أن صريح العقل يوجب فيحكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن و بينالمسيء،و أن لا يجعل من كفر به، أو جحده بمنزلة منأطاعه، و لما وجب إظهار هذه التفرقة فحصولهذه التفرقة إما أن يكون في دار الدنيا، أوفي دار الآخرة، و الأول باطل لأنا نرىالكفار و الفساق في الدنيا في أعظمالراحات، و نرى العلماء و الزهاد بالضدمنه، و لهذا المعنى قال تعالى: وَ لَوْ لاأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةًلَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُبِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاًمِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: 33] فثبت أنه لا بدبعد هذه الدار من دار أخرى، و هو المراد منالآية التي نحن في تفسيرها و هي قوله:لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ و هوالمراد أيضا بقوله تعالى في سورة طه: إِنَّالسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيهالِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى[طه: 15] و بقوله تعالى في سورة ص: أَمْنَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُواالصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِيالْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَكَالْفُجَّارِ [ص: 28].فإن قيل: أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لايفصل بين المحسن و بين المسيء في الثوابو العقاب كما لم يفصل بينهما في حسن الصورةو في كثرة المال؟.و الجواب: أن هذا الذي ذكرته مما يقويدليلنا، فإنه ثبت في صريح العقل وجوبالتفرقة، و دل الحس على أنه لم تحصل هذهالتفرقة في الدنيا، بل كان الأمر على الضدمنه، فإنا نرى العالم و الزاهد في أشدالبلاء، و نرى الكافر و الفاسق في أعظمالنعم فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهرفيها هذا التفاوت، و أيضا لا يبعد أن يقالإنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لوأعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى و بغىو آثر الحياة الدنيا، و أن ذلك الكافرالفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد فيالشر و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ لَوْبَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِلَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27].
الحجة الثالثة:
أنه تعالى كلف عبيدهبالعبودية فقال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّوَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]و الحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلا بد و أنيجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنهالاشتغال بأداء تلك التكاليف، و الناسجبلوا على طلب اللذات و تحصيل الراحاتلأنفسهم، فلو لم يكن لهم زاجر من خوفالمعاد لكثر الهرج و المرج و لعظمت الفتن،و حينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداءالعبادات.فوجب القطع بحصول دار الثواب و العقابلتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف علىالاشتغال بأداء العبودية.فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي فيبقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم؟ و أيضا فالأوباش يعلمون أنهم لوحكموا بحسن الهرج و المرج لانقلب الأمرعليهم و لقدر غيرهم على قتلهم، و أخذأموالهم، فلهذا المعنى يحترزون عن إثارةالفتن.و الجواب: أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفيفي ذلك، و ذلك لأن السلطان إما أن يكون قدبلغ في القدرة و القوة إلى حيث لا يخاف منالرعية، و إما أن يكون خائفا منهم، فإن كانلا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له منالمعاد، فحينئذ يقدم على الظلم و الايذاءعلى أقبح الوجوه، لأن الداعية النفسانيةقائمة، و لا رادع له في الدنيا و لا فيالآخرة، و أما إن كان يخاف الرعية فحينئذالرعية لا يخافون منه خوفا شديدا، فلايصير ذلك رادعا لهم عن القبائح و الظلمفثبت أن نظام العالم لا يتم و لا يكمل إلابالرغبة في المعاد و الرهبة عنه.