الأول: روى ابن عمر أن رجلا من المنافقينقال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القومأرعب قلوبا و لا أكذب ألسنا و لا أجبن عنداللقاء يعني رسول اللّه صلّى الله عليهوسلّم و المؤمنين، فقال واحد من الصحابة:كذبت و لأنت منافق، ثم ذهب ليخبر رسولاللّه صلّى الله عليه وسلّم فوجد القرآنقد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول اللّه وكان قد ركب ناقته، فقال يا رسول اللّه إنماكنا نلعب و نتحدث بحديث الركب نقطع بهالطريق، و كان يقول إنما كان نخوض و نلعب. ورسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول:«أبا للّه و آياته و رسوله كنتم تستهزئون»و لا يلتفت إليه و ما يزيده عليه. الثاني:قال الحسن و قتادة: لما سار الرسول إلىتبوك قال المنافقون بينهم أتراه يظهر علىالشأن و يأخذ حصونها و قصورها هيهات،هيهات، فعند رجوعه دعاهم و قال: أنتمالقائلون بكذا و كذا فقالوا: ما كان ذلكبالجد في قلوبنا و إنما كنا نخوض و نلعب.الثالث: روي أن المتخلفين عن الرسول صلّىالله عليه وسلّم سئلوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم، فقالوا هذا القول. الرابع:حكينا عن أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله:يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَعَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمافِي قُلُوبِهِمْ [التوبة: 64] أظهروا هذاالحذر على سبيل الاستهزاء، فبين تعالى فيهذه الآية أنه إذا قيل لهم لم فعلتم ذلك؟قالوا: لم نقل ذلك على سبيل الطعن، بل لأجلأنا كنا نخوض و نلعب. الخامس: اعلم أنه لاحاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الرواياتفإنها تدل على أنهم ذكروا كلاما فاسدا علىسبيل الطعن و الاستهزاء، فلما أخبرهمالرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا و اعتذرواعنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لاعلى سبيل الجد و ذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب، و هذايدل على أن كلمة «إنما» تفيد الحصر إذ لولم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لا عبين أن لايكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر.و الجواب: قال الواحدي: أصل الخوض الدخولفي مائع من الماء و الطين، ثم كثر حتى صاراسما لكل دخول فيه تلويث و أذى، و المعنى:أنا كنا نخوض و نعلب في الباطل من الكلامكما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهمالرسول بقوله:أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِكُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: فرق بين قولك أ تستهزىءباللّه، و بين قولك أ باللّه تستهزىء،
فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء،و الثاني: يقتضي الإنكار على إيقاعالاستهزاء في اللّه، كأنه يقول هب أنك قدتقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت علىإيقاع الاستهزاء في اللّه و نظيره قولهتعالى: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] والمقصود: ليس نفي الغول، بل نفي أن يكونخمر الجنة محلا للغول.