مفاتیح الشرائع جلد 18
لطفا منتظر باشید ...
كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم منكل وجه و ذلك مبالغة في الوعد كقوله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف:42] ثم قال: وَ يا قَوْمِ أَوْفُواالْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ.فإن قيل: وقع التكرير في هذه الآية منثلاثة أوجه لأنه قال أولا وَ لاتَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ ثمقال: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَو هذا عين الأول. ثم قال: وَ لا تَبْخَسُواالنَّاسَ أَشْياءَهُمْ و هذا عين ما تقدمفما الفائدة في هذا التكرير؟قلنا: إن فيه وجوها:الوجه الأول: أن القوم كانوا مصرين علىذلك العمل فاحتج في المنع منه إلىالمبالغة و التأكيد، و التكرير يفيدالتأكيد و شدة العناية و الاهتمام.و الوجه الثاني: أن قوله: وَ لا تَنْقُصُواالْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ نهي عنالتنقيص و قوله: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أمر بإيفاء العدل، و النهي عنضد الشيء مغاير للأمر به، و ليس لقائل أنيقول: النهي عن ضد الشيء أمر به، فكانالتكرير لازما من هذا الوجه، لأنا نقول:الجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى جمع بينالأمر و الشيء، و بين النهي عن ضدهللمبالغة، كما تقول: صل قرابتك و لاتقطعهم، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد.الثاني: أن نقول لا نسلم أن الأمر كماذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص و ينهىأيضا عن أصل المعاملة، فهو تعالى منع منالتنقيص و أمر بإيفاء الحق، ليدل ذلك علىأنه تعالى لم يمنع عن المعاملات و لم ينهعن المبايعات، و إنما منع من التطفيف، وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إنالمبايعات لا تنفك عن التطفيف و منعالحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية،فلأجل إبطال هذا الخيال، منع تعالى فيالآية الأولى من التطفيف و في الآيةالأخرى أمر بالإيفاء، و أما قوله ثالثا: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْفليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآيةالسابقة بالنقصان في المكيال و الميزان.ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياءفظهر بهذا البيان أنها غير مكررة، بل في كلو احد منها فائدة زائدة.و الوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآيةالأولى: وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ و في الثانية قال: أَوْفُواالْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ و الإيفاءعبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام، و لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدرازائدا على الحق، و لهذا المعنى قالالفقهاء: إنه تعالى أمر بغسل الوجه و ذلكلا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس.فالحاصل: أنه تعالى في الآية الأولى نهى عنالنقصان، و في الآية الثانية أمر بإعطاءقدر من الزيادة و لا يحصل الجزم و اليقينبأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر منالزيادة فكأنه تعالى نهى أولا عن سعيالإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا لتحصلله تلك الزيادة، و في الثاني أمر بالسعي فيتنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله: بِالْقِسْطِ يعني بالعدل و معناهالأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقينبالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادةعلى ذلك غير حاصل. ثم قال: وَ لا تَبْخَسُواالنَّاسَ أَشْياءَهُمْ و البخس هو النقصفي كل الأشياء، و قد ذكرنا أن الآية الأولىدلت على المنع من النقص في المكيال والميزان، و هذه الآية دلت على المنع منالنقص في كل الأشياء. ثم قال: وَ لاتَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.فإن قيل: العثو الفساد التام فقوله: وَ لاتَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ جارمجرى أن يقال: و لا تفسدوا في الأرض مفسدين.