المسألة الثالثة: عن الحسن أنه سئل النبيصلّى الله عليه وسلّم عن قوله: فَصَبْرٌجَمِيلٌ
فقال: «صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر» ويدل عليه من القرآن قوله تعالى: إِنَّماأَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَىاللَّهِ [يوسف: 86] و قال مجاهد:فصبر جميل، أي من غير جزع، و قال الثوري:من الصبر أن لا تحدث بوجعك و لا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك، و ههنا بحث و هو أن الصبر علىقضاء اللَّه تعالى واجب فأما الصبر علىظلم الظالمين، و مكر الماكرين فغير واجب،بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائدإلى الغير، و ههنا أن إخوة يوسف لما ظهركذبهم و خيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولم لم يبالغ في التفتيش و البحث سعيا منهفي تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء و في إقامة القصاصإن صح أنهم قتلوه، فثبت أن الصبر في المقاممذموم.و مما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بأنه حي سليم لأنه قالله: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِالْأَحادِيثِ [يوسف: 6] و الظاهر أنه إنماقال هذا الكلام من الوحي و إذا كان عالمابأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى فيطلبه. و أيضا إن يعقوب عليه السلام كانرجلا عظيم القدر في نفسه، و كان من بيتعظيم شريف، و أهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه و يعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك و اشتهر و لزال وجهالتلبيس فما السبب في أنه عليه السلام معشدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام، ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان منالواجبات، فثبت أن هذا الصبر في هذاالمقام مذموم عقلا و شرعا.و الجواب عنه: أن نقول لا جواب عنه إلا أنيقال إنه سبحانه و تعالى منعه عن الطلبتشديدا للمحنة عليه، و تغليظا للأمر عليه،و أيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولادهأقوياء و أنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص، و أنه لو بالغ في البحث فربماأقدموا على إيذائه و قتله، و أيضا لعلهعليه السلام علم أن اللَّه تعالى يصونيوسف عن البلاء و المحنة و أن أمره سيعظمبالآخرة، ثم لم يرد هتك أستار سرائرأولاده و ما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقعالأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقميحترق قلبه على الولد المظلوم و إن انتقمفإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقممنه، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذهالبلية رأى أن الأصوب الصبر و السكوت وتفويض الأمر إلى اللَّه تعالى بالكلية.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: فَصَبْرٌجَمِيلٌ يدل على أن الصبر على قسمين منه ماقد يكون جميلا و ما قد يكون غير جميل،
فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلكالبلاء هو اللَّه تعالى، ثم يعلم أناللَّه سبحانه مالك الملك و لا اعتراض علىالمالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصيراستغراق قلبه في هذا المقام مانعا له منإظهار الشكاية.و الوجه الثاني: أنه يعلم أن منزل هذاالبلاء، حكيم لا يجهل، و عالم لا يغفل،عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، و إذا كانكذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة و صوابا،فعند ذلك يسكت و لا يعترض.و الوجه الثالث: أنه ينكشف له أن هذاالبلاء من الحق، فاستغراقه في شهود نورالمبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عنالبلاء و لذلك قيل: المحبة التامة لا تزدادبالوفاء و لا تنقص بالجفاء، لأنها لوازدادت