وهو عالم بجميعها كما تقدم، وغنيّ عن فعلها كما تقدم أيضاً، وعالم باستغنائه
عنها، وكل من كان بهذه الاَوصاف فإنّه لا يفعل القبيح، ألا ترى أنّ من مُلْكُه ألفي
ألف قنْطارٍ من الذَّهب؛ فإنّه لا يسرق الدّانق، لعلمه بقبح السرق، وغناه عن أخذ
الدانق، وعلمه باستغنائه عنه، وكذلك لو قيل للعاقل: إن صدقت أعطيناك درهماً،
وإن كذبت أعطيناك درهماً، فإنّه لا يختار الكذب ـ في هذه الحال ـ على الصدق،
[وهما] على وتيرة واحدة، وطريقة مستمرة، ولاعِلّة لذلك إلاّ ما ذكرناه.
فصل [في أنّ أفعال العباد منهم] (1)
فإن قيل: هل ربّك خَلَق أفعال العباد؟
فقل: لا يقول ذلك إلاّ أهل الضلال والعناد، كيف يأمرهم بفعل ما قد خَلَق
وأمضى، أو ينهاهم عن فعل ما قَدْ صَوَّر وقضى، ولاَنّ الاِنسان يلحقه حكم فعله
من المدح والثّناء، والذمّ والاستهزاء، والثواب والجزاء، فكيف يكون ذلك من
العلي الاَعلى؟! ولاَنّه يحصل بحسب قصدِه ودواعيه، وينتفي بحسب كراهته
وصرفه على طريقة واحدة، ولاَن اللّه تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم، فقال:
"يَكْسِبُونَ" ، و "يَمْكُرُونَ" ، و "يَفْعَلُونَ" ، و "يَصْنَعُونَ" ، و "يَكْفُرون"
، و "يَخْلُقُونَ إِفْكاً" ، ونحو ذلك في القرآن كثير، ولكنّه تعالى أمَرَ تخييراً، ونهى
تحذيراً، أَقدَرَهُم على فعل الضِّدين، وهداهم النجدين، ومكّنهم في الحالين، لم
يمنعهم عن فعل المعاصي جبراً، ولا قهرهم على فعل الطاعات قهراً،
(1) التعبير موهم للتفويض وهنا تفترق الزيدية عن الاِمامية، فانّ لاَفعال العباد عند الاِمامية
نسبتين: نسبة إلى اللّه سبحانه، ونسبة إلى العبد، ولاَجل وجود النسبة، فأفعالهم منسوبة إليهم
بالمباشرة وهم الفاعلون حقيقة، وإلى اللّه سبحانه بنحو من النسب إمّا بالتسبيب، أو اللطف منها،
ولاَجل ذلك روى عن الاَئمة _ عليهم السلام _ أنّه: «لا جبر ولاتفويض».