثم امره بالنفوذ بعد ذلك فهذا لعمرى جائز.

و قد يمكن ان يقال: انه لما خرج متحاملا من شده المرض فتاخر ابوبكر عن مقامه، و صلى رسول الله (ص) بالناس، امره بالنفوذ مع الجيش، و اسكت رسول الله (ص) فى اثناء ذلك اليوم، و استمر ابوبكر على الصلاه بالناس، الى ان توفى (ع)، فقد جاء فى الحديث انه اسكت، و ان اسامه دخل عليه فلم يستطع كلامه لكنه كان يرفع يديه و يضعهما عليه كالداعى له.

و يمكن ان يكون زمان هذه السكته قد امتد يوما او يومين، و هذا الموضع من المواضع المشتبهه عندى.

و منها قول قاضى القضاه: ان الامر على التراخى، فلا يلزم من تاخر ابى بكر عن النفوذ ان يكون عاصيا.

فاما قول المرتضى: الامر على الفور اما لغه عند من قال به، او شرعا لاجماع الكل على ان الاوامر الشرعيه على الفور الا ما خرج بالدليل، فالظاهر فى هذا الموضع صحه ما قاله المرتضى، لان قرائن الاحوال عند من يقرا السير و يعرف التواريخ تدل على ان الرسول (ص) كان يحثهم على الخروج و المسير، و هذا هو الفور.

و اما قول المرتضى و قول اسامه: لم اكن لاسال عنك الركب، فهو اوضح دليل على انه عقل من
الامر الفور، لان سوال الركب عنه بعد الوفاه لا معنى له.

فلقائل ان يقول: ان ذلك لايدل على الفور، بل يدل على انه مامور فى الجمله بالنفوذ و المسير، فان التعجيل و التاخير مفوضان الى رايه، فلما قال له النبى (ص): لم تاخرت عن المسير؟ قال: لم اكن لاسير و اسال عنك الركب، انى انتظرت عافيتك، فانى اذا سرت و انت على هذه الحال لم يكن لى قلب للجهاد، بل اكون قلقا شديد الجزع، اسال عنك الركبان، و هذا الكلام لايدل على انه عقل من الامر الفور لامحاله، بل هو على ان يدل على التراخى اظهر، و قول النبى (ص): (لم تاخرت عن المسير؟) لايدل على الفور، لانه قد يقال مثل ذلك لمن يومر بالشى ء على جهه التراخى اذا لم يكن سوال انكار.

و قول المرتضى: لان سوال الركب عنه بعد الوفاه لا معنى له، قول من قد توهم على قاضى القضاه انه يقول: ان النبى (ص) ما امرهم بالنفوذ الا بعد وفاته، و لم يقل قاضى القضاه ذلك، و انما ادعى ان الامر على التراخى لا غير، و كيف يظن بقاضى القضاه انه حمل كلام اسامه على سوال الركب بعد الموت! و هل كان اسامه يعلم الغيب فيقول ذاك! و هل سال احد عن حال احد من المرضى بعد موته!.

فاما قول المرتضى عقيب هذا الكلام: لا معنى لقول قاضى القضاه ان
ه لم ينكر على اسامه تاخره، فان الانكار قد وقع بتكرار الامر حالا بعد حال، فلقائل ان يقول: ان قاضى القضاه لم يجعل عدم الانكار على اسامه حجه على كون الامر على التراخى، و انما جعل ذلك دليلا على ان الامر كان مشروطا بالمصلحه، و من تامل كلام قاضى القضاه الذى حكاه عنه المرتضى تحقق ذلك، فلا يجوز للمرتضى ان ينتزعه من الوضع الذى اورده فيه، فيجعله فى موضع آخر.

و منها قول قاضى القضاه: الامر بتنفيذ الجيش يجب ان يكون متوجها الى الخليفه بعده، و المخاطب لايدخل تحت الخطاب، و اعتراض المرتضى عليه بان لفظه (الجيش) يدخل تحتها (ابوبكر) فلابد من وجوب النفوذ عليه، لان عدم نفوذه يسلب الجماعه اسم (الجيش)، فليس بجيد، لان لفظه (الجيش) لفظه موضوعه لجماعه من الناس قد اعدت للحرب، فاذا خرج منها واحد او اثنان لم يزل مسمى الجيش عن الباقين، و المرتضى اعتقد ان ذلك مثل الماهيات المركبه، نحو العشره اذا عدم منها واحد زال مسمى العشره، و ليس الامر كذلك، يبين ذلك انه لو قال بعض الملوك لمائه انسان: انتم جيشى، ثم قال لواحد منهم: اذا مت فاعط كل واحد من جيشى درهما من خزانتى، فقد جعلتك اميرا عليهم لم يكن له ان ياخذ لنفسه درهما، و يقول: انا من جمله الجماعه
الذين اطلق عليهم لفظه الجيش.

و منها قول قاضى القضاه: هذه القضيه تدل على انه لم يكن هناك امام منصوص عليه، و اما قول المرتضى: فقد بينا ان الخطاب انما توجه الى الحاضرين لا الى القائم بالامر بعده، فلم نجد فى كلامه فى هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك، و لااعلم على ماذا احال! و لو كان قد بين- على ما زعم- ان الخطاب متوجه الى الحاضرين، لكان الاشكال قائما، لانه يقال له: اذا كان الامام المنصوص عليه حاضرا عنده فلم وجه الخطاب الى الحاضرين! الا ترى انه لايجوز ان يقول الملك للرعيه: اقضوا بين هذين الشخصين و القاضى حاضر عنده، الا اذا كان قد عزله عن القضاء فى تلك الواقعه عن الرعيه!.

فاما قول المرتضى: هذا ينقلب عليكم، فليس ينقلب، و انما ينقلب لو كان يريد تنفيذ الجيش بعد موته فقط، و لايريده و هو حى، فكان يجى ء ما قاله المرتضى لينفذ القائم بالامر بعدى جيش اسامه، فاما اذا كان يريد نفوذ الجيش من حين ما امر بنفوذه فقد سقط القلب، لان الخليفه حينئذ لم يكن قد تعين، لان الاختيار ما وقع بعد، و على مذهب المرتضى الامام متعين حاضر عنده نصب عينه، فافترق الوصفان.

و منها قول قاضى القضاه: ان مخالفه امره (ص) فى النفوذ مع الجيش او فى انفاذ الجيش ل
ايكون معصيه، و بين ذلك من وجوه: احدها: ان امره (ع) بذلك لابد ان يكون مشروطا بالمصلحه، و الا يعرض ما هو اهم من نفوذ الجيش، لانه لايجوز ان يامرهم بالنفوذ و ان اعقب ضررا فى الدين، فاما قول المرتضى: الامر المطلق يدل على ثبوت المصلحه و لايجوز ان يجعل الامر المطلق فقول جيد اذا اعترض به على الوجه الذى اورده قاضى القضاه، فاما اذا اورده اصحابنا على وجه آخر فانه يندفع كلام المرتضى، و ذلك انه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلى عند كثير من اصحابنا، على ما هو مذكور فى اصول الفقه، فلم لايجوز لابى بكر ان يخص عموم قوله: (انفذوا بعث اسامه) لمصلحه غلبت على ظنه فى عدم نفوذه نفسه، و لمفسده غلبت على نفسه فى نفوذه نفسه مع البعث!.

و ثانيها: انه (ع) كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحى يحرم مخالفته فاما قول المرتضى: ان للدين تعلقا قويا بامثال ذلك، و انها ليست من الامور الدنياويه المحضه نحو اكله و شربه و نومه، فانه يعود على الاسلام بفتوحه عز و قوه و علو كلمه فيقال له: و اذا اكل اللحم و قوى مزاجه بذلك و نام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض و الاعياء، اقتضى ذلك ايضا عز الاسلام و قوته، فقل ان ذلك ايضا عن وحى.

ثم ان الذى يقتضيه فتوحه و
غزواته و حروبه من العز و علو الكلمه لاينافى كون تلك الغزوات و الحروب باجتهاده، لانه لامنافاه بين اجتهاده و بين عز الدين و علو كلمته بحروبه، و ان الذى ينافى اجتهاده بالراى هو مثل فرائض الصلوات و مقادير الزكوات و مناسك الحج، و نحو ذلك من الاحكام التى تشعر بانها متلقاه من محض الوحى، و ليس للراى و الاجتهاد فيها مدخل، و قد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله: لو جاز ان تكون السرايا و الحروب عن اجتهاده، لجاز ان تكون الاحكام كلها عن اجتهاده.

و ايضا فان الصحابه كانوا يراجعونه فى الحروب و آرائه التى يدبرها بها و يرجع (ع) اليهم فى كثير منها بعد ان قد راى غيره، و اما الاحكام فلم يكن يراجع فيها اصلا، فكيف يحمل احد البابين على الاخر.

فاما قوله: لو كانت عن اجتهاد لوجب ان يحرم مخالفته فيها و هو حى، لا فرق بين الحالين، فلقائل ان يقول: القياس يقتضى ما ذكرت، الا انه وقع الاجماع على انه لو كان فى الاحكام او فى الحروب و الجهاد ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته، و العدول عن مذهبه و هو حى لم يختلف احد من المسلمين فى ذلك، و اجازوا مخالفته بعد وفاته بتقدير ان يكون ما صار اليه عن اجتهاد، و الاجماع حجه.

فاما قول قاضى القضاه: لان اجتهاده و ه
و حى اولى من اجتهاد غيره، فليس يكاد يظهر، لان اجتهاده، و هو ميت اولى ايضا من اجتهاد غيره، و يغلب على ظنى انهم فرقوا بين حالتى الحياه و الموت، فان فى مخالفته و هو حى نوعا من اذى له، و اذاه محرم لقوله تعالى: (و ما كان لكم ان توذوا رسول الله)، و الاذى بعد الموت لايكون، فافترق الحالان.

و ثالثها: انه لو كان الامام منصوصا عليه لجاز ان يسترد جيش اسامه او بعضه لنصرته، فكذلك اذا كان بالاختيار، و هذا قد منع منه المرتضى، و قال: انه لايجوز للمنصوص عليه ذلك، و لا ان يولى من عزله رسول الله (ص)، و لا ان يعزل من ولاه رسول الله (ص).

و رابعها: انه (ع) ترك حرب معاويه فى بعض الحالات، و لم يوجب ذلك ان يكون عاصي، ا فكذلك ابوبكر فى ترك النفوذ فى جيش اسامه.

فاما قول المرتضى: ان عليا (ع) كان مامورا بحرب معاويه مع التمكن و وجود الانصار، فاذا عدما لم يكن مامورا بحربه، فلقائل ان يقول: و ابوبكر كان مامورا بالنفوذ فى جيش اسامه مع التمكن و وجود الانصار، و قد عدم التمكن لما استخلف، فانه قد تحمل اعباء الامامه، و تعذر عليه الخروج عن المدينه، التى هى دار الامامه، فلم يكن مامورا و الحال هذه بالنفوذ فى جيش اسامه.

فان قلت: الاشكال عليكم انما هو
من قبل الاستخلاف، كيف جاز لابى بكر ان يتاخر عن المسير؟ و كيف جاز له ان يرجع الى المدينه و هو مامور بالمسير؟ و هلا نفذ لوجهه و لم يرجع، و ان بلغه موت رسول الله (ص)!.

قلت: لعل اسامه اذن له، فهو مامور بطاعته، و لانه راى اسامه و قد عاد باللواء فعاد هو لانه لم يكن يمكنه ان يسير الى الروم وحده، و ايضا فان اصحابنا قالوا: ان ولايه اسامه بطلت بموت النبى (ص)، و عاد الامر الى راى من ينصب للامر، قالوا: لان تصرف اسامه انما كان من جهه النبى (ص)، ثم زال تصرف النبى (ص) بموته، فوجب ان يزول تصرف اسامه، لان تصرفه تبع لتصرف الرسول (ص).

قالوا: و ذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت الموكل، قالوا: و يفارق الوصى لان ولايته لاتثبت الا بعد موت الموصى، فهو كعهد الامام الى غيره لايثبت الا بعد موت الامام، ثم فرع اصحابنا على هذا الاصل مساله و هى: الحاكم هل ينعزل بموت الامام ام لا؟ قال قوم من اصحابنا: لاينعزل و بنوه على ان التولى من غير جهه الامام يجوز، فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين اجمعين، لا عن الامام، و ان وقف تصرفه على اختياره، و صار ذلك عندهم بمنزله ان يختار المسلمون واحدا يحكم بينهم، ثم يموت من رضى بذلك، فان تصرفه يبقى على ما كان عليه، و
قال قوم من اصحابنا: ينعزل، و ان هذا النوع من التصرف لايستفاد الا من جهه الامام، و لايقوم به غيره، و اذا ثبت ان اسامه قد بطلت ولايته لم تبق تبعه على ابى بكر فى الرجوع من بعض الطريق الى المدينه.

و خامسها: ان اميرالمومنين ولى اباموسى الحكم، و ولى رسول الله (ص) خالد بن الوليد السريه الى الغميصاء، و هذا الكلام انما ذكره قاضى القضاه تتمه لقوله: ان امره (ع) بنفوذ بعث اسامه كان مشروطا بالمصلحه، قال: كما ان توليته (ع) اباموسى كانت مشروطه باتباع القرآن، و كما ان توليه رسول الله (ص) خالد بن الوليد كانت مشروطه بان يعمل بما اوصاه به، فخالفا و لم يعملا الحق، فاذا كانت هذه الاوامر مشروطه فكذلك امره جيش اسامه بالنفوذ كان مشروطا بالمصلحه و الا يعرض ما يقتضى رجوع الجيش او بعضه الى المدينه، و قد سبق القول فى كون الامر مشروطا.

و سادسها: ان ابابكر كان محتاجا الى مقام عمر عنده ليعاضده و يقوم فى تمهيد امر الامامه ما لايقوم به غيره، فكان ذلك اصلح فى باب الدين من مسيره مع الجيش، فجاز ان يحبسه عنده لذلك، و هذا الوجه مختص بمن قال: ان ابابكر لم يكن فى الجيش، و ايضاح عذره فى حبس عمر عن النفوذ مع الجيش.

فاما قول المرتضى فان ذلك غير جائز،
لان مخالفه النص حرام، فقد قلنا: ان هذا مبنى على مساله تخصيص العمومات الوارده فى القرآن بالقياس.

و اما قوله: اى حاجه كانت لابى بكر الى عمر بعد وقوع البيعه، و لم يكن هناك تنازع و لااختلاف! فعجيب، و هل كان لولا مقام عمر و حضوره فى تلك المقامات يتم لابى بكر امر او ينتظم له حال! و لولا عمر لما بايع على و لا الزبير، و لااكثر الانصار، و الامر فى هذا اظهر من كل ظاهر.

و سابعها: ان من يصلح للامامه ممن ضمه جيش اسامه يجب تاخرهم ليختار للامامه احدهم، فان ذلك اهم من نفوذهم، فاذا جاز لهذه العله التاخر قبل العقد جاز التاخر بعده للمعاضده و غيرها.

فاما قول المرتضى: ان ذلك الجيش لم يضم من يصلح للامامه، فبناء على مذهبه فى ان كل من ليس بمعصوم لايصلح للامامه.

فاما قوله: و لو صح ذلك لم يكن عذرا فى التاخر، لان من خرج فى الجيش يمكن ان يختار و لو كان بعيدا، و لايمكن بعده من صحه الاختيار، فلقائل ان يقول: دار الهجره هى التى فيها اهل الحل و العقد، و اقارب رسول الله (ص) و القراء و اصحاب السقيفه، فلا يجوز العدول عن الاجتماع و المشاوره فيها الى الاختيار على البعد، و على جناح السفر من غير مشاركه من ذكرنا من اعيان المسلمين.

فاما قوله: و لو صح
هذا العقد لكان عذرا فى التاخر قبل العقد، فاما بعد ابرامه فلا عذر فيه، فلقائل ان يقول: اذا اجزت التاخر قبل العقد لنوع من المصلحه فاجز التاخر بعد العقد لنوع آخر من المصلحه، و هو المعاضده و المساعده.

هذه الوجوه السبعه كلها لبيان قوله: تاخر ابى بكر او عمر عن النفوذ فى جيش اسامه، و ان كان مامورا بالنفوذ.

ثم نعود الى تمام اقسام الفصل.

و منها قول قاضى القضاه: لا معنى لقول من قال: ان رسول الله (ص) قصد ابعادهم عن المدينه، لان بعدهم عنها لايمنعهم من ان يختاروا واحدا منهم للامامه، و لانه (ع) لم يكن قاطعا على موته لا محاله، لانه لم يرد: نفذوا جيش اسامه فى حياته.

و قد اعترض المرتضى هذا فقال: انه لم يتبين معنى الطعن، لان الطاعن لايقول: انهم ابعدوا عن المدينه كى لايختاروا واحدا للامامه، بل يقول: انما ابعدوا لينتصب بعد موته (ص) فى المدينه الشخص الذى نص عليه، و لايكون حاضرا بالمدينه من يخالفه و ينازعه، و ليس يضرنا الا يكون (ص) قاطعا على موته، لانه و ان لم يكن قاطعا فهو لامحاله يشفق و يخاف من الموت، و على الخائف ان يتحرز مما يخاف منه، و كلام المرتضى فى هذا الموضع اظهر من كلام قاضى القضاه.

و منها قول قاضى القضاه: ان ولايه اسام
ه عليهما لاتقتضى كونهما دونه فى الفضل، كما ان عمرو بن العاص لما ولى عليهما لم يقتض كونه افضل منهما.

و قد اعترض المرتضى هذا بانه يقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو افضل منه، و ان تقديم عمرو بن العاص عليهما فى الامره يقتضى ان يكون افضل منهما فيما يرجع الى الامره و السياسه، و لايقتضى افضليته عليهما فى غير ذلك، و كذلك القول فى اسامه.

و لقائل ان يقول: ان الملوك قد يومرون الامراء على الجيوش لوجهين: احدهما ان يقصد الملك بتامير ذلك الشخص ان يسوس الجيش و يدبره بفضل رايه و شيخوخته و قديم تجربته و ما عرف من يمن نقيبته فى الحرب و قود العساكر، و الثانى ان يومر على الجيش غلاما حدثا من غلمانه او من ولده او من اهله، و يامر الاكابر من الجيش ان يثقفوه و يعلموه، و يامره ان يتدبر بتدبيرهم، و يرجع الى رايهم، و يكون قصد الملك من ذلك تخريج ذلك الغلام و تمرينه على الاماره، و ان يثبت له فى نفوس الناس منزله، و ان يرشحه لجلائل الامور و معاظم الشئون، ففى الوجه الاول يقبح تقديم المفضول على الفاضل، و فى الوجه الثانى لايقبح، فلم لايجوز ان يكون تامير اسامه عليهما من قبيل الوجه الثانى؟ و الحال يشهد لذلك، لان اسامه كان غلاما لم يبلغ ثمانى
عشره سنه حين قبض النبى (ص)، فمن اين حصل له من تجربه الحرب و ممارسه الوقائع و قود الجيش ما يكون به اعرف بالامره من ابى بكر و عمر و ابى عبيده و سعد بن ابى وقاص و غيرهم!.

و منها قول قاضى القضاه: ان السبب فى كون عمر فى الجيش انه انكر على عبدالله بن عياش بن ابى ربيعه تسخطه امره اسامه، و قال: انا اخرج فى جيش اسامه، فخرج من تلقاء نفسه تعظيما لامر رسول الله (ص) و قد اعترضه المرتضى فقال: هذا شى ء لم نسمعه من راو، و لاقراناه فى كتاب، و صدق المرتضى فيما قال، فان هذا حديث غريب لايعرف.

و اما قول عمر: دعنى اضرب عنقه فقد نافق، فمنقول مشهور لا محاله، و انما الغريب الذى لم يعرف كون عمر خرج من تلقاء نفسه فى الجيش مراغمه لعبد الله بن عياش بن ابى ربيعه، حيث انكر ما انكر، و لعل قاضى القضاه سمعه من راو او نقله من كتاب، الا انا نحن ما وقفنا على ذلك.

(الطعن الخامس) قالوا: انه (ص) لم يول ابابكر الاعمال و ولى غيره، و لما ولاه الحج بالناس و قرائه سوره برائه على الناس، عزله عن ذلك كله.

و جعل الامر الى اميرالمومنين (ع)، و قال: (لايودى عنى الا انا او رجل منى)، حتى يرجع ابوبكر الى النبى (ص).

اجاب قاضى القضاه فقال: لو سلمنا انه لم يوله،
لما دل ذلك على نقص، و لا على انه لم يصلح للاماره و الامامه، بل لو قيل: انه لم يوله لحاجته اليه بحضرته، و ان ذلك رفعه له لكان اقرب، لا سيما، و قد روى عنه ما يدل على انهما وزيراه، و انه كان (ص) محتاجا اليهما و الى رايهما، فلذلك لم يولهما، و لو كان للعمل على تركه فضل لكان عمرو بن العاص و خالد بن الوليد و غيرهما افضل من اكابر الصحابه، لانه (ع) ولاهما و قدمهما، و قد قدمنا ان توليته هى بحسب الصلاح، و قد يولى المفضول على الفاضل تاره و الفاضل اخرى، و ربما ولى الواحد لاستغنائه عنه بحضرته، و ربما ولاه لاتصال بينه و بين من يولى عليه، الى غير ذلك.

ثم ادعى انه ولى ابابكر على الموسم و الحج قد ثبتت بلا خلاف بين اهل الاخبار و لم يصح انه عزله، و لايدل رجوع ابى بكر الى النبى (ص) مستفهما عن القصه على العزل، ثم جعل انكار من انكر حج ابى بكر فى تلك السنه بالناس، كانكار عباد و طبقته اخذ اميرالمومنين (ع) سوره برائه من ابى بكر.

و حكى عن ابى على ان المعنى كان فى اخذ السوره من ابى بكر ان من عاده العرب ان سيدا من سادات قبائلهم اذا عقد عقد القوم، فان ذلك العقد لاينحل الا ان يحله هو او بعض سادات قومه، فلما كان هذا عادتهم و اراد النبى (ص)
ان ينبذ اليهم عقدهم، و ينقض ما كان بينه و بينهم، علم انه لاينحل ذلك الا به او بسيد من سادات رهطه، فعدل عن ابى بكر الى اميرالمومنين المقرب فى النسب ثم ادعى انه (ص) ولى ابابكر فى مرضه الصلاه، و ذلك اشرف الولايات، و قال فى ذلك: يابى الله و رسوله و المسلمون الا ابابكر.

ثم اعترض نفسه بصلاته (ع) خلف عبدالرحمن بن عوف: و اجاب بانه (ص) انما صلى خلفه، لا انه ولاه الصلاه و قدمه فيها.

قال: و انما قدم عبدالرحمن عند غيبه النبى (ص) فصلى بغير امره، و قد ضاق الوقت، فجاء النبى (ص) فصلى خلفه.

اعترض المرتضى فقال: قد بينا ان تركه (ص) الولايه لبعض اصحابه مع حضوره و امكان ولايته و العدول عنه الى غيره، مع تطاول الزمان و امتداده، لابد من ان تقتضى غلبه الظن بانه لايصلح للولايه، فاما ادعاوه انه لم يوله لافتقاره اليه بحضرته و حاجته الى تدبيره و رايه، فقد بينا انه (ع) ما كان يفتقر الى راى احد لكماله و رجحانه على كل احد، و انما كان يشاور اصحابه على سبيل التعليم لهم و التاديب، او لغير ذلك مما قد ذكر.

و بعد، فكيف استمرت هذه الحاجه، و اتصلت منه اليهما حتى لم يستغن فى زمان من الازمان عن حضورهما فيوليهما! و هل هذا الا قدح فى راى رسول الله (ص)
و نسبته الى انه كان ممن يحتاج الى ان يلقن و يوقف على كل شى ء، و قد نزهه الله تعالى عن ذلك! فاما ادعاوه ان الروايه قد وردت بانهما وزيراه فقد كان يجب ان يصحح ذلك قبل ان يعتمده و يحتج به، فانا ندفعه عنه اشد دفع فاما ولايه عمرو بن العاص و خالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من قبل، و بينا ان ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه، و لاتدل على صلاحهما للامامه، لان شرائط الامامه لم تتكامل فيهما، و بينا ايضا ان ولايه المفضول على الفاضل لاتجوز، فاما تعظيمه و اكباره قول من يذهب الى ان ابابكر عزل عن اداء السوره و الموسم جميعا، و جمعه بين ذلك فى البعد و بين انكار عباد ان يكون اميرالمومنين (ع) ارتجع سوره برائه من ابى بكر، فاول ما فيه انا لاننكر ان يكون اكثر الاخبار وارده بان ابابكر حج بالناس فى تلك السنه، الا انه قد روى قوم من اصحابنا خلاف ذلك، و ان اميرالمومنين (ع) كان امير الموسم فى تلك السنه، و ان عزل الرجل كان عن الامرين معا.

و استكبار ذلك.

و فيه خلاف لا معنى له، فاما ما حكاه عن عباد فانا لانعرفه، و ما نظن احدا يذهب الى مثله، و ليس يمكنه بازاء ذلك جحد مذهب اصحابنا الذى حكيناه، و ليس عباد لو صحت الروايه عنه بازاء من ذكرناه،
فهو ملى ء بالجهالات و دفع الضرورات.

و بعد، فلو سلمنا ان ولايه الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقيا، لانه اذا كان ما ولى مع تطاول الزمان الا هذه الولايه، ثم سلب شطرها، و الافخم الاعظم منها، فليس ذلك الا تنبيها على ما ذكرناه.

فاما ما حكاه عن ابى على من ان عاده العرب الا يحل ما عقده الرئيس منهم الا هو او المتقدم من رهطه، فمعاذ الله ان يجرى النبى (ص) سنته و احكامه على عادات الجاهليه، و قد بين (ع) لما رجع اليه ابوبكر يساله عن اخذ السوره منه الحال، فقال: انه اوحى الى الا يودى عنى الا انا او رجل منى، و لم يذكر ما ادعاه ابوعلى، على ان هذه العاده قد كان يعرفها النبى (ص) قبل بعثه ابابكر بسوره برائه، فما باله لم يعتمدها فى الابتداء و يبعث من يجوز ان يحل عقده من قومه!.

فاما ادعاوه ولايه ابى بكر الصلاه فقد ذكرنا فيما تقدم انه لم يوله اياها فاما فصله بين صلاته خلف عبدالرحمن و بين صلاه ابى بكر بالناس، فليس بشى ء، لانا اذا كنا قد دللنا على ان الرسول (ص) ما قدم ابابكر الى الصلاه، فقد استوى الامران.

و بعد فاى فرق بين ان يصلى خلفه و بين ان يوليه و يقدمه، و نحن نعلم ان صلاته خلفه اقرار لولايته و رضا بها، فقد عاد الامر الى ان عبدالر
حمن كانه قد صلى بامره و اذنه! على ان قصه عبدالرحمن اوكد، لانه قد اعترف بان الرسول صلى خلفه، و لم يصل خلف ابى بكر، و ان ذهب كثير من الناس الى انه قدمه و امر بالصلاه قبل خروجه الى المسجد و تحامله.

ثم سال المرتضى رحمه الله نفسه، فقال: ان قيل: ليس يخلو النبى (ص) من ان يكون سلم فى الابتداء سوره برائه الى ابى بكر بامر الله او باجتهاده و رايه، فان كان بامر الله تعالى، فكيف يجوز ان يرتجع منه السوره قبل وقت الاداء، و عندكم انه لايجوز نسخ الشى ء قبل تقضى وقت فعله! و ان كان باجتهاده (ص)، فعندكم انه لايجوز ان يجتهد فيما يجرى هذا المجرى!.

و اجاب فقال: انه ما سلم السوره الى ابى بكر الا باذنه تعالى، الا انه لم يامره بادائها، و لاكلفه قرائتها على اهل الموسم، لان احدا لم يمكنه ان ينقل (ع) فى ذلك لفظ الامر و التكليف، فكانه سلم سوره برائه اليه لتقرا على اهل الموسم، و لم يصرح بذكر القارى ء المبلغ لها فى الحال، و لو نقل عنه تصريح لجاز ان يكون مشروطا بشرط لم يظهر.

فان قيل: فاى فائده فى دفع السوره الى ابى بكر و هو لايريد ان يوديها، ثم ارتجاعها منه؟ و هلا دفعت فى الابتداء الى اميرالمومنين (ع)!.

قيل: الفائده فى ذلك ظهور فضل اميرالموم
نين (ع) و مرتبته، و ان الرجل الذى نزعت السوره عنه لايصلح لما يصلح له، و هذا غرض قوى فى وقوع الامر على ما وقع عليه.

قلت: قد ذكرنا فيما تقدم القول فى توليه الملك بعض اصحابه، و ترك توليه بعضهم، و كيفيه الحال فى ذلك، على انه قد روى اصحاب المغازى انه امر ابابكر فى شعبان من سنه سبع على سريه بعثها الى نجد فلقوا جمعا من هوازن فبيتوهم، فروى اياس بن سلمه عن ابيه، قال: كنت فى ذلك البعث، فقتلت بيدى سبعه منهم، و كان شعارنا: (امت امت)، و قتل من اصحاب النبى (ص) قوم، و جرح ابوبكر و ارتث و عاد الى المدينه، على ان امراء السرايا الذين كان يبعثهم (ص) كانوا قوما مشهورين بالشجاعه و لقاء الحروب، كمحمد بن مسلمه، و ابى دجانه، و زيد بن حارثه و نحوهم، و لم يكن ابوبكر مشهورا بالشجاعه و لقاء الحروب، و لم يكن جبانا و لاخوارا و انما كان رجلا مجتمع القلب عاقلا، ذا راى و حسن تدبير، و كان رسول الله (ص) يترك بعثه فى السرايا، لان غيره انفع منه فيها، و لايدل ذلك على انه لايصلح للامامه، و ان الامامه لاتحتاج ان يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعه، و انما يحتاج الى ثبات القلب، و الا يكون هلعا طائر الجنان.

و كيف يقول المرتضى: انه (ص) لم يكن محتاجا ال
ى راى احد، و قد نقل الناس كلهم رجوعه من راى الى راى عند المشوره، نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما اشار عليه الحباب بن المنذر، و نحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رايه فى دفع ثلث تمر المدينه الى عيينه بن حصن ليرجع بالاحزاب عنهم، لاجل ما رآه سعد بن معاذ و سعد بن عباده من الحرب، و العدول عن الصلح، و نحو ما جرى فى تلقيح النخل بالمدينه و غير ذلك! فاما ولايه ابى بكر الموسم فاكثر الاخبار على ذلك، و لم يرو عزله عن الموسم الا قوم من الشيعه.

و اما ما انكره المرتضى من حال عباد بن سليمان و دفعه ان يكون على اخذ برائه من ابى بكر و استغرابه ذلك عجب، فان قول عباد قد ذهب اليه كثير من الناس، و رووا ان رسول الله (ص) لم يدفع برائه الى ابى بكر، و انه بعد ان نفذ ابوبكر بالحجيج اتبعه عليا و معه تسع آيات من برائه، و قد امره ان يقراها على الناس و يوذنهم بنقض العهد و قطع الدنيه، فانصرف ابوبكر الى رسول الله (ص)، فاعاده على الحجيج، و قال له: انت الامير، و على المبلغ، فانه يبلغ عنى الا انا او رجل منى، و لم ينكر عباد امر برائه بالكليه، و انما انكر ان يكون النبى (ص) دفعها الى ابى بكر ثم انتزعها منه، و طائفه عظيمه من المحدثين يروون ما ذكرن
اه، و ان كان الاكثر الاظهر انه دفعها اليه ثم اتبعه بعلى (ع) فانتزعها منه، و المقصود ان المرتضى قد تعجب مما لايتعجب من مثله، فظن ان عبادا انكر حديث برائه بالكليه، و قد وقفت انا على ما ذكره عباد فى هذه القضيه فى كتابه المعروف بكتاب "الابواب"، و هو الكتاب الذى نقضه شيخنا ابوهاشم، فاما عذر شيخنا ابى على، و قوله: ان عاده العرب ذلك، و اعتراض المرتضى عليه، فالذى قاله المرتضى اصح و اظهر، و ما نسب الى عاده العرب غير معروف، و انما هو تاويل تاول به متعصبو ابى بكر لانتزاع برائه منه، و ليس بشى ء.

و لست اقول ما قاله المرتضى من ان غرض رسول الله (ص) اظهار ان ابابكر لايصلح للاداء عنه، بل اقول: فعل ذلك لمصلحه رآها، و لعل السبب فى ذلك ان عليا (ع) من بنى عبدمناف و هم جمره قريش بمكه، و على ايضا شجاع لايقام له، و قد حصل فى صدور قريش منه الهيبه الشديده و المخافه العظيمه، فاذا حصل مثل هذا الشجاع البطل و حوله من بنى عمه و هم اهل العزه و القوه و الحميه، كان ادعى الى نجاته من قريش، و سلامه نفسه و بلوغ الغرض من نبذ العهد على يده، الا ترى ان رسول الله (ص) فى عمره الحديبيه بعث عثمان بن عفان الى مكه يطلب منهم الاذن له فى الدخول، و انما بع
ثه لانه من بنى عبدمناف، و لم يكن بنو عبدمناف- و خصوصا بنى عبدشمس- ليمكنوا من قتله، و لذلك حمله بنوسعيد بن العاص على بعير يوم دخل مكه و احدقوا به مستلئمين بالسلاح، و قالوا له: اقبل و ادبر، و لاتخف احدا، بنوسعيد اعزه الحرم.

و اما القول فى توليه رسول الله (ص) ابابكر الصلاه، فقد تقدم، و ما رامه قاضى القضاه من الفرق بين صلاه ابى بكر بالناس و صلاه عبدالرحمن بهم، مع كون رسول الله (ص) صلى خلفه ضعيف، و كلام المرتضى اقوى منه.

فاما السوال الذى ساله المرتضى من نفسه فقوى، و الجواب الصحيح ان بعث برائه مع ابى بكر كان باجتهاد من الرسول (ص)، و لم يكن عن وحى و لا من جمله الشرائع التى تتلقى عن جبرائيل (ع)، فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضى وقت فعله، و جواب المرتضى ليس بقوى، لانه من البعيد ان يسلم سوره برائه الى ابى بكر و لايقال له: ماذا تصنع بها؟ بل يقال: خذ هذه معك لا غير.

و القول بان الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر، و فتح هذا الباب يفسد كثيرا من القواعد.

(الطعن السادس) ان ابابكر لم يكن يعرف الفقه و احكام الشريعه، فقد قال فى الكلاله: اقول فيها برايى، فان يكن صوابا فمن الله، و ان يكن خطا فمنى، و لم يعرف ميراث الجد، و من حاله
هذه لايصلح للامامه.

اجاب قاضى القضاه بان الامام لايجب ان يعلم جميع الاحكام، و ان القدر الذى يحتاج اليه هو القدر الذى يحتاج اليه الحاكم، و ان القول بالراى هو الواجب فيما لانص فيه، و قد قال اميرالمومنين (ع) بالراى فى مسائل كثيره.

اعترض المرتضى فقال: قد دللنا على ان الامام لابد ان يكون عالما بجميع الشرعيات، و فرقنا بينه و بين الحاكم، و دللنا على فساد الراى و الاجتهاد.

و اما اميرالمومنين (ع) فلم يقل قط بالراى، و ما يروى من خبر بيع امهات الاولاد غير صحيح، و لو صح لجاز ان يكون اراد بالراى الرجوع الى النصوص و الادله، و لا شبهه عندنا ان قوله كان واحدا فى الحالين، و ان ظهر فى احدهما خلاف مذهبه للتقيه.

قلت: هذا الطعن مبنى على امرين: احدهما هل من شرط الامامه ان يعلم الامام كل الاحكام الشرعيه ام لا؟ و هذا مذكور فى كتبنا الكلاميه، و الثانى هو القول فى الاجتهاد و الراى حق ام لا؟ و هذا مذكور فى كتبنا الاصوليه.

(الطعن السابع) قصه خالد بن الوليد و قتله مالك بن نويره و مضاجعته امراته من ليلته، و ان ابابكر ترك اقامه الحد عليه، و زعم انه سيف من سيوف الله سله الله على اعدائه، مع ان الله تعالى قد اوجب القود و حد الزنا عموما،
و ان عمر نبهه و قال له: اقتله، فانه قتل مسلما.

اجاب قاضى القضاه فقال: ان شيخنا اباعلى قال: ان الرده ظهرت من مالك بن نويره، لانه جاء فى الاخبار انه رد صدقات قومه عليهم لما بلغه موت رسول الله (ص) كما فعله سائر اهل الرده فاستحق القتل.

فان قال قائل: فقد كان يصلى، قيل له: و كذلك سائر اهل الرده، و انما كفروا بالامتناع من الزكاه، و اعتقادهم اسقاط وجوبها دون غيره.

فان قيل: فلم انكر عمر؟ قيل: كان الامر الى ابى بكر، فلا وجه لانكار عمر، و قد يجوز ان يعلم ابوبكر من الحال ما يخفى على عمر.

فان قيل: فما معنى ما روى عن ابى بكر من ان خالدا تاول فاخطا، قيل: اراد عجلته عليه بالقتل، و قد كان الواجب عنده على خالد ان يتوقف للشبهه.

و استدل ابوعلى على ردته بان اخاه متمم ابن نويره لما انشد عمر مرثيته اخاه قال له: وددت انى اقول الشعر فارثى اخى زيدا بمثل ما رثيت به اخاك؟ فقال متمم: لو قتل اخى على مثل ما قتل عليه اخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزانى احد بمثل تعزيتك، فدل هذا على ان مالكا لم يقتل على الاسلام كما قتل زيد.

و اجاب عن تزويج خالد بامرائه بانه اذا قتل على الرده فى دار الكفر جاز تزويج امراته عند كثير من اهل العلم، و ان كان لايجوز ا
ن يطاها الا بعد الاستبراء.

و حكى عن ابى على انه انما قتله لانه ذكر رسول الله (ص) فقال: (صاحبك) و اوهم بذلك انه ليس بصاحب له، و كان عنده ان ذلك رده و علم عند المشاهده المقصد، و هو امير القوم، فجاز ان يقتله و ان كان الاولى الا يستعجل، و ان يكشف الامر فى ردته حتى يتضح، فلهذا لم يقتله ابوبكر به فاما وطوه لامراته فلم يثبت، فلا يصح ان يجعل طعنا فيه.

اعترض المرتضى فقال: اما منع خالد فى قتل مالك بن نويره و استباحه امراته و امواله لنسبته اياه الى رده لم تظهر منه، بل كان الظاهر خلافها من الاسلام، فعظيم.

و يجرى مجراه فى العظم تغافل من تغافل عن امره، و لم يقم فيه حكم الله تعالى، و اقره على الخطا الذى شهد هو به على نفسه، و يجرى مجراهما من امكنه ان يعلم الحال فاهملها و لم يتصفح ما روى من الاخبار فى هذا الباب و تعصب لاسلافه و مذهبه.

و كيف يجوز عند خصومنا على مالك و اصحابه جحد الزكاه مع المقام على الصلاه، و هما جميعا فى قرن! لان العلم الضرورى بانهما من دينه (ع) و شريعته على حد واحد، و هل نسبه مالك الى الرده مع ما ذكرناه الا قدح فى الاصول و نقض لما تضمنته من ان الزكاه معلومه ضروره من دينه (ع).

و اعجب من كل عجيب قوله: و كذلك
سائر اهل الرده، يعنى انهم كانوا يصلون و يجحدون الزكاه، لانا قد بينا ان ذلك مستحيل غير ممكن! و كيف يصح ذلك، و قد روى جميع اهل النقل ان ابابكر لما وصى الجيش الذين انفذهم بان يوذنوا و يقيموا، فان اذن القوم كاذانهم و اقامتهم كفوا عنهم، و ان لم يفعلوا اغاروا عليهم، فجعل اماره الاسلام و البرائه من الرده الاذان و الاقامه! و كيف يطلق فى سائر اهل الرده ما اطلقه من انهم كانوا يصلون، و قد علمنا ان اصحاب مسيلمه و طليحه و غيرهما ممن كان ادعى النبوه و خلع الشريعه ما كانوا يرون الصلاه و لاشيئا مما جائت به شريعتنا.

و قصه مالك معروفه عند من تامل كتب السير و النقل، لانه كان على صدقات قومه بنى يربوع واليا من قبل رسول الله (ص)، و لما بلغته وفاه رسول الله (ص) امسك عن اخذ الصدقه من قومه و قال لهم: تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبى (ص)، و ننظر ما يكون من امره، و قد صرح بذلك فى شعره حيث يقول: و قال رجال سدد اليوم مالك و قال رجال مالك لم يسدد فقلت: دعونى لا ابا لابيكم فلم اخط رايا فى المقام و لا الندى و قلت: خذوا اموالكم غير خائف و لاناظر فيما يجى ء به غدى فدونكموها انما هى مالكم مصوره اخلاقها لم تجدد ساجعل نفسى دو
ن ما تحذرونه و ارهنكم يوما بما قلته يدى فان قام بالامر المجدد قائم اطعنا و قلنا: الدين دين محمد فصرح كما ترى انه استبقى الصدقه فى ايدى قومه رفقا بهم و تقربا اليهم، الى ان يقوم بالامر من يدفع ذلك اليه.

و قد روى جماعه من اهل السير، و ذكره الطبرى فى تاريخه، ان مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات و فرقهم، و قال: يا بنى يربوع، انا كنا قد عصينا امرائنا اذ دعونا الى هذا الدين، و بطانا الناس عنه، فلم نفلح و لم ننجح، و انى قد نظرت فى هذا الامر فوجدت الامر يتاتى لهولاء القوم بغير سياسه، و اذا امر لايسوسه الناس، فاياكم و معاداه قوم يصنع لهم فتفرقوا على ذلك الى اموالهم، و رجع مالك الى منزله، فلما قدم خالد البطاح بث السرايا و امرهم بداعيه الاسلام و ان ياتوه بكل من لم يجب، و امرهم ان امتنع ان يقاتلوه، فجائته الخيل بمالك بن نويره فى نفر من بنى يربوع، و اختلف السريه فى امرهم، و فى السريه ابوقتاده الحارث بن ربعى، فكان ممن شهد انهم اذنوا و اقاموا و صلوا، فلما اختلفوا فيهم امر بهم خالد فحبسوا و كانت ليله بارده لايقوم لها شى ء، فامر خالد مناديا ينادى: (ادفئوا اسرائكم) فظنوا انهم امروا بقتلهم، لان هذه اللفظه تستعمل
فى لغه كنانه للقتل، فقتل ضرار بن الازور مالكا، و تزوج خالد زوجته ام تميم بنت المنهال.

و فى خبر آخر ان السريه التى بعث بها خالد لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم، فاخذ القوم السلاح! قال: فقلنا: انا المسلمون، فقالوا: و نحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم!.

قلنا: فضعوا السلاح، فلما وضعوا السلاح ربطوا اسارى فاتوا بهم خالدا.

فحدث ابوقتاده خالد بن الوليد ان القوم نادوا بالاسلام، و ان لهم امانا، فلم يلتفت خالد الى قولهم و امر بقتلهم، و قسم سبيهم، و حلف ابوقتاده الا يسير تحت لواء خالد فى جيش ابدا، و ركب فرسه شاذا الى ابى بكر، فاخبره الخبر، و قال له: انى نهيت خالدا عن قتله، فلم يقبل قولى، و اخذ بشهاده الاعراب الذين غرضهم الغنائم، و ان عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند ابى بكر فاكثر و قال: ان القصاص قد وجب عليه.

و لما اقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد و عليه قباء له عليه صدا الحديد، معتجرا بعمامه له قد غرز فى عمامته اسهما، فلما دخل المسجد قام اليه عمر فنزع الاسهم عن راسه فحطمها، ثم قال له: فاعدو نفسه، اعدوت على امرى ء مسلم فقتلته، ثم نزوت على امراته! و الله لنرجمنك باحجارك.

و خالد لايكلمه، و لايظن الا ان راى ابى بكر مث
ل رايه حتى دخل الى ابى بكر و اعتذر اليه بعذره و تجاوز عنه، فخرج خالد و عمر جالس فى المسجد فقال: هلم الى يابن ام شمله!.

فعرف عمر ان ابابكر قد رضى عنه فلم يكلمه، و دخل بيته.

و قد روى ايضا ان عمر لما ولى جمع من عشيره مالك بن نويره من وجد منهم و استرجع ما وجد عند المسلمين من اموالهم و اولادهم و نسائهم، فرد ذلك عليهم جميعا مع نصيبه كان منهم.

و قيل: انه ارتجع بعض نسائهم من نواحى دمشق، و بعضهن حوامل، فردهن على ازواجهن.

فالامر ظاهر فى خطا خالد، و خطا من تجاوز عنه.

و قول صاحب الكتاب: انه يجوز ان يخفى عن عمر ما يظهر لابى بكر ليس بشى ء، لان الامر فى قصه خالد لم يكن مشتبها، بل كان مشاهدا معلوما لكل من حضره، و ما تاول به فى القتل لايعذر لاجله، و ما راينا ابابكر حكم فيه بحكم المتاول و لا غيره، و لاتلافى خطاه و زلله، و كونه سيفا من سيوف الله على ما ادعاه لايسقط عنه الاحكام، و يبرئه من الاثام.

و اما قول متمم: لو قتل اخى على ما قتل عليه اخوك لما رثيته، لايدل على انه كان مرتدا، فكيف يظن عاقل ان متمما يعترف برده اخيه و هو يطالب ابابكر بدمه و الاقتصاص من قاتليه، و رد سبيه، و انه اراد فى الجمله التقرب الى عمر بتقريظ اخيه! ثم لو
كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان انما يقصد تفضيل قتله زيد على قتله مالك، و الحال فى ذلك اظهر، لان زيدا قتل فى بعث المسلمين ذابا عن وجوههم، و مالك قتل على شبهه، و بين الامرين فرق.

و اما قوله فى النبى (ص): (صاحبك) فقد قال اهل العلم: انه اراد القرشيه لان خالدا قرشى.

و بعد، فليس فى ظاهر اضافته اليه دلاله على نفيه له عن نفسه، و لو كان علم من مقصده الاستخفاف و الاهانه على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب ان يعتذر خالد بذلك عند ابى بكر و عمر و يعتذر به ابوبكر لما طالبه عمر بقتله، فان عمر ما كان يمنع من قتل قادح فى نبوه النبى (ص)، و ان كان الامر على ذلك فاى معنى لقول ابى بكر: تاول فاخطا! و انما تاول فاصاب ان كان الامر على ما ذكر.

قلت: اما تعجب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاه و اقاموا على الصلاه و دعواه ان هذا غير ممكن و لاصحيح، فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك، و كيف ينكر امكانه! اما الامكان فلانه لاملازمه بين العبادتين الا من كونهما مقترنتين فى بعض المواضع فى القرآن، و ذلك لايوجب تلازمهما فى الوجود، او من قوله: ان الناس يعلمون كون الزكاه واجبه فى دين الاسلام ضروره، كما تعلمون كون الصلاه فى دين الاسلام ضروره، و هذا لايمنع اعتقاد
هم سقوط وجوب الزكاه لشبهه دخلت عليهم.

فانهم قالوا: ان الله تعالى قال لرسوله: (خذ من اموالهم صدقه تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم ان صلاتك سكن لهم) قالوا: فوصف الصدقه المفروضه بانها صدقه من شانها ان يطهر رسول الله (ص) الناس و يزكيهم باخذها منهم، ثم عقب ذلك بان فرض عليه مع اخذ الزكاه منهم ان يصلى عليهم صلاه تكون سكنا لهم.

قالوا: و هذه الصفات لاتتحقق فى غيره، لان غيره لايطهر الناس و يزكيهم باخذ الصدقه، و لا اذا صلى على الناس كانت صلاته سكنا لهم، فلم يجب علينا دفع الزكاه الى غيره.

و هذه الشبهه لاتنافى كون الزكاه معلوما وجوبها ضروره من دين محمد (ص)، لانهم ما جحدوا وجوبها، و لكنهم قالوا: انه وجوب مشروط، و ليس يعلم بالضروره انتفاء كونها مشروطه، و انما يعلم ذلك بنظر و تاويل، فقد بان ان ما ادعاه من الضروره ليس بدال على انه لايمكن احد اعتقاد نفى وجوب الزكاه بعد موت الرسول، و لو عرضت مثل هذه الشبهه فى صلاه لصح لذاهب ان يذهب الى انها قد سقطت عن الناس، فاما الوقوع فهو المعلوم ضروره بالتواتر، كالعلم بان ابابكر ولى الخلافه بعد الرسول (ص) ضروره بطريق التواتر، و من اراد الوقوف على ذلك فلينظر فى كتب التواريخ فانها تشتمل من ذلك
على ما يشفى و يكفى.

و قال ابوجعفر محمد بن جرير الطبرى فى التاريخ الكبير باسناد ذكره: ان ابابكر اقام بالمدينه بعد وفاه رسول الله (ص) و توجيهه اسامه فى جيشه الى حيث قتل ابوه زيد بن حارثه لم يحدث شيئا، و جائته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاه و يمنعون الصدقه، فلم يقيل منهم و ردهم، و اقام حتى قدم اسامه بعد اربعين يوما من شخوصه، و يقال: بعد سبعين يوما.

و روى ابوجعفر قال: امتنعت العرب قاطبه من اداء الزكاه بعد رسول الله (ص) الا قريشا و ثقيفا.

و روى ابوجعفر، عن السرى عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروه، عن ابيه، قال: ارتدت العرب و منعت الزكاه الا قريشا و ثقيفا، فاما هوازن فقدمت رجلا و اخرت اخرى، امسكوا الصدقه.

و روى ابوجعفر، قال: لما منعت العرب الزكاه كان ابوبكر ينتظر قدوم اسامه بالجيش، فلم يحارب احدا قبل قدومه الا عبسا و ذبيان، فانه قاتلهم قبل رجوع اسامه.

و روى ابوجعفر، قال: قدمت وفود من قبائل العرب المدينه، فنزلوا على وجوه الناس بها، و يحملونهم الى ابى بكر ان يقيموا الصلاه و الا يوتوا الزكاه، فعزم الله لابى بكر على الحق، و قال: لو منعونى عقال بعير لجاهدتهم عليه.

و روى ابوجعفر شعرا للخطيل بن اوس، اخى الحطيئه فى معنى منع
الزكاه، و ان ابابكر رد سوال العرب و لم يجبهم من جملته: اطعنا رسول الله اذا كان بيننا فيا لعباد الله ما لابى بكر! ايورثها بكر اذا مات بعده و تلك لعمر الله قاصمه الظهر فهلا رددتم وفدنا باجابه و هلا حسبتم منه راعيه البكر فان الذى سالوكم فمنعتم لكالتمر او احلى لحلف بنى فهر و روى ابوجعفر قال: لما قدمت العرب المدينه على ابى بكر فكلموه فى اسقاط الزكاه، نزلوا على وجوه الناس بالمدينه فلم يبق احد الا و انزل عليه ناسا منهم، الا العباس بن عبدالمطلب، ثم اجتمع الى ابى بكر المسلمون، فخوفوه باس العرب و اجتماعها.

قال ضرار بن الازور: فما رايت احدا- ليس رسول الله املا بحرب شعواء من ابى بكر فجعلنا نخوفه و نروعه، و كانما انما نخبره بما له لا ما عليه، و اجتمعت كلمه المسلمين على اجابه العرب الى ما طلبت، و ابى ابوبكر ان يفعل الا ما كان يفعله رسول الله (ص) و ان ياخذ الا ما كان ياخذ، ثم اجلهم يوما و ليله، ثم امرهم بالانصراف، و طاروا الى عشائرهم.

و روى ابوجعفر، قال: كان رسول الله (ص) بعث عمرو بن العاص الى عمان قبل موته، فمات و هو بعمان، فاقبل قافلا الى المدينه، فوجد العرب قد منعت الزكاه، فنزل فى بنى عامر على قره بن هبي
ره، و قره يقدم رجلا و يوخر اخرى، و على ذلك بنوعامر كلهم الا الخواص.

ثم قدم المدينه، فاطافت به قريش، فاخبرهم ان العساكر معسكره حولهم، فتفرق المسلمون، و تحلقوا حلقا، و اقبل عمر بن الخطاب، فمر بحلقه و هم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو، و فى تلك الحلقه على و عثمان و طلحه و الزبير و عبدالرحمن بن عوف و سعد، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: فى اى شى ء انتم! فلم يخبروه، فقال: ما اعلمنى بالذى خلوتم عليه! فغضب طلحه و قال: الله يابن الخطاب! انك لتعلم الغيب! فقال: لايعلم الغيب الا الله، و لكن اظن قلتم: ما اخوفنا على قريش من العرب و اخلقهم الا يقروا بهذا الامر.

قالوا: صدقت، فقال: فلا تخافوا هذه المنزله، انا و الله منكم على العرب اخوف منى عليكم من العرب.

قال ابوجعفر: و حدثنى السرى، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروه، عن ابيه، قال: نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان بعد وفاه رسول الله (ص) بقره بن هبيره بن سلمه بن يسير، و حوله عساكر من افنائهم، فذبح له، و اكرم منزلته، فلما اراد الرحله خلا به و قال: يا هذا، ان العرب لاتطيب لكم انفسا بالاتاوه، فان انتم اعفيتموها من اخذ اموالها فستسمع و تطيع، و ان ابيتم فانها تجتمع عليكم، فقال
عمرو: اتوعدنا بالعرب و تخوفنا بها! موعدنا حفش امك، اما و الله لاوطئنه عليك الخيل، و قدم على ابى بكر و المسلمين فاخبرهم.

و روى ابوجعفر قال: كان رسول الله (ص) قد فرق عماله فى بنى تميم على قبض الصدقات فجعل الزبرقان بن بدر على عوف و الرباب، و قيس بن عاصم على مقاعس و البطون، و صفوان بن صفوان و سبره بن عمرو على بنى عمرو، و مالك بن نويره على بنى حنظله، فلما توفى رسول الله (ص) ضرب صفوان الى ابى بكر حين وقع اليه الخبر بموت النبى (ص) بصدقات بنى عمر، و بما ولى منها، و ما ولى سبره، و اقام سبره فى قومه لحدث ان ناب، و اطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع؟ فكان له عدوا و قال و هو ينتظره و ينتظر ما يصنع: و يلى عليه!.

ما ادرى ما اصنع ان انا بايعت ابابكر و اتيته بصدقات قومى خلفنى فيهم فسائنى عندهم، و ان رددتها عليهم فلياتين ابابكر فيسوئنى عنده، ثم عزم قيس على قسمتها فى مقاعس و البطون، ففعل و عزم الزبرقان على الوفاء، فاتبع صفوان بصدقات عوف و الرباب حتى قدم بها المدينه و قال شعرا يعرض فيه بقيس بن عاصم، و من جملته: وفيت باذواد الرسول و قد ابت سعاه فلم يردد بعيرا اميرها فلما ارسل ابوبكر الى قيس العلاء بن الحضرمى اخرج الصدقه
، فاتاه بها و قدم معه الى المدينه.

و فى تاريخ ابى جعفر الطبرى من هذا الكثير الواسع، و كذلك فى تاريخ غيره من التواريخ، و هذا امر معلوم باضطرار، لايجوز لاحد ان يخالف فيه.

فاما قوله: كيف يصح ذلك، و قد قال لهم ابوبكر: اذا اذنوا و اقاموا كاذانكم و اقامتكم، فكفوا عنهم، فجعل اماره الاسلام و البرائه من الرده الاذان و الاقامه، فانه قد اسقط بعض الخبر، قال ابوجعفر الطبرى فى كتابه: كانت وصيته لهم: اذا نزلتم فاذنوا و اقيموا، فان اذن القوم و اقاموا فكفوا عنهم، فان لم يفعلوا فلا شى ء الا الغاره، ثم اقتلوهم كل قتله، الحرق فما سواه، و ان اجابوا داعيه الاسلام فاسالوهم، فان اقروا بالزكاه فاقبلوا منهم، و ان ابوا فلا شى ء الا الغاره، و لا كلمه.

فاما قوله: و كيف يطلق قاضى القضاه فى سائر اهل الرده ما اطلقه من انهم كانوا يصلون و من جملتهم اصحاب مسيلمه و طلحه! فانما اراد قاضى القضاه باهل الرده هاهنا مانعى الزكاه لا غير، و لم يرد من جحد الاسلام بالكليه.

فاما قصه مالك بن نويره و خالد بن الوليد فانها مشتبهه عندى، و لاغرو فقد اشتبهت على الصحابه، و ذلك ان من حضرها من العرب اختلفوا فى حال القوم: هل كان عليهم شعار الاسلام او لا؟ و اختلف اب
وبكر و عمر فى خالد مع شده اتفاقهما، فاما الشعر الذى رواه المرتضى لمالك بن نويره فهو معروف الا البيت الاخير، فانه غير معروف، و عليه عمده المرتضى فى هذا المقام، و ما ذكره بعد من قصه القوم صحيح كله مطابق لما فى التواريخ الا مويضعات يسيره: منها قوله: ان مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات، فان ذلك غير منقول و انما المنقول انه نهى قومه عن الاجتماع فى موضع واحد، و امرهم ان يتفرقوا فى مياههم، ذكر ذلك الطبرى و لم يذكر نهيه اياهم عن الاجتماع على منع الصدقه، و قال الطبرى: ان مالكا تردد فى امره: هل يحمل الصدقات ام لا؟ فجائه خالد و هو متحير سبح.

و منها ان الطبرى ذكر ان ضرار بن الازور قتل مالكا عن غير امر خالد، و ان خالدا لما سمع الواعيه خرج و قد فرغوا منهم، فقال: اذا اراد الله امرا اصابه، قال الطبرى: و غضب ابوقتاده لذلك، و قال لخالد: هذا عملك! و فارقه و اتى ابابكر فاخبره فغضب عليه ابوبكر حتى كلمه فيه عمر، فلم يرض الا ان يرجع الى خالد، فرجع اليه حتى قدم معه المدينه.

و منها ان الطبرى روى ان خالدا لما تزوج ام تميم بنت المنهال امراه مالك لم يدخل بها و تركها حتى تقضى طهرها، و لم يذكر المرتضى ذلك.

و منها ان الطبرى روى ا
ن متمما لما قدم المدينه طلب الى ابى بكر فى سبيهم، فكتب له برد السبى، و المرتضى ذكر انه لم يرد الا فى خلافه عمر.

فاما قول المرتضى: ان قول متمم: لو قتل اخى على مثل ما قتل عليه اخوك لما رثيته، لايدل على ردته، فصحيح، و لاريب انه قصد تقريظ زيد بن الخطاب و ان يرضى عمر اخاه بذلك.

و نعما قال المرتضى! ان بين القتلتين فرقا ظاهرا، و اليه اشار متمم لامحاله.

فاما قول مالك: صاحبك، يعنى النبى (ص)، فقد روى هذه اللفظه الطبرى فى التاريخ، قال: كان خالد يعتذر عن قتله، فيقول: انه قال له و هو يراجعه: ما اخال صاحبكم الا قال كذا و كذا، فقال له خالد: او ما تعده لك صاحبا! و هذه لعمرى كلمه جافيه، و ان كان لها مخرج فى التاويل، الا انه مستكره، و قرائن الاحوال يعرفها من شاهدها و سمعها، فاذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك، فقد اندفع قول المرتضى: هلا اعتذر بذلك! و لست انزه خالدا عن الخطا، و اعلم انه كان جبارا فاتكا لايراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب و هوى نفسه، و لقد وقع منه فى حياه رسول الله (ص) مع بنى خذيمه بالغميصاء اعظم مما وقع منه فى حق مالك بن نويره، و عفا عنه رسول الله (ص) بعد ان غضب عليه مده و اعرض عنه، و ذلك العفو هو الذى اطمعه حتى ف
عل ببنى يربوع ما فعل بالبطاح.

(الطعن الثامن) قولهم: ان مما يوثر فى حاله و حال عمر دفنهما مع رسول الله (ص) فى بيته، و قد منع الله تعالى الكل من ذلك فى حال حياته- فكيف بعد الممات- بقوله تعالى: (لاتدخلوا بيوت النبى الا ان يوذن لكم).

اجاب قاضى القضاه بان الموضع كان ملكا لعائشه، و هى حجرتها التى كانت معروفه بها، و الحجر كلها كانت املاكا لازواج النبى (ص)، و قد نطق القرآن بذلك فى قوله: (و قرن فى بيوتكن) و ذكر ان عمر استاذن عائشه فى ان يدفن فى ذلك الموضع، و حتى قال: ان لم تاذن لى فادفنونى فى البقيع، و على هذا الوجه يحمل ما روى عن الحسن (ع) انه لما مات اوصى ان يدفن الى جنب رسول الله (ص)، و ان لم يترك ففى البقيع، فلما كان من مروان و سعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع.

و انما اوصى بذلك باذن عائشه، و يجوز ان يكون علم من عائشه انها جعلت الموضع فى حكم الوقف، فاستباحوا ذلك لهذا الوجه، قال: و فى دفنه (ع) فى ذلك الموضع ما يدل على فضل ابى بكر، لانه (ع) لما مات اختلفوا فى موضع دفنه، و كثر القول حتى روى ابوبكر عنه (ص) انه قال ما يدل على ان الانبياء اذا ماتوا، دفنوا حيث ماتوا فزال الخلاف فى ذلك.

اعترض المرتضى فقال: لايخلو موضع
قبر النبى (ص) من ان يكون باقيا على ملكه (ع)، او يكون انتقل فى حياته الى عائشه على ما ادعاه، فان كان الاول لم يخل ان يكون ميراثا بعده او صدقه، فان كان ميراثا فما كان يحل لابى بكر و لا لعمر من بعده ان يامرا بدفنهما فيه الا بعد ارضاء الورثه الذين هم على مذهبنا فاطمه و جماعه الازواج، و على مذهبهم هولاء و العباس، و لم نجد واحدا منهما خاطب احدا من هولاء الورثه على ابتياع هذا المكان و لااستنزله عنه بثمن و لا غيره.

و ان كان صدقه فقد كان يجب ان يرضى عنه جماعه المسلمين و يبتاعه منهم، هذا ان جاز الابتياع لما يجرى هذا المجرى، و ان كان انتقل فى حياته فقد كان يجب ان يظهر سبب انتقاله و الحجه فيه، فان فاطمه (ع) لم يقنع منها فى انتقال فدك الى ملكها بقولها، و لا بشهاده من شهد لها فاما تعلقه باضافه البيوت اليهن فى قوله: (و قرن فى بيوتكن)، فمن ضعيف الشبهه، لانا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب ان هذه الاضافه لاتقتضى الملك، و انما تقتضى السكنى، و العاده فى استعمال هذه اللفظه فيما ذكرناه ظاهره، قال تعالى: (لاتخرجوهن من بيوتهن)، و لم يرد الله تعالى الا حيث يسكن و ينزلن دون حيث يملكن و ما اشبهه، و اظرف من كل شى ء تقدم قوله: ان الحسن
(ع) استاذن عائشه فى ان يدفن فى البيت حتى منعه مروان و سعيد بن العاص، لان هذه مكابره منه ظاهره، فان المانع للحسن (ع) من ذلك لم يكن الا عائشه، و لعل من ذكره من مروان و سعيد و غيرهما اعانها و اتبع فى ذلك امرهما، و روى انها خرجت فى ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس: يوما على بغل و يوما على جمل! فكيف تاذن عائشه فى ذلك، و هى مالكه الموضع على قولهم، و يمنع منه مروان و غيره ممن لا ملك له فى الموضع و لاشركه و لا يد! و هذا من قبيح ما يرتكب.

و اى فضل لابى بكر فى روايته عن النبى (ص) حديث الدفن! و عملهم بقوله ان صح فمن مذهب صاحب الكتاب و اصحابه العمل بخبر الواحد العدل فى احكام الدين العظيمه، فكيف لايعمل بقول ابى بكر فى الدفن و هم يعملون بقول من هو دونه فيما هو اعظم من ذلك!.

قلت: اما ابوبكر، فانه لايلحقه بدفنه مع الرسول (ص) ذم، لانه ما دفن نفسه، و انما دفنه الناس و هو ميت، فان كان ذلك خطا فالاثم و الذم لاحقان بمن فعل به ذلك، و لم يثبت عنه بانه اوصى ان يدفن مع رسول الله (ص)، و انما قد يمكن ان يتوجه هذا الطعن الى عمر، لانه سال عائشه ان يدفن فى الحجره مع رسول الله (ص) و ابى بكر.

و القول عندى مشتبه فى امر حجر الازواج: هل كان
ت على ملك رسول الله (ص) الى ان توفى، ام ملكها نساوه؟ و الذى تنطق به التواريخ انه لما خرج من قباء و دخل المدينه و سكن منزل ابى ايوب، اختط المسجد و اختط حجر نسائه و بناته، و هذا يدل على انه كان المالك للمواضع، و اما خروجها عن ملكه الى الازواج و البنات فمما لم اقف عليه.

و يجوز ان تكون الصحابه قد فهمت من قرائن الاحوال و مما شاهدوه منه (ع)، انه قد اقر كل بيت منها فى يد زوجه من الزوجات على سبيل الهبه و العطيه، و ان لم ينقل عنه فى ذلك صيغه لفظ معين، و القول فى بيت فاطمه (ع) كذلك، لان فاطمه (ع) لم تكن تملك مالا، و على (ع) بعلها كان فقيرا فى حياه رسول الله (ص) حتى انه كان يستقى الماء ليهود بيده، يسقى بساتينهم لقوت يدفعونه اليه، فمن اين كان له ما يبتاع به حجره يسكن فيها هو و زوجته! و القول فى كثير من الزوجات كذلك انهن كن فقيرات مدقعات، نحو صفيه بنت حيى بن اخطب، و جويريه بنت الحارث، و ميمونه، و غيرهن، فلا وجه يمكن ان يتملك منه هولاء النسوه و البنت الحجر، الا ان يكون رسول الله (ص) وهبها لهن، هذا ان ثبت انها خرجت عن ملكيته (ع)، و الا فهى باقيه على ملكيته باستصحاب الحال.

و القول فى حجره زينب بنت رسول الله (ص) كذلك، لانه اق
دمها من مكه مفارقه لبعلها ابى العاص بن الربيع، فاسكنها بالمدينه فى حجره منفرده خاليه عن بعل، فلابد ان تكون تلك الحجره بمقتضى ما يتغلب على الظن ملكا له (ع)، فيستدام الحكم بملكه لها الى ان نجد دليلا ينقلنا عن ذلك.

و اما رقيه و ام كلثوم زوجتا عثمان، فان كان مثريا ذا مال فيجوز ان يكون ابتاع حجره سكنت فيها الاولى منهما، ثم الثانيه بعدها.

فاما احتجاج قاضى القضاه بقوله: (و قرن فى بيوتكن)، فاعتراض المرتضى عليه قوى، لان هذه الاضافه انما تقتضى التخصيص فقط لا التمليك، كما قال: (لاتخرجوهن من بيوتهن)، و يجوز ان يكون ابوبكر لما روى قوله: (نحن لانورث) ترك الحجر فى ايدى الزوجات و البنت على سبيل الاقطاع لهن لا التمليك، اى اباحهن السكنى لا التصرف فى رقاب الارض و الابنيه و الالات، لما راى فى ذلك من المصلحه، و لانه كان من المتهجن القبيح اخراجهن من البيوت، و ليس كذلك فدك، فانها قريه كبيره ذات نخل كثير خارجه عن المدينه، و لم تكن فاطمه متصرفه فيها من قبل نفسها و لابوكيلها، و لاراتها قط، فلا تشبه حالها حال الحجر.

و ايضا لاباحه هذه الحجر و نزاره اثمانهن، فانها كانت مبنيه من طين قصيره الجدران، فلعل ابابكر و الصحابه استحقروها، فاقروا
النساء فيها و عوضوا المسلمين عنها بالشى ء اليسير مما يقتضى الحساب ان يكون من سهم الازواج و البنت عند قسمه الفى ء.

و اما القول فى الحسن و ما جرى من عائشه و بنى اميه فقد تقدم، و كذلك القول فى الخبر المروى فى دفن الرسول (ص)، فكان ابوالمظفر هبه الله بن الموسوى صدر المخزن المعمور، كان فى ايام الناصر لدين الله اذا حادثته حديث وفاه رسول الله (ص) و روايه ابى بكر ما رواه من قوله (ع).

(الانبياء يدفنون حيث يموتون)، يحلف ان ابابكر افتعل هذا الحديث فى الحال و الوقت، ليدفن النبى (ص) فى حجره ابنته، ثم يدفن هو معه عند موته، علما منه انه لم يبق من عمره الا مثل ظم ء الحمار، و انه اذا دفن النبى (ص) فى حجره ابنته فان ابنته تدفنه لا محاله فى حجرتها عند بعلها، و ان دفن النبى (ص) فى موضع آخر فربما لايتهيا له ان يدفن عنده، فراى ان هذا الفوز بهذا الشرف العظيم، و هذا المكان الجليل، مما لا يقتضى حسن التدبير فوته، و ان انتهاز الفرصه فيه واجب، فروى لهم الخبر، فلا يمكنهم بعد روايته الا يعملوا به، لا سيما و قد صار هو الخليفه، و اليه السلطان و النفع و الضرر، و ادرك ما كان فى نفسه، ثم نسج عمر على منواله، فرغب الى عائشه فى مثل ذلك، و قد كان
يكرمها و يقدمها على سائر الزوجات فى العطاء و غيره، فاجابته الى ذلك، و كان مطاعا فى حياته و بعد مماته، و كان يقول: وا عجبا للحسن و طمعه فى ان يدفن فى حجره عائشه! و الله لو كان ابوه الخليفه يومئذ لما تهيا له ذلك، و لاتم لبغض عائشه لهم، و حسد الناس اياهم، و تمالو بنى اميه و غيرهم من قريش عليهم! و لهذا قالوا: يدفن عثمان فى حش كوكب، و يدفن الحسن فى حجره رسول الله (ص)، فكيف و الخليفه معاويه و الامراء بالمدينه بنواميه، و عائشه صاحب الموضع، و الناصر لبنى هاشم قليل، و الشانى ء كثير.

و انا استغفر الله مما كان ابوالمظفر يحلف عليه، و اعلم و اظن ظنا شبيها بالعلم ان ابابكر ما روى الا ما سمع، و انه كان اتقى لله من ذلك.

(الطعن التاسع) قولهم: انه نص على عمر بالخلافه، فخالف رسول الله (ص) على زعمه، لانه كان يزعم هو و من قال بقوله ان رسول الله (ص) لم يستخلف.

و الجواب ان كونه لم يستخلف لايدل على تحريم الاستخلاف، كما انه من لم يركب الفيل لايدل على تحريم ركوب الفيل.

فان قالوا: ركوب الفيل فيه منفعه و لا مضره فيه و لم يرد نص بتحريمه، فوجب ان يحسن.

قيل لهم: و الاستخلاف مصلحه، و لا مضره فيه، و قد اجمع المسلمون انه طريق الى الامامه
، فوجب كونه طريقا اليها، و قد روى عن عمر انه قال: ان استخلف فقد استخلف من هو خير منى- يعنى ابابكر- و ان اترك فقد ترك من هو خير منى- يعنى رسول الله (ص).

فاما الاجتماع المشار اليه فهو ان الصحابه اجمعوا على ان عمر امام بنص ابى بكر عليه، و انفذوا احكامه، و انقادوا اليه لاجل نص ابى بكر لا لشى ء سواه، فلو لم يكن ذلك طريقا الى الامامه لما اطبقوا عليه و قد اختلف الشيخان ابوعلى و ابوهاشم فى ان نص الامام على امام بعده: هل يكفى فى انعقاد امامته؟ فقال ابوعلى: لايكفى، بل لابد من ان يرضى به اربعه حتى يجرى عهده اليه مجرى عقد الواحد برضا اربعه، فاذا قارنه رضا اربعه صار بذلك اماما، و يقول فى بيعه عمر: ان ابابكر احضر جماعه من الصحابه لما نص عليه، و رجع الى رضاهم بذلك، و قال ابوهاشم: بل يكفى نصه (ع)، و لايراعى فى ذلك رضا غيره به، و لو ثبت ان ابابكر فعله لكان على طريق التبع للنص، لا انه يوثر فى امامته مع العهد، و لعل ابابكر ان كان فعل ذلك فقد استطاب به نفوسهم، و لهذا لم يوثر فيه كراهيه طلحه حين قال: وليت علينا فظا غليظا.

و يبين ذلك انه لم ينقل استئناف العقد من الصحابه لعمر بعد موت ابى بكر و لااجتماع جماعه لعقد البيعه له، و الرضا
به، فدل على انهم اكتفوا بعهد ابى بكر اليه.

(الطعن العاشر) قولهم: انه سمى نفسه بخليفه رسول الله (ص) لاستخلافه اياه بعد موته، مع اعترافه انه لم يستخلفه.

و الجواب ان الصحابه سمته خليفه رسول الله (ص) لاستخلافه اياه على الصلاه عند موته، و الاستخلاف على الصلاه عند الموت له مزيه على الاستخلاف على الصلاه حال الحياه، لان حال الموت هى الحال التى تكون فيها العهود و الوصايا و ما يهتم به الانسان من امور الدنيا و الدين، لانها حال المفارقه.

و ايضا فان رسول الله (ص) ما استخلف احدا على الصلاه بالمدينه و هو حاضر، و انما كان يستخلف على الصلاه قوما ايام غيبته عن المدينه، فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاه بالناس كلهم، و هو (ص) حاضر بين الناس حى الا لابى بكر، و هذه مزيه ظاهره على سائر الاستخلافات فى امر الصلاه، فلذلك سموه خليفه رسول الله (ص).

و بعد، فاذا ثبت ان الاجماع على كون الاختيار طريقا الى الامامه و حجه، و ثبت ان قوما من افاضل الصحابه اختاروه للخلافه، فقد ثبت انه خليفه رسول الله (ص)، لانه لافرق بين ان ينص الرسول (ص) على شخص معين، و بين ان يشير الى قوم فيقول: من اختار هولاء القوم فهو الامام، فى ان كل واحد منهما يصح ان
يطلق عليه خليفه رسول الله (ص).

(الطعن الحادى عشر) قولهم: انه حرق الفجائه السلمى بالنار، و قد نهى النبى (ص) ان يحرق احد بالنار.

و الجواب ان الفجائه جاء الى ابى بكر كما ذكر اصحاب التواريخ فطلب منه سلاحا يتقوى به على الجهاد فى اهل الرده، فاعطاه، فلما خرج قطع الطريق و نهب اموال المسلمين و اهل الرده جميعا، و قتل كل من وجد، كما فعلت الخوارج حيث خرجت، فلما ظفر به ابوبكر راى حرقه بالنار ارهابا لامثاله من اهل الفساد، و يجوز للامام ان يخص النص العام بالقياس الجلى عندنا.

(الطعن الثانى عشر) قولهم: انه تكلم فى الصلاه قبل التسليم، فقال: لايفعلن خالد ما امرته، قالوا: و لذلك جاز عند ابى حنيفه ان يخرج الانسان من الصلاه بالكلام و غيره من مفسدات الصلاه من دون تسليم، و بهذا احتج ابوحنيفه.

و الجواب ان هذا من الاخبار التى تتفرد بها الاماميه، و لم تثبت، و اما ابوحنيفه فلم يذهب الى ما ذهب اليه لاجل هذا الحديث، و انما احتج بان التسليم خطاب آدمى، و ليس هو من الصلاه و اذكارها، و لا من اركانها، بل هو ضدها، و لذلك يبطلها قبل التمام، و لذلك لايسلم المسبوق تبعا لسلام الامام، بل يقوم من غير تسليم، فدل على انه ضد للصلاه و جميع الاضدا
د بالنسبه الى رفع الضد على وتيره واحده، و لذلك استوى الكل فى الابطال قبل التمام، فيستوى الكل فى الانتهاء بعد التمام.

و ما يذكره القوم من سبب كلام ابى بكر فى الصلاه امر بعيد، و لو كان ابوبكر يريد ذلك لامر خالد ان يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف و هو نائم ليلا فى بيته، و لايعلم احد من الفاعل.

(الطعن الثالث عشر) قولهم: انه كتب الى خالد بن الوليد و هو على الشام يامره ان يقتل سعد بن عباده، فكمن له هو و آخر معه ليلا، فلما مر بهما رمياه فقتلاه، و هتف صاحب خالد فى ظلام الليل بعد ان القيا سعدا فى بئر هناك فيها ماء ببيتين: نحن قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده و رميناه بسهمي ن فلم تخط فواده يوهم ان ذلك شعر الجن، و ان الجن قتلت سعدا، فلما اصبح الناس فقدوا سعدا، و قد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه، فوجدوه بعد ثلاثه ايام فى تلك البئر، و قد اخضر، فقالوا: هذا مسيس الجن، و قال شيطان الطاق لسائل ساله: ما منع عليا ان يخاصم ابابكر فى الخلافه؟ فقال: يابن اخى، خاف ان تقتله الجن.

و الجواب، اما انا فلا اعتقد ان الجن قتلت سعدا، و لا ان هذا شعر الجن، و لاارتاب ان البشر قتلوه، و ان هذا الشعر شعر البشر، و لكن لم يثبت عندى ان اب
ابكر امر خالدا، و لااستبعد ان يكون فعله من تلقاء نفسه ليرضى بذلك ابابكر- و حاشاه- فيكون الاثم على خالد، و ابوبكر برى ء من اثمه و ما ذلك من افعال خالد ببعيد.

(الطعن الرابع عشر) قولهم: انه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال اجره كل يوم ثلاثه دراهم، قالوا: و ذلك لايجوز لان مصارف اموال بيت المسلمين لم يذكر فيها اجره للامام.

و الجواب انه تعالى جعل فى جمله مصرف اموال الصدقات العاملين عليها، و ابوبكر من العاملين.

و اعلم ان الاماميه لو انصفت لرات ان هذا الطعن بان يكون من مناقب ابى بكر اولى من ان يكون من مساويه و مثالبه، و لكن العصبيه لا حيله فيها.

(الطعن الخامس عشر) قولهم: انه لما استخلف صرخ مناديه فى المدينه: من كان عنده شى ء من كلام الله فلياتنا به، فانا عازمون على جمع القرآن، و لاياتنا بشى ء منه الا و معه شاهدا عدل، قالوا: و هذا خطا، لان القرآن قد بان بفصاحته عن فصاحه البشر، فاى حاجه الى شاهدى عدل!.

و الجواب، ان المرتضى و من تابعه من الشيعه لايصح لهم هذا الطعن، لان القرآن عندهم ليس معجزا بفصاحته، على ان من جعل معجزته للفصاحه لم يقل: ان كل آيه من القرآن هى معجزه فى الفصاحه، و ابوبكر انما طلب كل آيه من القر
آن لا السوره بتمامها و كمالها التى يتحقق الاعجاز من طريق الفصاحه فيها.

و ايضا فانه لو احضر انسان آيه او آيتين و لم يكن معه شاهد، فربما تختلف العرب: هل هذه فى الفصاحه بالغه مبلغ الاعجاز الكلى، ام هى ثابته من كلام العرب بثبوته، غير بالغه الى حد الاعجاز؟ فكان يلتبس الامر و يقع النزاع، فاستظهر ابوبكر بطلب الشهود تاكيدا، لانه اذا انضمت الشهاده الى الفصاحه الظاهره ثبت ان ذلك الكلام من القرآن.

الشرح:

طلاع الارض: ملوها، و منه قول عمر: لو ان لى طلاع الارض ذهبا لافتديت به من هول المطلع.

و آسى: احزن.

و اكثرت تاليبكم: تحريضكم و اغرائكم به.

و التانيب: اشد اللوم.

و ونيتم: ضعفتم و فترتم.

و ممالككم تزوى، اى تقبض.

و لاتثاقلوا، بالتشديد، اصله (تتثاقلوا).

و تقروا بالخسف: تعترفوا بالضيم و تصبروا له.

و تبوئوا بالذل: ترجعوا به.

و الارق: الذى لاينام.

و مثل قوله (ع): (من نام لم ينم عنه) قول الشاعر: لله درك ما اردت بثائر حران ليس عن الترات براقد اسهرته ثم اضطجعت و لم ينم حنقا عليك و كيف نوم الحاقد! فاما الذى رضخت له على الاسلام الرضائخ، فمعاويه، و الرضيخه: شى ء قليل يعطاه الانسان يصانع به عن شى ء يطلب منه كالاجر، و ذلك لانه من المولفه قلوبهم الذين رغبوا فى الاسلام و الطاعه بجمال وشاء دفعت اليهم، و هم قوم معروفون كمعاويه و اخيه يزيد، و ابيهما ابى سفيان، و حكيم بن حزام، و سهيل بن عمرو، و الحارث بن هشام بن المغيره، و حويطب بن عبدالعزى، و الاخنس بن شريق، و صفوان بن اميه، و عمير بن وهب الجمحى، و عيينه بن حصن، و الاقرع بن حابس، و عباس بن مرداس و غيرهم.

و كان اسلام هولاء للطمع و الاغراض الدنياويه، و
لم يكن عن اصل و لا عن يقين و علم.

و قال الراوندى: عنى بقوله: (رضخت لهم الرضائخ) عمرو بن العاص، و ليس بصحيح، لان عمرا لم يسلم بعد الفتح، و اصحاب الرضائخ كلهم اسلموا بعد الفتح، صونعوا على الاسلام بغنائم حنين.

و لعمرى ان اسلام عمرو كان مدخولا ايضا، الا انه لم يكن عن رضيخه، و انما كان لمعنى آخر.

فاما الذى شرب الحرام، و جلد فى حد الاسلام، فقد قال الراوندى: هو المغيره بن شعبه، و اخطا فيما قال، لان المغيره انما اتهم بالزنا و لم يحد و لم يجر للمغيره ذكر فى شرب الخمر، و قد تقدم خبر المغيره مستوفى، و ايضا فان المغيره لم يشهد صفين مع معاويه و لا مع على (ع)، و ما للراوندى و لهذا! انما يعرف هذا الفن اربابه.

و الذى عناه على (ع) الوليد بن عقبه بن ابى معيط، و كان اشد الناس عليه و ابلغهم تحريضا لمعاويه و اهل الشام على حربه.

(اخبار الوليد بن عقبه) و نحن نذكر خبر الوليد و شربه الخمر منقولا من كتاب "الاغانى" لابى الفرج على بن الحسين الاصفهانى، قال ابوالفرج: كان سبب اماره الوليد بن عقبه الكوفه لعثمان ما حدثنى به احمد بن عبدالعزيز الجوهرى، قال: حدثنا عمر بن شبه، قال: حدثنى عبدالعزيز بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد بن عمرو بن
سعيد، عن ابيه، قال: لم يكن يجلس مع عثمان على سريره الا العباس بن عبدالمطلب، و ابوسفيان بن حرب، و الحكم بن ابى العاص، و الوليد بن عقبه، و لم يكن سريره يسع الا عثمان و واحدا منهم، فاقبل الوليد يوما فجلس، فجاء الحكم بن ابى العاص فاوما عثمان الى الوليد، فرحل له عن مجلسه، فلما قام الحكم قال الوليد: و الله يا اميرالمومنين لقد تلجلج فى صدرى بيتان قلتهما حين رايتك آثرت ابن عمك على ابن امك- و كان الحكم عم عثمان، و الوليد اخاه لامه- فقال عثمان: ان الحكم شيخ قريش، فما البيتان؟ فقال: رايت لعم المرء زلفى قرابه دوين اخيه حادثا لم يكن قدما فاملت عمرا ان يشب و خالدا لكى يدعوانى يوم نائبه عما يعنى عمرا و خالدا ابنى عثمان.

قال: فرق له عثمان و قال: قد وليتك الكوفه، فاخرجه اليها.

قال ابوالفرج: و اخبرنى احمد بن عبدالعزيز: قال: حدثنى عمر بن شبه، قال: حدثنى بعض اصحابنا، عن ابن داب قال: لما ولى عثمان الوليد بن عقبه الكوفه قدمها و عليها سعد بن ابى وقاص، فاخبر بقدومه و لم يعلم انه قد امر، فقال: و ما صنع؟ قالوا: وقف فى السوق فهو يحدث الناس هناك، و لسنا ننكر شيئا من امره، فلم يلبث ان جائه نصف النهار فاستاذن على سعد، فاذن له، فس
لم عليه بالامره، و جلس معه، فقال له سعد: ما اقدمك يا اباوهب؟ قال: احببت زيارتك، قال: و على ذاك، اجئت بريدا؟ قال: انا ارزن من ذلك، و لكن القوم احتاجوا الى عملهم فسرحونى اليه، و قد استعملنى اميرالمومنين على الكوفه.

فسكت سعد طويلا، ثم قال: لا و الله ما ادرى اصلحت بعدنا ام فسدنا بعدك! ثم قال: كلينى و جرينى ضباع و ابشرى بلحم امرى ء لم يشهد اليوم ناصره فقال الوليد: اما و الله لانا اقول للشعر منك، و اروى له، و لو شئت لاجبتك، و لكنى ادع ذاك لما تعلم.

نعم و الله لقد امرت بمحاسبتك، و النظر فى امر عمالك.

ثم بعث الى عمال سعد فحبسهم و ضيق عليهم، فكتبوا الى سعد يستغيثون به، فكلمه فيهم فقال له: او للمعروف عندك موضع؟ قال: نعم، فخلى سبيلهم.

قال احمد: و حدثنى عمر، عن ابى بكر الباهلى، عن هشيم، عن العوام ابن حوشب.

قال: لما قدم الوليد على سعد قال له سعد: و الله ما ادرى كست بعدنا ام حمقنا بعدك! فقال: لاتجزعن يا ابااسحاق، فانه الملك يتغداه قوم و يتعشاه آخرون.

فقال سعد: اراكم و الله ستجعلونه ملكا.

قال ابوالفرج: و حدثنا احمد قال: حدثنى عمر قال: حدثنى هارون بن معروف، عن ضمره بن ربيعه، عن ابن شوذب قال: صلى الوليد باهل الكوفه الغدا
ه اربع ركعات، ثم التفت اليهم فقال: ازيدكم؟ فقال عبدالله بن مسعود: ما زلنا معك فى زياده منذ اليوم.

قال ابوالفرج: و حدثنى احمد قال: حدثنا عمر، قال حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الاجلح، عن الشعبى قال: قال الحطيئه يذكر الوليد: شهد الحطيئه يوم يلقى ربه ان الوليد احق بالغدر نادى و قد تمت صلاتهم اازيدكم- سكرا- و لم يدر فابوا اباوهب و لو اذنوا لقرنت بين الشفع و الوتر كفوا عنانك اذ جريت و لو تركوا عنانك لم تزل تجرى و قال الحطيئه ايضا: تكلم فى الصلاه و زاد فيها علانيه و اعلن بالنفاق و مج الخمر فى سنن المصلى و نادى و الجميع الى افتراق ازيدكم على ان تحمدونى فما لكم و ما لى من خلاق! قال ابوالفرج: و اخبرنا محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا حماد بن اسحاق، قال: حدثنى ابى قال: قال ابوعبيده و هشام بن الكلبى و الاصمعى: كان الوليد زانيا يشرب الخمر، فشرب بالكوفه و قام ليصلى بهم الصبح فى المسجد الجامع، فصلى بهم اربع ركعات ثم التفت اليهم فقال: ازيدكم؟ و تقيا فى المحراب بعد ان قرا بهم رافعا صوته فى الصلاه: علق القلب الربابا بعد ما شابت و شابا فشخص اهل الكوفه الى عثمان فاخبروه بخبره، و شهدوا عليه
بشرب الخمر، فاتى به، فامر رجلا من المسلمين ان يضربه الحد، فلما دنا منه قال: نشدتك الله و قرابتى من اميرالمومنين! فتركه، فخاف على بن ابى طالب (ع) ان يعطل الحد، فقام اليه فحده بيده، فقال الوليد: نشدتك الله و القرابه! فقال اميرالمومنين (ع): اسكت اباوهب، فانما هلك بنواسرائيل لتعطيلهم الحدود، فلما ضربه و فرغ منه قال: لتدعونى قريش بعدها جلادا.

قال اسحاق: و حدثنى مصعب بن الزبير: قال: قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد: اللهم انهم قد شهدوا على بزور، فلا ترضهم عن امير، و لاترض عنهم اميرا، قال: و قد عكس الحطيئه ابياته فجعلها مدحا للوليد: شهد الحطيئه حين يلقى ربه ان الوليد احق بالعذر كفوا عنانك اذ جريت و لو تركوا عنانك لم تزل تجرى و راوا شمائل ماجد انف يعطى على الميسور و العسر فنزعت مكذوبا عليك و لم تنزع على طمع و لا ذعر قال ابوالفرج: و نسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه، عن عمر بن شبه، قال: شهد رجل عند ابى العجاج- و كان على قضاء البصره- على رجل من المعيطيين بشهاده، و كان الشاهد سكران، فقال المشهود عليه، و هو المعيطى: اعزك الله ايها القاضى، انه لايحسن من السكر ان يقرا شيئا من القرآن، فقال الشاهد: بلى احسن
، قال: فاقرا، فقال: علق القلب الربابا بعد ما شابت و شابا يمجن بذلك، و يحكى ما قاله الوليد فى الصلاه، و كان ابوالعجاج احمق، فظن ان هذا الكلام من القرآن، فجعل يقول: صدق الله و رسوله، ويلكم، كم تعلمون و لاتعملون!.

قال ابوالفرج: و اخبرنى احمد بن عبدالعزيز، قال: حدثنا عمر بن شبه، عن المدائنى، عن مبارك بن سلام، عن فطر بن خليفه، عن ابى الضحى، قال: كان ناس من اهل الكوفه يتطلبون عثره الوليد بن عقبه، منهم ابوزينب الازدى، و ابومورع، فجائا يوما و لم يحضر الوليد الصلاه، فسالا عنه، فتلطفا حتى علما انه يشرب، فاقتحما الدار فوجداه يقى ء فاحتملاه و هو سكران حتى وضعاه على سريره، و اخذا خاتمه من يده، فافاق، فافتقد خاتمه، فسال عنه اهله، فقالوا: لاندرى، و قد راينا رجلين دخلا عليك فاحتملاك فوضعاك على سريرك.

فقال: صفوهما لى، فقالوا: احدهما آدم طوال حسن الوجه، و الاخر عريض مربوع عليه خميصه، فقال: هذا ابوزينب، و هذا ابومورع، قال: و لقى ابوزينب و صاحبه عبدالله بن حبيش الاسدى و علقمه بن يزيد البكرى و غيرهما، فاخبروهم، فقالوا: اشخصوا الى اميرالمومنين فاعلموه، و قال بعضهم: انه لايقبل قولكم فى اخيه، فشخصوا اليه، فقالوا: انا جئناك فى ا
مر، و نحن مخرجوه اليك من اعناقنا، و قد قيل: انك لاتقبله، قال: و ما هو؟ قالوا: راينا الوليد و هو سكران من خمر شربها، و هذا خاتمه اخذناه من يده و هو لايعقل.

فارسل عثمان الى على (ع) فاخبره، فقال: ارى ان تشخصه، فاذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته.

فكتب عثمان الى الوليد، فقدم عليه، فشهد عليه ابوزينب و ابومورع و جندب الازدى و سعد بن مالك الاشعرى، فقال عثمان لعلى (ع): قم يا اباالحسن فاجلده، فقال على (ع) للحسن ابنه: قم فاضربه، فقال الحسن: ما لك و لهذا، يكفيك غيرك، فقال على لعبدالله بن جعفر: قم فاضربه، فضربه بمخصره فيها سير له راسان، فلما بلغ اربعين قال: حسبك.

قال ابوالفرج: و حدثنى احمد قال: حدثنا عمر قال: حدثنى المدائنى عن الوقاصى، عن الزهرى قال: خرج رهط من اهل الكوفه الى عثمان فى امر الوليد، فقال: اكلما غضب رجل على اميره رماه بالباطل! لئن اصبحت لكم لانكلن بكم، فاستجاروا بعائشه، و اصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا و كلاما فيه بعض الغلظه، فقال: اما يجد فساق العراق و مراقها ملجا الا بيت عائشه! فسمعت، فرفعت نعل رسول الله (ص) و قالت: تركت سنه صاحب هذا النعل.

و تسامع الناس فجائوا حتى ملاوا المسجد، فمن قائل: قد احسنت، و من قائل:
ما للنساء و لهذا! حتى تخاصموا و تضاربوا، بالنعال، و دخل رهط من اصحاب رسول الله (ص) على عثمان فقالوا له، اتق الله و لاتعطل الحدود، و اعزل اخاك عنهم، ففعل.

قال ابوالفرج: حدثنا احمد قال: حدثنى عمر، عن المدائنى، عن ابى محمد الناجى، عن مطر الوراق، قال: قدم رجل من اهل الكوفه الى المدينه فقال لعثمان: انى صليت صلاه الغداه خلف الوليد، فالتفت فى الصلاه الى الناس، فقال: اازيدكم، فانى اجد اليوم نشاطا؟ و شممنا منه رائحه الخمر، فضرب عثمان الرجل، فقال الناس: عطلت الحدود، و ضربت الشهود.

قال ابوالفرج: و حدثنا احمد، قال: حدثنا عمر قال: حدثنا ابوبكر الباهلى، عن بعض من حدثه قال: لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب اليه يامره بالشخوص، فخرج و خرج معه قوم يعذرونه، منهم عدى بن حاتم الطائى، فنزل الوليد يوما يسوق بهم، فارتجز و قال: لاتحسبنا قد نسينا الاحقاف و النشوات من معتق صاف و عزف قينات علينا عزاف فقال عدى: فاين تذهب بنا اذن! فاقم.

قال ابوالفرج: و قد روى احمد عن عمر، عن رجاله، عن الشعبى، عن جندب الازدى قال: كنت فيمن شهد على الوليد عند عثمان، فلما استتممنا عليه الشهاده حبسه عثمان.

ثم ذكر باقى الخبر و ضرب على (ع) اياه
، و قول الحسن ابنه: (ما لك و لهذا)، و زاد فيه، و قال على (ع): لست اذن مسلما، او قال: من المسلمين.

قال ابوالفرج: و اخبرنى احمد، عن عمر عن رجاله، ان الشهاده لما تمت قال عثمان لعلى (ع): دونك ابن عمك فاقم عليه الحد.

فامر على (ع) ابنه الحسن (ع)، فلم يفعل، فقال: يكفيك غيرك! فقال على (ع): بل ضعفت و وهنت و عجزت، قم يا عبدالله بن جعفر فاجلده، فقام فجلده و على (ع) يعد حتى بلغ اربعين، فقال له على (ع): امسك حسبك، جلد رسول الله (ص) اربعين، و جلد ابوبكر اربعين، و كملها عمر ثمانين، و كل سنه.

قال ابوالفرج: و حدثنى احمد، عن عمر، عن عبدالله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، قال: و اخبرنى بذلك ايضا ابراهيم بن محمد بن ايوب، عن عبدالله بن مسلم، قالوا جميعا: لما ضرب عثمان الوليد الحد، قال: انك لتضربنى اليوم بشهاده قوم ليقتلنك عاما قابلا.

قال ابوالفرج: و حدثنى احمد بن عبدالعزيز الجوهرى، عن عمر بن شبه، عن عبدالله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد.

و اخبرنى ايضا ابراهيم، عن عبدالله، قالوا جميعا: كان ابوزبيد الطائى نديما للوليد بن عقبه ايام ولايته الكوفه، فلما شهدوا عليه بالسكر من الخمر خرج عن الكوفه معزولا، فقال ابوزبيد يتذكر ايامه و
ندامته: من يرى العير ان تمشى على ظه ر المرورى حداتهن عجال! ناعجات و البيت بيت ابى وه ب خلاء تحن فيه الشمال يعرف الجاهل المضلل ان ال دهر فيه النكراء و الزلزال ليت شعرى كذا كم العهد ام كا نوا اناسا كمن يزول فزالوا! بعد ما تعلمين يا ام عمرو كان فيهم عز لنا و جمال و وجوه تودنا مشرقات و نوال اذا اريد النوال اصبح البيت قد تبدل بالحى وجوها كانها الاقيال كل شى ء يحتال فيه الرجال غير ان ليس للمنايا احتيال و لعمر الاله لو كان للسي ف مضاء و للسان مقال ما تناسيتك الصفاء و لا الود و لاحال دونك الاشغال و لحرمت لحمك المتعضى ضله ضل حلمهم ما اغتالوا قولهم شربك الحرام و قد كا ن شراب سوى الحرام حلال و ابى ظاهر العداوه و الشن ان الا مقال ما لايقال من رجال تقارضوا منكرات لينالوا الذى ارادوا فنالوا غير ما طالبين ذحلا و لكن مال دهر على اناس فمالوا من يخنك الصفاء او يتبدل او يزل مثل ما يزول الظلال فاعلمن اننى اخوك اخو الود حياتى حتى تزول الجبال ليس بخلى عليك يوما بمال ابدا ما اقل نعلا قبال و لك النصر باللسان و بالكف اذا كان لليدين مصال قال ابوالفرج: و حدثنى احمد قا
ل: حدثنى عمر قال: لما قدم الوليد بن عقبه الكوفه قدم عليه ابوزبيد فانزله دار عقيل بن ابى طالب على باب المسجد، و هى التى تعرف بدار القبطى، فكان مما احتج به عليه اهل الكوفه ان ابازبيد كان يخرج اليه من داره و هو نصرانى يخترق المسجد فيجعله طريقا.

قال ابوالفرج: و اخبرنى محمد بن العباس اليزيدى قال: حدثنى عمى عبيدالله، عن ابن حبيب عن ابن الاعرابى، ان ابازبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفه، فانزله الوليد دار عقيل بن ابى طالب عند باب المسجد، و استوهبها منه، فوهبها له، فكان ذلك اول الطعن عليه من اهل الكوفه، لان ابازبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد الى الوليد فيسمر عنده، و يشرب معه، و يخرج فيشق المسجد و هو سكران، فذاك نبههم عليه.

قال: و قد كان عثمان ولى الوليد صدقات بنى تغلب، فبلغه عنه شعر فيه خلاعه، فعزله.

قال: فلما ولاه الكوفه اختص ابازبيد الطائى و قربه، و مدحه ابوزبيد بشعر كثير، و قد كان الوليد استعمل الربيع بن مرى بن اوس بن حارثه بن لام الطائى على الحمى فيما بين الجزيره و ظهر الحيره، فاجدبت الجزيره، و كان ابوزبيد فى بنى تغلب نازلا، فخرج بابلهم ليرعيهم، فابى عليهم الربيع بن مرى و منعهم، و قال لابى زبي
د: ان شئت ارعيك وحدك فعلت، فاتى ابوزبيد الى الوليد فشكاه، فاعطاه ما بين القصور الحمر من الشام، الى القصور الحمر من الحيره، و جعلها له حمى، و اخذها من الربيع بن مرى، فقال ابوزبيد يمدح الوليد، و الشعر يدل على ان الحمى كان بيد مرى بن اوس، لابيد الربيع ابنه، و هكذا هو فى روايه عمر بن شبه: لعمر ابيك يابن ابى مرى لغيرك من اباح لنا الديارا اباح لنا ابارق ذات قور و نرعى القف منها و القفارا بحمد الله ثم فتى قريش ابى وهب غدت بدنا غزارا اباح لنا و لانحمى عليكم اذا ما كنتم سنه جزارا قال: يقول: اذا اجدبتم فانا لانحميها عليكم، و اذا كنتم اساتم و حميتموها علينا.

فتى طالت يداه الى المعالى و طحطحت المجذمه القصارا قال: و من شعر ابى زبيد فيه يذكر نصره له على مرى بن اوس بن حارثه: يا ليت شعرى بانباء انبوها قد كان يعنى بها صدرى و تقديرى عن امرى ء ما يزده الله من شرف افرح به و مرى غير مسرور ان الوليد له عندى و حق له ود الخليل و نصح غير مذخور لقد دعانى و ادنانى اظهرنى على الاعادى بنصر غير تغرير و شذب القوم عنى غير مكترث حتى تناهوا على رغم و تصغير نفسى فداء ابى وهب و قل له يا ام عمرو فحلى ا
ليوم او سيرى و قال ابوزبيد يمدح الوليد و يتالم لفراقه حين عزل عن الكوفه: لعمرى لئن امسى الوليد ببلده سواى لقد امسيت للدهر معورا خلا ان رزق الله غاد و رائح و انى له راج و ان سار اشهرا و كان هو الحصن الذى ليس مسلمى اذا انا بالنكراء هيجت معشرا اذا صادفوا دونى الوليد فانما يرون بوادى ذى حماس مزعفرا و هى طويله يصف فيها الاسد.

قال ابوالفرج: و حدثنا احمد بن عبدالعزيز قال: حدثنا عمر عن رجاله، عن الوليد قال: لما فتح رسول الله (ص) مكه جعل اهل مكه ياتونه بصبيانهم، فيدعو لهم بالبركه، و يمسح يده على رئوسهم، فجى ء بى اليه و انا مخلق، فلم يمسنى، و ما منعه الا ان امى خلقتنى بخلوق، فلم يمسنى من اجل الخلوق.

قال ابوالفرج: و حدثنى اسحاق بن بنان الانماطى، عن حنيش بن ميسر، عن عبدالله ابن موسى، عن ابى ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبه لعلى بن ابى طالب (ع): انا احد منك سنانا، و ابسط منك لسانا، و املا للكتيبه، فقال على (ع): اسكت يا فاسق، فنزل القرآن فيهما: (افمن كان مومنا كمن كان فاسقا لايستوون).

قال ابوالفرج: و حدثنى احمد بن عبدالعزيز، عن عمر بن شبه، عن محمد ابن حاتم، عن يونس بن ع
مر، عن شيبان، عن يونس، عن قتاده فى قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا ان جائكم فاسق بنبا فتبينوا).

قال: هو الوليد بن عقبه، بعثه النبى (ص) مصدقا الى بنى المصطلق، فلما راوه اقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع الى النبى (ص) فقال له: انهم ارتدو عن الاسلام، فبعث النبى (ص) خالد بن الوليد، فعلم عملهم، و امره ان يتثبت، و قال له: انطلق و لاتعجل، فانطلق حتى اتاهم ليلا، و انفذ عيونه نحوهم، فلما جائوه اخبروه انهم متمسكون بالاسلام و سمع اذانهم و صلاتهم، فلما اصبح اتاهم فراى ما يعجبه، فرجع الى الرسول (ص) فاخبره، فنزلت هذه الايه.

قلت: قد لمح ابن عبدالبر صاحب كتاب "الاستيعاب" فى هذا الموضع نكته حسنه، فقال فى حديث الخلوق: هذا حديث مضطرب منكر، لايصح، و ليس يمكن ان يكون من بعثه النبى (ص) مصدقا صبيا يوم الفتح، قال: و يدل ايضا على فساده ان الزبير بن بكار و غيره من اهل العلم بالسير و الاخبار ذكروا ان الوليد و اخاه عماره ابنى عقبه بن ابى معيط خرجا من مكه ليردا اختهما ام كلثوم عن الهجره، و كانت هجرتها فى الهدنه التى بين النبى (ص) و بين اهل مكه، و من كان غلاما مخلقا بالخلوق يوم الفتح ليس يجى ء منه مثل هذا.

قال، و لاخلاف بين اهل العلم بتاويل الق
رآن ان قوله عز و جل: (ان جائكم فاسق بنباء فتبينوا) انزلت فى الوليد لما بعثه رسول الله (ص) مصدقا، فكذب على بنى المصطلق و قال: انهم ارتدوا و امتنعوا من اداء الصدقه قال ابوعمر: و فيه و فى على (ع) نزل: (افمن كان مومنا كمن كان فاسقا لايستوون)، فى قصتهما المشهوره.

قال: و من كان صبيا يوم الفتح لايجى ء منه مثل هذا، فوجب ان ينظر فى حديث الخلوق، فانه روايه جعفر بن برقان، عن ثابت، عن الحجاج، عن ابى موسى الهمدانى، و ابوموسى مجهول لايصح حديثه.

ثم نعود الى كتاب ابى الفرج الاصبهانى، قال ابوالفرج: و اخبرنى احمد بن عبدالعزيز، عن عمر بن شبه، عن عبدالله بن موسى، عن نعيم بن حكيم، عن ابى مريم، عن على (ع)، ان امراه الوليد بن عقبه جائت الى النبى (ص) تشتكى اليه الوليد، و قالت: انه يضربها، فقال لها: ارجعى اليه و قولى له: ان رسول الله قد اجارنى، فانطلقت، فمكثت ساعه، ثم رجعت فقالت: انه ما اقلع عنى، فقطع رسول الله (ص) هدبه من ثوبه و قال: اذهبى بها اليه و قولى له: ان رسول الله قد اجارنى، فانطلقت فمكثت ساعه ثم رجعت فقالت: ما زادنى الا ضربا، فرفع رسول الله (ص) يده ثم قال: (اللهم عليك بالوليد) مرتين او ثلاثا.

قال ابوالفرج: و اختص الوليد لم
ا كان واليا بالكوفه ساحرا كاد يفتن الناس، كان يريه كتيبتين تقتتلان فتحمل احداهما على الاخرى فتهزمها، ثم يقول له ايسرك ان اريك المنهزمه تغلب الغالبه فتهزمها؟ فيقول: نعم، فجاء جندب الازدى مشتملا على سيفه، فقال: افرجوا لى، فافرجوا فضربه حتى قتله، فحبسه الوليد قليلا ثم تركه.

قال ابوالفرج: و روى احمد عن عمر، عن رجاله، ان جندبا لما قتل الساحر حبسه الوليد، فقال له دينار بن دينار: فيم حبست هذا، و قد قتل من اعلن بالسحر فى دين محمد (ص)؟ ثم مضى اليه فاخرجه من الحبس، فارسل الوليد الى دينار بن دينار فقتله.

قال ابوالفرج: حدثنى عمى الحسن بن محمد قال: حدثنى الخراز، عن المدائنى، عن على بن مجاهد، عن محمد بن اسحاق، عن يزيد بن رومان، عن الزهرى و غيره، ان رسول الله (ص) لما انصرف عن غزاه بنى المصطلق نزل رجل من المسلمين فساق بالقوم و رجز، ثم آخر فساق بهم و رجز، ثم بدا لرسول الله (ص) ان يواسى اصحابه، فنزل فساق بهم و رجز، و جعل يقول فيما يقول: جندب و ما جندب و الاقطع زيد الخير فدنا منه اصحابه فقالوا: يا رسول الله، ما ينفعنا سيرنا مخافه ان تنهشك دابه، او تصيبك نكبه.

فركب و دنوا منه و قالوا: قلت قولا لاندرى ما هو؟ قال: و ما ذاك؟ ق
الوا: كنت تقول: جندب و ما جندب، و الاقطع زيد الخير.

فقال: رجلان يكونان فى هذه الامه يضرب احدهما ضربه يفرق بين الحق و الباطل، و تقطع يد الاخر فى سبيل الله، ثم يتبع الله آخر جسده باوله، و كان زيد، هو زيد بن صوحان، و قطعت يده فى سبيل الله يوم جلولاء، و قتل يوم الجمل مع على بن ابى طالب (ع)، و اما جندب هذا فدخل على الوليد بن عقبه و عنده ساحر يقال له: ابوشيبان، ياخذ اعين الناس، فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها، فجاء من خلفه فضربه فقتله، و قال: العن وليدا و اباشيبان و ابن حبيش راكب الشيطان رسول فرعون الى هامان قال ابوالفرج: و قد روى ان هذا الساحر كان يدخل عند الوليد فى جوف بقره حيه، ثم يخرج منها، فرآه جندب فذهب الى بيته، فاشتمل على سيف، فلما دخل الساحر فى البقره قال جندب: (افتاتون السحر و انتم تبصرون)، ثم ضرب وسط البقره فقطعها و قطع الساحر معها، فذعر الناس، فسجنه الوليد، و كتب بامره الى عثمان.

قال ابوالفرج: فروى احمد بن عبدالعزيز، عن حجاج بن نصير، عن قره، عن محمد بن سيرين، قال: انطلق بجندب بن كعب الازدى قاتل الساحر بالكوفه الى السجن، و على السجن رجل نصرانى من قبل الوليد، و كان يرى جندب بن كعب يقوم بالليل و يصبح صا
ئما، فوكل بالسجن رجلا، ثم خرج فسال الناس عن افضل اهل الكوفه، فقالوا: الاشعث بن قيس، فاستضافه، فجعل يراه ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فخرج من عنده و سال: اى اهل الكوفه افضل؟ قالوا: جرير بن عبدالله، فذهب اليه فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فاستقبل القبله، و قال ربى: رب جندب، و دينى دين جندب.

ثم اسلم.

قال ابوالفرج: فلما نزع عثمان الوليد عن الكوفه امر عليها سعيد بن العاص، فلما قدمها قال: اغسلوا هذا المنبر، فان الوليد كان رجلا نجسا، فلم يصعده حتى غسل.

قال ابوالفرج: و كان الوليد اسن من سعيد بن العاص، و اسخى نفسا، و الين جانبا، و ارضى عندهم، فقال بعض شعرائهم: و جائنا من بعده سعيد ينقص فى الصاع و لايزيد و قال آخر منهم: فررت من الوليد الى سعيد كاهل الحجر اذ فزعوا فباروا يلينا من قريش كل عام امير محدث او مستشار لنا نار تحرقنا فنخشى و ليس لهم- و لايخشون- نار قال ابوالفرج: و حدثنا احمد، قال: حدثنا عمر، عن المدائنى، قال: قدم الوليد بن عقبه الكوفه فى ايام معاويه زائرا للمغيره بن شعبه، فاتاه اشراف الكوفه فسلموا عليه.

و قالوا: و الله ما راينا بعدك مثلك، فقال: اخيرا ام شرا! قالوا: بل خيرا، قال: و
لكنى ما رايت بعدكم شرا منكم.

فاعادوا الثناء عليه، فقال: بعض ما تاتون به! فو الله ان بغضكم لتلف، و ان حبكم لصلف.

قال ابوالفرج: و روى عمر بن شبه، ان قبيصه بن جابر كان ممن كثر على الوليد، فقال معاويه يوما و الوليد و قبيصه عنده: يا قبيصه، ما كان شانك و شان الوليد؟ قال: خير يا اميرالمومنين، انه فى اول الامر وصل الرحم، و احسن الكلام، فلا تسال عن شكر و حسن ثناء، ثم غضب على الناس و غضبوا عليه، و كنا معهم، فاما ظالمون فنستغفر الله، و اما مظلومون فيغفر الله له، فخذ فى غير هذا يا اميرالمومنين، فان الحديث ينسى القديم، قال معاويه: ما اعلمه الا قد احسن السيره، و بسط الخير، و قبض الشر.

قال: فانت يا اميرالمومنين اليوم اقدر على ذلك فافعله، فقال: اسكت لاسكت، فسكت و سكت القوم، فقال معاويه بعد يسير: ما لك لاتتكلم يا قبيصه؟ قال: نهيتنى عما كنت احب فسكت عما لااحب.

قال ابوالفرج: و مات الوليد بن عقبه فويق الرقه، و مات ابوزبيد هناك، فدفنا جميعا فى موضع واحد، فقال فى ذلك اشجع السلمى و قد مر بقبريهما: مررت على عظام ابى زبيد و قد لاحت ببلقعه صلود فكان له الوليد نديم صدق فنادم قبره قبر الوليد و ما ادرى بمن تبدو المنايا بحمزه ا
م باشجع ام يزيد! قيل: هم اخوته، و قيل: ندماوه.

قال ابوالفرج: و حدثنى احمد بن عبدالعزيز، عن محمد بن زكريا الغلابى، عن عبدالله بن الضحاك، عن هشام بن محمد، عن ابيه، قال: وفد الوليد بن عقبه- و كان جوادا- الى معاويه، فقيل له: هذا الوليد بن عقبه بالباب، فقال: و الله ليرجعن مغيظا غير معطى، فانه الان قد اتانا يقول: على دين و على كذا، ائذن له، فاذن له، فساله و تحدث معه، ثم قال له معاويه: اما و الله ان كنا لنحب اتيان مالك بالوادى، و لقد كان يعجب اميرالمومنين، فان رايت ان تهبه ليزيد فافعل، قال: هو ليزيد، ثم خرج و جعل يختلف الى معاويه، فقال له يوما: انظر يا اميرالمومنين فى شانى، فان على موونه، و قد ارهقنى دين، فقال له: الا تستحيى لنفسك و حسبك، تاخذ ما تاخذه فتبذره، ثم لاتنفك تشكو دينا! فقال الوليد: افعل، ثم انطلق من مكانه، فسار الى الجزيره، و قال يخاطب معاويه: فاذا سئلت تقول: (لا) و اذا سالت تقول: هات تابى فعال الخير لا تروى و انت على الفرات افلا تميل الى (نعم) او ترك (لا) حتى الممات! و بلغ معاويه شخوصه الى الجزيره فخافه، و كتب اليه: اقبل، فكتب: اعف و استعفى كما قد امرتنى فاعط سواى ما بدا لك و ابخل ساح
دو ركابى عنك ان عزيمتى اذا نابنى امر كسله منصل و انى امرو للناى منى تطرب و ليس شبا قفل على بمقفل ثم رحل الى الحجاز، فبعث اليه معاويه بجائزه.

و اما ابوعمر بن عبدالبر فانه ذكر فى "الاستيعاب" فى باب الوليد، قال: ان له اخبارا فيها شناعه تقطع على سوء حاله، و قبح افعاله، غفر الله لنا و له، فلقد كان من رجال قريش ظرفا و حلما و شجاعه و جودا و ادبا، و كان من الشعراء المطبوعين.

قال: و كان الاصمعى و ابوعبيده و ابن الكلبى و غيرهم يقولون: انه كان فاسقا شريب خمر، و كان شاعرا كريما.

قال: و اخباره فى شربه الخمر و منادمته ابازبيد الطائى كثيره مشهوره، و يسمج بنا ذكرها، و لكنا نذكر منها طرفا.

ثم ذكر ما ذكره ابوالفرج فى الاغانى، و قال: ان خبر الصلاه و هو سكران، و قوله: (اازيدكم؟) خبر مشهور روته الثقات من نقله الحديث.

قال ابو عمر بن عبدالبر: و قد ذكر الطبرى فى روايه انه تغضب عليه قوم من اهل الكوفه حسدا و بغيا، و شهدوا عليه بشرب الخمر، و قال: ان عثمان قال له: يا اخى اصبر، فان الله ياجرك و يبوء القوم باثمك.

قال ابوعمر: هذا الحديث لايصح عند اهل الاخبار و نقله الحديث، و لا له عند اهل العلم اصل، و الصحيح ثبوت الشهاده عليه عند ع
ثمان، و جلده الحد، و ان عليا هو الذى جلده.

قال: و لم يجلده بيده، و انما امر بجلده، فنسب الجلد اليه.

قال ابوعمر: و لم يرو الوليد من السنه ما يحتاج فيها اليه، و لكن حارثه بن مضرب روى عنه انه قال: (ما كانت نبوه الا كان بعدها ملك).

نامه 063-به ابوموسى اشعرى

الشرح:

المراد بقوله: (قول هو لك و عليك)، ان اباموسى كان يقول لاهل الكوفه: ان عليا امام هدى، و بيعته صحيحه، الا انه لايجوز القتال معه لاهل القبله، و هذا القول بعضه حق، و بعضه باطل.

و قوله: (فارفع ذيلك)، اى شمر للنهوض معى و اللحاق بى، لنشهد حرب اهل البصره، و كذلك قوله: (و اشدد مئزرك)، و كلتاهما كنايتان عن الجد و التشمير فى الامر.

قال: (و اخرج من جحرك)، امر له بالخروج من منزله للحاق به، و هى كنايه فيها غض من ابى موسى و استهانه به لانه لو اراد اعظامه لقال: و اخرج من خيسك، او من غيلك كما يقال للاسد، و لكنه جعله ثعلبا او ضبا.

قال: (و اندب من معك)، اى، و اندب رعيتك من اهل الكوفه الى الخروج معى و اللحاق بى.

ثم قال: (و ان تحققت فانفذ) اى امرك مبنى على الشك، و كلامك فى طاعتى كالمتناقض، فان حققت لزوم طاعتى لك فانفذ، اى سر حتى تقدم على، و ان اقمت على الشك فاعتزل العمل، فقد عزلتك.

قوله: (و ايم الله لتوتين) معناه ان اقمت على الشك و الاسترابه و تثبيط اهل الكوفه عن الخروج الى و قولك لهم: لايحل لكم سل السيف لا مع على و لا مع طلحه، و الزموا بيوتكم، و اكسروا سيوفكم، لياتنيكم.

و انتم فى منازلكم بالكوفه اهل البصر
ه مع طلحه، و ناتينكم نحن باهل المدينه و الحجاز، فيجتمع عليكم سيفان من امامكم و من خلفكم، فتكون ذلك الداهيه الكبرى التى لاشواه لها.

قوله: (و لاتترك حتى يخلط زبدك بخاثرك) تقول للرجل اذا ضربته حتى اثخنته: لقد ضربته حتى خلطت زبده بخاثره، و كذلك حتى خلطت ذائبه بجامده، و الخاثر: اللبن الغيظ، و الزبد خلاصه اللبن و صفوته، فاذا اثخنت الاسنان ضربا كنت كانك خلطت ما رق و لطف من اخلاطه بما كثف و غلظ منها، و هذا مثل، و معناه لتفسدن حالك و لتخلطن، و ليضربن ما هو الان منتظم من امرك.

قوله: (و حتى تعجل عن قعدتك)، القعده بالكسر هيئه القعود كالجلسه و الركبه اى و ليعجلنك الامر عن هيئه قعودك، يصف شده الامر و صعوبته.

قوله: (و تحذر من امامك كحذرك من خلفك)، يعنى ياتيك من خلفك ان اقمت على منع الناس عن الحرب معنا و معهم اهل البصره و اهل المدينه، فتكون كما قال الله تعالى: (اذ جائوكم من فوقكم و من اسفل منكم).

قوله: (و ما هى بالهوينى التى ترجو)، الهوينى تصغير (الهونى) التى هى انثى (اهون)، اى ليست هذه الداهيه و الجائحه التى اذكرها لك بالشى ء الهين الذى ترجو اندفاعه و سهولته.

ثم قال: بل هى الداهيه الكبرى ستفعل لامحاله ان استمررت على ما انت
عليه، و كنى عن قوله: (ستفعل لامحاله) بقوله: (يركب جملها) و ما بعده، و ذلك لانها اذا ركب جملها، و ذلل صعبها و سهل وعرها فقد فعلت، اى لاتقل: هذا امر عظيم صعب المرام، اى قصد الجيوش من كلا الجانبين الكوفه، فانه ان دام الامر على ما اشرت الى اهل الكوفه من التخاذل و الجلوس فى البيوت، و قولك لهم: (كن عبدالله المقتول) لنقعن بموجب ما ذكرته لك، و ليرتكبن اهل الحجاز و اهل البصره هذا الامر المستصعب، لانا نحن نطلب ان نملك الكوفه، و اهل البصره كذلك، فيجتمع عليها الفريقان.

ثم عاد الى امره بالخروج اليه فقال له: (فاعقل عقلك، و املك امرك، و خذ نصيبك و حظك) اى من الطاعه، و اتباع الامام الذى لزمتك بيعته، فان كرهت ذلك، فتنح عن العمل فقد عزلتك و ابعد عنا لا فى رحب، اى لا فى سعه، و هذا ضد قولهم: مرحبا.

ثم قال: فجدير ان تكفى ما كلفته من حضور الحرب و انت نائم، اى لست معدودا عندنا و لا عند الناس من الرجال الذين تفتقر الحروب و التدبيرات اليهم، فسيغنى الله عنك و لايقال: اين فلان؟ ثم اقسم انه لحق، اى انى فى حرب هولاء لعلى حق، و ان من اطاعنى مع امام محق ليس يبالى ما صنع الملحدون، و هذا اشاره الى قول النبى (ص): (اللهم ادر الحق معه حيثما دا
ر).

نامه 064-به معاويه

الشرح:

(كتاب معاويه الى على) اما الكتاب الذى كتبه اليه معاويه، و هذا الكتاب جوابه، فهو: من معاويه بن ابى سفيان، الى على بن ابى طالب: اما بعد، فانا بنى عبدمناف لم نزل ننزع من قليب واحد، و نجرى فى حلبه واحده، ليس لبعضنا على بعض فضل، و لالقائمنا على قاعدنا فخر، كلمتنا موتلفه، و الفتنا جامعه، و دارنا واحده، يجمعنا كرم العرق، و يحوينا شرف النجار، و يحنو قوينا على ضعيفنا، و يواسى غنينا فقيرنا، قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد، و طهرت انفسنا من خبث النيه، فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الادهان فى امر ابن عمك، و الحسد له، و نصره الناس عليه، حتى قتل بمشهد منك، لاتدفع عنه بلسان و لا يد.

فليتك اظهرت نصره، حيث اسررت خبره، فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر و ان ضعف، و المتبرى ء من دمه بدفع و ان وهن، و لكنك جلست فى دارك تدس اليه الدواهى، و ترسل اليه الافاعى، حتى اذا قضيت وطرك منه، اظهرت شماته، و ابديت طلاقه، و حسرت للامر عن ساعدك، و شمرت عن ساقك، و دعوت الناس الى نفسك، و اكرهت اعيان المسلمين على بيعتك، ثم كان منك بعد ما كان، من قتلك شيخى المسلمين ابى محمد طلحه و ابى عبدالله الزبير، و هما من الموعودين بالجنه،
و المبشر قاتل احدهما بالنار فى الاخره، هذا الى تشريدك بام المومنين عائشه و احلالها محل الهون، متبذله بين ايدى الاعراب و فسقه اهل الكوفه، فمن بين مشهر لها، و بين شامت بها، و بين ساخر منها.

ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا، ام كان يكون عليك ساخطا، و لك عنه زاجرا! ان توذى اهله و تشرد بحليلته، و تسفك دماء اهل ملته.

ثم تركك دار الهجره التى قال رسول الله (ص) عنها: (ان المدينه لتنفى خبثها كما ينفى الكير خبث الحديد)، فلعمرى لقد صح وعده و صدق قوله، و لقد نفت خبثها، و طردت عنها من ليس باهل ان يستوطنها، فاقمت بين المصرين، و بعدت عن بركه الحرمين، و رضيت بالكوفه بدلا من المدينه، و بمجاوره الخورنق و الحيره عوضا من مجاوره خاتم النبوه، و من قبل ذلك ما عبت خليفتى رسول الله (ص) ايام حياتهما، فقعدت عنهما و البت عليهما، و امتنعت من بيعتهما، و رمت امرا لم يرك الله تعالى له اهلا، و رقيت سلما وعرا، و حاولت مقاما دحضا، و ادعيت ما لم تجد عليه ناصرا، و لعمرى لو وليتها حينئذ لما ازدادت الا فسادا و اضطرابا، و لااعقبت ولايتكها الا انتشارا و ارتدادا، لانك الشامخ بانفه، الذاهب بنفسه، المستطيل على الناس بلسانه و يده، و ها انا سائر اليك فى
جمع من المهاجرين و الانصار تحفهم سيوف شاميه، و رماح قحطانيه، حتى يحاكموك الى الله.

فانظر لنفسك و للمسلمين، و ادفع الى قتله عثمان، فانهم خاصتك و خلصاوك و المحدقون بك، فان ابيت الا سلوك سبيل اللجاج، و الاصرار على الغى و الضلال، فاعلم ان هذه الايه انما نزلت فيك و فى اهل العراق معك: (و ضرب الله مثلا قريه كانت آمنه مطمئنه ياتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بانعم الله فاذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون).

ثم نعود الى تفسير الفاظ الفصل و معانيه، قال (ع): لعمرى انا كنا بيتا واحدا فى الجاهليه، لانا بنوعبدمناف، الا ان الفرقه بيننا و بينكم حصلت منذ بعث الله محمدا (ص)، فانا آمنا و كفرتم، ثم تاكدت الفرقه اليوم بانا استقمنا على منهاج الحق و فتنتم.

ثم قال: (و ما اسلم من اسلم منكم الا كرها)، كابى سفيان و اولاده يزيد و معاويه و غيرهم من بنى عبدشمس.

قال: (و بعد ان كان انف الاسلام محاربا لرسول الله (ص)) اى فى اول الاسلام، يقال: كان ذلك فى انف دوله بنى فلان، اى فى اولها، و انف كل شى ء اوله و طرفه، و كان ابوسفيان و اهله من بنى عبدشمس اشد الناس على رسول الله (ص) فى اول الهجره، الى ان فتح مكه، ثم اجابه عن قوله: (قتلت
طلحه و الزبير، و شردت بعائشه، و نزلت بين المصرين) بكلام مختصر اعرض فيه عنه هوانا به، فقال: هذا امر غبت عنه، فليس عليك كان العدوان الذى تزعم، و لا العذر اليك لو وجب على العذر عنه.

فاما الجواب المفصل فان يقال: ان طلحه و الزبير قتلا انفسهما ببغيهما و نكثهما، و لو استقاما على الطريقه لسلما، و من قتله الحق فدمه هدر، و اما كونهما شيخين من شيوخ الاسلام فغير مدفوع، و لكن العيب يحدث، و اصحابنا يذهبون الى انهما تابا و فارقا الدنيا نادمين على ما صنعا، و كذلك نقول نحن، فان الاخبار كثرت بذلك، فهما من اهل الجنه لتوبتهما، و لولا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما، فان الله تعالى لايحابى احدا فى الطاعه و التقوى، (ليهلك من هلك عن بينه و يحيا من حى عن بينه).

و اما الوعد لهما بالجنه فمشروط بسلامه العاقبه، و الكلام فى سلامتهما، و اذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما و تحقق، و قوله: (بشر قاتل ابن صفيه بالنار)، فقد اختلف فيه، فقال قوم من ارباب السير و علماء الحديث: هو كلام اميرالمومنين (ع) غير مرفوع، و قوم منهم جعلوه مرفوعا، و على كل حال فهو حق، لان ابن جرموز قلته موليا خارجا من الصف، مفارقا للحرب، فقد قتله على توبه و انابه و رجوع
من الباطل، و قاتل من هذه حاله فاسق مستحق للنار، و اما ام المومنين عائشه فقد صحت توبتها، و الاخبار الوارده فى توبتها اكثر من الاخبار الوارده فى توبه طلحه و الزبير، لانها عاشت زمانا طويلا، و هما لم يبقيا، و الذى جرى لها كان خطا منها، فاى ذنب لاميرالمومينن (ع) فى ذلك! و لو اقامت فى منزلها لم تبتذل بين الاعراب و اهل الكوفه، على ان اميرالمومنين (ع) اكرمها و صانها و عظم من شانها، و من احب ان يقف على ما فعله معها فليطالع كتب السيره.

و لو كانت فعلت بعمر ما فعلت به، و شقت عصا الامه عليه، ثم ظفر بها، لقتلها و مزقها اربا اربا، و لكن عليا كان حليما كريما.

و اما قوله: (لو عاش رسول الله (ص) فبربك هل كان يرضى لك ان توذى حليلته!) فلعلى (ع) ان يقلب الكلام عليه، فيقول: افتراه لو عاش اكان يرضى لحليلته ان توذى اخاه و وصيه! و ايضا اتراه لو عاش اكان يرضى لك يابن ابى سفيان ان تنازع عليا الخلافه و تفرق جماعه هذه الامه! و ايضا اتراه لو عاش اكان يرضى لطلحه و الزبير ان يبايعا، ثم ينكثا لا لسبب، بل قالا: جئنا نطلب الدراهم، فقد قيل لنا: ان بالبصره اموالا كثيره! هذا كلام يقوله مثلهما!.

فاما قوله: (تركت دار الهجره)، فلا عيب عليه اذا انقضت
عليه اطراف الاسلام بالبغى و الفساد ان يخرج من المدينه اليها، و يهذب اهلها، و ليس كل من خرج من المدينه كان خبثا، فقد خرج عنها عمر مرارا الى الشام.

ثم لعلى (ع) ان يقلب عليه الكلام فيقول له: و انت يا معاويه، فقد نفتك المدينه ايضا عنها، فانت اذا خبث، و كذلك طلحه و الزبير و عائشه الذين تتعصب لهم و تحتح على الناس بهم، و قد خرج عن المدينه الصالحون، كابن مسعود و ابى ذر و غيرهما، و ماتوا فى بلاد نائيه عنها.

و اما قوله: (بعدت عن حرمه الحرمين، و مجاوره قبر رسول الله (ص))، فكلام اقناعى ضعيف، و الواجب على الامام ان يقدم الاهم فالاهم من مصالح الاسلام، و تقديم قتال اهل البغى على المقام بين الحرمين اولى.

فاما ما ذكره من خذلانه عثمان و شماتته به و دعائه الناس بعد قتله الى نفسه و اكراهه طلحه و الزبير و غيرهما على بيعته فكله دعوى و الامر بخلافها، و من نظر كتب السير عرف انه قد بهته و ادعى عليه ما لم يقع منه.

و اما قوله: (التويت على ابى بكر و عمر، و قعدت عنهما، و حاولت الخلافه بعد رسول الله (ص))، فان عليا (ع) لم يكن يجحد ذلك و لاينكره، و لاريب انه كان يدعى الامر بعد وفاه رسول الله (ص) لنفسه على الجمله، اما لنص كما تقوله الشيعه،
او لامر آخر كما يقوله اصحابنا.

فاما قوله: (لو وليتها حينئذ لفسد الامر و اضطرب الاسلام)، فهذا علم غيب لايعلمه الا الله، و لعله لو وليها حينئذ لاستقام الامر و صلح الاسلام و تمهد، فانه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان الا لان امره هان عندهم بتاخره عن الخلافه، و تقدم غيره عليه، فصغر شانه فى النفوس، و قرر من تقدمه فى قلوب الناس انه لايصلح لها كل الصلاحيه، و الناس على ما يحصل فى نفوسهم، و لو كان وليها ابتداء و هو على تلك الحاله التى كان عليها ايام حياه رسول الله (ص) و تلك المنزله الرفيعه و الاختصاص الذى كان له، لكان الامر غير الذى رايناه عند ولايته بعد عثمان.

و اما قوله: (لانك الشامخ بانفه، الذاهب بنفسه)، فقد اسرف فى وصفه بما وصفه به، و لا شك ان عليا (ع) كان عنده زهو لكن لا هكذا، و كان (ع) مع زهوه الطف الناس خلقا.

ثم نرجع الى تفسير الفاظه (ع)، قوله: (و ذكرت انك زائرى فى جمع من المهاجرين و الانصار، و قد انقطعت الهجره يوم اسر اخوك) هذا الكلام تكذيب له فى قوله: (فى جمع من المهاجرين و الانصار)، اى ليس معك مهاجر لان اكثر من معك ممن راى رسول الله (ص) هم ابناء الطلقاء، و من اسلم بعد الفتح، و قد قال النبى (ص): (لا هجره
بعد الفتح).

و عبر عن يوم الفتح بعباره حسنه فيها تقريع لمعاويه و اهله بالكفر، و انهم ليسوا من ذوى السوابق، فقال: (قد انقطعت الهجره يوم اسر اخوك)، يعنى يزيد بن ابى سفيان اسر يوم الفتح فى باب الخندمه، و كان خرج فى نفر من قريش يحاربون و يمنعون من دخول مكه، فقتل منهم قوم و اسر يزيد بن ابى سفيان، اسره خالد بن الوليد، فخلصه ابوسفيان منه، و ادخله داره، فامن لان رسول الله (ص) قال يومئذ: (من دخل دار ابى سفيان فهو آمن).

(ذكر الخبر عن فتح مكه) و يجب ان نذكر فى هذا الموضع ملخص ما ذكره الواقدى فى كتاب "المغازى" فى فتح مكه، فان الموضع يقتضيه، لقوله (ع): (ما اسلم مسلمكم الا كرها)، و قوله: (يوم اسر اخوك).

قال محمد بن عمر الواقدى فى كتاب "المغازى": كان رسول الله (ص) قد هادن قريشا فى عام الحديبيه عشر سنين، و جعل خزاعه داخله معه، و جعلت قريش بنى بكر بن عبدمناه من كنانه داخله معهم، و كان بين بنى بكر و بين خزاعه ترات فى الجاهليه و دماء، و قد كانت خزاعه من قبل حالفت عبدالمطلب بن هاشم، و كان معها كتاب منه، و كان رسول الله (ص) يعرف ذلك، فلما تم صلح الحديبيه و امن الناس، سمع غلام من خزاعه انسانا من بنى كنانه يقال له: انس بن زنيم
الدولى ينشد هجاء له فى رسول الله (ص)، فضربه فشجه، فخرج انس الى قومه فاراهم شجته فثار بينهم الشر، و تذاكروا احقادهم القديمه، و القوم مجاورون بمكه، فاستنجدت بكر بن عبدمناه قريشا على خزاعه، فمن قريش من كره ذلك و قال: لاانقض عهد محمد، و منهم من خف اليه.

و كان ابوسفيان احد من كره ذلك، و كان صفوان بن اميه و خويطب بن عبدالعزى و مكرز بن حفص ممن اعان بنى بكر، و دسوا اليهم الرجال بالسلاح سرا، و بيتوا خزاعه ليلا، فاوقعوا بهم، فقتلوا منهم عشرين رجلا، فلما اصبحوا عاتبوا قريشا، فجحدت قريش انها اعانت بكرا، و كذبت فى ذلك، و تبرا ابوسفيان و قوم من قريش مما جرى، و شخص قوم من خزاعه الى المدينه مستصرخين برسول الله (ص)، فدخلوا عليه و هو فى المسجد، فقام عمرو بن سالم الخزاعى فانشده: لا هم انى ناشد محمدا حلف ابينا و ابيه الاتلدا لكنت والدا و كنا ولدا ثمت اسلمنا و لم ننزع يدا ان قريشا اخلفوك الموعدا و نقضوا ميثاقك الموكدا هم بيتونا بالوتير هجدا نتلو القرآن ركعا و سجدا و زعموا ان لست تدعو احدا و هم اذل و اقل عددا فانصر هداك الله نصرا ايدا و ادع عباد الله ياتوا مددا فى فيلق كالبحر يجرى مزبدا فيهم رسول الله ق
د تجردا قرم لقوم من قروم اصيدا ثم ذكروا له ما اثار الشر، و قالوا له: ان انس بن زنيم هجاك، و ان صفوان بن اميه و فلانا و فلانا دسوا الينا رجال قريش مستنصرين، فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا، و جئناك مستصرخين بك، فزعموا ان رسول الله (ص) قام مغضبا يجر ردائه و يقول: (لانصرت ان لم انصر خزاعه فيما انصر منه نفسى!).

قلت: فصادف ذلك من رسول الله (ص) ايثارا و حبا لنقض العهد، لانه كان يريد ان يفتح مكه و هم بها فى عام الحديبيه فصد، ثم هم بها فى عمره القضيه، ثم وقف لاجل العهد و الميثاق الذى كان عقده معهم، فلما جرى ما جرى على خزاعه اغتنمها.

قال الواقدى: فكتب الى جميع الناس فى اقطار الحجاز و غيرها يامرهم ان يكونوا بالمدينه فى رمضان من سنه ثمان للهجره، فوافته الوفود و القبائل من كل جهه، فخرج من المدينه بالناس يوم الاربعاء لعشر خلون من رمضان فى عشره آلاف، فكان المهاجرون سبعمائه، و معهم من الخيل ثلثمائه فرس، و كانت الانصار اربعه آلاف، معهم من الخيل خمسمائه، و كانت مزينه الفا، فيها من الخيل مائه فرس، و كانت اسلم اربعمائه، فيها من الخيل ثلاثون فرسا، و كانت جهينه ثمانمائه معها خمسون فرسا، و من سائر الناس تمام عشره آلاف، و هم بن
وضمره و بنوغفار و اشجع و بنوسليم و بنوكعب بن عمرو و غيرهم.

و عقد للمهاجرين، ثلاثه الويه: لواء مع على، و لواء مع الزبير، و لواء مع سعد بن ابى وقاص، و كانت الرايات فى الانصار و غيرهم، و كتم عن الناس الخبر، فلم يعلم به الا خواصه، و اما قريش بمكه فندمت على ما صنعت بخزاعه، و عرفت ان ذلك انقضاء ما بينهم و بين النبى (ص) من العهد، و مشى الحارث بن هشام و عبدالله بن ابى ربيعه الى ابى سفيان فقالا له: ان هذا امر لابد له ان يصلح، و الله ان لم يصلح لايروعكم الا محمد فى اصحابه.

و قال ابوسفيان: قد رات هند بنت عتبه رويا كرهتها و افظعتها، و خفت من شرها، قالوا: ما رات؟ قال: رات كان دما اقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمه مليا، ثم كان ذلك الدم لم يكن، فكره القوم ذلك و قالوا: هذا شر.

قال الواقدى: فلما راى ابوسفيان ما راى من الشر قال: هذا و الله امر لم اشهده و لم اغب عنه، لايحمل هذا الا على، و لا و الله ما شوورت و لاهونت حيث بلغنى، و الله ليغزونا محمد ان صدق ظنى و هو صادق، و ما لى بد ان آتى محمدا فاكلمه ان يزيد فى الهدنه، و يجدد العهد قبل ان يبلغه هذا الامر.

قالت قريش: قد و الله اصبت، و ندمت قريش على ما صنعت بخزاعه و عرفت ان رسو
ل الله (ص) لابد ان يغزوها، فخرج ابوسفيان و خرج معه مولى له على راحلتين، و اسرع السير و هو يرى انه اول من خرج من مكه الى رسول الله (ص).

قال الواقدى: و قد روى الخبر على وجه آخر، و هو انه لما قدم ركب خزاعه على رسول الله (ص) فاخبروه بمن قتل منهم، قال لهم: بمن تهمتكم و طلبتكم؟ قالوا: بنوبكر بن عبدمناه، قال: كلها؟ قالوا: لا، و لكن تهمتنا بنونفاثه قصره، و راسهم نوفل بن معاويه النفاثى، فقال: هذا بطن من بكر، فانا باعث الى اهل مكه فسائلهم عن هذا الامر، و مخيرهم فى خصال.

فبعث اليهم ضمره يخيرهم بين احدى خلال ثلاث: بين ان يدوا خزاعه، او يبرئوا من حلف نفاثه، او ينبذ اليهم على سواء.

فاتاهم ضمره فخيرهم بين الخلال الثلاث، فقال قريظه بن عبدعمرو الاعمى: اما ان ندى قتلى خزاعه، فانا ان وديناهم لم يبق لنا سبد و لا لبد، و اما ان نبرا من حلف نفاثه، فانه ليس قبيله تحج هذا البيت اشد تعظيما له من نفاثه، و هم حلفاونا فلا نبرا من حلفهم، و لكنا ننبذ اليه على سواء.

فعاد ضمره الى رسول الله (ص) بذلك، و ندمت قريش ان ردت ضمره بما ردته به.

قال الواقدى: و قد روى غير ذلك، روى ان قريشا لما ندمت على قتل خزاعه و قالت: محمد غازينا، قال لهم عبدالله بن
سعد بن ابى سرح- و هو يومئذ كافر مرتد عندهم- ان عندى رايا، ان محمدا ليس يغزوكم حتى يعذر اليكم و يخيركم فى خصال كلها اهون عليكم من غزوه، قالوا: ما هى؟ قال: يرسل اليكم ان تدوا قتلى خزاعه، او تبرئوا من حلف من نقض العهد و هم بنونفاثه، او ينبذ اليكم العهد.

فقال القوم: احر بما قال ابن ابى سرح ان يكون! فقال سهيل بن عمرو: ما خصله ايسر علينا من ان نبرا من حلف نفاثه، فقال شيبه بن عثمان العبدرى: حطت اخوالك خزاعه، و غضبت لهم! قال سهيل: و اى قريش لم تلد خزاعه! قال شيبه: لا، و لكن ندى لاقتلى خزاعه فهو اهون علينا.

فقال قريظه بن عبدعمرو: لا و الله لانديهم و نبرا عن نفاثه ابر العرب بنا، و اعمرهم لبيت ربنا، و لكن ننبذ اليهم على سواء.

فقال ابوسفيان: ما هذا بشى ء، و ما الراى الا جحد هذا الامر ان تكون قريش دخلت فى نقض العهد، او قطع مده، فان قطعه قوم بغير هوى منا و لا مشوره فما علينا! قالوا: هذا هو الراى، لاراى الا الجحد لكل ما كان من ذلك، فقال: انا اقسم انى لم اشهد و لم اوامر، و انا صادق، لقد كرهت ما صنعتم، و عرفت ان سيكون له يوم غماس، قالت قريش لابى سفيان: فاخرج انت بذلك، فخرج.

قال الواقدى: و حدثنى عبدالله بن عامر الاسلمى، عن عط
اء بن ابى مروان، قال: قال رسول الله (ص) لعائشه صبيحه الليله التى اوقعت فيها نفاثه و قريش بخزاعه بالوتير: يا عائشه لقد حدث الليله فى خزاعه امر، فقالت عائشه: يا رسول الله، اترى قريشا تجترى ء على نقض العهد بينك و بينهم! اينقضون و قد افناهم السيف! فقال: العهد لامر يريده الله بهم، فقالت: خير ام شر يا رسول الله؟ فقال: خير.

قال الواقدى: و حدثنى عبدالحميد بن جعفر، قال: حدثنى عمران بن ابى انس، عن ابن عباس، قال: قام رسول الله (ص) و هو يجر طرف ردائه و يقول: (لانصرت ان لم انصر بنى كعب- يعنى خزاعه- فيما انصر منه نفسى!).

قال الواقدى: و حدثنى حرام بن هشام، عن ابيه قال: قال رسول الله (ص): لكانكم بابى سفيان قد جائكم يقول: جدد العهد و زد فى الهدنه و هو راجع بسخطه.

و قال لبنى خزاعه عمرو بن سالم و اصحابه: ارجعوا و تفرقوا فى الاوديه، و قام فدخل على عائشه و هو مغضب، فدعا بماء، فدخل يغتسل، قالت عائشه: فاسمعه يقول و هو يصب الماء على رجليه: (لانصرت ان لم انصر بنى كعب)!.

قال الواقدى: فاما ابوسفيان فخرج من مكه و هو متخوف ان يكون عمرو بن سالم و رهطه من خزاعه سبقوه الى المدينه، و كان القوم لما رجعوا من المدينه و اتوا الابواء تفرقوا كما
اوصاهم رسول الله (ص)، فذهبت طائفه الى الساحل تعارض الطريق، و لزم بديل بن ام اصرم الطريق فى نفر معه، فلقيهم ابوسفيان، فلما رآهم اشفق ان يكونوا لقوا محمدا (ص) بل كان اليقين عنده، فقام للقوم: منذ كم عهدكم بيثرب؟ قالوا: لا عهد لنا بها، فعرف انهم كتموه، فقال: اما معكم من تمر يثرب شى ء تطعموناه، فان لتمر يثرب فضلا على تمر تهامه؟ قالوا: لا، ثم ابت نفسه ان تقر، فقال: يا بديل، هل جئت محمدا؟ قال: لا و لكنى سرت فى بلاد خزاعه من هذا الساحل فى قتيل كان بينهم حتى اصلحت بينهم.

قال: يقول ابوسفيان: انك- و الله ما علمت- بر واصل.

فلما راح بديل و اصحابه جاء ابوسفيان الى ابعار ابلهم ففتها فاذا فيها النوى، و وجد فى منزلهم نوى من تمر عجوه كانه السنه العصافير، فقال: احلف بالله لقد جاء القوم محمدا.

و اقبل حتى قدم المدينه، فدخل على النبى (ص)، فقال: يا محمد، انى كنت غائبا فى صلح الحديبيه، فاشدد العهد و زدنا فى المده، فقال رسول الله (ص): و لذلك قدمت يا اباسفيان! قال: نعم، قال: فهل كان قبلكم حدث؟ فقال: معاذ الله! فقال رسول الله: فنحن على موثقنا و صلحنا يوم الحديبيه لانغير و لانبدل.

فقام من عنده فدخل على ابنته ام حبيبه، فلما ذهب ليجلس عل
ى فراش رسول الله (ص) طوته دونه، فقال: ارغبت بهذا الفراش عنى، ام رغبت بى عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله (ص)، و انت امرو نجس مشرك.

قال: يا بنيه، لقد اصابك بعدى شر، فقالت: ان الله هدانى للاسلام، و انت يا ابت سيد قريش و كبيرها، كيف يخفى عنك فضل الاسلام، و تعبد حجرا لايسمع و لايبصر! فقال: يا عجبا! و هذا منك ايضا! ااترك ما كان يعبد آبائى و اتبع دين محمد! ثم قام من عندها فلقى ابابكر، فكلمه، و قال: تكلم انت محمدا، و تجير انت بين الناس.

فقال: ابوبكر: جوارى جوار رسول الله (ص)، ثم لقى عمر فكلمه بمثل ما كلم به ابابكر، فقال عمر: و الله لو وجدت السنور تقاتلكم لاعنتها عليكم.

قال ابوسفيان: جزيت من ذى رحم شرا! ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له: انه ليس فى القوم احد امس بى رحما منك، فزدنى الهدنه و جدد العهد، فان صاحبك لايرد عليك ابدا، و الله ما رايت رجلا قط اشد اكراما لصاحب من محمد لاصحابه، فقال عثمان: جوارى جوار رسول الله (ص)، فجاء ابوسفيان حتى دخل على فاطمه بنت رسول الله (ص)، فكلمها، و قال: اجيرى بين الناس، فقالت: انما انا امراه، قال: ان جوارك جائز، و قد اجارت اختك اباالعاص بن الربيع، فاجاز محمد ذلك.

فقالت فاطمه: ذلك الى رس
ول الله (ص)، و ابت عليه، فقال: مرى احد هذين ابنيك يجير بين الناس، قالت: انهما صبيان، و ليس يجير الصبى.

فلما ابت عليه اتى عليا (ع) فقال: يا اباحسن، اجر بين الناس و كلم محمدا ليزيد فى المده، فقال على (ع): ويحك يا اباسفيان! ان رسول الله (ص) قد عزم الا يفعل، و ليس احد يستطيع ان يكلمه فى شى ء يكرهه، قال ابوسفيان: فما الراى عندك فتشير لامرى، فانه قد ضاق على؟ فمرنى بامر ترى انه نافعى، قال على (ع): و الله ما اجد لك شيئا مثل ان تقوم فتجير بين الناس، فانك سيد كنانه، قال: اترى ذلك مغنيا عنى شيئا؟ قال على: انى لااظن ذلك و الله، و لكنى لااجد لك غيره.

فقام ابوسفيان بين ظهرى الناس فصاح: الا انى قد اجرت بين الناس، و لااظن محمدا يحقرنى.

ثم دخل على رسول الله (ص) فقال: يا محمد ما اظن، ان ترد جوارى! فقال (ع): انت تقول ذلك يا اباسفيان! و يقال: انه لما صاح لم يات النبى (ص) و ركب راحلته و انطلق الى مكه.

و يروى انه ايضا اتى سعد بن عباده فكلمه فى ذلك: و قال: يا اباثابت، قد عرفت الذى كان بينى و بينك، و انى كنت لك فى حرمنا جارا، و كنت لى بيثرب مثل ذلك، و انت سيد هذه المدره، فاجر بين الناس، و زدنى فى المده.

فقال سعد: جوارى جوار رسول ال
له (ص)، ما يجير احد على رسول الله (ص)، فلما انطلق ابوسفيان الى مكه، و قد كان طالت غيبته عن قريش و ابطا، فاتهموه و قالوا: نراه قد صبا و اتبع محمدا سرا، و كتم اسلامه، فلما دخل على هند ليلا قالت: قد احتبست حتى اتهمك قومك، فان كنت جئتهم بنجح فانت الرجل.

و قد كان دنا منها ليغشاها، فاخبرها الخبر و قال: لم اجد الا ما قال لى على، فضربت برجلها فى صدوره و قالت: قبحت من رسول قوم!.

قال الواقدى: فحدثنى عبدالله بن عثمان، عن ابى سليمان، عن ابيه، قال: لما اصبح ابوسفيان حلق راسه عند الصنمين: اساف و نائله، و ذبح لهما، و جعل يمسح بالدم رئوسهما، و يقول: لاافارق عبادتكما حتى اموت على ما مات عليه ابى.

قال: فعل ذلك ليبرى ء نفسه مما اتهمته قريش به.

قال الواقدى: و قالت قريش لابى سفيان: ما صنعت؟ و ما ورائك؟ و هل جئتنا بكتاب من محمد و زياده فى المده؟ فانا لانامن من ان يغزونا، فقال: و الله لقد ابى على، و لقد كلمت عليه اصحابه فما قدرت على شى ء منهم، و رمونى بكلمه منهم واحده، الا ان عليا قال لما ضاقت بى الامور: انت سيد كنانه، فاجر بين الناس، فناديت بالجوار، ثم دخلت على محمد فقلت: انى قد اجرت بين الناس، و ما اظن محمدا يرد جوارى، فقال محمد
: انت تقول ذاك يا اباسفيان! لم يزد على ذلك، قالوا: ما زاد على على ان يلعب بك تلعبا، قال: فو الله ما وجدت غير ذلك.

قال الواقدى: فحدثنى محمد بن عبدالله، عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما خرج ابوسفيان عن المدينه قال رسول الله (ص) لعائشه: جهزينا و اخفى امرك.

و قال رسول الله (ص): اللهم خذ عن قريش الاخبار و العيون حتى ناتيهم بغته، و روى انه قال: اللهم خذ على ابصارهم فلا يرونى الا بغته، و لايسمعون بى الا فجاه.

قال: و اخذ رسول الله (ص) الانقاب و جعل عليها الرجال، و منع من يخرج من المدينه، فدخل ابوبكر على عائشه و هى تجهز رسول الله (ص)، تعمل له قمحا سويقا و دقيقا، و تمرا، فقال لها: اهم رسول الله (ص) بغزو؟ قالت: لاادرى، قال: ان كان هم بسفر فاذنينا نتهيا له، قالت: لاادرى لعله اراد بنى سليم، لعله اراد ثقيفا او هوازن! فاستعجمت عليه، فدخل على رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، اردت سفرا؟ قال: نعم، قال: افاتجهز؟ قال: نعم، قال: و اين تريد؟ قال قريشا، و اخف ذلك يا ابابكر، و امر رسول الله (ص) الناس فتجهزوا، و طوى عنهم الوجه الذى يريد، و قال له ابوبكر: يا رسول الله، او ليس بيننا و بينهم مده؟ فقال: انهم غدروا و نقضوا ال
عهد، فانا غازيهم، فاطو ما ذكرت لك، فكان الناس بين ظان يظن انه يريد سليما، و ظان يظن انه يريد هوازن، و ظان يظن انه يريد ثقيفا، و ظان يظن انه يريد الشام، و بعث رسول الله (ص) اباقتاده بن ربعى فى نفر الى بطن ليظن الناس ان رسول الله (ص) قدم امامه اولئك الرجال لتوجهه الى تلك الجهه، و لتذهب بذلك الاخبار.

قال الواقدى: حدثنى المنذر بن سعد، عن يزيد بن رومان، قال: لما اجمع رسول الله (ص) المسير الى قريش، و علم بذلك من علم من الناس، كتب حاطب بن ابى بلتعه الى قريش يخبرهم بالذى اجمع عليه رسول الله (ص) فى امرهم، و اعطى الكتاب امراه من مزينه، و جعل لها على ذلك جعلا على ان تبلغه قريشا، فجعلت الكتاب فى راسها، ثم فتلت عليه قرونها و خرجت به، و اتى الخبر الى النبى (ص) من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا (ع) و الزبير فقال: ادركا امراه من مزينه قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا، فخرجا و ادركاها بذى الحليفه، فاستنزلاها و التمسا الكتاب فى رحلها فلم يجدا شيئا، فقالا لها: نحلف بالله ما كذب رسول الله (ص) و لاكذبنا، و لتخرجن الكتاب او لنكشفنك.

فلما رات منهما الجد حلت قرونها، و استخرجت الكتاب فدفعته اليهما، فاقبلا به الى رسول الله (ص)، فدعا
حاطبا و قال له: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، و الله انى لمسلم مومن بالله و رسوله، ما غيرت و لابدلت، و لكنى كنت امرا ليس لى فى القوم اصل و لا عشيره، و كان لى بين اظهرهم اهل و ولد، فصانعتهم.

فقال عمر: قاتلك الله؟ ترى رسول الله (ص) ياخذ بالانقاب و تكتب الى قريش تحذرهم! دعنى يا رسول الله اضرب عنقه، فانه قد نافق، فقال رسول الله (ص): و ما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على اهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم! قال الواقدى: فلما خرج رسول الله (ص) من المدينه بالالويه المعقوده و الرايات بعد العصر من يوم الاربعاء لعشر خلون من شهر رمضان لم يحل عقده حتى انتهى الى الصلصل، و المسلمون يقودون الخيل، و قد امتطوا الابل، و قدم امامه الزبير بن العوام فى مائتين، قال: فلما كان بالبيداء نظر الى عنان السماء، فقال: انى لارى السحاب تستهل بنصر بنى كعب- يعنى خزاعه.

قال الواقدى: و جاء كعب بن مالك ليعلم اى جهه يقصد؟ فبرك بين يديه على ركبتيه، ثم انشده: قضينا من تهامه كل نحب و خيبر ثم احمينا السيوفا فسائلها و لو نطقت لقالت قواضبهن دوسا او ثقيفا فلست بحاضر ان لم تروها بساحه داركم منها الوفا فننتزع الخيام ببطن وج و
نترك دوركم منها خلوفا قال: فتبسم رسول الله (ص) و لم يزد على ذلك، فجعل الناس يقولون: و الله ما بين لك رسول الله (ص) شيئا، فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران.

قال الواقدى: و خرج العباس بن عبدالمطلب و مخرمه بن نوفل من مكه يطلبان رسول الله (ص) ظنا منهما انه بالمدينه يريدان الاسلام، فلقياه بالسقيا.

قال الواقدى: فلما كانت الليله التى اصبح فيها بالجحفه راى فيها ابوبكر فى منامه ان النبى (ص) و اصحابه قد دنوا من مكه فخرجت عليهم كلبه تهر فلما دنوا منها استلقت على قفاها، و اذا اطباوها تشخب لبنا.

فقصها على رسول الله (ص)، فقال: ذهب كلبهم، و اقبل درهم، و هم سائلونا بارحامهم، و انتم لاقون بعضهم، فان لقيتم اباسفيان فلا تقتلوه.

قال الواقدى: و الى ان وصل مر الظهران لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله، فلما نزل بمر الظهران امر اصحابه ان يوقدوا النار، فاوقدوا عشره آلاف نار، و اجمعت قريش ان يبعثوا اباسفيان يتجسس لهم الاخبار، فخرج هو و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء.

قال: و قد كان العباس بن عبدالمطلب قال: و اسوء صباح قريش! و الله ان دخلها رسول الله (ص) عنوه انه لهلاك قريش آخر الدهر، قال العباس: فاخذت بغله رسول الله (ص) الشهباء فرك
بتها، و قلت: التمس حطابا او انسانا ابعثه الى قريش فيلقوا رسول الله (ص) قبل ان يدخلها عليهم عنوه، فو الله انى لفى الاراك ليلا ابتغى ذلك اذ سمعت كلاما يقول: و الله ان رايت كالليله نارا، قال: يقول بديل بن ورقاء: انها نيران خزاعه جاشها الحرب.

قال: يقول ابوسفيان: خزاعه اذل من ان تكون هذه نيرانها و عسكرها، فعرفت صوته، فقلت: اباحنظله! فعرف صوتى، فقال: لبيك اباالفضل! فقلت: ويحك! هذا رسول الله (ص) فى عشره آلاف، و هو مصبحكم، فقال: بابى و امى، فهل من حيله! فقلت: نعم، تركب عجز هذه البغله، فاذهب بك الى رسول الله (ص) فانه ان ظفر بك دون ذلك ليقتلنك، قال: و الله انا ارى ذلك، فركب خلفى، و رحل بديل و حكيم فتوجهت به فلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فاذا راونى قالوا: عم رسول الله (ص) على بغله رسول الله، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فلما رآنى قال: من هذا؟ قلت: العباس، فذهب ينظر فراى اباسفيان خلفى، فقال: ابوسفيان عدو الله! الحمد لله الذى امكن منك بغير عهد و لا عقد! ثم خرج يشتد نحو رسول الله (ص)، و ركضت البغله حتى اجتمعنا جميعا على باب قبه رسول الله (ص)، فدخلت و دخل عمر بن الخطاب على اثرى، فقال عمر: يا رسول ال
له، هذا ابوسفيان عدو الله قد امكن الله منه بغير عقد و لا عهد، فدعنى اضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، انى قد اجرته، ثم لزمت رسول الله (ص) فقلت: و الله لايناجيه الليله احد دونى، فلما اكثر عمر فيه قلت: مهلا يا عمر! فانه لو كان رجلا من عدى بن كعب ما قلت هذا، و لكنه احد بنى عبدمناف.

فقال عمر: مهلا يا اباالفضل، فو الله لاسلامك كان احب الى من اسلام الخطاب- او قال: من اسلام رجل من ولد الخطاب- لو اسلم، فقال رسول الله (ص): اذهب به فقد اجرناه، فليبت عندك حتى تغدو به علينا اذا اصبحت.

فلما اصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله (ص) قال: ويحك يا اباسفيان! الم يان لك ان تعلم لا اله الا الله! قال: بابى انت ما احملك و اكرمك و اعظم عفوك! قد كان يقع فى نفسى ان لو كان مع الله اله آخر لاغنى، قال: يا اباسفيان الم يان لك ان تعلم انى رسول الله! قال: بابى انت ما احملك و اكرمك و اعظم عفوك! اما هذه فو الله ان فى النفس منها لشيئا بعد، قال العباس: فقلت ويحك! تشهد و قل لا اله الله محمد رسول الله قبل ان تقتل.

فتشهد.

و قال العباس: يا رسول الله، انك قد عرفت اباسفيان و فيه الشرف و الفخر، فاجعل له شيئا، فقال: من دخل دار ابى سفيان فهو آمن، و من اغلق د
اره فهو آمن، ثم قال: خذه فاحبسه بمضيق الوادى الى خطم الجبل حتى تمر عليه جنود الله فيراها.

قال العباس: فعدلت به فى مضيق الوادى الى خطم الجبل فحبسته هناك، فقال: اغدرا يا بنى هاشم! فقلت له: ان اهل النبوه لايغدرون، و انما حبستك لحاجه، قال: فهلا بدات بها اولا فاعلمتنيها، فكان افرخ لروعى! ثم مرت به القبائل على قادتها، و الكتائب على راياتها، فكان اول من مر به خالد بن الوليد فى بنى سليم، و هم الف، و لهم لوائان يحمل احدهما العباس بن مرداس و الاخر خفاف بن ندبه، و رايه يحملها المقداد، فقال ابوسفيان: يا اباالفضل، من هولائ؟ قال: هولاء بنوسليم، و عليهم خالد بن الوليد، قال: الغلام؟ قال: نعم، فلما حاذى خالد العباس و اباسفيان كبر ثلاثا و كبروا معه، ثم مضوا.

و مر على اثره الزبير بن العوام فى خمسمائه، فيهم جماعه من المهاجرين و قوم من افناء الناس، و معه رايه سوداء، فلما حاذاهما كبر: ثلاثا و كبر اصحابه فقال.

من هذا؟ قال: هذا الزبير، قال: ابن اختك! قال: نعم، قال: ثم مرت به بنو غفار فى ثلثمائه يحمل رايتهم ابوذر- و يقال: ايماء بن رحضه- فلما حاذوهما كبروا ثلاثا، قال: يا اباالفضل: من هولائ؟ قال: بنوغفار، قال: ما لى و لبنى غفار! ثم مر
ت به اسلم فى اربعمائه يحمل لوائها يزيد بن الخصيب، و لواء آخر مع ناجيه بن الاعجم، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، فسال عنهم فقال: هولاء اسلم، فقال: ما لى و لاسلم! ما كان بيننا و بينهم تره قط، ثم مرت بنوكعب بن عمرو بن خزاعه فى خمسمائه يحمل رايتهم بشر بن سفيان، فقال: من هولائ؟ قال كعب بن عمرو، قال: نعم حلفاء محمد، فلما حاذوه كبروا ثلاثا.

ثم مرت مزينه فى الف فيها ثلاثه.

الويه مع النعمان ابن مقرن، و بلال بن الحارث، و عبدالله بن عمرو، فلما حاذوهما كبروا، قال: من هولائ؟ قال: مزينه، قال: يا اباالفضل، ما لى و لمزينه، قد جائتنى تقعقع من شواهقها.

ثم مرت جهينه فى ثمانمائه، فيها اربعه الويه مع معبد بن خالد، و سويد بن صخر، و رافع بن مكيث، و عبدالله بن بدر، فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسال عنهم، فقيل: جهينه.

ثم مرت بنوكنانه و بنوليث و ضمره و سعد بن ابى بكر فى مائتين، يحمل لوائهم ابوواقد الليثى، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هولائ؟ قال: بنوبكر.

قال: نعم اهل شوم هولاء الذين غزانا محمد لاجلهم! اما و الله ما شوورت فيهم، و لاعلمته، و لقد كنت له كارها حيث بلغنى، و لكنه امر حم، قال العباس، لقد خار الله لك فى غزو محمد اياكم، و دخلتم فى الاسل
ام كافه، ثم مرت اشجع- و هم آخر من مر به قبل ان تاتى كتيبه رسول الله (ص)، و هم ثلاثه يحمل لوائهم معقل بن سنان، و لواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا- قال: من هولائ؟ قال: اشجع، فقال: هولاء كانوا اشد العرب على محمد، قال العباس: نعم، و لكن الله ادخل الاسلام قلوبهم، و ذلك من فضل الله.

فسكت و قال: اما مر محمد بعد؟ قال: لا، و لو رايت الكتيبه التى هو فيها لرايت الحديد و الخيل و الرجال، و ما ليس لاحد به طاقه، فلما طلعت كتيبه رسول الله (ص) الخضراء طلع سواد شديد و غبره من سنابك الخيل، و جعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: اما مر محمد بعد؟ فيقول العباس: لا، حتى مر رسول الله (ص) يسير على ناقته القصوى بين ابى بكر و اسيد بن حضير، و هو يحدثهما، و قال له العباس: هذا رسول الله (ص) فى كتيبته الخضراء، فانظر، قال: و كان فى تلك الكتيبه وجوه المهاجرين و الانصار، و فيها الويه و الرايات، و كلهم منغمسون فى الحديد لايرى منهم الا الحدق، و لعمر بن الخطاب فيها زجل و عليه الحديد، و صوته عال، و هو يزعها، فقال: يا اباالفضل، من هذا المتكلم! قال: هذا عمر بن الخطاب، قال: لقد امر امر بنى عدى بعد قله و ذله! فقال: ان الله يرفع من يشاء بما يشاء، و ان عمر م
من رفعه الاسلام، و كان فى الكتيبه الفا دارع، و رايه رسول الله (ص) مع سعد بن عباده، و هو امام الكتيبه، فلما حاذاهما سعد نادى: يا اباسفيان: اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى الحرمه اليوم اذل الله قريشا، فلما حاذاهما رسول الله (ص) ناداه ابوسفيان: يا رسول الله، امرت بقتل قومك؟ ان سعدا قال: اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى الحرمه اليوم اذل الله قريشا، و انى انشدك الله فى قومك فانت ابر الناس، و ارحم الناس، و اوصل الناس.

فقال عثمان بن عفان و عبدالرحمن بن عوف: يا رسول الله، انا لانامن سعدا ان يكون له فى قريش صوله، فوقف رسول الله (ص) و ناداه، يا اباسفيان، بل اليوم يوم المرحمه، اليوم اعز الله قريشا، و ارسل الى سعد فعزله عن اللواء.

و اختلف فيمن دفع اليه اللواء فقيل: دفعه الى على بن ابى طالب (ع)، فذهب به حتى دخل مكه، فغرزه عند الركن- و هو قول ضرار بن الخطاب الفهرى- و قيل: دفعه الى قيس بن سعد بن عباده- و راى رسول الله (ص) انه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه الى ولده، فذهب به حتى غرزه بالحجون، قال: و قال ابوسفيان للعباس: ما رايت مثل هذه الكتيبه قط، و لااخبرنيه مخبر، سبحان الله1! ما لاحد بهولاء طاقه و لايدان! لقد اصبح ملك ابن اخيك
يا عباس عظيما، قال: فقلت: ويحك! انه ليس بملك، و انها النبوه، قال: نعم.

قال الواقدى: قال العباس: فقلت له: انج ويحك، فادرك قومك قبل ان يدخل عليهم، فخرج ابوسفيان حتى دخل من كداء و هو ينادى: من دخل دار ابى سفيان فهو آمن، و من اغلق عليه بابه فهو آمن، حتى انتهى الى هند بنت عتبه، فقالت: ما ورائك؟ قال: هذا محمد فى عشره آلاف، عليهم الحديد، و قد جعل لى انه من دخل دارى فهو آمن، و من اغلق عليه بابه فهو آمن، و من القى سلاحه فهو آمن، فقالت: قبحك الله من رسول قوم! و جعلت تقول: ويحكم! اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم! فيقول ابوسفيان: ويحكم!.

لاتغرنكم هذه من انفسكم، فانى رايت ما لم تروا: الرجال، و الكراع، و السلاح، ليس لاحد بهذا طاقه، محمد فى عشره آلاف، فاسلموا تسلموا.

و قال المبرد فى "الكامل" امسكت هند براس ابى سفيان و قالت: بئس طليعه القوم! و الله ما خدشت خدشا، يا اهل مكه، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه.

قال: الحميت: الزق المزفت.

قال الواقدى: و خرج اهل مكه الى ذى طوى ينظرون الى رسول الله (ص)، و انضوى الى صفوان بن اميه و عكرمه بن ابى جهل و سهيل بن عمرو ناس من اهل مكه و من بنى بكر و هذيل، فلبسوا السلاح، و اقسموا لايدخل محمد م
كه عنوه ابدا.

و كان رجل من بنى الدول يقال له: حماس بن قيس بن خالد الدولى لما سمع برسول الله (ص) جلس يصلح سلاحه، فقالت له امراته: لم تعد السلاح؟ قال: لمحمد و اصحابه، و انى لارجو ان اخدمك منهم خادما، فانك اليه محتاجه، قالت: و يحك لاتفعل! لاتقال محمدا، و الله ليضلن هذا عنك لو رايت محمدا و اصحابه، قال: سترين، و اقبل رسول الله (ص) و هو على ناقته القصواء معتجرا ببرد حبره، و عليه عمامه سوداد، و رايته سوداء، و لواوه اسود، حتى وقف بذى طوى، و توسط الناس، و ان عثنونه ليمس واسطه الرحل، او يقرب منه تواضعا لله حيث راى ما راى من الفتح و كثره المسلمين، و قال: لاعيش الا عيش الاخره.

و جعلت الخيل تعج بذى طوى فى كل وجه، ثم ثابت و سكنت، و التفت رسول الله (ص) الى اسيد بن حضير، فقال: كيف قال حسان بن ثابت؟ قال: فانشده: عدمنا خيلنا ان لم تروها تثير النقع موعدها كداء تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء فتبسم رسول الله (ص)، و حمد الله، و امر الزبير بن العوام ان يدخل من كداء، و امر خالد بن الوليد ان يدخل من الليط، و امر قيس بن سعد ان يدخل من كدى، و دخل هو (ص) من اذاخر.

قال الواقدى: و حدثنى مروان بن محمد، عن عيسى بن عميله ال
فزارى، قال: دخل رسول الله (ص) مكه بين الاقرع بن حابس و عيينه بن حصن.

قال الواقدى: و روى عيسى بن معمر، عن عباد بن عبدالله، عن اسماء بنت ابى بكر، قالت: صعد ابوقحافه بصغرى بناته و اسمها قريبه، و هو يومئذ اعمى، و هى تقوده حتى ظهرت به الى ابى قبيس، فلما اشرفت به قال: يا بنيه، ماذا ترين؟ قالت: ارى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا! قال: يا بنيه، تلك الخيل، فانظرى ماذا ترين؟ قالت: ارى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا و مدبرا، قال: ذاك الوازع، فانظرى ماذا ترين؟ قالت: قد تفرق السواد، قال: قد تفرق الجيش، البيت البيت، قالت: فنزلت الجاريه به و هى ترعب لما ترى، فقال: يا بنيه، لاتخافى، فو الله ان اخاك عتيقا لاثر اصحاب محمد عند محمد، قالت: و عليها طوق من فضه، فاختلسه بعض من دخل، فلما دخل رسول الله (ص) مكه جعل ابوبكر ينادى: انشدكم الله ايها الناس طوق اختى، فلم يرد احد عليه، فقال: يا اخيه احتسبى طوقك، فان الامانه فى الناس قليل.

قال الواقدى: و نهى رسول الله (ص) عن الحرب، و امر بقتل سته رجال و اربع نسوه: عكرمه بن ابى جهل، و هبار بن الاسود، و عبدالله بن سعد بن ابى سرح، و مقيس بن صبابه الليثى، و الحويرث بن نفيل، و عبدالله بن هلال بن خطل ال
ادرمى، و هند بنت عتبه، و ساره مولاه لبنى هاشم، و قينتين لابن خطل: قريبا و قريبه، و يقال: قرينا و ارنب.

قال الواقدى: و دخلت الجنود كلها، فلم تلق حربا الا خالد بن الوليد فانه وجد جمعا من قريش و احابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن اميه، و عكرمه بن ابى جهل، و سهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، و شهروا السلاح، و رموه بالنبل، و قالوا: لاتدخلها عنوه ابدا، فصاح خالد فى اصحابه، و قالتهم، فقتل من قريش اربعه و عشرون، و من هذيل اربعه، و انهزموا اقبح انهزام حتى قتلوا بالحزوره، و هم مولون من كل وجه، و انطلقت طائفه منهم فوق رئوس الجبال، و اتبعهم المسلمون، و جعل ابوسفيان بن حرب و حكيم بن حزام يناديان: يا معشر قريش، علام تقتلون انفسكم؟ من دخل داره فهو آمن، و من اغلق عليه بابه فهو آمن، و من وضع السلاح فهو آمن، فجعل الناس يقتحمون الدور و يغلقون عليهم الابواب، و يطرحون السلاح فى الطرق حتى ياخذه المسلمون.

قال الواقدى: و اشرف رسول الله (ص) من على ثنيه اذاخر، فنظر الى البارقه، فقال: ما هذه البارقه؟ الم انه عن القتال؟ قيل: يا رسول الله، خالد بن الوليد قوتل، و لو لم يقاتل ما قاتل، فقال: قضاء الله خير، و اقبل ابن خطل مدججا فى الحديد على فر
س ذنوب بيده قناه يقول: لا و الله لايدخلها عنوه حتى يرى ضربا كافواه المزاد، فلما انتهى الى الخندمه و راى القتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعده، و مر هاربا حتى انتهى الى الكعبه، فدخل بين استارها بعد ان طرح سلاحه و ترك فرسه، و اقبل حماس بن خالد الدولى منهزما حتى اتى بيته فدقه، ففتحت له امراته فدخل، و قد ذهبت روحه، فقالت: اين الخادم التى وعدتنى؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم، تسخر به، فقال: دعى هذا و اغلقى الباب، فانه من اغلق بابه فهو آمن، قالت: ويحك! الم انهك عن قتال محمد! و قلت لك: انى ما رايته يقاتلكم مره الا و ظهر عليكم، و ما بابنا؟ قال: انه لايفتح على احد بابه، ثم انشدها: انك لو شهدتنا بالخندمه اذ فر صفوان و فر عكرمه و بو يزيد كالعجوز الموتمه و ضربناهم بالسيوف المسلمه لهم زئير خلفنا و غمغمه لم تنطقى فى اللوم ادنى كلمه قال الواقدى: و حدثنى قدامه بن موسى، عن بشير مولى المازنيين، عن جابر بن عبدالله، قال: كنت ممن لزم رسول الله (ص) يومئذ، فدخلت معه يوم الفتح من اذاخر، فلما اشرف نظر الى بيوت مكه، فحمد الله و اثنى عليه، و نظر الى موضع قبه بالابطح تجاه شعب بنى هاشم حيث حصر رسول الله (ص) و اهله ثلاث سنين، و
قال: يا جابر، ان منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش فى كفرها، قال جابر: فذكرت كلاما كنت اسمعه فى المدينه قبل ذلك، كان يقول: منزلنا غدا ان شاءالله اذا فتح علينا مكه فى الخيف حيث تقاسموا على الكفر.

قال الواقدى: و كانت قبته يومئذ بالادم ضربت له بالحجون، فاقبل حتى انتهى اليها و معه ام سلمه و ميمونه.

قال الواقدى: و حدثنى معاويه بن عبدالله بن عبيدالله، عن ابيه، عن ابى رافع، قال: قيل للنبى (ص): الا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: و هل ترك لنا عقيل من منزل! و كان عقيل قد باع منزل رسول الله (ص) و منازل اخوته من الرجال و النساء بمكه، فقيل لرسول الله (ص): فانزل فى بعض بيوت مكه من غير منازلك.

فابى و قال: لاادخل البيوت، فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا، و كان ياتى الى المسجد من الحجون، قال: و كذلك فعل فى عمره القضيه و فى حجته.

قال الواقدى: و كانت ام هانى ء بنت ابى طالب تحت هبيره بن ابى وهب المخزومى فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها: عبدالله بن ابى ربيعه و الحارث بن هشام المخزوميان فاستجارا بها، و قالا: نحن فى جوارك، فقالت: نعم انتما فى جوارى.

قالت ام هانى ء: فهما عندى اذ دخل على فارس مدجج فى الحديد و لااعرفه، فقلت له: ا
نا بنت عم رسول الله، فاسفر عن وجهه، فاذا على اخى، فاعتنقته، و نظر اليهما فشهر السيف عليهما، فقلت: اخى من بين الناس تصنع بى هذا؟ فالقيت عليهما ثوبا، فقال: اتجيرين المشركين! فحلت دونهما، و قلت: لا و الله و ابتدى ء بى قبلهما، قالت: فخرج و لم يكد، فاغلقت عليهما بيتا، و قلت: لاتخافا، و ذهبت الى خباء رسول الله (ص) بالبطحاء فلم اجده، و وجدت فيه فاطمه، فقلت لها: ما لقيت من ابن امى على! اجرت حموين لى من المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، قالت: و كانت اشد على من زوجها، و قالت: لم تجيرين المشركين! و طلع رسول الله (ص) و عليه الغبار، فقال: مرحبا بفاخته- و هو اسم ام هانى ء- فقلت: ماذا لقيت من ابن امى على ما كدت افلت منه! اجرت حموين لى من المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، فقال: ما كان ذلك له، قد اجرنا من اجرت و امنا من امنت، ثم امر فاطمه فسكبت له غسلا فاغتسل، ثم صلى ثمانى ركعات فى ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى، قالت: فرجعت اليهما و اخبرتهما و قلت: ان شئتما فاقيما، و ان شئتما فارجعا الى منازلكما، فاقاما عندى فى منزلى يومين، ثم انصرفا الى منازلهما.

و اتى آت الى النبى (ص) فقال: ان الحارث بن هشام و عبدالله بن ابى ربيعه جالسان فى ن
اديهما متفضلان فى الملا المزعفر، فقال: لا سبيل اليهما، قد اجرناهما.

قال الواقدى: و مكث رسول الله (ص) فى قبه ساعه من النهار، ثم دعا براحلته بعد ان اغتسل و صلى، فادنيت الى باب القبه، و خرج و عليه السلاح و المغفر على راسه، و قد صف له الناس، فركبها و الخيل تمعج ما بين الخندمه الى الحجون، ثم مر و ابوبكر الى جانبه على راحله اخرى يسير و يحادثه، و اذا بنات ابى احيحه سعيد بن العاص بالبطحاء حذاء منزل ابى احيحه، و قد نشرن شعورهن، فلطمن وجوه الخيل بالخمر، فنظر رسول الله (ص) الى ابى بكر، فتبسم و انشده قول حسان: تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء فلما انتهى الى الكعبه تقدم على راحلته، فاستلم الركن بمحجنه، و كبر فكبر المسلمون لتكبيره، و عجوا بالتكبير حتى ارتجت مكه، و جعل رسول الله (ص) يشير اليهم ان اسكتوا، و المشركون فوق الجبال ينظرون، ثم طاف بالبيت على راحلته، و محمد بن مسلمه آخذ بزمامها، و حول الكعبه ثلثمائه و ستون صنما مرصوصه بالرصاص، و كان هبل اعظمها، و هو تجاه الكعبه على بابها، و اساف و نائله حيث ينحرون و يذبحون الذبائح، فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب فى يده و يقول: (جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل كان زه
وقا)، فيقع الصنم لوجهه، ثم امر بهبل فكسر و هو واقف عليه، فقال الزبير لابى سفيان: يا اباسفيان، قد كسر هبل، اما انك قد كنت منه يوم احد فى غرور حين تزعم انه قد انعم، فقال: دع هذا عنك يابن العوام، فقد ارى ان لو كان مع اله محمد غيره لكان غير ما كان.

قال الواقدى: ثم انصرف رسول الله (ص) فجلس ناحيه من المسجد و ارسل بلالا الى عثمان بن طلحه ياتيه بالمفتاح، مفتاح الكعبه، فقال عثمان: نعم، فخرج الى امه و هى بنت شيبه، فقال لها و المفتاح عندها يومئذ: ان رسول الله (ص) قد طلب المفتاح، فقالت: اعيذك بالله ان يكون الذى يذهب ماثره قومه على يده! فقال: فو الله لتاتينى به او لياتينك غيرى فياخذه منك، فادخلته فى حجرتها، و قالت: اى رجل يدخل يده هاهنا! فبينما هما على ذلك و هو يكلمها اذ سمعت صوت ابى بكر و عمر فى الدار، و عمر رافع صوته حين راى عثمان ابطا: يا عثمان اخرج، فقالت امه: خذ المفتاح، فلان تاخذه انت احب الى من ان ياخذه تيم و عدى، فاخذه فاتى به رسول الله (ص)، فلما تناوله بسط العباس بن عبدالمطلب يده و قال: يا رسول الله، بابى انت! اجمع لنا بين السقايه و الحجابه، فقال: انما اعطيكم ما ترضون فيه، و لااعطيكم ما تزرئون منه، قالوا: و كان
عثمان بن طلحه قد قدم على رسول الله (ص) مع خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مسلما قبل الفتح.

قال الواقدى: و بعث رسول الله (ص) عمر بن الخطاب و معه عثمان بن طلحه، و امره ان يفتح البيت فلا يدع فيه صوره و لا تمثالا الا صوره ابراهيم الخليل (ع)، فلما دخل الكعبه راى صوره ابراهيم شيخا كبيرا يستقسم بالازلام.

قال الواقدى: و قد روى انه امره بمحو الصور كلها لم يستثن، فترك عمر صوره ابراهيم، فقال لعمر: الم آمرك الا تدع فيها صوره! فقال عمر: كانت صوره ابراهيم، قال: فامحها، و قال: قاتلهم الله، جعلوه شيخا يستقسم بالازلام!.

قال: و محا صوره مريم.

قال: و قد روى ان رسول الله (ص) محا الصور بيده، روى ذلك ابن ابى ذئب، عن عبدالرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن اسامه بن زيد، قال: دخلت مع رسول الله (ص) الكعبه، فراى فيها صورا، فامرنى ان آتيه فى الدلو بماء، فجعل يبل به الثوب و يضرب به الصور و يقول: (قاتل الله قوما يصورون ما لايخلقون!).

قال الواقدى: و امر رسول الله (ص) بالكعبه فاغلقت عليه، و معه فيها اسامه بن زيد، و بلال بن رباح، و عثمان بن طلحه، فمكث فيها ما شاء الله، و خالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه، حتى خرج رسول الله (ص
)، فوقف و اخذ بعضادتى الباب، و اشرف على الناس و فى يده المفتاح، ثم جعله فى كمه، و اهل مكه قيام تحته، و بعضهم جلوس قد ليط بهم، فقال الحمد لله الذى صدق وعده، و نصر عبده، و هزم الاحزاب وحده، ماذا تقولون؟ و ماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا، و نظن شرا! اخ كريم، و ابن اخ كريم، و قد قدرت، فقال: انى اقول كما قال اخى يوسف: (لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو ارحم الراحمين) الا ان كل ربا فى الجاهليه او دم او ماثره فهو تحت قدمى هاتين الا سدانه الكعبه و سقايه الحاج.

الا و فى قتيل شبه العمد، قتيل العصا و السوط الديه مغلظه مائه ناقه، منها اربعون فى بطونها اولادها.

ان الله قد اذهب نخوه الجاهليه و تكبرها بابائها، كلكم لادم، و آدم من تراب.

و اكرمكم عند الله اتقاكم.

الا ان الله حرم مكه يوم خلق السموات و الارض فهى حرام بحرم الله، لم تحل لاحد كان قبل، و لاتحل لاحد ياتى بعدى، و ما احلت لى الا ساعه من النهار- قال: يقصدها رسول الله (ص) بيده هكذا- لاينفر صيدها، و لايعضد عضاهها، و لاتحل لقطتها الا لمنشد، و لايختلى خلاها.

فقال العباس: الا الاذخر يا رسول الله، فانه لابد منه للقبور و البيوت، فسكت رسول الله (ص) ساعه ثم قال الا الاذخر، ف
انه حلال، و لا وصيه لوارث، و الولد للفراش، و للعاهر الحجر، و لايحل لامراه ان تعطى من مالها الا باذن زوجها، و المسلم اخو المسلم، و المسلمون اخوه، يد واحده على من سواهم، تتكافا دماوهم، يسعى بذمتهم ادناهم، و يرد عليهم اقصاهم، و لايقتل مسلم بكافر، و لا ذو عهد فى عهده، و لايتوارث اهل ملتين مختلفتين، و لاتنكح المراه على عمتها و لا على خالتها، و البينه على من ادعى، و اليمين على من انكر، و لاتسافر امراه مسيره ثلاث الا مع ذى محرم، و لا صلاه بعد العصر، و لا بعد الصبح، و انهاكم عن صيام يومين: يوم الاضحى و يوم الفطر.

ثم قال: ادعوا لى عثمان بن طلحه، فجاء و قد كان رسول الله (ص) قال له يوما بمكه قبل الهجره و مع عثمان المفتاح: لعلك سترى هذا المفتاح بيدى يوما اضعه حيث شئت، فقال عثمان: لقد هلكت قريش اذا و ذلت! فقال (ع): بل عمرت و عزت، قال عثمان: فلما دعانى يومئذ و المفتاح بيده ذكرت قوله حين قال، فاستقبلته ببشر، فاستقبلنى بمثله، ثم قال: خذوها يا بنى ابى طلحه خالده تالده، لاينزعها منكم الا ظالم.

يا عثمان، ان الله استامنكم على بيته، فكلوا بالمعروف، قال عثمان: فلما وليت نادانى فرجعت، فقال: الم يكن الذى قلت لك! يعنى ما كان قاله بم
كه من قبل، فقلت: بلى اشهد انك رسول الله (ص).

قال الواقدى: و امر رسول الله (ص) يومئذ برفع السلاح، و قال: الا خزاعه عن بنى بكر الى صلاه العصر.

فخبطوهم بالسيف ساعه، و هى الساعه التى احلت لرسول الله (ص).

قال الواقدى: و قد كان نوفل بن معاويه الدولى من بنى بكر استامن رسول الله (ص) على نفسه، فامنه، و كانت خزاعه تطلبه بدماء من قتلت بكر و قريش منها بالوتير، و قد كانت خزاعه قالت ايضا لرسول الله (ص): ان انس بن زنيم هجاك، فهدر رسول الله (ص) دمه، فلما فتح مكه هرب و التحق بالجبال، و قد كان قبل ان يفتح رسول الله (ص) مكه قال شعرا يعتذر فيه الى رسول الله (ص)، من جملته: انت الذى تهدى معد بامره بك الله يهديها و قال لها ارشدى فما حملت من ناقه فوق كورها ابر و اوفى ذمه من محمد احث على خير و اوسع نائلا اذا راح يهتز اهتزاز المهند و اكسى لبرد الخال قبل ارتدائه و اعطى لراس السابق المتجرد تعلم رسول الله انك مدركى و ان وعيدا منك كالاخذ باليد تعلم رسول الله انك قادر على كل حى من تهام و منجد و نبى رسول الله انى هجوته فلا رفعت سوطى الى اذن يدى سوى اننى قد قلت يا ويح فتيه اصيبوا بنحس يوم طلق و اسعد! اصابهم
من لم يكن لدمائهم كفاء فعزت عبرتى و تلددى ذويبا و كلثوما و سلمى تتابعوا جميعا فالا تدمع العين اكمد على ان سلمى ليس منهم كمثله و اخوته و هل ملوك كاعبد! فانى لاعرضا خرقت و لا دما هرقت ففكر عالم الحق و اقصد قال الواقدى: و كانت كلمته هذه قد بلغت رسول الله (ص) قبل ان يتفح مكه، فنهنهت عنه، و كلمه يوم الفتح نوفل بن معاويه الدولى، فقال: يا رسول الله انت اولى الناس بالعفو، و من منا لم يعادك و لم يوذك، و نحن فى جاهليه لا انت اولى الناس بالعفو، و من منا لم يعادك و لم يوذك، و نحن فى جاهليه لاندرى ما ناخذ و ما ندع، حتى هدانا الله بك، و انقذنا بيمنك من الهلكه، و قد كذب عليه الركب، و كثروا فى امره عندك، فقال رسول الله (ص): دع الركب عنك، انا لم نجد بتهامه احدا من ذوى رحم و لابعيد الرحم كان ابر بنا من خزاعه، فاسكت يا نوفل، فلما سكت قال رسول الله (ص): قد عفوت عنه فقال نوفل: فداك ابى و امى.

قال الواقدى: و جائت الظهر، فامر رسول الله (ص) بلالا ان يوذن فوق ظهر الكعبه و قريش فى رئوس الجبال، و منهم من قد تغيب و ستر وجهه خوفا من ان يقتلوا، و منهم من يطلب الامان، و منهم من قد امن.

فلما اذن بلال و بلغ الى قوله: (اشهد ان
محمدا رسول الله)، (ص) رفع صوته كاشد ما يكون، قال: تقول جويريه بنت ابى جهل: قد لعمرى رفع لك ذكرك، فاما الصلاه فسنصلى، و لكن و الله لانحب من قتل الاحبه ابدا، و لقد كان جاء ابى الذى جاء محمدا من النبوه، فردها و لم يرد خلاف قومه.

و قال خالد بن سعيد بن العاص: الحمد لله الذى اكرم ابى فلم يدرك هذا اليوم، و قال الحارث بن هشام: و اثكلاه! ليتنى مت قبل هذا اليوم قبل ان اسمع بلالا ينهق فوق الكعبه! و قال الحكم بن ابى العاص: هذا و الله الحدث العظيم، ان يصيح عبد بنى جمح، يصيح بما يصيح به على بيت ابى طلحه، و قال سهيل بن عمرو، ان كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره، و ان كان لله رضا فسيقره، و قال ابوسفيان: اما انا فلا اقول شيئا، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء، قال: فاتى جبرئيل (ع) رسول الله (ص) فاخبره مقاله القوم.

قال الواقدى: فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول، لما دخل محمد مكه انقمعت فدخلت بيتى و اغلقته على، و قلت لابنى عبدالله بن سهيل: اذهب فاطلب لى جوارا من محمد، فانى لاآمن ان اقتل، و جعلت اتذكر اثرى عنده و عند اصحابه فلا ارى اسوا اثرا منى، فانى لقيته يوم الحديبيه بما لم يلقه احد به، و كنت الذى كاتبه، مع حضورى بدرا و احدا، و ك
لما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبدالله بن سهيل الى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، ابى تومنه؟ قال: نعم، هو آمن بامان الله، فليظهر، ثم التفت الى من حوله فقال: من لقى سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر اليه.

ثم قال: قل له: فليخرج، فلعمرى ان سهيلا له عقل و شرف، و ما مثل سهيل جهل الاسلام، و لقد راى ما كان يوضع فيه ان لم يكن له تتابع، فخرج عبدالله الى ابيه فاخبره بمقاله رسول الله (ص)، فقال سهيل: كان و الله برا صغيرا و كبيرا، و كان سهيل يقبل و يدبر غير خائف، و خرج الى خيبر مع النبى (ص) و هو على شركه حتى اسلم بالجعرانه.

(مجلد 18 صفحه 7( (ذكر بقيه الخبر عن فتح مكه) قال الواقدى: و هرب هبيره بن ابى وهب و عبدالله بن الزبعرى جميعا حتى انهيا الى نجران فلم يامنا الخوف حتى دخلا حصن نجران، فقيل: ما شانكما؟ قالا: اما قريش فقد قتلت و دخل محمد مكه، و نحن و الله نرى ان محمدا سائر الى حصنكم هذا، فجعلت بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم، و جمعوا ماشيتهم، فارسل حسان بن ثابت الى ابن الزبعرى: لاتعد من رجلا احلك بغضه نجران فى عيش اجد ذميم بليت قناتك فى الحروب فالفيت جوفاء ذات معايب و وصوم غضب الاله على الزبعرى و ابنه بعذا
ب سوء فى الحياه مقيم فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيا للخروج، فقال هبيره بن وهب: اين تريد يابن عم؟ قال له: اريد و الله محمدا، قال: اتريد ان تتبعه؟ قال: اى و الله، قال هبيره: يا ليت انى كنت رافقت غيرك، و الله ما ظننت انك تتبع محمدا ابدا.

قال ابن الزبعرى: هو ذاك، فعلى اى شى ء اقيم مع بنى الحارث بن كعب و اترك ابن عمى و خير الناس و ابرهم، و بين قومى و دارى! فانحدر ابن الزبعرى حتى جاء رسول الله (ص) (مجلد 18 صفحه 8( و هو جالس فى اصحابه، فلما نظر اليه قال: هذا ابن الزبعرى و معه وجه فيه نور الاسلام، فلما وقف على رسول الله (ص) قال: السلام عليك يا رسول الله، شهدت ان لا اله الا الله، و انك عبده و رسوله، و الحمد لله الذى هدانى للاسلام، لقد عاديتك و اجلبت عليك، و ركبت الفرس و البعير، و مشيت على قدمى فى عداوتك، ثم هربت منك الى نجران، و انا اريد الا اقرب الاسلام ابدا، ثم ارادنى الله منه بخير، فالقاه فى قلبى، و حببه الى، و ذكرت ما كنت فيه من الضلال و اتباع ما لاينفع ذا عقل، من حجر يعبد، و يذبح له لايدرى من عبده و من لايعبده.

فقال رسول الله (ص): الحمد لله الذى هداك للاسلام، احمد الله، ان الاسلام يجب ما كان قبله.

و اقام
هبيره بنجران، و اسلمت ام هانى، فقال هبيره حين بلغه اسلامها يوم الفتح يونبها شعرا من جملته: و ان كنت قد تابعت دين محمد و قطعت الارحام منك حبالها فكونى على اعلى سحوق بهضبه ململمه غبراء يبس بلالها فاقام بنجران حتى مات مشركا.

قال الواقدى: و هرب حويطب بن عبدالعزى فدخل حائطا بمكه، و جاء ابوذر لحاجته، فدخل الحائط فرآه، فهرب حويطب، فقال ابوذر: تعال فانت آمن، فرجع اليه فقال: انت آمن، فاذهب حيث شئت، و ان شئت ادخلتك على رسول الله (ص)، و ان شئت فالى منزلك.

قال: و هل من سبيل الى منزلى الفى فاقتل قبل ان اصل الى منزلى، (مجلد 18 صفحه 9( او يدخل على منزلى فاقتل! قال: فانا ابلغ معك منزلك، فبلغ معه منزله، ثم جعل ينادى على بابه: ان حويطبا آمن فلا يهيج.

ثم انصرف الى رسول الله (ص) فاخبره فقال: او ليس قد امنا الناس كلهم الا من امرت بقتله!.

قال الواقدى: و هرب عكرمه بن ابى جهل الى اليمن حتى ركب البحر، قال: و جائت زوجته ام حكيم بنت الحارث بن هشام الى رسول الله (ص) فى نسوه منهن هند بنت عتبه- و قد كان رسول الله (ص) امر بقتلها- و البغوم بنت المعدل الكنانيه امراه صفوان بن اميه، و فاطمه بنت الوليد بن المغيره امراه الحارث بن هشام
، و هند بنت عتبه بن الحجاج ام عبدالله بن عمرو بن العاص، و رسول الله (ص) بالابطح، فاسلمن، و لما دخلن عليه دخلن و عنده زوجتاه و ابنته فاطمه و نساء من نساء بنى عبدالمطلب و سالن ان يبايعهن، فقال: انى لااصافح النساء- و يقال: انه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه، و يقال: كان يوتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه اليهن، فيدخلن ايديهن فيه- فقالت ام حكيم امراه عكرمه: يا رسول الله، ان عكرمه هرب منك الى اليمن، خاف ان تقتله، فامنه، فقال: هو آمن.

فخرجت ام حكيم فى طلبه، و معها غلام لها رومى، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حى، فاستغاثت بهم عليه، فاوثقوه رباطا، و ادركت عكرمه و قد انتهى الى ساحل من سواحل تهامه، فركب البحر، فهاج بهم، فجعل نوتى السفينه يقول له: ان اخلص، قال: اى شى ء اقول؟ قال: قل لا اله الا الله، قال عكرمه: ما هربت الا من هذا، فجائت ام حكيم على هذا من الامر فجعلت تلح عليه و تقول: يابن عم، جئتك من عند خير الناس، و اوصل الناس، و ابر الناس، لاتهلك نفسك، فوقف لها حتى ادركته، فقالت: انى قد استامنت لك رسول الله (ص) فامنك، قال: (مجلد 18 صفحه 10( انت فعلت؟ قالت: نعم انا كلمته، فامنك، فرجع معها، فقالت: ما
لقيت من غلامك الرومى! و اخبرته خبره، فقتله عكرمه، فلما دنا من مكه قال رسول الله (ص) لاصحابه: ياتيكم عكرمه بن ابى جهل مومنا، فلا تسبوا اباه، فان سب الميت يوذى الحى.

و لايبلغ الميت.

فلما وصل عكرمه و دخل على رسول الله (ص) وثب اليه (ص) و ليس عليه رداء فرحا به، ثم جلس فوق عكرمه بين يديه و معه زوجته منقبه، فقال: يا محمد ان هذه اخبرتنى انك امنتنى، فقال: صدقت، انت آمن، فقال عكرمه: فالام تدعو؟ فقال: الى ان تشهد ان لا اله الا الله، و انى رسول الله، و ان تقيم الصلاه، و توتى الزكاه.

وعد خصال الاسلام، فقال عكرمه: ما دعوت الا الى حق، و الى حسن جميل، و لقد كنت فينا من قبل ان تدعو الى ما دعوت اليه، و انت اصدقنا حديثا، و اعظمنا برا.

ثم قال: فانى اشهد ان لا اله الا الله، و انك رسول الله، فقال رسول الله (ص): لاتسالنى اليوم شيئا اعطيه احدا الا اعطيتكه، قال: فانى اسالك ان تغفر لى كل عداوه عاديتكها او مسير اوضعت فيه، او مقام لقيتك فيه، او كلام قلته فى وجهك، او انت غائب عنه.

فقال: اللهم اغفر له كل عداوه عادانيها، و كل مسير سار فيه الى يريد بذلك اطفاء نورك، و اغفر له ما نال منى و من عرضى، فى وجهى او انا غائب عنه.

فقال عكرمه: رضيت ب
ذلك يا رسول الله، ثم قال: اما و الله لاادع نفقه كنت انفقها فى صد عن سبيل الله الا انفقت ضعفها فى سبيل الاسلام و فى سبيل الله، و لاجتهدن فى القتال بين يديك حتى اقتل شهيدا، قال: فرد عليه رسول الله (ص) امراته بذلك النكاح الاول.

قال الواقدى: و اما صفوان بن اميه فهرب حتى اتى الشعبه، و جعل يقول لغلامه (مجلد 18 صفحه 11( يسار- و ليس معه غيره: ويحك! انظر من ترى! فقال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما اصنع بعمير؟ و الله ما جاء الا يريد قتلى، قد ظاهر محمدا على، فلحقه، فقال صفوان: يا عمير ما لك؟ ما كفاك ما صنعت، حملتنى دينك و عيالك، ثم جئت تريد قتلى! فقال: يا اباوهب، جعلت فداك! جئتك من عند خير الناس، و ابر الناس و اوصل الناس، و قد كان عمير قال لرسول الله (ص): يا رسول الله، سيد قومى صفوان بن اميه خرج هاربا ليقذف نفسه فى البحر، خاف الا تومنه، فامنه فداك ابى و امى! فقال: قد امنته، فخرج فى اثره، فقال: ان رسول الله (ص) قد امنك صفوان: لا و الله حتى تاتينى بعلامه اعرفها، فرجع الى رسول الله (ص) فاخبره و قال: يا رسول الله، جئته و هو يريد ان يقتل نفسه فقال: لاارجع الا بعلامه اعرفها، فقال: خذ عمامتى فرجع عمير اليه بعمامه رسول الله
(ص)- و هى البرد الذى دخل فيه رسول الله (ص) مكه معتجرا به برد حبره احمر- فخرج عمير فى طلبه الثانيه حتى جائه بالبرد فقال: يا اباوهب، جئتك من عند خير الناس و اوصل الناس و ابر الناس و احلم الناس، مجده مجدك، و عزه عزك، و ملكه ملكك، ابن ابيك و امك، اذكرك الله فى نفسك، فقال: اخاف ان اقتل، قال: فانه دعاك الى الاسلام فان رضيت و الا سيرك شهرين فهو اوفى الناس و ابرهم، و قد بعث اليك ببرده الذى دخل به معتجرا، اتعرفه؟ قال: نعم، فاخرجه، فقال: نعم هو هو، فرجع صفوان حتى انتهى الى رسول الله (ص) فوجده يصلى العصر بالناس، فقال: كم يصلون؟ قالوا: خمس صلوات فى اليوم و الليله قال: امحمد يصلى بهم؟ قالوا: نعم، فلما سلم من صلاته صاح صفوان: يا محمد، ان عمير (مجلد 18 صفحه 12( ابن وهب جائنى ببردك، و زعم انك دعوتنى الى القدوم اليك، فان رضيت امرا، و الا سيرتنى شهرين فقال رسول الله (ص): انزل اباوهب، فقال: لا و الله او تبين لى، قال: بل سر اربعه اشهر.

فنزل صفوان و خرج معه الى حنين و هو كافر، و ارسل اليه يستعير ادراعه- و كانت مائه درع- فقال: اطوعا ام كرها؟ فقال (ع): بل طوعا عاريه موداه، فاعاره اياها، ثم اعادها اليه بعد انقضاء حنين و الطائف، ف
لما كان رسول الله (ص) بالجعرانه يسير فى غنائم هوازن ينظر اليها، فنظر صفوان الى شعب هناك مملوء نعما و شاء و رعاء، فادام النظر اليه و رسول الله (ص) يرمقه، فقال: اباوهب: يعجبك هذا الشعب! قال: نعم، قال: هو لك و ما فيه.

فقال صفوان: ما طابت نفس احد بمثل هذا الا نفس نبى اشهد ان لا اله الا الله، و انك رسول الله (ص).

قال الواقدى: فاما عبدالله بن سعد بن ابى سرح فكان قد اسلم، و كان يكتب لرسول الله (ص) الوحى، فربما املى عليه رسول الله (ص) (سميع عليم) فيكتب (عزيز حكيم) و نحو ذلك، و يقرا على رسول الله (ص) فيقول: كذلك الله، و يقرا، فافتتن، و قال: و الله ما يدرى ما يقول: انى لاكتب له ما شئت فلا ينكر، و انه ليوحى الى كما يوحى الى محمد، و خرج هاربا من المدينه الى مكه مرتدا، فاهدر رسول الله دمه، و امر بقتله يوم الفتح، فلما كان يومئذ جاء الى عثمان- و كان اخاه من الرضاعه- فقال: يا اخى، انى قد اجرتك فاحتبسنى هاهنا و اذهب الى محمد فكلمه فى، فان محمدا ان رآنى ضرب عنقى، ان جرمى اعظم الجرم، و قد جئت تائبا، فقال عثمان: قم فاذهب معى اليه، قال: كلا، و الله انه ان رآنى ضرب عنقى و لم يناظرنى، قد اهدر دمى و اصحابه يطلبوننى فى كل موضع، فقال
عثمان: انطلق معى فانه لايقتلك ان شاءالله- فلم يرع رسول الله (ص) الا بعثمان (مجلد 18 صفحه 13( آخذا بيد عبدالله بن سعد واقفين بين يديه، فقال عثمان: يا رسول الله، هذا اخى من الرضاعه، ان امه كانت تحملنى و تمشيه و ترضعنى و تفطمه و تلطفنى و تتركه فهبه لى.

فاعرض رسول الله (ص) عنه، و جعل عثمان كلما اعرض رسول الله عنه استقبله بوجهه، و اعاد عليه هذا الكلام، و انما اعرض (ع) عنه اراده لان يقوم رجل فيضرب عنقه، فلما راى الا يقوم احد و عثمان قد انكب عليه يقبل راسه و يقول: يا رسول الله، بايعه فداك ابى و امى على الاسلام! فقال رسول الله (ص): نعم، فبايعه.

قال الواقدى: قال رسول الله (ص) بعد ذلك للمسلمين: ما منعكم ان يقوم منكم واحد الى هذا الكلب فيقتله- او قال: الفاسق! فقال عباد بن بشر: و الذى بعثك بالحق، انى لاتبع طرفك من كل ناحيه، رجاء ان تشير الى فاضرب عنقه.

و يقال: ان اباالبشير هو الذى قال هذا، و يقال: بل قاله عمر بن الخطاب، فقال (ع): انى لااقتل بالاشاره، و قيل: انه قال: ان النبى لايكون له خائنه الاعين.

قال الواقدى: فجعل عبدالله بن سعد يفر من رسول الله (ص) كلما رآه، فقال له عثمان: بابى انت و امى! لو ترى ابن ام عبد يفر منك
كلما رآك! فتبسم رسول الله (ص)، فقال: او لم ابايعه و اومنه؟ قال: بلى، و لكنه يتذكر عظم جرمه فى الاسلام، فقال: ان الاسلام يجب ما قبله.

قال الواقدى: و اما الحويرث بن معبد- و هو من ولد قصى بن كلاب- فانه كان يوذى رسول الله (ص) بمكه، فاهدر دمه، فبينما هو فى منزله يوم الفتح و قد اغلق عليه بابه، جاء على (ع) يسال عنه، فقيل له: هو فى الباديه، و اخبر الحويرث انه جاء يطلبه و تنحى على (ع) عن بابه، فخرج الحويرث يريد ان (مجلد 18 صفحه 14( يهرب من بيت الى بيت آخر، فتلقاه على (ع) فضرب عنقه.

قال الواقدى: و اما هبار بن الاسود، فقد كان رسول الله (ص) امر ان يحرقه بالنار، ثم قال: انما يعذب بالنار رب النار، اقطعوا يديه و رجليه ان قدرتم عليه، ثم اقتلوه، و كان جرمه ان نخس زينب بنت رسول الله (ص) لما هاجرت، و ضرب ظهرها بالرمح و هى حبلى، فاسقطت، فلم يقدر المسلمون عليه يوم الفتح، فلما رجع رسول الله (ص) الى المدينه طلع هبار بن الاسود قائلا: اشهد ان لا اله الا الله، و اشهد ان محمدا رسول الله، فقبل النبى (ص) اسلامه، فخرجت سلمى مولاه النبى (ص) فقالت: لاانعم الله بك عينا! انت الذى فعلت و فعلت! فقال رسول الله (ص) و هبار يعتذر اليه: ان الاسلا
م محا ذلك.

و نهى عن التعرض له.

قال الواقدى: قال ابن عباس رضى الله عنه: رايت رسول الله (ص) و هبار يعتذر اليه و هو يطاطى ء راسه استحياء مما يعتذر هبار و يقول له: قد عفوت عنك!.

قال الواقدى: و اما ابن خطل فانه خرج حتى دخل بين استار الكعبه، فاخرجه ابوبرزه الاسلمى منها، فضرب عنقه بين الركن و المقام- و يقال: بل قتله عمار بن ياسر، و قيل: سعد بن حريث المخزومى، و قيل: شريك بن عبده العجلانى، و الاثبت انه ابوبرزه- قال: و كان جرمه انه اسلم و هاجر الى المدينه و بعثه رسول الله (ص) ساعيا، و بعث معه رجلا من خزاعه فقتله، و ساق ما اخذ من مال الصدقه، و رجع الى مكه، فقالت له قريش: ما جاء بك؟ قال: لم اجد دينا خيرا من دينكم، و كانت له قينتان: احداهما قرينى، و الاخرى قرينه- او ارنب، و كان ابن خطل يقول (مجلد 18 صفحه 15( الشعر يهجو به رسول الله (ص) و يغنيان به، و يدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر، و يسمعون الغناء بهجاء رسول الله (ص).

قال الواقدى: و اما مقيس بن صبابه فان امه سهميه، و كان يوم الفتح عند اخواله بنى سهم، فاصطبح الخمر ذلك اليوم فى ندامى له، و خرج ثملا يتغنى و يتمثل بابيات منها: دعينى اصطبح يا بكر انى رايت الم
وت نقب عن هشام و نقب عن ابيك ابى يزيد اخى القينات و الشرب الكرام يخبرنا ابن كبشه ان سنحيا و كيف حياه اصداء و هام! اذا ما الراس زال بمنكبيه فقد شبع الانيس من الطعام اتقتلنى اذا ما كنت حيا و تحيينى اذا رمت عظامى! فلقيه نميله بن عبدالله الليثى و هو من رهطه، فضربه بالسيف حتى قتله، فقالت اخته ترثيه: لعمرى لقد اخزى نميله رهطه و فجع اصناف النساء بمقيس فلله عينا من راى مثل مقيس اذا النفساء اصبحت لم تخرس و كان جرم مقيس من قبل ان اخاه هاشم بن صبابه اسلم و شهد المريسيع مع رسول الله (ص)، فقتله رجل من رهط عباده بن الصامت- و قيل: من بنى عمرو بن عوف و هو لايعرفه- فظنه من المشركين، فقضى له رسول الله (ص) بالديه على العاقله، فقدم مقيس اخوه المدينه فاخذ ديته، و اسلم، ثم عدا على قاتل اخيه، فقتله، و هرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله (ص) بالشعر، فاهدر دمه.

(مجلد 18 صفحه 16( قال الواقدى: فاما ساره مولاه بنى هاشم- و كانت مغنيه نواحه بمكه، و كانت قد قدمت على رسول الله (ص) المدينه تطلب ان يصلها، و شكت اليه الحاجه و ذلك بعد بدر و احد- فقال لها: اما كان لك فى غنائك و نياحك ما يغنيك! قالت: يا محمد، ان قريشا منذ ق
تل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء، فوصلها رسول الله (ص)، و اوقر لها بعيرا طعاما، فرجعت الى قريش و هى على دينها، و كانت يلقى عليها هجاء رسول الله (ص) فتغنى به، فامر بها رسول الله (ص) يوم الفتح ان تقتل، فقتلت، و اما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح احداهما، و هى ارنب، او قرينه، و اما قرينى فاستومن لها رسول الله (ص)، فامنها و عاشت حتى ماتت فى ايام عثمان.

قال الواقدى: و قد روى ان رسول الله (ص) امر بقتل وحشى يوم الفتح، فهرب الى الطائف، فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف على رسول الله (ص)، فدخل عليه فقال: اشهد ان لا اله الا الله، و انك رسول الله، فقال: اوحشى؟ قال: نعم، قال: اجلس و حدثنى كيف قتلت حمزه؟ فلما اخبره قال: قم و غيب عنى وجهك، فكان اذا رآه توارى عنه.

قال الواقدى: و حدثنى ابن ابى ذئب و معمر عن الزهرى، عن ابى سلمه بن عبدالرحمن بن عوف، عن ابى عمرو بن عدى بن ابى الحمراء، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول بعد فراغه من امر الفتح و هو يريد الخروج من مكه: اما و الله انك لخير ارض الله، و احب بلاد الله الى، و لولا ان اهلك اخرجونى ما خرجت.

و زاد محمد بن اسحاق فى كتاب "المغازى" ان هند بنت عتبه جائت الى رسول الله (
مجلد 18 صفحه 17( (ص) مع نساء قريش متنكره متنقبه لحدثها الذى كان فى الاسلام، و ما صنعت بحمزه حين جدعته و بقرت بطنه عن كبده، فهى تخاف ان ياخذها رسول الله (ص) بحدثها ذلك، فلما دنت منه، و قال حين بايعنه على الا يشركن بالله شيئا قلن: نعم، قال: و لايسرقن، فقالت هند: و الله انا كنت لاصيب من مال ابى سفيان الهنه و الهنيهه فما اعلم احلال ذلك ام لا! فقال رسول الله (ص): و انك لهند! قالت، نعم، انا هند، و انا اشهد ان لا اله الا الله و انك رسول الله، فاعف عما سلف عفا الله عنك، فقال رسول الله (ص): و لايزنين، فقالت هند: و هل تزنى الحره! فقال: لا، و لايقتلن اولادهن، فقالت هند: قد لعمرى ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا ببدر، فانت و هم اعرف.

فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى اسفرت نواجذه، قال: و لاياتين ببهتان (يفترينه)، فقالت هند: ان اتيان البهتان لقبيح، فقال: و لايعصينك فى معروف، فقالت: ما جلسنا هذه الجلسه و نحن نريد ان نعصيك.

قال محمد بن اسحاق: و من جيد شعر عبدالله بن الزبعرى الذى اعتذر به الى رسول الله (ص) حين قدم عليه: منع الرقاد بلابل و هموم فالليل ممتد الرواق بهيم مما اتانى ان احمد لامنى فيه فبت كاننى محموم يا خير من
حملت على اوصالها عيرانه سرح اليدين سعوم (مجلد 18 صفحه 18( انى لمعتذر اليك من الذى اسديت اذ انا فى الضلال اهيم ايان تامرنى باغوى خطه سهم و تامرنى به مخزوم و امد اسباب الردى و يقودنى امر الغواه و امرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبى محمد قلبى، و مخطى ء هذه محروم مضت العداوه و انقضت اسبابها و دعت اواصر بيننا و حلوم فاغفر فدى لك والدى كلاهما زللى فانك راحم مرحوم و عليك من علم المليك علامه نور اغر و خاتم مختوم اعطاك بعد محبه برهانه شرفا و برهان الاله عظيم و لقد شهدت بان دينك صادق بر و شانك فى العباد جسيم و الله يشهد ان احمد مصطفى متقبل فى الصالحين كريم فرع علا بنيانه من هاشم دوح تمكن فى العلا و اروم قال الواقدى: و فى يوم الفتح سمى رسول الله (ص) اهل مكه الذين دخلها عليهم الطلقاء، لمنه عليهم بعد ان اظفره الله بهم، فصاروا ارقاء له.

و قد قيل له يوم الفتح: قد امكنك الله تعالى فخذ ما شئت من اقمار على غصون- يعنون النساء، فقال عليه (ع): يابى ذلك اطعامهم الضيف، و اكرامهم البيت، و وجوهم مناحر الهدى.

ثم نعود الى تفسير ما بقى من الفاظ الفصل، قوله: (فان كان فيك عجل فاسترفه) (مجلد 18
صفحه 19( اى كن ذا رفاهيه، و لاترهقن نفسك بالعجل، فلابد من لقاء بعضنا بعضا، فاى حاجه بك الى ان تعجل! ثم فسر ذلك فقال: ان ازرك فى بلادك، اى ان غزوتك فى بلادك فخليق ان يكون الله بعثنى للانتقام منك، و ان زرتنى- اى ان غزوتنى فى بلادى و اقبلت بجموعك الى.

كنتم.

كما قال اخو بنى اسد، كنت اسمع قديما ان هذا البيت من شعر بشر بن ابى خازم الاسدى، و الان فقد تصفحت شعره فلم اجده، و لاوقفت بعد على قائله، و ان وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه الحقته.

و ريح حاصب، تحمل الحصباء، و هى صغار الحصى، و اذا كانت بين اغوار- و هى ما سفل من الارض و كانت مع ذلك ريح صيف- كانت اعظم مشقه، و اشد ضررا على من تلاقيه.

و جلمود، يمكن ان يكون عطفا على (حاصب)، و يمكن ان يكون عطفا على (اغوار)، اى بين غور من الارض و حره، و ذلك اشد لاذاها لما تكسبه الحره من لفح السموم و وهجها.

و الوجه الاول اليق.

و اعضضته اى جعلته معضوضا برئوس اهلك، و اكثر ما ياتى (افعلته) ان تجعله (فاعلا) و هى هاهنا من المقلوب، اى اعضضت رئوس اهلك به، كقوله: (قد قطع الحبل بالمرود).

و جده عتبه بن ربيعه، و خاله الوليد بن عتبه، و اخوه حنظله بن ابى سفيان، قتلهم على (ع) يوم بدر.

و الاغلف الق
لب: الذى لا بصيره له، كان قلبه فى غلاف، قال تعالى: (و قالوا قلوبنا غلف).

(مجلد 18 صفحه 20( و المقارب العقل، بالكسر: الذى ليس عقله بجيد، و العامه تقول فيما هذا شانه: مقارب، بفتح الراء.

ثم قال: الاولى ان يقال هذه الكلمه لك.

و نشدت الضاله: طلبتها، و انشدتها: عرفتها، اى طلبت ما ليس لك.

و السائمه: المال الراعى، و الكلام خارج مخرج الاستعاره.

فان قلت: كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا الا قوله: (فما ابعد قولك من فعلك) و كيف استبعد (ع) ذلك و لا بعد بينهما، لانه يطلب الخلافه قولا و فعلا! فاى بعد بين قوله و فعله!.

قلت: لان فعله البغى، و الخروج على الامام الذى ثبتت امامته و صحت، و تفريق جماعه المسلمين، و شق العصا، هذا مع الامور التى كانت تظهر عليه و تقتضى الفسق، من لبس الحرير، و المنسوج بالذهب، و ما كان يتعاطاه فى حياه عثمان من المنكرات التى لم تثبت توبته منها، فهذا فعله.

و اما قوله، فزعمه انه اميرالمومنين، و خليفه المسلمين، و هذا القول بعيد من ذلك الفعل جدا.

و (ما) فى قوله: (و قريب ما اشبهت) مصدريه، اى و قريب شبهك باعمام و اخوال و قد ذكرنا من قتل من بنى اميه فى حروب رسول الله (ص) فيما تقدم، و اليهم الاشاره بالاعمام و ال
اخوال، لان اخوال معاويه من بنى عبدشمس، كما ان اعمامه من بنى عبدشمس.

قوله: (و لم تماشها الهوينى) اى لم تصحبها، يصفها بالسرعه و المضى فى الرئوس الاعناق (مجلد 18 صفحه 21( و اما قوله: (ادخل فيما دخل فيه الناس و حاكم القوم)، فهى الحجه التى يحتج بها اصحابنا له فى انه لم يسلم قتله عثمان الى معاويه، و هى حجه صحيحه، لان الامام يجب ان يطاع، ثم يتحاكم اليه اولياء الدم و المتهمون، فان حكم بالحق استديمت حكومته، و الا فسق و بطلت (امامته).

قوله: (فاما تلك التى تريدها)، قيل: انه يريد التعلق بهذه الشبهه، و هى قتله عثمان، و قيل: اراد به ما كان معاويه يكرر طلبه من اميرالمومنين (ع)، و هو ان يقره على الشام وحده، و لايكلفه البيعه، قال: ان ذلك كمخادعه الصبى فى اول فطامه عن اللبن بما تصنعه النساء له مما يكره اليه الثدى و يسليه عنه، و يرغبه فى التعوض بغيره، و كتاب معاويه الذى ذكرناه لم يتضمن حديث الشام.

نامه 065-به معاويه

الشرح:

آن لك و انى لك بمعنى، اى قرب و حان، تقول: آن لك ان تفعل كذا يئين اينا، و قال: الم يان ان لى تجل عنى عمايتى و اقصر عن ليلى بلى قد انى ليا فجمع بين اللغتين، و (انى) مقلوبه عن (آن)، و مما يجرى مجرى المثل قولهم لمن يرونه شيئا شديدا يبصره و لايشك فيه: قد رايته لمحا باصرا، قالوا: اى نظرا بتحديق شديد، و مخرجه مخرج رجل لابن و تامر، اى ذو لبن و تمر، فمعنى (باصر) ذو بصر، يقول (ع) لمعاويه: قد حان لك ان تنتفع بما تعلمه من معاينه الامور و الاحوال و تتحققه يقينا بقلبك، كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسه بصره، و اراد ببيان الامور هاهنا معاينتها، و هو ما يعرفه ضروره من استحقاق على (ع) للخلافه دونه، و برائته من كل شبهه ينسبها اليه.

ثم قال له: (فقد سلكت)، اى اتبعت طرائق ابى سفيان ابيك و عتبه جدك و امثالهما من اهلك ذوى الكفر و الشقاق.

و الاباطيل: جمع باطل على غير قياس، كانهم جمعوا ابطيلا.

و الاقتحام: القاء النفس فى الامر من غير رويه.

و المين الكذب.

و الغرور بالضم المصدر و بالفتح الاسم.

و انتحلت القصيده، اى ادعيتها كذبا.

قال: (ما قد علا عنك)، اى انت دون الخلافه، و لست من اهلها و الابتزاز: الاستلاب
.

قال: (لما قد اختزن دونك)، يعنى التسمى بامره المومنين.

ثم قال: (فرارا من الحق)، اى فعلت ذلك كله هربا من التمسك بالحق و الدين، و حبا للكفر و الشقاق و التغلب.

قال: (و جحودا لما هو الزم)، يعنى فرض طاعه على (ع)، لانه قد وعاها سمعه، لاريب فى ذلك، اما بالنص فى ايام رسول الله (ص) كما تذكره الشيعه- فقد كان معاويه حاضرا يوم الغدير لانه حج معهم حجه الوداع، و قد كان ايضا حاضرا يوم تبوك حين قال له بمحضر من الناس كافه: (انت منى بمنزله هارون من موسى)، و قد سمع غير ذلك- و اما بالبيعه كما نذكره نحن فانه قد اتصل به خبرها، و تواتر عنده وقوعها، فصار وقوعها عنده معلوما بالضروره كعلمه بان فى الدنيا بلدا اسمها مصر، و ان كان ما رآها.

و الظاهر من كلام اميرالمومنين (ع) انه يريد المعنى الاول! و نحن نخرجه على وجه لايلزم منه ما تقوله الشيعه، فنقول: لنفرض ان النبى (ص) ما نص عليه بالخلافه بعده، اليس يعلم معاويه و غيره من الصحابه انه لو قال له فى الف مقام: (انا حرب لمن حاربت و سلم لمن سالمت)، و نحو ذلك من قوله: (اللهم عاد من عاداه، و وال من والاه)، و قوله: (حربك حربى و سلمك سلمى)، و قوله: (انت مع الحق و الحق معك)، و قوله: (هذا منى و انا
منه)، و قوله: (هذا اخى)، و قوله: (يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله)، و قوله: (اللهم ائتنى باحب خلقك اليك)، و قوله: (انه ولى كل مومن و مومنه بعدى)، و قوله: فى كلام قاله: (خاصف النعل)، و قوله: (لايحبه الا مومن، و لايبغضه الا منافق)، و قوله: (ان الجنه لتشتاق الى اربعه)، و جعله اولهم، و قوله لعمار: (تقتلك الفئه الباغيه)، و قوله: (ستقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين بعدى)، الى غير ذلك مما يطول تعداده جدا، و يحتاج الى كتاب مفرد يوضع له، افما كان ينبغى لمعاويه ان يفكر فى هذا و يتامله، و يخشى الله و يتقيه! فلعله (ع) الى هذا اشار بقوله: (و جحودا لما هو الزم لك من لحمك و دمك مما قد وعاه سمعك، و ملى ء به صدرك).

قوله: (فماذا بعد الحق الا الضلال!) كلمه من الكلام الالهى المقدس.

قال: (و بعد البيان الا اللبس)، يقال: لبست عليه الامر لبسا، اى خلطته، و المضارع يلبس بالكسر.

قال: (فاحذر الشبهه و اشتمالها) على اللبسه بالضم، يقال فى الامر لبسه اى اشتباه و ليس بواضح، و يجوز ان يكون (اشتمال) مصدرا مضافا الى معاويه، اى احذر الشبهه و احذر اشتمالك اياها على اللبسه، اى ادراعك بها و تقمصك بها على ما فيها من الابهام و الاشتباه، و ي
جوز ان يكون مصدرا مضافا الى ضمير الشبهه فقط، اى احذر الشبهه و احتوائها على اللبسه التى فيها.

و تقول: اغدفت المراه قناعها، اى ارسلته على وجهها، و اغدف الليل، اى ارخى سدوله، و اصل الكلمه التغطيه.

و الجلابيب: جمع جلباب، و هو الثوب.

قال: (و اعشت الابصار ظلمتها): اى اكسبتها العشى و هو ظلمه العين.

و روى (و اغشت) بالغين المعجمه (ظلمتها) بالنصب، اى جعلت الفتنه ظلمتها غشاء للابصار.

و الافانين: الاساليب المختلفه.

قوله: (ضعفت قواها عن السلم)، اى عن الاسلام، اى لاتصدر تلك الافانين المختلطه عن مسلم، و كان كتب اليه يطلب منه ان يفرده بالشام، و ان يوليه العهد من بعده، و الا يكلفه الحضور عنده.

و قرا ابوعمرو: (ادخلوا فى السلم كافه) و قال: ليس المعنى بهذا الصلح، بل الاسلام و الايمان لا غير، و معنى (ضعفت قواها)، اى ليس لتلك الطلبات و الدعاوى و الشبهات التى تضمنها كتابك من القوه ما يقتضى ان يكون المتمسك به مسلما، لانه كلام لايقوله الا من هو، اما كافر منافق او فاسق، و الكافر ليس بمسلم، و الفاسق ايضا ليس بمسلم- على قول اصحابنا- و لا كافر.

ثم قال: (و اساطير لم يحكها منك علم و لا حلم)، الاساطير: الاباطيل، واحدها اسطوره بالضم و اسطار
ه بالكسر و الالف و حوك الكلام: صنعته و نظمه.

و الحلم: العقل، يقول له: ما صدر هذا الكلام و الهجر الفاسد عن عالم و لا عاقل.

و من رواها (الدهاس) بالكسر فهو جمع دهس، و من قراها بالفتح فهو مفرد، يقول، هذا دهس و دهاس بالفتح، مثل لبث و لباث للمكان السهل الذى لايبلغ ان يكون رملا، و ليس هو بتراب و لا طين.

و الديماس بالكسر: السرب المظلم تحت الارض، و فى حديث المسيح: (انه سبط الشعر، كثير خيلان الوجه، كانه خرج من ديماس)، يعنى فى نضرته و كثره ماء وجهه كانه خرج من كن، لانه قال فى وصفه: كان راسه يقطر ماء، و كان للحجاج سجن اسمه الديماس لظلمته، و اصله من دمس الظلام يدمس اى اشتد، و ليل دامس و داموس، اى مظلم: و جائنا فلان بامور دمس، اى مظلمه عظيمه، يقول له: انت فى كتابك هذا كالخائض فى تلك الارض الرخوه، و تقوم و تقع و لاتتخلص، و كالخابط فى الليل المظلم يعثر و ينهض و لايهتدى الطريق.

و المرقبه: الموضع العالى.

و الاعلام: جمع علم، و هو ما يهتدى به فى الطرقات من المنار، يقول له: سمت همتك الى دعوى الخلافه، و هى منك كالمرقبه التى لاترام بتعد على من يطلبها، و ليس فيها اعلام تهدى الى سلوك طريقها، اى الطرق اليها غامضه، كالجبل الاملس الذى
ليس فيه درج و مراق يسلك منها الى ذروته.

و الانوق على (فعول) بالفتح كاكول و شروب: طائر، و هو الرخمه.

و فى المثل: (اعز من بيض الانوق)، لانها تحرزه و لايكاد احد يظفر به، و ذلك لان اوكارها فى رئوس الجبال و الاماكن الصعبه البعيده.

و العيوق: كوكب معروف فوق زحل فى العلو، و هذه امثال ضربها فى بعد معاويه عن الخلافه.

ثم قال: (حاش لله ان اوليك شيئا من امور المسلمين بعدى)، اى معاذ الله، و الاصل اثبات الالف فى (حاشا)، و انما اتبع فيها المصحف.

و الورد و الصدر: الدخول و الخروج، و اصله، فى الابل و الماء.

و ينهد اليك عباد الله، اى ينهض و ارتجت عليك الامور: اغلقت.

و هذا الكتاب هو جواب كتاب وصل من معاويه اليه (ع) بعد قتل على (ع) الخوارج، و فيه تلويح بما كان يقوله من قبل: ان رسول الله وعدنى بقتال طائفه اخرى غير اصحاب الجمل و صفين، و انه سماهم المارقين، فلما واقعهم (ع) بالنهروان و قتلهم كلهم بيوم واحد و هم عشره آلاف فارس احب ان يذكر معاويه بما كان يقول من قبل، و يعد به اصحابه و خواصه، فقال له: قد آن لك ان تنتفع بما عاينت و شاهدت معاينه و مشاهده، من صدق القول الذى كنت اقوله للناس و يبلغك فتستهزى ء به.

نامه 066-به عبدالله بن عباس

الشرح:

هذا الفصل قد تقدم شرح نظيره، و ليس فى الفاظه و لامعانيه ما يفتقر الى تفسير، و لكنا سنذكر من كلام الحكماء و الصالحين كلمات تناسبه.

(نبذ من كلام الحكماء) فمن كلام بعضهم: ما قدر لك اتاك، و ما لم يقدر لك تعداك، فعلام تفرح بما لم يكن بد من وصوله اليك، و علام تحزن بما لم يكن ليقدم عليك!.

و من كلامهم: الدنيا تقبل اقبال الطالب، و تدبر ادبار الهارب، و تصل وصال المتهالك، و تفارق فراق المبغض الفارك، فخيرها يسير، و عيشها قصير، و اقبالها خدعه، و ادبارها فجعه، و لذاتها فانيه، و تبعاتها باقيه، فاغتنم غفله الزمان، و انتهز فرصه الامكان، و خذ من نفسك لنفسك، و تزود من يومك لغدك قبل نفاذ المده، و زوال القدره، فلكل امرى ء من دنياه ما ينفعه على عماره اخراه.

و من كلامهم: من نكد الدنيا انها لاتبقى على حاله، و لاتخلو من استحاله، تصلح جانبا بافساد جانب، و تسر صاحبا بمسائه صاحب، فالسكون فيها خطر، و الثقه اليها غرر، و الالتجاء اليها محال، و الاعتماد عليها ضلال.

و من كلامهم: لاتبتهجن لنفسك بما ادركت من لذاتها الجسمانيه، و ابتهج لها بما تناله من لذاتها العقليه.

و من القول بالحق، و العمل بالحق، فان اللذات الحسيه
خيال ينفد، و المعارف العقليه باقيه بقاء الابد.

/ 614