المسألة الثالثة: ذكروا أن قريشا و منبمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسولاللّه صلّى الله عليه وسلّم
فنزل وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَكَفَرُوا [الأنفال: 30] فأمره اللّه تعالىأن يخرج هو و أبو بكر أول الليل إلى الغار،و المراد من قوله:أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا هو أنهمجعلوه كالمضطر إلى الخروج. و خرج رسولاللّه صلّى الله عليه وسلّم و أبو بكر أولالليل إلى الغار، و أمر عليا أن يضطجع علىفراشه ليمنعهم السواد من طلبه، حتى يبلغهو و صاحبه إلى ما أمر اللّه به، فلما و صلاإلى الغار دخل أبوبكر الغار أولا، يلتمسما في الغار، فقال له النبي صلّى الله عليهوسلّم، مالك؟ فقال: بأبي أنت و أمي،الغيران مأوى السباع و الهوام، فإن كانفيه شيء كان بي لا بك، و كان في الغارجحر، فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذيالرسول، فلما طلب المشركون الأثر و قربوا،بكى أبو بكر خوفا على رسول اللّه صلّى اللهعليه وسلّم فقال عليه السلام: «لا تحزن إناللّه معنا» فقال أبوبكر: إن اللّه لمعنا،فقال الرسول: «نعم» فجعل يمسح الدموع عنخده. و يروى عن الحسن أنه كان إذا ذكر بكاءأبي بكر بكى، و إذا ذكر مسحه الدموع مسح هوالدموع عن خده.و قيل: لما طلع المشركون فوق الغار أشفقأبوبكر على رسول اللّه صلّى الله عليهوسلّم و قال: إن تصب اليوم ذهب دين اللّه.فقال رسول اللّه: «ما ظنك باثنين اللّهثالثهما» و قيل لما دخل الغار وضع أبوبكرثمامة على باب الغار، و بعث اللّه حمامتينفباضتا في أسفله و العنكبوت نسجت عليه وقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم:«اللهم أعم أبصارهم» فجعلوا يترددون حولالغار و لا يرون أحدا.
المسألة الرابعة: دلت هذه الآية على فضيلةأبي بكر رضي اللّه عنه من وجوه:
الأول:
أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجلأنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا علىقتله، فلو لا أنه عليه السلام كان قاطعاعلى باطن أبي بكر، بأنه من المؤمنينالمحققين الصادقين الصديقين، و إلا لماأصحبه نفسه في ذلك الموضع، لأنه لو جوز أنيكون باطنه بخلاف ظاهره، لخافه من أن يدلأعداءه عليه، و أيضا لخافه من أن يقدم علىقتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة،دل على أنه عليه السلام كان قاطعا بأنباطنه على وفق ظاهره.
الثاني:
وهو أن الهجرة كانت بإذن اللّه تعالى، وكان في خدمة رسول اللّه صلّى الله عليهوسلّم جماعة من المخلصين، و كانوا فيالنسب إلى شجرة رسول اللّه أقرب من أبيبكر، فلولا أن اللّه تعالى أمره بأنيستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبةالهائلة، و إلا لكان الظاهر أن لا يخصهبهذه الصحبة، و تخصيص اللّه إياه بهذاالتشريف دل على منصب عال له في الدين.
الثالث:
أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول اللّهصلّى الله عليه وسلّم، أما هو فما سبق رسولاللّه كغيره، بل صبر على مؤانسته وملازمته و خدمته عند هذا الخوف الشديدالذي لم يبق معه أحد، و ذلك يوجب الفضلالعظيم.
الرابع:
أنه تعالى سماه ثانِيَ اثْنَيْنِ فجعلثاني محمد عليه السلام حال كونهما فيالغار، و العلماء أثبتوا أنه رضي اللّهعنه كان ثاني محمد في أكثر المناصبالدينية، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لماأرسل إلى الخلق و عرض الإسلام على أبي بكرآمن أبو بكر، ثم ذهب و عرض الإسلام علىطلحة و الزبير و عثمان بن عفان و جماعةآخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالىعنهم، و الكل آمنوا على يديه، ثم إنه جاءبهم إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّمبعد أيام قلائل، فكان هو رضي اللّه عنهثانِيَ اثْنَيْنِ في الدعوة إلى اللّه وأيضا كلما وقف رسول اللّه صلّى الله عليهوسلّم في غزوة، كان أبو بكر رضي اللّه عنهيقف في خدمته و لا يفارقه، فكان ثاني اثنينفي مجلسه، و لما مرض رسول اللّه صلّى اللهعليه وسلّم قام مقامه في إمامة