المسألة الثالثة: قوله: هُوَ يَقْبَلُالتَّوْبَةَ فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
أنه تعالى سمى نفسه ههناباسم اللّه.ثم قال عقيبه: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَو فيه تنبيه على أن كونه إلها يوجب قبولالتوبة، و ذلك لأن الإله هو الذي يمتنعتطرق الزيادة و النقصان إليه، و يمتنع أنيزداد حاله بطاعة المطيعين و أن ينتقصحاله بمعصية المذنبين، و يمتنع أيضا أنيكون له شهوة إلى الطاعة، و نفرة عنالمعصية، حتى يقال: إن نفرته و غضبه يحملهعلى الانتقام، بل المقصود من النهي عنالمعصية و الترغيب في الطاعة، هو أن كل مادعا القلب إلى عالم الآخرة و منازلالسعداء، و نهاه عن الاشتغال بالجسمانياتالباطلة، فهو العبادة و العمل الحق والطريق الصالح، و كل ما كان بالضد منه فهوالمعصية و العمل الباطل، فالمذنب لا يضرإلا نفسه، و المطيع لا ينفع إلا نفسه. كماقال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْأَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْأَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] فإن كانالإله رحيما حكيما كريما و لم يكن غضبه علىالمذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته، فإذا انتقلالعبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمهكالموجب عليه قبول توبته. فثبت أن الإلهيةلما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق، وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصوللغيره، كان قبول التوبة من الغير كالممتنعإلا لسبب آخر منفصل، أو لمعارض أو لمباين.
الفائدة الثانية:
في هذا التخصيص هو أنقبول التوبة ليس إلى رسول اللّه صلّى اللهعليه وسلّم إنما إلى اللّهالذي هو يقبل التوبة تارة و يردها أخرى.فاقصدوا اللّه بها و وجهوها إليه، و قيللهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفىعلى اللّه خيرا كان أو شرا.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: قبولالتوبة واجب عقلا على اللّه تعالى.
و قال أصحابنا: قبول التوبة واجب بحكمالوعد و التفضل و الإحسان، أما عقلا فلا. وحجة أصحابنا على عدم وجوب قبول التوبةوجوه:الأول: أن الوجوب لا يتقرر معناه ألا إذاكان بحيث لو لم يفعله الفاعل لاستحق الذم،فلو وجب قبول التوبة على اللّه تعالى لكانبحيث لو لم يقبلها لصار مستحقا للذم، و هذامحال، لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملابفعل القبول، و المستكمل بالغير ناقصلذاته و ذلك في حق اللّه تعالى محال.الثاني: أن الذم إنما يمنع من الفعل إذاكان بحيث يتأذى عن سماع ذلك الذم و ينفرعنه طبعه، و يظهر له بسببه نقصان حال، أمامن كان متعاليا عن الشهوة و النفرة والزيادة و النقصان لا يعقل تحقق الوجوب فيحقه بهذا المعنى، الثالث: أنه تعالى تمدحبقبول التوبة في هذه الآية، و لو كان ذلكواجبا لما تمدح به، لأن أداء الواجب لايفيد المدح و الثناء و التعظيم.
المسألة الخامسة: (عن) في قوله تعالى: عَنْعِبادِهِ فيه وجهان:
الأول: أنه لا فرق بين قوله: عَنْ عِبادِهِو بين قوله: من عباده يقال: أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك. و الثاني: قال القاضي: لعل(عن) أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيلسبيله إلى التوبة التي قبلت، و أقول: إنهلم يبين كيفية دلالة لفظة (عن) على هذاالمعنى، و الذي أقوله إن كلمة «عن» و كلمة«من» متقاربتان، إلا أن كلمة «عن» تفيدالبعد، فإذا قيل: جلس فلان عن يمين الأمير،أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب منالبعد فقوله: عَنْ عِبادِهِ يفيد أنالتائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعداعن قبول اللّه تعالى له بسبب ذلك الذنب، ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه، وبعده عن حضرة نفسه، فلفظة «عن» كالتنبيهعلى أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب.