مفاتیح الشرائع جلد 18
لطفا منتظر باشید ...
و اعلم أن حقيقة ذات الإله و كنه هويته غيرمعلومة للبشر ألبتة، و إنما المعلوم للبشرصفاته، ثم إن صفاته قسمان: صفات الجلال، وصفات الإكرام. أما صفات الجلال، فهي سلوب،كقولنا: إنه ليس بجوهر و لا جسم، و لا كذا ولا كذا. و هذه السلوب في الحقيقة ليست صفاتالكمال، لأن السلوب عدم، و العدم المحض والنفي الصرف، لا كمال فيه، فقولنا لاتأخذه سنة و لا نوم إنما أفاد الكلاملدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأعن التغير و لولا ذلك كان عدم النوم ليسيدل على كمال أصلا، أ لا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة و لا نوم و قوله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ [الأنعام: 14]إنما أفاد، الجلال و الكمال و الكبرياء،لأن قوله: وَ لا يُطْعَمُ يفيد كونه واجبالوجود لذاته غنيا عن الطعام و الشراب بلعن كل ما سواه، فثبت أن صفات الكمال و العزو العلو هي الصفات الثبوتية، و أشرفالصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان: العلم و القدرة، فلهذاالسبب وصف اللَّه تعالى ذاته في هذه الآيةبهما في معرض التعظيم و الثناء و المدح.أما صفة العلم فقوله: وَ لِلَّهِ غَيْبُالسَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و المراد أنعلمه نافذ في جميع الكليات و الجزئيات والمعدومات و الموجودات و الحاضرات والغائبات، و تمام البيان و الشرح في دلالةهذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه فيتفسير قوله سبحانه و تعالى: وَ عِنْدَهُمَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّاهُوَ [الأنعام: 59] و أما صفة القدرة، فقوله:وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُو المراد أن مرجع الكل إليه، و إنما يكونكذلك لو كان مصدر الكل و مبدأ الكل هو هو والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات و إليهيكون مرجع كل المحدثات و الكائنات، كانعظيم القدرة نافذ المشيئة قهارا للعدمبالوجود و التحصيل جبارا له بالقوة والفعل و التكميل، فهذان الوصفان هماالمذكوران في شرح جلال المبدأ و نعتكبريائه.و المرتبة الثانية: من المراتب التي يجبعلى الإنسان كونه عالما بها أن يعرف ما هومهم له في زمان حياته في الدنيا، و ما ذلكإلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية، و هذه المرتبة لها بدايةو نهاية. أما بدايتها فالاشتغال بالعباداتالجسدانية و الروحانية. أما العباداتالجسدانية، فأفضل الحركات الصلاة، و أكملالسكنات الصيام، و أنفع البر الصدقة.و أما العبادة الروحانية فهي: الفكر، والتأمل في عجائب صنع اللَّه تعالى فيملكوت السموات و الأرض، كما قال تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِوَ الْأَرْضِ [آل عمران: 191] و أما نهاية هذهالمرتبة، فالانتهاء من الأسباب إلىمسببها، و قطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات، و توجيه حدقة العقل إلى نورعالم الجلال، و استغراق الروح في أضواءعالم الكبرياء، و من وصل إلى هذه الدرجةرأى كل ما سواه مهرولا تائها في ساحةكبريائه هالكا فانيا في فناء سناء أسمائه.و حاصل الكلام: أن أول درجات السير إلىاللَّه تعالى هو عبودية اللَّه، و آخرهاالتوكل على اللَّه، فلهذا السبب قال:فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ.و المرتبة الثالثة: من المراتب المهمة لكلعامل معرفة المستقبل و هو أنه يعرف كيفيصير حاله بعد انقضاء هذه الحياةالجسمانية، و هل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة، و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَو المقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين و لايهمل أحوال المتمردين الجاحدين، و ذلك بأنيحضروا في موقف القيامة و يحاسبوا علىالنقير و القطمير و يعاتبوا في الصغير والكبير، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق فيالجنة و فريق في السعير، فظهر أن هذه الآيةو افية بالإشارة إلى جميع المطالبالعلوية، و المقاصد