أن هذه الوجوه التي ذكرهاالقاضي ظاهر أنها متكلفة جدا، و أما الوجهالصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم، هو أنالفعل يتوقف على حصول الداعي، و إلا لزمرجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لالمرجح، و هو محال. و حصول ذلك الداعي ليس منالعبد و إلا لزم التسلسل، بل هو من اللّهتعالى.فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل فيقلبه داعي الكفر، و ذلك الحصول من اللّهتعالى، و إذا حصل ذلك الداعى انصرف ذلكالقلب من جانب الإيمان إلى الكفر، فهذا هوالمراد من صرف القلب و هو كلام مقرر ببرهانقطعي و هو منطبق على هذا النص، فبلغ فيالوضوح إلى أعلى الغايات، و مما بقي منمباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحق أنهقال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإنقوما انصرفوا صرف اللّه قلوبهم، لكن قولواقد قضينا الصلاة، و كان المقصود منهالتفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لاينبغي، و الترغيب في تلك اللفظة الواردةفي الخير، فإنه تعالى قال: فَإِذاقُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِيالْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِاللَّهِ [الجمعة: 10].
المسألة الأولى: [في بيان ما يوجب سهولةتحمل تلك التكاليف]
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلامأن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليفشاقة شديدة صعبة يعسر تحملها، إلا لمن خصهاللّه تعالى بوجوه التوفيق و الكرامة، ختمالسورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف،و هو أن هذا الرسول منكم، فكل ما يحصل له منالعز و الشرف في الدنيا فهو عائد إليكم. وأيضا فإنه بحال يشق عليه ضرركم و تعظمرغبته في إيصال خير الدنيا و الآخرةإليكم، فهو كالطبيب المشفق و الأب الرحيمفي حقكم، و الطبيب المشفق ربما أقدم علىعلاجات صعبة يعسر تحملها، و الأب الرحيمربما أقدم على تأديبات شاقة، إلا أنه لماعرف أن الطبيب حاذق، و أن الأب مشفق، صارتتلك المعالجات المؤلمة متحملة، و صارت تلكالتأديبات جارية مجرى الإحسان. فكذا ههنالما عرفتم أنه رسول حق من عند اللّه،فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوابكل خير، ثم قال للرسول عليه السلام: فإنلم يقبلوها بل أعرضوا عنها و تولوافاتركهم و لا تلتفت إليهم و عول على اللّهو ارجع في جميع أمورك إلى اللّه فَقُلْحَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّالْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] و هذهالخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصفالرسول في هذه الآية بخمسة أنواع منالصفات: